صعود الكاهانية في إسرائيل وتداعياته
يحمل صعود الحركة "الكاهانية" بقيادة إيتمار بن غفير كحركة أيديولوجية وقوة سياسية رئيسية في إسرائيل، في طياته طاقة كامنة لجعل نتائج الانتخابات المبكرة التي ستجرى الأسبوع القادم مقدمة لفتح صفحة جديدة في الصراع مع الشعب الفلسطيني، وبداية مسار يفضي إلى إحداث تحول في علاقات تل أبيب الإقليمية والدولية، وإعادة صياغة النظام السياسي في الكيان الصهيوني.
نتنياهو يعي أن إفلاته من السجن حال إدانته بالتهم الثلاث، التي وجهت إليه في قضايا الفساد التي يحاكم فيها وهي تلقي الرشوة والاحتيال وخيانة الأمانة، يتوقف على تشكيله تحالفا يضم الأحزاب التي تبدي استعدادا لمساعدته في سن قانون يعفي رئيس الحكومة والوزراء والنواب من المحاكمة إذا كانوا يمارسون أعمالهم، وهو ما يطلق عليه "القانون الفرنسي"
تدل استطلاعات الرأي المتواترة على أن الانتخابات ستتوج التحالف الذي يجمع "الكاهانية" وحركة "الصهيونية الدينية" بقيادة "بتسلال سمورتيش" كثالث أكبر حزب في الكنيست، بعد حزبي "الليكود" الذي يقوده زعيم المعارضة بنيامين نتنياهو، و"ييش عتيد" الذي يقوده رئيس الحكومة يئير لبيد.
وقبل الخوض في مواقف ومنطلقات "الكاهانية" وتداعيات صعودها المختلفة، فإنه من الأهمية بمكان الإيضاح أنه ليس فقط حجم حضور هذه الحركة في البرلمان القادم هو الذي سيمنحها التأثير الكبير على دائرة صنع القرار في تل أبيب؛ بل إن الملفات الجنائية وقضايا الفساد التي يحاكم بها نتنياهو حاليا ستمنح بن غفير الفرصة ليكون صانع الملوك بعد الانتخابات القادمة.
فنتنياهو يعي أن إفلاته من السجن حال إدانته بالتهم الثلاث التي وجهت إليه في قضايا الفساد التي يحاكم فيها وهي: تلقي الرشوة والاحتيال وخيانة الأمانة، يتوقف على تشكيله تحالفا يضم الأحزاب التي تبدي استعدادا لمساعدته في سن قانون يعفي رئيس الحكومة والوزراء والنواب من المحاكمة إذا كانوا يمارسون أعمالهم، وهو ما يطلق عليه "القانون الفرنسي".
وباستثناء حزب الليكود الذي يقوده نتنياهو وحزبي "يهدوت هتوراة" و"شاس"، اللذين يمثلان التيار الديني الحريدي، وتحالف "الكاهانية" و"الصهيونية الدينية"، فإنه لا يوجد في إسرائيل حزب مستعد لسن مثل هذا القانون. وهذا ما دفع نتنياهو للتأكيد بشكل دائم أنه ملتزم بتشكيل ائتلاف حكومي فقط بمشاركة الليكود والأحزاب الحريدية وتحالف الكاهانية والصهيونية والدينية.
ولأن بعض استطلاعات الرأي تمنح تحالف الأحزاب المؤيد لنتنياهو 61 مقعدا (وهو ما يمثل أغلبية مطلقة)، فإن هذا يعني أن احتمال أن تكون الكاهانية مكونا رئيسيا في الحكومة الإسرائيلية القادمة احتمال واقعي. وهذا ما يشي بأن منطلقاتها الأيديولوجية ومواقفها السياسية ستؤثر على توجهات إسرائيل وسياساتها على الصعيدين الخارجي والداخلي.
وقد لعب النسق العقدي الذي تنتمي إليه "الكاهانية" دورا رئيسيا في تحديد طابع الشروط التي وضعها بن غفير لمشاركته في أي حكومة يشكلها نتنياهو بعد الانتخابات. فالكاهانية تنتمي إلى تيار ديني يهودي برز بشكل قوي في العقد الأخير تطلق عليه الأدبيات العبرية التيار "الحردلي"، الذي يجمع بين التشدد الفقهي للتيار الحريدي والتطرف القومي للتيار الديني الصهيوني. وتدل سيرة بن غفير الشخصية على عمق التزامه بهذا النهج الديني "القومي" الموغل في تطرفه؛ حيث وجهت له النيابة العامة منذ أن بلغ السادسة عشر من العمر 53 اتهاما، ضمنها: ممارسة العنف والتحريض عليه وحيازة مواد دعائية لتنظيم إرهابي ودعم تنظيم إرهابي.
وعند استعراض قائمة الشروط التي أعلن بن غفير، الذي ولد لعائلة هاجرت من العراق، خلال الحملة الانتخابية أنه سيشارك في الحكومة القادمة على أساسها، فإنه يتبين أن نجاحه في تمرير، ولو بعضها، سيحدث تحولا في وجهة الصراع مع الشعب الفلسطيني بشكل غير مسبوق. تهدف شروط بن غفير بشكل عام إلى تأمين منظومة الهيمنة اليهودية على أرض فلسطين التاريخية، وصيانتها وتحييد كل من يهدد تواصلها أو ينزع الشرعية عنها.
تعهد بن غفير بسن قانون يشرع لأول مرة طرد كل من "يعادي" إسرائيل و"يحرض" عليها. ونشر خلال حملته الانتخابية فيديو يظهر فيه وهو يقتحم طائرة مدنية خالية من الركاب حيث حدد عددا من المقاعد في مقدمتها، مؤكدا أنها ستكون مخصصة للنواب العرب في الكنيست عندما سيتم طردهم إلى أوروبا بعد سن القانون.
التزم بن غفير بسن قانون يشرّع فرض حكم الإعدام على المقاومين الفلسطينيين الذين يشاركون في عمليات تستهدف المستوطنين وجنود الاحتلال؛ وإحداث تغيير جذري على أوامر إطلاق النار المعمول بها في الضفة الغربية، بحيث يمنح الضباط والجنود حرية مطلقة لاستهداف كل ما يعتبرونه مصدر خطر.
إلى جانب ذلك، فقد وعد بن غفير بتمرير قانون يمنح حصانة لضباط وجنود الجيش والشرطة الذين يقتلون أو يجرحون فلسطينيين أثناء أداء مهامهم العسكرية والأمنية. إلى جانب ذلك، فقد أكد أنه سيوظف ثقله في الحكومة لتتبنى سياسة أكثر قمعا تجاه الأسرى الفلسطينيين في سجون الاحتلال وحرمانهم من كل الحقوق التي حازوها بتضحيات جسام.
وبينما يعكس توجها لتفكيك البنى السياسية التي يمكن أن تهدد مستقبلا منظومة الهيمنة اليهودية، أعلن بن غفير الأسبوع الماضي أنه سيعمل على إلغاء اتفاقيات أوسلو، وحل السلطة الفلسطينية، ورفع أية قيود على الأنشطة الاستيطانية في الضفة الغربية والقدس، والتصدي للبناء الفلسطيني.
ومما لا شك فيه أن من أكثر توجهات بن غفير تطرفا تلك المتعلقة بالموقف من المسجد الأقصى، حيث التزم بوقف ما أسماه "التمييز العنصري ضد اليهود" في المسجد. فبن غفير، الذي يقطن الجيب الاستيطاني في مدينة الخليل، معني بنقل فكرة التقاسم الزماني والمكاني بين المسلمين واليهود التي فرضها الاحتلال في المسجد الإبراهيمي إلى المسجد الأقصى. فالتيار الحردلي الذي ينتمي إليه بن غفير، يتبنى التأويل الأكثر تطرفا لفكرة الخلاص اليهودي؛ حيث ترى مرجعيات هذا التيار أن تحقق الخلاص ونزول المخلص المنتظر الذي سيجعل اليهود قادة للعالم يتوقف على بناء الهيكل على أنقاض المسجد الأقصى، وما يتبعه من تفجر حرب "يأجوج ومأجوج".
وفيما يتعلق بفلسطينيي الداخل، فإن بن غفير يقدم تصورا بسيطا وواضحا للتعامل معهم يقضي بنزع "حق المواطنة" الإسرائيلية من كل شخص لا يقر بأن إسرائيل دولة يهودية ويعمل على تهديد طابعها اليهودي.
يجاهر تحالف الكاهانية والصهيونية الدينية بعزمه إحداث تحول كبير على بنية النظام السياسي والقانوني في إسرائيل بشكل يحول إسرائيل عمليا إلى "دولة شريعة". فقد أعلن سمورتيش زميل بن غفير أنه سيعمل على إحلال أحكام الشريعة اليهودية محل القانون الوضعي المعمول به حاليا.
وقد لعبت عدة تحولات دورا مهما في صعود الكاهانية، على رأسها رغبة قطاعات واسعة من الجمهور اليهودي في حسم الصراع مع الشعب الفلسطيني. وتسود هذا الجمهور خيبة أمل كبيرة من نتائج السياسات التي تبنتها الحكومات الإسرائيلية في العقدين الأخيرين والتي نجم عنها اندلاع أربع حروب وعشرات جولات التصعيد مع المقاومة في قطاع غزة، فضلا عن تفجر هبات جماهيرية وموجات عمليات مقاومة في الضفة مست مستوى الأمن الشخصي للإسرائيليين.
فعلى الرغم من أن مؤسسات أممية وقانونية اتهمت إسرائيل بارتكاب جرائم حرب ضد الفلسطينيين، فإن بن غفير أقنع الكثير من اليهود بأنه قادر عبر المواقف، التي تمت الإشارة إليها أعلاه، على حسم الصراع.
ويلفت الكاتب الإسرئيلي ميرون رايبوبورت في مقال نشره مؤخرا في موقع "سيحا مكوميت" إلى أن أفكار ومنطلقات بن غفير تتبناها أوساط مهمة في الجيش والمؤسسة الأمنية.
مما لا شك فيه أن مشاركة الكاهانية ستؤثر على علاقات إسرائيل الدولية وتحديدا مع الولايات المتحدة؛ إذ حذر زعيم الأغلبية الديمقراطية في مجلس الشيوخ روبرت منديز نتنياهو من أن علاقات واشنطن بتل أبيب ستتأثر سلبا حال ضم بن غفير لأي حكومة يمكن أن يشكلها بعد الانتخابات
لكن مشاركة الكاهانية في الحكم وتمكن بن غفير من الوفاء ببعض تعهداته لن يحمل بالضرورة أخبارا طيبة لإسرائيل. صحيح أن هذا التطور سيجعل إسرائيل أكثر تغولا وعدوانية في تعاطيها مع الشعب الفلسطيني؛ لكنه في الوقت ذاته سيفضي إلى تفجر حرب وجود مع الشعب الفلسطيني واندلاع مواجهة مفتوحة في ساحات غزة والضفة وفلسطين الداخل.
وإن كانت إسرائيل منذ 1948 لم تتمكن من حسم المواجهة ضد الشعب الفلسطيني واجتثاث مقاومته، فإنها لن تتمكن من تحقيق هذا الهدف تحديدا في وقت تتأجج فيه روح المقاومة.
كما أن تطبيق إسرائيل منطلقات الكاهانية يعني إنهاء السلطة الفلسطينية وتصفية وجودها، مما يفتح الطريق أمام تحمل إسرائيل المسؤولية عن تبعات احتلالها المباشر للضفة وغزة أمام المجتمع الدولي. فضلا عن أن هذا التحول سيوفر ظروفا تسمح بتوحيد الصف الفلسطيني دون الحاجة إلى المحاولات اللانهائية التي أخفقت في تحقيق المصالحة الوطنية وإنهاء الانقسام.
وإن كان صعود الكاهانية يزيد من فرص تبني إسرائيل سياسات تهدف إلى تهويد الأقصى، فإن ذلك سيزيد في الوقت ذاته من فرص حدوث ردات فعل جماهيرية خارج حدود فلسطين ستحرج نظم الحكم العربية التي ترتبط بإسرائيل باتفاقات "سلام" أو تطبيع.
ستكون علاقة إسرائيل بالأردن الأكثر تضررا بسبب مسؤوليته كصاحب الوصاية على الأماكن المقدسة. وقد يؤثر صعود الكاهانية حتى على توجهات نظم الحكم الأكثر حماسا للتطبيع مع إسرائيل. فقد كشف موقع "واللاه" أمس الأربعاء أن وزير خارجية الإمارات عبد الله بن زايد أعرب عن قلقه "الشديد" في لقاء جمعه بنتنياهو خلال زيارته الأخيرة لإسرائيل، من تشكيل حكومة برئاسته تشارك فيها "جهات متطرفة"، في إشارة إلى الكاهانية.
مما لا شك فيه أن مشاركة الكاهانية ستؤثر على علاقات إسرائيل الدولية وتحديدا مع الولايات المتحدة؛ حيث حذر زعيم الأغلبية الديمقراطية في مجلس الشيوخ روبرت منديز نتنياهو من أن علاقات واشنطن بتل أبيب ستتأثر سلبا حال ضم بن غفير لأي حكومة يمكن أن يشكلها بعد الانتخابات.
المفارقة أن المجتمع الإسرائيلي الذي يبدي دعما متزايدا للكاهانية ومنطلقاتها، يقع في تناقضين واضحين. فمن ناحية تفرض توجهات الكاهانية على إسرائيل الانغماس في مناشط عسكرية متواصلة؛ ومن ناحية أخرى تدل الكثير من المؤشرات على حدوث تراجع كبير على استعداد المجتمع الإسرائيلي لدفع كلفة الجهد الحربي البشرية. فقد دللت الباحثة الإسرائيلية بنينا شوكر في دراسة نشرها مؤخرا "معهد يروشليم للإستراتيجية والأمن" أن إدراك عدم جاهزية المجتمع لتحمل سقوط قتلى والخوف من تهاوي صموده خلال الحروب والمواجهات العسكرية باتا من أهم الاعتبارات التي توجه دوائر صنع القرار في إسرائيل في كل ما يتعلق بقرارات الحرب.
قصارى القول، صعود الكهانية وتبعاته لن يعري فقط إسرائيل ويظهر جنون المكونات الحزبية التي تقودها؛ بل سيكشف أيضا عن المزيد من مظاهر الضعف الإسرائيلي.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق