الغرب والإسلام.. الدبلوماسية والسياسة اكتشاف أم استيلاء؟
كانت كلية الإلهيات (الشريعة) بجامعة سيرت على موعد مدة يومين في الفترة من 21 إلى 23 أكتوبر/ تشرين الأول مع المحفل العلمي والفكري الموسوم بـ”المؤتمر الدولي الأول للاستغراب”، ويعد هذا المؤتمر هو الأول من نوعه في تركيا.
وفي إطار الحديث عن الاستغراب لا يمكن التغافل عن الاستشراق والإعجاب الغربي بالعالم الإسلامي رغم ما يدور حول ذلك الاستشراق من تصورات سلبية عامة. وفي هذا السياق، كانت الأندلس هي المحطة الأولى لتعرف الغرب على العالم الإسلامي عن قرب، وبعد ذلك صارت الحضارة الإسلامية الواسعة الانتشار في بغداد والمدن الإسلامية الأخرى محل اهتمام الغرب، بالإضافة إلى ما خلفته الأخبار والأفكار المتوافرة عن تلك الحضارة الإسلامية عند الغرب من صور أسطورية عن المسلمين.
الإسلام الذي يسحر الغرب
ولهذا فقد كانت طموحات الذين يسعون لاكتشاف الشرق والاستيلاء على الثروات التي تستند إليها تلك الصور الأسطورية التي كانت بمخيلتهم، هي المحفز الأساسي وراء اندفاع الحروب الصليبية. كما كانت هناك مهمات عديدة للاستشراق الذي كان نوعا من التطور الطبيعي خلال فترة الحروب الصليبية. فمعرفة الغرب بالإسلام كما يذكر المستشرق الفرنسي ماكسيم رودنسون في كتابه “الإسلام الذي يسحر الغرب” ليست مجرد معرفة تهدف إلى التزوير والإنكار والإهانة والتهميش. وإذا كان الاستشراق قائما على هذا النحو فقط، فلن يحافظ على قوته ليستطيع الاستمرار.
ومما هو معلوم أن الاستشراق قد ظهر نتيجة لقاءات متعددة بين الطرفين الشرقي والغربي. ويتبع كل لقاء تولُّد رؤى وتصورات وانطباعات في ذهن كل طرف عن الآخر. وتختلف هذه التصورات وتلك الانطباعات باختلاف حالة كل من الطرفين. فاللقاء يعني وجود طرفين على الأقل. وقد كانت الحروب الصليبية رغم كل شيء نوعا من اللقاء والمواجهة بين طرفيها، وقد أسس الجانب الإسلامي بكل مكوناته العربية التركية الكردية الفارسية من هذا اللقاء انطباعا ورسم في فكره صورة عن الفرنجة الذين شاركوا في هذه الحملات الصليبية. ويمكننا القول بأنه ربما تشكلت النواة الأولى للاستغراب، أي النظرة الشرقية للغرب من خلال المؤلفات والأدبيات التي عرضت لتلك الرؤى والانطباعات. وتعد أعمال الأديب اللبناني أمين معلوف، ولاسيما كتابه “الحروب الصليبية كما رآها العرب”، من الأمثلة التي تؤيد وجهة النظر هذه.
وكما كانت النظرة الأولى من الغرب للمسلمين، جاءت نظرة المسلمين للفرنجة الغزاة فوصفوهم بأنهم برابرة همجيون. وكان ينظر إليهم على أنهم جحافل من الجماعات البربرية التي اتجهت إلى الشرق لتدمير الحضارة التي أسسها المسلمون بعناية على مدار قرون عديدة، والاستيلاء على ثرواتها. فمصطلح الاستغراب بهذا المعنى مماثل لمقابله وهو الاستشراق، فالاستغراب ليس تخصصا دقيقا له حدود راسخة ومعرفة موثقة. فالواقع يشير إلى أن المسلمين لم يكونوا يرون الصليبيين غربيين ولم يرسموا لهم تلك الصورة الغربية من قبل، بمعنى أنه لم تؤسَّس فكرة الهوية الغربية التي تقتضي ظهور مصطلح الاستغراب وخطابه الفكري.
فالاستشراق في نهاية المطاف، هو اسم يطلق على مجموعة كاملة من التصورات والتساؤلات. وهذا خطاب يشكله الاضطراب والإشكالات المؤسِّسة للفكرة ذاتها. ومع ذلك، هناك مادة تدل على مصطلح هو الاستشراق، وإذا كان ذلك الاستشراق يمثل قوة أو تأثيرا ما، فلا يمكن القول إن مقاومة تلك القوة ومواجهة ذلك التأثير لا يمكن أن يكون إلا بالقيام بالعكس، أي إنتاج مادة تحت مسمى الاستغراب؛ لأننا إذا انطلقنا في هذا الطريق من هذه الزاوية فلن نصل إلى شيء ذي قيمة.
الركائز التاريخية
في الحقيقة لقد ظهر الاستشراق في صورة مشكلة، لكن ذلك لا يعني الاقتصار على أنه مجرد خطاب لا غير. فالاستشراق هو تراكم للخطاب والحوار الذي يرافقه تراكم للقوة وتكدس للتأثير. كما أنه خلال المراحل الأولى لتكوُّن هذا الخطاب وتزايد معطياته، ظهرت عدة مواقف نابعة من عقدة النقص إلى جانب نوع من الإعجاب ومحاولة لفهم الآخر، بدلا من أن تنطلق من دراسة منهجية وصفية تؤسِّس سلطة موجهة للمسلمين.
ولو تجاهلنا هذه الأمور في نظرتنا إلى الغرب، وأعدنا سباقنا معه وبدأنا من المستوى الخطابي، نكون قد بذلنا جهدا كبيرا، لكنه غير ذي فائدة. وإذا كانت هناك ضرورة لتصفية الحسابات مع الغرب، فإنه يجب البدء بتحدي قوة الهيمنة الغربية. وبكل تأكيد يتطلب هذا التحدي منا أن نمتلك القوة. فأثناء تراكم القوة وتجمع التمكين سيتراكم الخطاب وحيثياته تلقائيًّا.
ومع ذلك، إذا كان الأمر يتعلق بتحديد الركائز التاريخية لموضوع الاستغراب، فيمكننا القول إنّ التصورات الأولى عن الحروب الصليبية هي التي شكَّلت أول المعطيات الحقيقية عن الغرب والاستغراب. وحينما تحرك المسلمون فاتحين لم يكن لديهم أيّ تصور في تقسيم العالم إلى الشرق والغرب.
ليس الأمر هكذا فقط، بل شكلت الفتوحات الإسلامية أيضًا تصورات أكثر ديناميكية فيما يخص تلك المرحلة، حيث إن الخطاب الإسلامي السليم بطبيعته لديه رؤية شمولية، فإنه لا يحصر نفسه في الجغرافيا ولا يقتصر على محور الشرق والغرب. ومن الأمثلة على ذلك نجد الأندلس التي هي منطقة في أقصى الغرب، ورغم ذلك فقد سطَّر المسلمون معظم صفحات الحضارة الأكثر إشراقًا في تاريخهم في هذه المنطقة الجغرافية. وإذا كان الخطاب الإسلامي محصورًا في حدود جغرافية ضيقة، فإن تصور الآخر الذي تم التعبير عنه في محور الشرق والغرب، كان سيخلق تصورات محدودة وضيقة في الفكر الإسلامي لعدة قرون.
ومن ناحية أخرى، فإن الأمر اللافت للنظر هو أن الغربيين الذين التقى بهم المسلمون، كان لديهم منذ البداية اهتمام بتراث الحضارة الإسلامية، رغم عدم اهتمام المسلمين أنفسهم بذلك التراث في ذلك الوقت. وبعد ذلك وبسبب أنشطة الترجمة الكثيفة، تُرجمت إلى اللغة العربية العديد من الكلاسيكيات اليونانية لأرسطو وأفلاطون، وحظيت برؤية جديدة وإطار جديد في العالم العرب
مقدمة في علم الاستغراب
وخلال الدولة العثمانية، استمر الأتراك على حدود أوروبا في جمع المعلومات اللازمة عن أوروبا. وفي تلك الأثناء، أسهمت روايات المسؤولين الحكوميين والمسافرين الذين ربما لم يسافروا إلى أوروبا إلا قليلا، في وضع صورة عن الحياة الأوروبية الفرنجية. ومما يمكن اعتباره أحد أهم المصادر لأدب الرحلات والمعلومات عن الغرب، كتاب الرحلات (سياحت نامة) للرحالة أوليا شلبي. فعندما تقرأ بدقة ما قاله عن بعض المدن الأوروبية، وبخاصة فيينا، لن تجد لغة استحقار أو إهانة في كلماته وتعبيراته، بل على العكس من ذلك ستقرأ عبارات لطيفة.
إذا اعتبرنا أن الاستغراب نظام غربي منهجي، فإن ما يمكن أن نقوله عنه سيكون مختلفًا بكل تأكيد. ولمرة واحدة، لمَّا يتشكل مثل هذا التخصص العلمي الغربي. فأمثلة الاستغراب وموضوعاته تتطور كرد فعل يستند إلى طريقة مواجهة الغرب والموقف المعتمد في اللقاء معه: إما الرد على الإمبريالية، ومواجهتها، ومعاداتها، أو على العكس من ذلك، النظر إليها على أنها حقيقة موجودة في الواقع والإعجاب بها، والتودد إليها، وغض النظر عما تحويه من شرور.
وتلك كلها مواقف ممكنة، وكلها تنتج تصورات مجملة عن الغرب، لكن التصور الغربي على النقيض غير مماثل للاستشراق وهو لا يزال مستمرًّا في إنتاج الاستشراق. وهناك من يتبنى هذا التصور وسيلةً لفهم انتقامي. وعلى سبيل المثال نجد الفيلسوف والمفكر المصري حسن حنفي قدم للمكتبة أعمالا بارزة توضح هذا الموضوع، ولا سيما كتابه “مقدمة في علم الاستغراب” لكنه لا يقدم شيئًا سوى إعادة إنتاج الاستشراق. وفي الواقع تدعو جميع انتقاداته الموجهة إلى العالم الإسلامي إلى استيعاب بعض القيم الغربية، ويعتبر “الاستغراب” حركة حرية أو استقلال جاءت تنافسًا انتقاميًّا من الاستشراق، ومن المستبعد أن تكون لهذه الحركة أي عواقب أخرى
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق