الواقعيون ووحي الشيطان (7- 10)
د. حاكم المطيري
(أمريكا.. اختراق العسكر واحتواء الإخوان)
كيف استطاعت الاستخبارات الأمريكية اختراق الجيش المصري سنة ١٩٤٢م، في السنة نفسها التي تأسست فيها «الحكومة العالمية» والاستعداد المبكر لاحتواء الثورة الشعبية ضد بريطانيا سنة ١٩٥٢م؟
وما القوى التي استخدمتها في هذا الاحتواء؟
وكيف أعادت أمريكا سنة ٢٠١٣ السيناريو نفسه بعد ستين سنة وبالقوى نفسها؟!
وأسئلة أخرى كثيرة ما زال الواقع السياسي نفسه يطرحها ويبحث عن أجوبة معقولة لها، لفهم حقيقة ما جرى بالأمس، وما يجري اليوم؛ إذ لا يمكن الإحاطة بهذه القضية إلا بالإجابة عن هذه الأسئلة بالذات! وإلا بعد معرفة كيف تشكل النظام المصري الوظيفي (بشقيه الرسمي والأهلي) في ظل المحتل البريطاني منذ سنة ١٨٨٢م، ولمدة سبعين سنة حتى حل مكانه المحتل الأمريكي بانقلاب سنة ١٩٥٢م العسكري!
وكيف نظّم المحتل البريطاني وعبّد لمدة سبعين سنة الطريق للحراك المجتمعي السياسي والديني تحت سلطته، وكيف ضبط مساراته خاصة بعد ثورة ١٩١٩م، حتى رعى حزب «الوفد» بقياداته الوطنية الليبرالية واعترف به ليكون ممثلا للشعب سياسيا، وأقصى وقضى في المقابل على «الحزب الوطني» وقياداته التاريخية الإسلامية الثائرة على بريطانيا في مهده، وذلك بالتصفية المبكرة لهم، كما حدث لمصطفى كامل، والتهجير القسري لآخرين، كما جرى لمحمد فريد، تماما كما فعلت بريطانيا مع ثورة عرابي وقياداتها سنة ١٨٨٢م، حتى لا يبقى في مصر إلا من يقبل الواقع السياسي في ظل الاحتلال البريطاني!
وكيف فتحت بريطانيا الباب على مصراعيه لملء الفراغ الديني بجماعة إصلاحية سلمية «الإخوان المسلمون» حتى لم يبق قرية في طول مصر وعرضها ليس للجماعة فيها مركز ونشاط رسمي، في ظل سيطرة الإمبراطورية البريطانية التي لا تغيب عنها الشمس على كل شئون مصر كلها، وحتى امتد نشاطهم الدعوي بعد ذلك إلى لندن نفسها وإلى اليوم! وهي التي كانت تنفي كل معارض لسياستها تخشى منه حتى نفت أمير الشعراء أحمد شوقي ولم تحتمل ليبراليتها «الإنجلوساكسونية» وجود شاعر مسلم يتغنى بأمجاد الخلافة تحت سلطانها!
فكانت القوى الرئيسية في مصر آنذاك المسموح لها بالعمل وبالتعاون في إدارة شئون «المحمية» المصرية تتمثل سياديا في «القصر الملكي» بلا سيادة، وسياسيا في حزب «الوفد» بلا سلطة، وعسكريا في «الجيش» بلا قوة، ودينيا في «الأزهر» بلا عقيدة، ودعويا في «الإخوان المسلمون» بلا جهاد، وجعل كل تلك القوى تحت الضبط الأمني والسيطرة والمراقبة!
وذلك كله لا ينفي الروح الإسلامية، ولا الحمية الوطنية عن هذه القوى المجتمعية، وإنما يعبر عن حال عجز مجتمعي حقيقي عن النهوض لخوض معركة التحرير، كما فعل الشعب الجزائري، وهيمنة طاغية للنظرة «الواقعية السياسية» على أداء النخب المصرية السياسية والدينية مدة سبعين سنة (١٨٨٢ – ١٩٥٢) تحت النفوذ البريطاني، ومثلها (١٩٥٢ – ٢٠٢١) تحت النفوذ الأمريكي، إلا خمس سنوات (١٩٦٥ – ١٩٧٠) كانت مصر تحت النفوذ الروسي!
كما لا ينفي هذا المشهد السياسي الظاهر فوق أرض النيل ما كان يجري تحت الأرض من عمل سري ثوري، يعبر عما يجول في نفوس بعض الأحرار الثوار من أماني، وينفس عنها ما تجد من غيظ وهي ترى مصر والعالم العربي كله تحت سيطرة المحتل البريطاني!
وذلك أيضا ما يستوجب من الاستخبارات البريطانية والأمريكية التي كانت -كما وصفها الرئيس السادات تحصي على الجميع أنفاسهم- رصد ذلك العمل السري تحت الأرض واختراقه واحتوائه وهو ما حدث آنذاك، وما يزال يحدث حتى هذا اليوم!
فساد الحياة السياسية:
لقد بلغ فساد الحياة السياسية والديمقراطية البرلمانية في مصر حدا لا يطاق، جعل من الثورة الشعبية خيارا حتميا، كما يقول السادات في كتابه «إنه جمال» في ص ٧٤ عن الحال السياسية آنذاك: (فالحياة الديمقراطية التي عاشها الشعب منذ عام ١٩٢٣م إلى عام ١٩٥٢م عندما قامت الثورة لم تكن إلا سلسلة محكمة الحلقات من الفساد، والرشوة، والمحسوبية، تفرقت فيها كلمة البلاد، وبدلا من أن يكون الكفاح موحدا ضد بريطانيا التي كانت تحتل البلاد بجيوشها، وتفرض عليها استعمارا أذل من كرامتها، وسلب أرزاقها، ومنع الشعب من التقدم، والعلم، والحياة..
نرى بدلا من ذلك أن الكفاح أصبح بين أبناء البلد من أجل المنصب، والحكم، والجاه!
كان هناك دستور، ولكن هذا الدستور كان مسجونا من أول يوم صدر فيه، حين قرر الأمر الملكي لصدوره أنه «منحة» من الملك، وبعد أن طبق هذا الدستور شهدنا جميعا كيف كانت ترتكب باسمة الخيانات!
وكيف كانت تلجأ إليه الأحزاب لكي تجعل من الأحقاد، والمطامع، والاستغلال، أعمالا قانونية، وهو الذي كان مفروضا فيه أن يحمي الشعب من حكامه!
وكان هناك ملك حدد له الدستور مكانة، يملك ولا يحكم، ولكننا على العكس من ذلك، رأينا الملك يحكم قبل أن يملك!
فإنه نتيجة للصراع الحزبي الذي أوجدته الديمقراطية أصبح الأمر تنافسا شخصيا بين الزعماء، والأحزاب، ليس لمصلحة الوطن، أو مصائره، وإنما على الفوز بالحكم والسلطان!
كان الملك هو الذي يهب الحكم ويمنعه، لذلك أصبح يسيطر علي النفوس والضمائر!
وشهدنا -وشهد العالم- أكبر مأساة خلقية تمثل على مسرح الحكم والسياسة في مصر، بطلها ملك يخضع لشهواته ونزواته، ومن حوله زعماء كان كل همهم أن يشبعوا فيه هذه النزوات، بالاستسلام والخضوع والتطرف وإظهار الولاء، حتى أن زعيما متدينا طلب من الشعب في يوم من الأيام أن يتوجه معه إلى قبلة جديدة هي جزيرة كابري، لكي يحيى الملك الذي كان يعربد هناك في شهر رمضان!
ولم يكن ذلك الزعيم طبعا يحسب في ذلك الوقت حساب الشعب، وإنما كان كل ما يحرص عليه هو عبادة ذلك الصنم حتى وهو يعربد، من أجل البقاء في الحكم، والمحافظة على الصولجان!
وكانت هناك برلمانات، وكان المنصوص عليه في الدستور هو أن الحكومة مسئولة أمام البرلمان، ولكننا رأينا أنه منذ أن قامت تلك البرلمانات وهي المسئولة أمام الحكومات!
وبدأ سباق في الفساد والرشوة بين الوزراء وأعضاء البرلمانات، كل هذا يجري تحت قبة البرلمان! وباسم الشعب الذي كان يجلس أولئك النواب على كراسيهم ليمثلوه، فداسوا مصالحه، وحطوا من كرامته، واندفعوا في تيار المنافع الشخصية، والنزوات الحزبية!
كل هذا كان يطلق عليه في مصر، قبل الثورة، كلمة «الديمقراطية»!
والعجيب أن بريطانيا كانت تسعد جدا بتلك الديمقراطية، وتعتبرها أمرا حيويا للتقدم والحرية، ولم يكن يخفى علينا نحن أبناء هذا الشعب أن حرص بريطانيا على إطلاق كلمة “ديمقراطية” على هذه الفوضى المخزية، إنما كان سلاحا من أحقر أسلحتها للسيطرة على هذا الشعب، بشغل أبنائه بعضهم ضد البعض بهذه اللعبة التي تخلق الصراع في الداخل بين أبناء البلد الواحد وتبقى هي معززة مكرمة فوق كل صراع تفرض أوامرها، وسيطرتها، واستعمارها)!
انتهى كلام السادات عن تلك المرحلة قبل الثورة سنة ١٩٥٢م، ولم تنته بعد مسرحية «الديمقراطية» التي ما تزال تعرض على شعوب العالم العربي تحت النفوذ الغربي الأمريكي الروسي الأوربي!
وما زالت «الديمقراطية» الهزلية، والمسرحية «البرلمانية» تتحكم في المشهد السياسي كما هي حتى اليوم في العالم العربي في ظل الدول الوظيفية للحملة الصليبية من المحيط إلى الخليج بلا سيادة لدولها ولا حرية لشعوبها!
لقد أدى فساد الحياة السياسية المصرية في ظل النظام الملكي آنذاك إلى إطالة أمد الاحتلال البريطاني، وضعف روح الثورة والمقاومة مدة سبعين سنة، ولم يواجه المحتل البريطاني طوال هذه المدة ما وجده قبله المحتل الفرنسي من مقاومة وجهاد مدة وجوده ثلاث سنوات (١٧٩٩ – ١٨٠٢م)، انتهى بقتل القائد «كليبر» وانسحاب الجيش الفرنسي!
لقد كان الشعب المصري أعرف بحقوقه وأسبق في ثورته السياسية من أجل العدل والحرية من الثورة الفرنسية نفسها، التي ما لبثت أن ألهمت الشعب الفرنسي قيم الجمهورية وإعلان حقوق الإنسان، وألهبت خيال قادته لغزو الشرق ابتداء من قلبه مصر!
تلك الثورة المصرية التي ذكر تفاصيلها المؤرخ المصري الجبرتي، وذكر دور علماء الأزهر في قيادتها، والوثيقة السياسية الذي وقعها قادته مع السلطة آنذاك، إلا إن عهد الملكية في مصر فتك بالروح الجهادية للشعب المصري، حتى تحولت مصر وجيشها إلى قوة وظيفية تخدم مشروع المحتل البريطاني ثم الأمريكي منذ سنة ١٨٨٢م حتى اليوم!
لقد عبّرت تلك الثورة المصرية التي حدثت سنة ١٧٩٥م عن مدى الوعي السياسي والحقوقي الشرعي الذي كان يتمتع به الشعب المصري، وأنه كان أسبق من الشعب الفرنسي في ثورته تلك بإيمانه بحقه في الحرية والحياة الكريمة، غير أن طغيان محمد علي وفساد الأسرة الملكية بعده؛ مسخت الشخصية المصرية، حتى غدت أكثر قابلية للعبودية الطوعية!
وقد كتب الرئيس أنور السادات في كتابه «إنه جمال» ص ١٣ عن تلك الثورة فقال:
(ففي سنة ١٧٩٥م الميلادية، أي منذ مائة وستين عاما من يومنا هذا [١٩٥٧م]، حين كانت دول كثيرة من التي تطلق على نفسها دولا كبرى أو عظمى اليوم، لا تزال شعوبها تجهل القيم الحضارية والحقوق الأساسية للإنسان، كان الشعب المصري يفرض إرادته على حكامه، في وثيقة أجمع المؤرخون المصريون والأجانب على أنها بحق وثيقة إعلان حقوق الإنسان:
في سنة ١٧٩٥م قرر الشعب المصري ما يأتي:
١- ألا تفرض ضريبة إلا إذا أقرها مندوبو الشعب.
٢- أن ينزل الحكام على مقتضى أحكام المحاكم.
٣- أن لا تمتد يد ذي سلطان إلى أي فرد من أفراد الأمة إلا بالحق والشرع.
وذهب الشعب إلى أبعد من ذلك فأجبر حكامه في ذلك الوقت على الاعتراف في هذه الوثيقة بخطئهم وإنهم تابوا ورجعوا..
وإليك يا بني القصة كما يرويها الشيخ عبد الرحمن الجبرتي المؤرخ المصري الكبير:
في أوائل شهر ذي الحجة من عام ١٢٠٩ هجرية – ١٧٩٥م جاء رجال من بلبيس إلى المشايخ في الأزهر يشكون الظلم، وتقابلوا مع الشيخ الشرقاوي يعلنون سخطهم عن الضرائب الباهظة، والاستبداد الجاهل.
واستشعر الشيخ الشرقاوي في نفسه تلكم المسئولية الدينية والوطنية اللتين اشتهر بهما رجال الدين في ذلك العهد، فلم يحاول أن يهدئ من نفوس هؤلاء الثائرين، ولم يحاول أن يقول لهم أنهم أولو الأمر، لم يثبط إرادتهم، وإنما أشعل جذوتهم، وأحسن توجيههم.
غضب الشيخ لكرامة الشعب، فتوجه إلى الأزهر، وجمع المشايخ، وقفلوا أبواب الجامع، وأمروا الناس بترك الأسواق والجوامع والمتاجر! وركب الشيخ في اليوم التالي وخلفه خلق كثير، إلى منزل الشيخ السادات، وكان منزله قريبا من منزل إبراهيم بك شيخ البلد، الذي لم يلبث حين رأى هذا التجمع أن أرسل مندوبا عنه -هو أيوب بك الدفتردار- إلى العلماء، وهم قادة هذا الجمع الشعبي، ووقف المندوب بين أيديهم يسألهم عن مرادهم فقالوا: نريد العدل الذي لا تقوم حياة بدونه..
وإبطال الحوادث والمكوسات..
ونريد رفع الظلم الذي هو أساس الهوي إلى الحضيض..
ونريد إزالة الجور لأن الجور مرتعه وخيم..
نريد إقامة الشرع؛ لأنه شرع الله، وقد آمنا به..
ونريد إبطال الحوادث وإقرار الأمن، كما نريد رفع المكوسات؛ لأن الضريبة بغير استئذان الشعب، لا يمكن أن تكون شرعية ولا مقبولة بحال..
وكانت ملحمة كلامية بين العلماء ومندوب إبراهيم بك شيخ البلد..
قال العلماء فيها كلمة الحق؛ لأن الخوف من غير الله شرك جزاؤه الخلود في النار..
قالوا له إن الضرائب لا تحتمل..
وقال الدفتردار: إن النفقات باهظة..
قال العلماء: وما الباعث على الإكثار من النفقات، والأمير يكون أمير بالعطاء لا بالأخذ؟
وبلغ الأمر غايته.
وخشي إبراهيم ومراد حكام مصر وقتذاك مغبة الثورة فأرسلوا يسترضون العلماء ويستجيبون لمطالبهم واجتمع الأمراء في اليوم الثاني.. وأرسلوا إلى العلماء يرجون حضورهم، وكان ذلك في منزل إبراهيم بك..
فحضر منهم الشيخ السادات، والسيد عمر مكرم، والشيخ الشرقاوي، والشيخ البكري، والشيخ الأمير، وكانوا جميعا من رسل الثورة وقوادها الظاهرين، وطال الجدل بين الشيخ والأمراء مرة أخرى، واحتدم النقاش بين الشعب وحاكميه.
بين شعب أعزل إلا من الإيمان والتصميم، وبين حاكم مسلح تعود الطغيان..
وأعلن الحاكمون أنهم «تابوا ورجعوا»، وأنهم سيشدون على أيدى أتباعهم ليكفوا عن سلب أموال الناس..
والأهم من كل ذلك أن قاضي القضاة كان موجودا في هذا المجلس، وأن وثيقة رسمية سجلت على الأمراء أمضاها الوالي العثماني، وأمضاها إبراهيم ومراد..
وكان تسجيل هذه الحقوق في حد ذاته معنى من أخطر المعاني، فحقوق الشعب حقوق مشروعة، ومطالبه مؤيدة، وقاضي قضاة البلد مختص بتسجيل هذه المطالب، ودمغ هذا الصك بالدمغة الرسمية والشرعية، وهي وثيقة لحقوق الإنسان كأقدم ما تكون الوثائق، أعلنها شعب مصر منذ مائة وستين عاما، ليفهم الناس عن هذا الشعب غير الذي يحاول المستعمرون وأذنابهم أن يبقوه في الأذهان، وليدرك العالم أن مصر العظيمة في القديم كانت هي مصر البارة بالإنسانية، والحريصة على كرامة الفرد، في تاريخها الحديث، إن سطور هذه القصة الساذجة لتعكس يا بني روح شعب مصر الوادع الصبور، المكافح، وتعكس في نفس الوقت مدى فهمه منذ القدم للمعاني، والقيم الإنسانية.
فمبدأ عدم فرض الضريبة الا إذا أقرها مندوبي الشعوب، وهو الذي نادى به شعب مصر عام ١٧٩٥م، وأرغم حكامه على التسليم به، هو أروع دليل على ما لشعب مصر من وعي ديمقراطي أصيل منذ القدم..
والذي دار بين ممثلي الشعب وممثلي شيخ البلد الحاكم، إن الثورة الفرنسية كلها لتتضاءل أمام المغزى العميق لهذا الحوار..
فلقد أسفرت الثورة الفرنسية عن مبادئ ثلاثة هي الحرية والاخاء والمساواة، لم تلبث أن أصبحت في فرنسا ذاتها وأثناء الثورة الفرنسية نفسها شعارا للقتل والتدمير بين الفرنسيين الثوار أنفسهم، ثم ما لبثت هذه المبادئ، أن صدرتها فرنسا إلى الخارج على صورة استعمار خبيث يفتك بالشعوب البريئة، ويسلبها أرزاقها، ويقتل النساء، ويفتك بالأطفال، ويغتصب الأرض، ويجعل من الإنسان أحط من الحيوان..).
انتهى كلام السادات، ولم ينته البحث عن أسباب عجز الشعب المصري! ولمَ لمْ ينهض بعد ثورته الأولى سنة ١٧٩٥م كما نهض الشعب الفرنسي بعد ثورته الأولى سنة ١٧٩٨م؟ ولا تحرر بعد ثورته الثاني ١٩٥٢م، التي شارك فيها السادات نفسه كما تحررت الشعوب الأخرى؟ فما زالت مصر في عهديها الملكي والجمهورية وإلى اليوم تخضع للنفوذ الخارجي البريطاني إلى سنة ١٩٥٢م، ثم الأمريكي إلى سنة ١٩٦٥م، ثم الروسي إلى سنة ١٩٧٠م، ثم الأمريكي مرة أخرى إلى اليوم دون أن يخوض معركة تحرير، ولو مرة واحدة ضد المحتل الأجنبي!
تنامي العمل السري وتنظيماته في مصر:
لقد كان حصار القوات البريطانية لقصر الملك فاروق في ٤ فبراير سنة ١٩٤٢م، ثم الإعلان عن قرار “الأمم المتحدة” بتقسيم أرض فلسطين بين العرب واليهود، وقيام دولة إسرائيل، واندلاع حرب فلسطين سنة ١٩٤٨م وهزيمة الجيش المصري فيها سنة ١٩٤٩م، الأسباب المباشرة في تأسيس تنظيمين عسكريين سريين سيكون لهما أكبر الأثر على المشهد السياسي في مصر هما:
١- «التنظيم الخاص» للإخوان المسلمين بقيادة عبد الرحمن السندي الذي كان عند تأسيسه يحمل المشروع الإسلامي الأممي.
٢- وتنظيم «الضباط الأحرار»، الذي كان كثير منهم قد انتظموا قبل ذلك في مجموعات صغيرة، يشغلها الهم الوطني والقومي العربي، وما آلت إليه أوضاع مصر في الحرب العالمية الأولى، خاصة بعد حصار القوات البريطانية لقصر الملك فاروق وإجباره على تكليف مصطفى النحاس وحزب الوفد بتشكيل الحكومة في ٤ فبراير سنة ١٩٤٢م، هذا التكليف الذي جعل الشعب المصري ينفض عن حزب الوفد، حتى غادره بلا رجعة كاتبه الأول وصوته الأبرز وهو الأديب عباس العقاد، وتلميذه الشهيد سيد قطب، وحتى اتهمه معارضوه بالخيانة، وكان النحاس يعتذر بأنه لم يكن أمامه خيار إلا قبول التكليف وهو ما تقتضيه «الواقعية السياسية» أو دخول البلد في الفوضى وهو ما كان يخشاه الملأ!
كما ذكر ذلك خالد محيي الدين في مذكراته ص ٣٤ حيث يقول: (وكان حادث ٤ فبراير إهانة مريرة لمصر، وللملك، وللجيش، فاختلطت هذه المسائل معا، ولم يكن من السهل الفصل بينها، الإنجليز حاصروا قصر عابدين بالدبابات، ربما كانت ذات الدبابات التي أخذوها منا، وعندما تصدى لهم ضابط الحرس الملكي أحمد صالح حسني قبضوا عليه ودخلوا بالقوة، وهناك أملى اللورد كيلرن إرادة بريطانيا على الملك، وأمر بدعوة النحاس باشا لتشكيل وزارة وفدية، وبطبيعة الحال يمتلك الوفديون وغيرهم تفسيرات قد تبدو الآن مقنعة لدى البعض، فبعض المقربين من القصر الملكي من السياسيين كانوا على علاقة بالمحور [ألمانيا وإيطاليا]، والوضع العسكري في جبهة الصحراء الغربية كان سيئا [لتقدم قوات إيطاليا من ليبيا على مصر]، وقد شاهد الناس في فترة لاحقة دخانا كثيفا يتصاعد من مقر المندوب السامي البريطاني، كان الإنجليز يحرقون أوراقهم، استعدادا للهرب عند اقتراب الألمان، ووضعت خطط عديدة لإعاقة تقدمهم بإغراق أجزاء من الدلتا.
كل هذا صحيح!
وصحيح أيضا أن التواطؤ مع الفاشية كان خطأ فادحا، وإضرارا شديدا بمصالح الوطن، لكن ذلك كله كان يمكن التحدث به في أروقة السياسيين، أو بعد هدوء العواصف والعواطف، والدخول في تحليلات لأحداث وقعت في الماضي، أما ساعتها فقد كان الأمر جد مختلف، كانت مشاعري غاضبة بصورة لم أعتد عليها، وأحسست بمهانة شديدة كمصري وكعسكري، ولم يكن هذا إحساسي وحدي، ربما كنا جميعا كذلك.
محمد نجيب أكد أكثر من مرة أن حادث ٤ فبراير كان نقطة تحول في حياته، عبد الناصر أكدها كثيرا، وقبل الثورة تحدث طويلا في رسائله من السودان إلى أحد أصدقائه عن حادث ٤ فبراير، وتأثيره المباشر على تفكيره وتكوينه، وقد نشرت هذه الرسائل في المصور بعد الثورة بعدة سنوات.
وأنا كذلك أقرر كان حادث ٤ فبراير نقطة تحول في حياتي!
وفي أعقاب الحادث مباشرة أبلغني أحد زملائي بأن هناك اجتماعا في نادي الضباط، ورأيت هناك عثمان فوزي وعديدا ممن أعرفهم، وآخرين من ضباط كبار وصغار لم أرهم من قبل، كان اللقاء عاصفا وغاضبا وحزينا، ضباط يبكون مرارة وغيظا وقهرا، وآخرون يصرخون بأعلى صوت من فرط الإحساس بالمهانة، حوالي ۳۰۰ أو ٤٠٠ ضابط يتداولون بحدة فيما يجب أن نفعل، يحركهم حس وطني دافق، ويقيدهم الانضباط العسكري..).
جمال يبايع المرشد ويربط بين النظام الخاص والضباط الأحرار:
وكان جمال عبد الناصر الشاب ابن الثلاثين عاما هو الذي قام بعد ذلك بجمع شتات هذه المجموعات الوطنية من ضباط الجيش في تنظيم واحد -كما يؤكده السادات، ومحمد نجيب، وعبد اللطيف البغدادي- بعد أن كان قبلها عضوا في النظام الخاص والتنظيم السري لجماعة «الإخوان المسلمون» في الجيش المصري!
وقد كان عبد المنعم عبد الرءوف -كما في مذكراته ص ٢٨- قد اصطحب النقيب جمال عبد الناصر في أكتوبر ١٩٤٢م للمركز العام لجماعة «الإخوان المسلمون» لحضور درس الثلاثاء للإمام حسن البنا، ثم اصطحب الملازم أول حسين حمودة، ثم الملازم كمال الدين حسين، الذين انضموا إلى الجماعة..
ثم انضم بعدهم خالد محيي الدين حتى غدا عددهم سنة ١٩٤٤م سبعة ضباط، وفي سنة ١٩٤٦م أخذت منهم البيعة، وأصبحوا أول خلية من «الضباط الأحرار» تابعة للنظام العسكري الخاص للجماعة بقيادة عبد الرحمن السندي، كما ذكر ذلك خالد محيي الدين في مذكراته -ص ٤٤- حيث يقول عن علاقتهم ولقاءاتهم بجماعة الإخوان ومرشدها الإمام حسن البنا: (كان يحضر معنا في اللقاءات الإخوانية جمال عبد الناصر، وكمال الدين حسين، وحسين حمودة، وحسين الشافعي، وسعد توفيق، وصلاح خليفة، وعبد اللطيف بغدادي، وحسن إبراهيم.
كانت علاقة الإخوان بهذه المجموعة من الضباط تتسم بالحساسية، ففجأة وجد الإخوان أنفسهم أمام كنز من الضباط المستعدين لعمل أي شيء من أجل الوطن.
لكن هؤلاء الضباط لم يكونوا على ذات الدرجة من الولاء للجماعة، فمثلا صلاح خليفة، وحسين حمودة، كانا من الإخوان قلبا وقالبا، أما الآخرون فكانوا مجرد عناصر تبحث عن طريق! لسنا ضد الإخوان، بل نحن معهم، لكننا لسنا معهم بالكامل، فعبد الناصر مثلا كان يعتقد أن الإخوان يريدون استغلالنا كضباط لنكون أداة في أيديهم ونعطيهم مكانة سياسية بوجود نفوذ لهم في الجيش، لكنهم لن يقدموا شيئا للقضية الوطنية، وكان جمال يلح في الاجتماعات: إذا كان لديكم نصف مليون عضو وأربعة آلاف شعبة فلماذا لا نبدأ بعمليات ضرب ضد الاحتلال، ومظاهرات وتحركات جماهيرية؟
وكنت أنا دوما عنصرا مثيرا للقلق في الاجتماعات..
وبدأت ألح على محمود لبيب في اجتماعاتنا: ما هو برنامج الجماعة؟ فيجيب: الشريعة!
كنت أقول: كلنا مسلمون، وكلنا نؤمن بالشريعة لكن تحديدا ماذا سنفعل لتحرير الوطن؟ هل سنخوض كفاحا مسلحا أم نقبل بالتفاوض؟ وماذا سنقدم للشعب في مختلف المجالات، في التعليم، والإسكان، والزراعة، وغيرها من القضايا الاجتماعية؟ وكان محمود لبيب يزوغ من الإجابة وأنا أطارده، وانتهى الأمر بأن أحضر لنا الأستاذ حسن البنا المرشد العام للإخوان.
وللحقيقة كان حسن البنا يمتلك مقدرة فذة على الإقناع، وعلى التسلل إلى نفوس مستمعيه، وكان قوي الحجة، واسع الاطلاع، وفي اللقاء الأول معه بدأنا نحن بالحديث وطرحنا -أنا وعبد الناصر- آراءنا، وعندما تكلم البنا أفهمنا بهدوء وذكاء أن الجماعة تعاملنا معاملة خاصة، ولا تتطلب منا نفس الولاء الكامل الذي تتطلبه من العضو العادي!
وقال: نحن الإخوان كبهو واسع الأرجاء يمكن لأي مسلم أن يدخله من أي مدخل لينهل منه ما يشاء، فالذي يريد التصوف يجد لدينا تصوفا، ومن يريد أن يتفقه في دينه فنحن جاهزون، ومن يريد رياضة وكشافة يجدها لدينا، ومن يريد نضالا وكفاحا مسلحا يجدهما، وأنتم أتيتم إلينا بهدف القضية الوطنية، فأهلا وسهلا.
تناقشنا معه، وكان رحب الصدر، ألححت في ضرورة إعلان برنامج.
قلت: لن نستطيع أن نكسب الشعب بدون برنامج واضح يقدم حلولا عملية لمشاكل الناس؟
وأجاب: لو وضعت برنامجا لأرضيت البعض وأغضبت البعض، سأكسب ناسا، وأخسر آخرين، وأنا لا أريد ذلك!
وتتالت مقابلاتنا مع حسن البنا، وقد كان يمتلك حججا كثيرة لكنها لم تكن كافية، ولا مقنعة بالنسبة لأكثرنا!
وظل عبد الناصر مستريبا في أن الجماعة تريد أن تستخدمنا كمجموعة ضباط لتحقيق أهدافها الخاصة، وظللت أنا أوالي قراءة ما يزودني به عثمان فوزي من كتب [ماركسية واشتراكية]، وأزداد إلحاحا في مناقشاتي على ضرورة وضع برنامج للجماعة يحدد أهدافها الوطنية وموقفها من مطالب الفئات المختلفة، وبدأت في هذه المناقشات أنحو منحى يساريا، وأصبحت نشازا في مجموعة من المفترض أنها تابعة للإخوان المسلمين!
وأخيرا حاول حسن البنا أن يشدنا إلى الجماعة برباط وثيق، وتقرر ضمي أنا وجمال عبد الناصر إلى الجهاز السري للجماعة [النظام العسكري الخاص]، ربما لأننا الأكثر فعالية وتأثيرا في المجموعة، ومن ثم فإن كسبنا بشكل نهائي يعني كسب المجموعة بأكملها، وربما لأننا كنا نتحدث كثيرا عن الوطن والقضية الوطنية، ومن ثم فقد تصور حسن البنا أن ضمنا للجهاز السري حيث التدريب على السلاح والعمل المسلح يمكنه أن يرضي اندفاعنا الوطني، ويكفل ارتباطا وثيقا بالجماعة.
المهم اتصل بنا صلاح خليفة، وأخذنا -أنا وجمال عبد الناصر- إلى بيت قديم في حي الدرب الأحمر، باتجاه السيدة زينب، وهناك قابلنا عبد الرحمن السندي المسئول الأول للجهاز السري للإخوان في ذلك الحين، وأدخلونا إلى غرفة مظلمة تماما، واستمعنا إلى صوت أعتقد أنه صوت صالح عشماوي، ووضعنا يدنا على مصحف ومسدس، ورددنا خلف هذا الصوت يمين الطاعة للمرشد العام في المنشط والمكره، والخير والشر، وأعلنا بيعتنا التامة الكاملة والشاملة له على كتاب الله وسنة رسوله!
وبرغم هذه الطقوس المفترض فيها أن تهز المشاعر، فإنها لم تترك إلا أثرا محدودا سواء في نفس عبد الناصر أو نفسي!
وعلى أية حال، بدأنا بعدها عملنا في الجهاز السري، أخذونا للتدريب في منطقة قريبة من حلوان، وطبعا كنا نحن ضباطا نفهم في السلاح أكثر ممن يدربوننا، وكان عبد الناصر يبدو ممتعضا من ذلك، وبدأنا نستشعر حالة من الاغتراب عن الجماعة..).
وقال خالد أيضا في ص ٤٧ عن أسباب تركهم للجماعة: (وأعود مرة أخرى إلى علاقتنا بجماعة الإخوان، كانت الأحداث السياسية تتسارع، وكشفت جماعة الإخوان عن وجهها السياسي، وتصرفت كجماعة سياسية، وتخلت عن دعاوى النقاء الديني، ولما كانت بحاجة إلى صحيفة يومية وورق صحف في ظل أزمة شديدة في الورق، تقاربت من إسماعيل صدقي [رئيس الوزراء من حزب الوفد]، وحصلت في مقابل تقاربها هذا على ما أرادت من دعم!
كذلك وقفت الجماعة ضد اللجنة الوطنية للطلبة والعمال، وحاولت أن تشكل جماعة أخرى بالتعاون مع إسماعيل صدقي!
وبدأنا نحس أنهم مثل أي سياسيين آخرين يفضلون مصلحتهم، ومصلحة جماعتهم على ما ينادون به من مبادئ، وعلى مصلحة الوطن.. وتحادثت طويلا مع جمال عبد الناصر حول علاقتنا بالجماعة، وأفضى جمال لي بمخاوفه من أن الجماعة تستخدمنا كضباط لمصالحها الذاتية، وليس لمصلحة الوطن، وأفضيت له بمشاعري واتفقنا أننا قد تورطنا أكثر مما يجب مع هذه الجماعة، وأنه يجب أن ننسحب منها، لكنه لا يمكن أن نقول إننا في يوم كذا انسحبنا من الجماعة، فقط أصبحت الشكوك تملؤنا، وأصبحنا على غير وفاق، وغير متحمسين، وبدأنا نتباعد أنا وجمال، وربما بدأت الجماعة هي أيضا تستشعر أننا لا نمتلك الولاء الكافي فبدأت تتباعد عنا، وتدريجيا يأتي عام ۱٩٤٧م لنجد علاقتنا -جمال وأنا- وقد أصبحت باهتة تماما بجماعة الإخوان)!
ولم يدرك خالد ومن معه من «الضباط الأحرار» أنهم حين بايعوا الجماعة على السمع والطاعة إنما بايعوا الملك نفسه الذي كانوا يريدون خلعه والتي كانت الجماعة تدين له بالولاء والسمع والطاعة وتعترف له بالشرعية وترى تحريم الخروج عليه! وأن التنظيم السري الخاص بالجماعة الذي كانوا يتدربون على العمليات العسكرية فيه كان هو أيضا تحت إشراف الحكومة المصرية نفسها، وبالتعاون معها -التي يريدون الثورة عليها- كما أثبت القضاء المصري بعد ذلك، وأن النظام الخاص للجماعة قام بالعمل السري بدافع وطني وبعلم من السلطات المصرية وبتعاون معها وبإشراف منها!
وهو ما أكده القيادي في «التنظيم الخاص» للإخوان محمود الصباغ -في كتابه «التصويب الأمين» ص ١٩- حيث قال عن اعتقال أعضاء النظام الخاص بعد اغتيال الإمام البنا، بعد مشاركتهم في الجهاد في فلسطين بتنسيق مع الحكومة نفسها وتحت إشرافها: (إن النظام الخاص بكل أعماله تحت قيادة الإمام الشهيد قدم إلى المحاكمة العلنية أمام القضاء المصري في عهد أعدى أعداء الإخوان المسلمين وهو إبراهيم عبد الهادي، الذي استصدر قانونا يجعل عقوبة حيازة الأسلحة دون ترخيص تتراوح بين الأشغال الشاقة والإعدام وبأثر رجعي، ليضمن إدانة هذا النظام [الخاص] وإدانة أعماله بالحق أو بالباطل، ولم يمنعه وضميره الوطني وهو يستصدر هذا القانون علمه أن الإخوان المسلمين كانوا في حيازتهم للأسلحة والمفرقعات يستندون إلى الموافقة العملية لسلفه محمود فهمي النقراشي [رئيس الوزراء الذي حظر لاحقا الجماعة مما أدى إلى اغتياله] الذي أظهر للناس كافة أنه يساند حركة تحرير فلسطين ممثلة في قائدها المجاهد الحاج أمين الحسيني الذي عاش في هذه الأثناء في مصر لاجئا سياسيا تحت رعاية ملكها، وعاش معه الأخ الكريم الشهيد عبد القادر الحسيني القائد العسكري للمجاهدين الفلسطينيين ومعاونوه.
ومن هنا كان تشجيع الحكومة للإخوان المسلمين في حيازة السلاح والمفرقعات، وتسليح «الهيئة العربية العليا»، وتدريب أفراد النظام [الخاص] وغيرهم من لإخوان أمرا واقعا لا حظر عليه، وكذلك كان تشجيع العديد من ضباط مصر على طلب الإحالة إلى الاستيداع لدخول فلسطين مجاهدين بقيادة الشهيد أحمد عبد العزيز يرحمه الله، مع فتح مخازن أسلحة الجيش المصري لهم على الرغم من انتهاء صفتهم كأفراد في القوات النظامية وكان ذلك كله قبل دخول الجيش المصري فلسطين بعدة شهور بالنسبة لضباط الجيش، وبما يقرب من سنتين بالنسبة للإخوان المسلمين.
ولكن قضاء مصر العادل لم تنطل عليه أساليب إبراهيم عبد الهادي الملتوية، بعد أن رأى برهان ربه وهو يستعرض كل الحقائق التي فصلت أمامه أثناء دراسة هذه القضية التاريخية الشهيرة بقضية «السيارة الجيب» فبرأ «النظام الخاص» من جميع التهم التي نسبتها إليه النيابة العامة، ولا يزال ينسبها إليه الجهلة بحقيقة التاريخ، وأشاد بشرف الغاية ونبل المقصد في حيثيات حكمه التي هزت مصر هزا، وأودت بنظام إبراهيم عبد الهادي قبل مرور سنة واحدة على هذا الحكم التاريخي المجيد.
وإلى هذا الحكم القضائي أحيل إلى الأستاذ محسن محمد وغيره من المؤرخين، فالفضل ما حكمت به الأعداء.
لقد بدأت هيئة المحكمة محملة برغبة الحكومة المؤكدة في إدانة هذا النظام [الخاص] ومؤيدة بالقوانين الاستثنائية اللازمة لهذه الإدانة، وانتهت إلى الانضمام بكامل هيئتها إلى الإخوان المسلمين، والإشادة بفضلهم لما رأوا من الحق، كما أسلم لي ممثل النيابة الأستاذ محمد عبد السلام الذي رقي إلى وظيفة النائب العام فيما بعد ذلك في أول لقاء شخصي معه بعد صدور هذا الحكم أنه كان مخطئا في كل ما ذهب إليه من اتهامات، وذلك دون أن أوجه إليه أي سؤال عن هذا الموضوع) انتهى كلامه.
كل تلك الأحداث الخطيرة، والترتيبات المثيرة، كانت تحدث في ظل الاحتلال البريطاني الأمريكي المشترك لمصر منذ تأسيس تشرشل ورزفلت «الحكومة العالمية» سنة ١٩٤٢م، حيث آلت القيادة العالمية لأمريكا، وحيث كانت الاستخبارات البريطانية والأمريكية ترصد كل حدث في مصر، وتتحكم في المشهد السياسي فيها كله من الملك إلى البواب!
وتحدث محمود الصباغ أيضا في -ص ٢٤- ٢٥- عن براءة النظام الخاص مما اتهم به من أعمال عنف وتخريب، وأن أعماله كانت تقتصر على الأعمال الجهادية المشروعة للمحتل فقال: (وتدوي كلمة القضاء المصري في قضية السيارة الجيب ببراءة الإخوان المسلمين، وبراءة التنظيم السري [النظام الخاص] من كل ما نسبته إليهما النيابة العامة، وتهتز القلوب والأسماع، بكلمات المحكمة أن النيابة قد بنت اتهاماتها على غير أساس، وأن القلة القليلة التي أدانتها المحكمة تستحق الإعجاب والتقدير لشرف الغاية ونبل المقصد، ذلك لأن هذا العهد بأكمله لم يلبث -وقبل أن تنقضي تسعة أشهر على خروج قادة التنظيم السري من السجن في سبتمبر سنة ١٩٥١- أن زال، فقد قامت ثورة يوليو ١٩٥٢ لتطرد رأس المؤامرة «فاروق» من مصر، وتحاكم أذناب المؤامرة، فتحكم على إبراهيم عبد الهادي قاتل الإمام الشهيد بالإعدام، وتقضي على ضباطه وعساكره الذين نفذوا القتل بأيديهم بالإعدام، وتقضي على ضباطه بتعويض مالي لورثة الإمام الشهيد، ويتوجه مجلس قيادة الثورة إلى قبر الإمام الشهيد بين الحشود المحتشدة من رجال الإخوان المسلمين، يؤبنه ويطيب ثراه، ويشهد له بالفضل في حياته، والشهادة في وفاته، ويدعو الإخوان المسلمون للاشتراك في أول وزارة من وزارات الثورة بأربعة وزراء فيعتذرون عن الاشتراك الصريح في الحكم، ويرشحون للوزارة بدلا من الإخوان وزراء يثقون فيهم، مثل الأستاذ أحمد حسني وزير العدل في أول وزارة للثورة، فقد كان واحدا من الذين رشحهم فضيلة الأستاذ حسن الهضيبي المرشد العام الثاني للإخوان المسلمين، وتقبل الثورة جميع الأسماء التي رشحها الإخوان للوزارة الأولى من خارج صفوفهم، وتصدر قرار عفو شامل عن جميع المسجونين السياسيين قبل الثورة، وكانت الغالبية العظمى منهم من الإخوان المسلمين، فيخرجون بما في ذلك قاتلوا الخازندار، ويقرر مجلس الدولة اعتبار مدد السجن والاعتقال عملا، فيصرف المسجونون والمعتقلون المفرج عنهم مرتباتهم عن جميع فترات السجن والاعتقال قبل الثورة، ويحصلون على ترقياتهم وعلاواتهم كما لو كانوا في عمل، ويقول مستشارو مجلس الدولة في حيثياتهم بأن هذا هو أقل ما يستحق أمثالهم، وأن الأجدر أن تمنحهم الدولة أنواطا ونياشين) انتهى كلام الصباغ!
لقد صدرت تلك الأحكام القضائية العادلة قبل الثورة وفي العهد الملكي، وبنيت على أساس أن كل ما كان يقوم به «النظام السري» الخاص للجماعة، إنما كان بعلم السلطة وبالتعاون معها للدفاع عن فلسطين، فلم يكن في حقيقته تنظيما سريا، بل نظام خاص فُصّل على مقاس جماعة الإخوان المسلمون ليشارك أفرادها في الجهاد تحت إشراف الجيش المصري، حتى لا يخرجوا عن الدور المرسوم بريطانيا للحكومة المصرية في شأن فلسطين!
لقد جاءت تلك الأحكام تمهيدا لإنهاء النظام الملكي نفسه، وإنهاء حكومة الوفد التي استجابت لضغط الشارع وأصرت على الجلاء، فقررت أمريكا طي ملفها، وصناعة البديل العسكري لها الذي سيحقق لها كل أهدافها وما يزال!
وتكاد روايات الضباط الأحرار تتطابق في تأكيد العلاقة بينهم وبين النظام الخاص للإخوان المسلمين، وأن الدافع الرئيس للتنظيمين هو تحرير فلسطين، حيث يقول البغدادي في مذكراته عن أسباب تأسيس التنظيم وعلاقته بالإخوان المسلمون آنذاك: (وكانت حرب فلسطين هي الشرارة التي دفعتهم إلى التحرك والتقاء الوطنيين المتحمسين بعضهم بالبعض الآخر، والبدء في تنظيم أنفسهم في منظمة سرية بهدف الإعداد والاستعداد للقيام بهذه الثورة في يوم من الأيام لإحداث هذا التغيير المطلوب.
وكان السابق في هذا التحرك هو جمال عبد الناصر. وقد بدأ الاتصال ببعض الضباط الوطنيين قبل نهاية عام ١٩٤٩م وذلك بغرض لم شملهم في تنظيم واحد.
وقد بدأ جمال عبد الناصر تحركه بالاتصال بقلة من ضباط الجيش والطيران والمعروفين بوطنيتهم وجديتهم ولهم احترامهم في وسط زملائهم من الضباط لدورهم البطولي في حرب فلسطين أو لسابق نشاطهم الوطني..
وقد أطلقنا على مجموعتنا هذه اسم «اللجنة التأسيسية للضباط الأحرار» وهي التي أطلق عليها بعد قيام الثورة في يوليو سنة ١٩٥٢م «مجلس قيادة الثورة» وكان قد سقط من هذه المجموعة قبل قيام الثورة بشهور قليلة عبد المنعم عبد الرؤوف، وذلك بقرار من اللجنة التأسيسية؛ لنشاطه ومحاولاته المتعددة لضم بعض الضباط الأحرار إلى جماعة الإخوان المسلمين، التي كنا نرفض الاندماج فيها، وأن تقتصر علاقاتنا على التعاون دون الاندماج. ولكن عبد المنعم قد تخطى هذا القرار بتصرفه فقد كان عضوًا سابقًا بالإخوان، وكان دائم التحمس لهم ومؤمنًا بهم. وقد سمح له أن يظل عضوًا بها حتى وهو عضو في منظمتنا..
وفي نهاية أكتوبر عام ١٩٤٩م كان أول اجتماع لهذه المجموعة عندما أصبح عدد أفرادها ثمانية، وكان واضحًا في هذا اللقاء الأول وأثناء مناقشتنا للظروف التي تمر بها بلادنا أننا جميعًا متفقون على ضرورة تغيير النظام القائم بالبلاد، ومع أنه ليس هناك من وسيلة أخرى أمامنا لتحقيق ذلك الهدف إلا بالعمل على القيام بانقلاب عسكري، وقد تم اتفاقنا في هذا اللقاء على البدء فورًا في إعداد أنفسنا والعمل على تكوين خلايا سرية بين ضباط الوحدات العسكرية المختلفة بالجيش والطيران بغرض تنفيذ هذا الانقلاب بعد ست سنوات من بداية هذا النشاط [١٩٥٥م].
وقد اتفق الرأي فيما بيننا على أن نجتمع معًا، وفي فترات متقاربة، حتى توجد وحدة فكر بيننا، وأن يتفهم كل منا الآخر، كما رأينا أن تكون لنا لائحة داخلية تحكم عملنا وتنظم مناقشاتنا، وأن ينتخب أحد أفراد المجموعة كرئيس لها ليرأس اجتماعاتنا، ويتابع تنفيذ القرارات التي تتخذها، ويدعوها للاجتماع.
انتخاب عبد الناصر:
وقد تم انتخاب جمال عبد الناصر في اقتراع سري لرئاسة اللجنة. وأصبحت هذه اللجنة تمثل القيادة العليا للتنظيم. وطبق عليها مبدأ القيادة الجماعية أي أن يكون اتخاذ القرار بالتصويت وأن يصبح نافذًا إذا حصل على الأغلبية المطلقة من الأصوات، وعلى الأقلية أن تلتزم برأي الأغلبية، وظل جمال يرأس هذه اللجنة حتى قيام الثورة في يوليو ١٩٥٢م) انتهى كلام البغدادي.
أهداف النظام الخاص وفك الارتباط بينه وبين الضباط الأحرار:
هذا في الوقت الذي كان للإخوان المسلمين أيضا تنظيمهم الخاص السري في الجيش المصري، وكان يُعرف بالنظام الخاص، الذي تأسس بأمر من الإمام حسن البنا مرشد الجماعة، ليشارك في الجهاد في فلسطين، وفي مصر أيضا بإشراف حكومي، كما أكده أحد مؤسسيه وهو الشيخ محمود الصباغ في كتابه “التصويب الأمين” حيث ذكر أسباب تأسيس النظام الخاص وأهدافه، وعلاقته بالضباط الأحرار، وبالسلطة، ومحاكمة التنظيم قبل ثورة ١٩٥٢م، وصدور حكم البراءة لأعضائه، لتعاونهم مع الجيش المصري في قيامهم بالجهاد في فلسطين، حيث يقول الصباغ -في ص ٣٠-: (كان للنظام الخاص فرع داخل الجيش يخضع لجميع القواعد الموضوعة لجندي النظام الخاص بين المدنيين، وكانت قيادة هذا الفرع موكولة إلى خمسة من الإخوان هم عبد المنعم عبد الرؤوف، وأبو المكارم عبد الحي، وصلاح خليفة، وجمال عبد الناصر، وحسين حمودة، وكان كل من هؤلاء الخمسة يقود خمسة).
وقال عن أسباب تأسيس “الضباط الأحرار” وانفكاك علاقة جمال عن النظام الخاص للجماعة: (وقد شعر ضباط القوات المسلحة جميعا على أثر هزيمتهم في حرب فلسطين بالاستياء من الملك فاروق بعد أن كانوا يكنون له كل عطف وتقدير عقب حادث ٤ فبراير ١٩٤٢م، فقد ظهر لهم خلال هذه الحرب أنه تآمر على الجيش، وتاجر في أرواح رجاله بصفقة السلاح الفاسدة، وتسبب في ضياع فلسطين، والإساءة البالغة إلى سمعة الجيش المصري العالمية، وجسارته بالقضاء على الإخوان المسلمين، ثم قتله لإمامهم [حسن البنا] رغم ما أبدوا من بسالة في قتال اليهود، وحماية خطوط الجيش في حرب فلسطين.
ومن ثم فقد كثر الحديث بين ضباط الجيش الذين اشتركوا في هذا الإحساس في مجالسهم الشخصية حول هذه الخيانة، وهذا العار، وطريق رد الاعتبار للقوات المسلحة..
وكانت أغلبية هؤلاء الضباط تتوافد على منزل الفريق عزيز المصري يرحمه الله الذي كان يسبقهم في معرفة هذه الحقائق، وأكثر منها منذ أن كان وصيا على الملك فاروق مع أحمد حسنين باشا، ولمس بنفسه كيف كان أحمد حسنين باشا ييسر للملك فاروق وهو طالب في لندن طريق الانحراف، بينما كان عزيز المصري يأمل أن يجعل من فاروق ملكا صالحا كفأ، فلما غلب جانب الشيطان على جانب الإنسان في الملك فاروق كان ما كان.
ولهذا السبب ولغيره من الأسباب التي كان يعلمها الفريق عزيز المصري فإنه كان يجاهر بالدعوة إلى خلع الملك فاروق من قبل وجود تنظيم الضباط الأحرار، وكان ينفث في روح كل من يتعاطف معه من الضباط روح الرجولة والكرامة والشرف، وحتمية التخلص من الملك فاروق بعد أن ساءت سمعته الشخصية والدولية، وفاحت رائحتها فأصبحت تزكم الأنوف. وقد عرفني الأخ عبد المنعم عبد الرؤوف أحد ضباط الإخوان المسلمين في الجيش بالفريق عزيز المصري، ودعت ظروف العمل الوطني إلى أن أجلس معه أكثر من مرة، فأنا هنا أنقل عنه ما سمعته أذناي. والله على ما أقول شهيد.
كيف استفاد جمال عبد الناصر من الفكر الجديد لضباط الجيش:
لقد أحس جمال عبد الناصر بكل هذا الذي يدور في أذهان بعض ضباط الجيش، وشعر أن الفرصة مواتية في هذه الظروف لتنظيم هؤلاء الثائرين، وقيادتهم إلى عمل يخلص البلاد من فاروق وعهده، ولكن جمال عبد الناصر كان عضوا في تنظيم خاص، وأقسم على المصحف على السمع والطاعة له، ولم يكن بوسعه أن يتقدم خطوة واحدة في هذا الذي فكر فيه قبل أن يحصل على إذن من قيادته في هذا التنظيم، ولم يكن في مقدوره وفقا لقواعد النظام الخاص أن يتصل بالمرشد العام للإخوان المسلمين في هذا الشأن إلا عن طريق الأخ “عبد الرحمن السندي” قائد النظام الخاص يرحمه الله.
وكان عبد الرحمن السندي حبيسا على ذمة قضية السيارة الجيب في ذلك الوقت، ولكن لظروفه الصحية قررت النيابة أن يكون نزيلا بمستشفى قصر العيني تحت حراسة مشددة، حتى يتلقى العلاج الطبي اللازم لحالته الصحية الخطيرة وهي الروماتيزم بالقلب..
فأخذ جمال عبد الناصر يتردد على عبد الرحمن السندي في مستشفى قصر العيني ويعرض عليه فكرته وهي: أننا إذا قصرنا أنفسنا على ضباط الإخوان المسلمين فإننا لن نستطيع أن نعمل عملا مؤثرا في جيلنا، لأن المتدينين من الضباط قلة في الجيش، لا يمكنها بنفسها فقط أن تعمل مثل هذا العمل. بينما الآن توجد أعداد كبيرة من الضباط في كل أسلحة الجيش، ثائرة على ما آلت إليه الأمور في مصر، وهم وإن كانوا غير متدينين، إلا أنهم وطنيون يحملون رؤوسهم على أكفهم من أجل تصحيح الأوضاع المنهارة.
وقد ثبت فيما بعد أن جمال عبد الناصر لم يكن يعرض اقتراحه هذا من فراغ، فقد كثر نشاطه بعد مقتل الإمام الشهيد [حسن البنا]، وتصور أن جماعة الإخوان المسلمين قد قضي عليها، فتحدث في هذا الأمر مع كثير من ضباط الجيش سواء ممن كانوا أعضاء معه في «النظام الخاص»، أو من العناصر غير المتدينة، وتحقق من أن بوسعه جمعهم جميعا في تنظيم سري جديد هو تنظيم «الضباط الأحرار».
كيف واجه عبد الرحمن السندي الفكر الجديد لجمال عبد الناصر:
لم يكن عبد الرحمن السندي بحكم سلطاته يملك أن يتخذ قرارا فيما يطلبه جمال عبد الناصر، فمثل هذا القرار من اختصاص المرشد العام، وكان الإخوان المسلمون قد اختاروا فعلا في هذا الوقت الأستاذ حسن الهضيبي مرشدا عاما بقرار وقعه أعضاء الهيئة التأسيسية بالتمرير، حيث لم تكن الجماعة قد استعادت وضعها القانوني بعد [حلها سنة ١٩٤٩]، ولم يكن في الإمكان اجتماعها لمناقشة اختيار مرشد عام جديد في اجتماع علني للهيئة التأسيسية للإخوان المسلمين، فاستمهل عبد الرحمن جمالا حتى يتم عرض هذا الاقتراح على المرشد العام الجديد).
أسباب اختيار الهضيبي مرشدا عاما للإخوان:
وقال الصباغ -في ص ٣٥- حول ظروف اختيار الهضيبي مرشدا عاما: (عندما خرج باقي أعضاء قيادة النظام من السجن في سبتمبر سنة ١٩٥١م، لم يكن من حقهم الاجتماع قبل إعلان فضيلة الإمام الأستاذ حسن الهضيبي مرشدا عاما للإخوان المسلمين.. حيث أن القاعدة الأساسية لوجود النظام الخاص أن يكون نظاما ملحقا بالمرشد العام، يأتمر بأمره، في كل ما يقع من اختصاص هذا النظام فاستمتع أعضاء النظام بفترة راحة حتى اجتمعت الهيئة التأسيسية للإخوان المسلمين اجتماعا حضره الإمام الهضيبي، وأعلن فيه اختيار فضيلته مرشدا، وأقسم فيه اليمين أمام أعضاء الهيئة التأسيسية.. فكان ذلك إيذانا من قيادة النظام الخاص بتسليم نفسها إلى المرشد الجديد.
حضرت من بلدتي على الفور واتفقت مع إخواني عبد الرحمن السندي، وأحمد حسنين، ومصطفى مشهور، وأحمد زكي حسن، على ضرورة أن نسعى فورا لنتصل بالإمام الهضيبي، ونضع بين يدي فضيلته وضع النظام الخاص، ونظامه وأهدافه، وما يقابله حاليا من سلبيات، ومرئياتنا في مواجهة هذه السلبيات.
وقد اتفقنا على تكليف الأخ أحمد زكي حسن، بالاتصال بفضيلة الأستاذ الهضيبي لتحديد موعد لهذا الغرض، وكان الأستاذ الهضيبي قد بدأ أعماله بإجراء تعديل في مسئوليات أعضاء مكتب الإرشاد، فاختار الأخ الكريم الشهيد عبد القادر عودة وكيلا، بدلا من الأخ الكريم الأستاذ صالح عشماوي الذي كان وكيلا للجماعة في حياة الإمام الشهيد، والذي قاد مسيرتها حتى استعادت وضعها القانوني عقب انتصار الإخوان في معركة سنة ١٩٤٨م، وقد رأى الإمام الهضيبي أن ينيب الأستاذ عبد القادر عودة عنه في الاتصال بقيادة النظام الخاص.
ولا بد لي أن أسجل هنا أن الأخ الكريم الشهيد عبد القادر عودة كان من قضاة مصر اللامعين، وأنه اشتهر بحبه لدعوة الإخوان المسلمين، ومناصرته لها، وأنه استخدم قلمه في تأليف كتاب قيم عن «التشريع الجنائي في الإسلام» إسهاما منه في تحقيق هدف الدعوة الكبير، وهو أن تكون الشريعة الإسلامية هي أساسا الحكم في مصر، وقد لقي ترشيحه وكيلا عاما للجماعة تأييدا من كل الإخوان، اعترافا بعلمه وفضله..
ولكن هذا الاختيار كان له تأثير سلبي على كيان النظام الخاص، ففضيلته لم يكن من الذين اندرجوا في تنظيمات الجماعة بحكم عمله في سلك القضاء، وقد جرى العرف في مصر على أن يبتعد رجال القضاء عن الأعمال العامة، حتى يظلوا محايدين، أمام جميع المتخاصمين أمامهم من شعب مصر.
وقد كان فضيلته عند اختياره وكيلا للإخوان المسلمين، رئيسا لإحدى الدوائر القضائية في مصر، بينما كان فضيلة الإمام الهضيبي حين تم اختياره مرشدا عاما للإخوان المسلمين وكيلا لمحكمة النقض والإبرام أعلى درجات المحاكم في مصر.
وهكذا شاءت إرادة الله أن يكون كل من المرشد العام الجديد، للإخوان المسلمين، والوكيل العام الجديد للإخوان المسلمين، من رجال القضاء الذين اكتسبوا حكمهم على الأشياء من واقع ما يعرض عليهم من أوراق فلم يسبق لهما ممارسة النشاط الشعبي في الحركات العامة، بحكم مناصبهما القضائية التي تفرض عليهما هذا الابتعاد.. ولم يكن لديهما أي خلفيات عن التفصيلات الدقيقة لنشاط جماعة الإخوان المسلمين، مع أنه كانت نظرتهما عامة وشاملة للفكر الإسلامي، وكان إيمانهما بالدعوة، وأهدافها، وضرورة التضحية والفداء في سبيلها إيمانا عميقا.. ولا نزكي على الله أحدا.
لماذا رحب الإخوان المسلمون بالقيادة الجديدة؟
لعل من الأسباب النفسية التي جعلت ترحيب الإخوان المسلمين باختيار الأخوين الكريمين لقيادتهم الجديدة ترحيبا عاما وشاملا هو أن هذا الاختيار يثبت في نفوس الإخوان الأمن والاطمئنان بأنهم رجال دعوة مسالمون ملتزمون بالقانون، وينفي عنهم ما كرسته وسائل الإعلام الحكومية والعالمية ضدهم بأنهم خطرون على الأمن وخارجون على القانون، فينعمون ببعض الراحة والاستقرار بعدما لاقوه في سجون إبراهيم عبد الهادي ومعتقلاته من صنوف التعذيب، وألوان القمع، ما تقشعر له الأبدان.. مع أنهم من كل ما نسب إليهم أبرياء، كما ثبت ذلك بأحكام القضاء الواردة تفصيلا في الجزء الأول من هذا الكتاب.
كما ضاعف من شعور الإخوان بالاطمئنان لاختيار فضيلة الإمام الهضيبي مرشدا لهم أنه كان على صلة وثيقة بأحد رجال القصر الملكي، وهو أمر يحقق الرضا السامي على الإخوان ويؤمنهم من مغبة هجمة شرسة جديدة ضدهم، ويمكنهم من العمل على نشر دعوتهم في جو مشوب بالطمأنينة والاستقرار، خاصة وقد أعرب الملك فاروق عن تراجعه في تنفيذ خطة المستعمرين للقضاء على الإخوان المسلمين.. فأقال إبراهيم عبد الهادي باشا في يوم عيد من أعياد المسلمين، وأعلن أن هذه الإقالة هي هدية الملك للشعب.
ولم يكن على الإخوان من تثريب في هذا كله، لأنه يعبر عن حقيقة سياسة دعوة الإخوان المسلمين.. فليس من مبادئ الدعوة مناصبة أي حكومة مسلمة العداء.. ولكن واجبها هو دعوة الحكام المسلمين إلى تطبيق شريعة الإسلام.. خاصة وأن دستور البلاد ينص على أن الإسلام هو الدين الرسمي).
اتفاق جمال والهضيبي على التعاون بين التنظيمين:
وقد جرى الاتفاق بين جمال والهضيبي على التنسيق بين التنظيم الخاص للإخوان بقيادة السندي، والضباط الأحرار بقيادة جمال، وأن يكون حلقة الاتصال بينهما صلاح شادي أحد قيادات الإخوان، كما ذكر تفاصيل ذلك محمود الصباغ حيث يقول: (وقد شاءت الإرادة الإلهية أن يخرج عبد الرحمن السندي من السجن في مارس سنة ١٩٥١، حيث صدر الحكم في قضية السيارة الجيب بسجن ثلاثة من أعضاء قيادة التنظيم الخاص ثلاث سنوات، أما عبد الرحمن السندي المتهم الأول في القضية، فقد قضت المحكمة بحبسه سنتين، مراعاة لظروفه الصحية، فخرج وخرج معه العضو الخامس من أعضاء قيادة النظام الخاص، وهو الأخ الكريم الأستاذ أحمد زكي حسن حيث كان الحكم عليه بسنتين فقط.
فلما خرج عبد الرحمن من السجن، اصطحب معه جمال عبد الناصر وعبد المنعم عبد الرؤوف عضو مجموعته في تشكيل ضباط النظام الخاص بالجيش إلى المرشد العام، وطلب من جمال عبد الناصر أن يعرض فكرته عليه، فلما عرضها عليه قال المرشد العام إنه يوافق على فكرته كعمل وطني، ولكن التنظيم الذي يقترحه لتحقيقها، لن يكون تنظيما إسلاميا لطبيعة الضباط الذين سينضمون إليه، ومن ثم، فلا بأس من أن يشكل جمال عبد الناصر التنظيم الذي يراه قادرا على تحقيق هذا الهدف الوطني، وأن يكون هذا التنظيم صديقا للإخوان المسلمين وليس من تنظيماتها؛ ذلك لأن العمل الوطني جزء من دعوة الإخوان المسلمين، ولكن دعوة الإخوان المسلمين لها أهداف ومبادئ أبعد وأوسع من مجرد حدود الوطن، فأهدافها عالمية ومبادئها إنسانية منزلة من لدن رب العالمين.
عبد الناصر يصبح صديقا للإخوان بعد أن كان واحدا منهم:
وقد خرج عبد الناصر من هذا اللقاء صديقا للإخوان بعد أن كان واحدا منهم، له هدف وطني يسعى لتحقيقه، بجنود لا يشترط فيهم التدين، مع وعد من المرشد العام بأن يقف تنظيم الإخوان إلى جواره في حركته التي عزم على القيام بها إذا ما حان وقت الجد.
وقد طلب جمال من المرشد العام اختيار ضباط اتصال بينهما فاختار له الأخ صلاح شادي، ولم يكن لدى عبد الرحمن السندي أي مانع من هذا الاختيار، فالأمر للمرشد يقر فيه ما يشاء، خاصة وأن قيادة النظام كانت مشغولة بمعالجة السلبيات الأخرى الكائنة في جسد الجماعة، والمناوئة لفكرة النظام الخاص، وتنظيماته داخلها، حيث لا يمكن الاعتماد على مثل هذا النظام إلا إذا انتظمت صفوفه تحت قيادة المرشد العام انتظاما تاما.
وقد كان لقرار المرشد العام- بشأن إطلاق يد جمال عبد الناصر في إنشاء التنظيم الوطني «الضباط الأحرار» واختيار الأخ صلاح شادي ضابط اتصال بينه وبين جمال عبد الناصر- أثر كبير على سير الجماعة وعلى دور النظام الخاص) انتهى كلام الصباغ.
ولم يتوقف الصباغ عند زيارة جمال للسندي في المستشفى العيني تحت الحراسة المشددة! وكيف تسنى له الدخول عليه وزيارته مرارا ومناقشته في أخطر قضية وهي خلع الملك وتغيير النظام؟ كما لم يتوقف عند سرعة الإفراج عن السندي بعدها والحكم عليه بأقل من أصحابه، ليصطحب بعدها جمال للمرشد الهضيبي ليرتب معه أمر تنظيم الضباط الأحرار بعيدا عن النظام الخاص للجماعة!
اختراق جمال للتنظيم الخاص بالإخوان:
استطاع جمال باتفاقه مع الهضيبي تحصين تنظيمه الجديد «الضباط الأحرار» من أي نفوذ لجماعة الإخوان عليه، وضمان استقلاله في إدارته، مع استمرار علاقته هو بالنظام الخاص، واختراقه لقياداته، وتوظيفه الجماعة ونظامها الخاص في الوقوف معه في الانقلاب العسكري، كما قال الصباغ -في ص ٧٣ -: (كيف استفاد عبد الناصر من وجوده في التنظيم السري للإخوان:
عمل عبد الناصر على الاستفادة من وجوده السابق في التنظيم السري للإخوان المسلمين على محورين:
المحور الأول:
الاستفادة مما يعلمه عن العلاقات السيئة بين الأخ صلاح شادي شخصيا وبين النظام الخاص، فيوعز إليه ما يثير الخوف من استمرار النظام الخاص..
المحور الثاني:
أن يستقطب جمال عبد الناصر كل من يستطيع استقطابه من ضباط الإخوان في الجيش ليضمه إلى صفوف الضباط الأحرار، ويضمن بذلك تضاؤل تمثيل الإخوان المسلمين بين صفوف القوات المسلحة تضاؤلا يعجزون معه عن التفكير في عمل أي انقلاب ضده..).
تشكل قيادة الضباط الأحرار:
وكما كان تأسيس تنظيم «الضباط الأحرار» سرا من الأسرار، حيث لا يعلم أحد عن شبكة أعضائه إلا جمال عبد الناصر وحده كما يقول السادات! فقد كان اختيار قائده ومجلس قيادته أعجب وأغرب! فسيقوده جمال وهو الأصغر سنا ورتبة! وسيشارك في مجلس قيادته من لا يعرفهم أعضاء المجلس نفسه! وبعضهم من رجال أمريكا وبعضهم على علاقة بالمخابرات البريطانية! وستخرج بعد ذلك عشرات الكتب والمذكرات التي تتحدث عن تفاصيل تلك الأحداث المثيرة ومشاركة الجميع فيها واستبعاد علم الاستخبارات البريطانية والأمريكية بها فضلا عن إشرافها عليها!
كما قال خالد محيي الدين في مذكراته ص ٧٧ عن تولي جمال بعد ذلك قيادة “الضباط الأحرار” في أول اجتماع لهم سنة ١٩٤٩ (كان جمال الأعلى رتبة هو بكباشي، وكنا أقل منه رتبة، أنا كنت يوزباشي، وكمال الدين حسين كان يوزباشي، ولكن أقدم مني، صحيح أن عبد المنعم عبد الرؤوف كان أقدم من جمال، لكن جمال كان صاحب الفكرة، وصاحب الدعوة، وكان دوما ومنذ دخلنا معا الإخوان المسلمين هو الرافض لفكرة احتوائنا داخل الجماعة، والمدرك لأهمية وجود تنظيم مستقل لنا..).
لقد شارك في تأسيس تنظيم «الضباط الأحرار» الجديد أعضاء في التنظيم الخاص للإخوان هم أكبر سنا وأعلى رتبة من جمال، ومع ذلك صار هو الرئيس الفعلي وهو ما يزال شابا ابن ثلاثين سنة! كما يقول محيي الدين -ص٨١- (الوحيد الذي لم يضم أحدا إلى التنظيم هو عبد المنعم عبد الرؤوف، فقد كان معنا، لكنه كان مع الإخوان المسلمين بأكثر مما هو معنا، وكان مجهوده الأساسي مكرسا لهم وليس لنا، وربما ظل معنا بأمل أن يعيدنا إلى حظيرة الإخوان، أو أن يبقى كرأس حربة داخلنا لصالح الإخوان)!
وقال -في ص ١٠٧- (وفي فترة اتصالنا بالإخوان المسلمين كان عبد الحكيم أكثرنا كرها للإخوان، وكان يقول إنهم رجعيون ومسئولون عن إفشال الحركة الجماهيرية في ۲۱ فبراير ١٩٤٦م..
وبهذا أصبحت لجنة القيادة مكونة من:
جمال عبد الناصر، عبد الحكيم عامر، حسن إبراهيم، عبد المنعم عبد الرؤوف، صلاح سالم، عبد اللطيف بغدادي، كمال الدين حسين، خالد محيي الدين.
لكن العلاقات بدأت تتعثر مع عبد المنعم عبدالرؤوف فقد أخذ يلح علينا بضرورة الالتحاق بجماعة الإخوان المسلمين، وكانت حجته في ذلك حركتنا بحاجة إلى قوة دفع من جماعة سياسية قوية تساندها وتحمي ضباطها في حالة وقوع أية عمليات قبض أو فصل من الخدمة أو ما إلى ذلك!
ورفضنا طلبه بالإجماع، فبدأت علاقته بنا في التعثر، وانقطع تقريبا عن حضور اجتماعات لجنة القيادة، وساعد على ذلك أنه نقل إلى غزة.
ثم طلب جمال ضم أنور السادات للحركة لما له من خبرة سابقة في الأنشطة السياسية ربما نحتاج إليها، وفعلا تم ضمه إلى الحركة وإلى لجنة القيادة!
والغريب في الأمر أن جمال أسر لي بعد فترة وجيزة أنه يشك في السادات! وأنه كسول، ولا يقدم للحركة شيئا، فسألته: لماذا ضممته إذن؟ فأجاب: لأنه مصدر مهم للمعلومات، فهو على علاقة بيوسف رشاد [رجل القصر]، وبمستر سمسون السكرتير بالسفارة البريطانية، وكان سمسون هذا ممثل المخابرات البريطانية في مصر في زمن الحرب العالمية الثانية، وكان أنور يعرفه منذ حادثة القبض عليه هو وحسن عزت عام ١٩٤٢م!
وسألت عبد الناصر: ألا تخشى من السادات؟
فقال: ربنا يستر، بس لازم نبقى صاحيين).
انتهى كلام خالد وهو يؤكد حقيقة الهندسة التنظيمية التي كانت تجريها الاستخبارات الأمريكية من وراء الكواليس على تنظيم «الضباط الأحرار» بإقصاء وتهميش من لهم ارتباط بالجماعة لارتباطها بالنظام الملكي الذي يراد إزاحته، مع ضمان استمرار العلاقة بها لتقف لاحقا مع الانقلاب العسكري الذي تقرر بعد ست سنوات في عام ١٩٥٥م!
ومع شك جمال في السادات، وخوفه منه، وعلاقته بممثل المخابرات البريطانية، إلا أنه لم يجد بدا من ضمه إلى أخطر تنظيم عسكري يحضّر للانقلاب في مصر بعلم كل هذه القيادات العسكرية والسياسية والاستخباراتية!
وسيضم جمال عبد الناصر أيضا إلى قيادة التنظيم رجل أمريكا جمال سالم، الذي فاجأ الجميع بحضور اجتماع سري للضباط الأحرار دون علم أحد منهم في ساعة تشكيل مجلس القيادة!
كما يقول محيي الدين -في ص ١١٢- (لكننا تحدثنا عن كل أسماء القيادة ما عدا شخص واحد: جمال سالم! والحقيقة أن جمال لم يكن معنا، بل قفز إلينا -كما قال البعض منا- من النافذة!
ففي أحد الاجتماعات بعد حريق القاهرة، جاء بغدادي ومعه جمال سالم، فوجئنا جميعا بذلك، فلم يحدث هذا من قبل!
وجمال سالم لم تكن له أية علاقة بنا، وربما فعلها بغدادي في حالة تحد لعبد الناصر، أو لتقوية مركزه في القيادة، المهم أنه فعلها ووضعنا جميعا أمام الأمر الواقع!
وأمام المفاجأة لم يعترض أحد منا، واستمر جمال سالم حاضرا في الاجتماع، لكنه حاول الحديث في اجتماع تال كان منعقدا في منزل صلاح سالم، فقاطعه عبد الناصر قائلا إنه ليس عضوا في اللجنة، وأن لهذه اللجنة نظاما يجب احترامه!
وتراجع جمال سالم معلنا استعداده للانسحاب، لكن جمال عبد الناصر كان يسعى لمصالحة صلاح سالم، وكان يعلم أن إخراج جمال سالم شقيقه سوف يعنى القطيعة، ولهذا قال عبد الناصر بهدوء: لا داعي لخروجك ولتبق معنا!
وأصبح جمال سالم عضوا في الجنة القيادة!
وبرغم الصلح بين عبد الناصر وصلاح سالم فإن عبد الناصر كان ساخطا في أعماقه على صلاح)!
ولم يتوقف خالد عند هذا الحدث الغريب ولم يضع أي فرضية أن يكون كل ما جرى لجمال سالم هو في إطار استخباراتي أمريكي، إذ يحاول خالد إثبات طهورية التنظيم عن أي علاقة مع أمريكا مهما بدا المشهد مريبا بحضورها في كل محطة من محطات تشكيله!
وسيبدأ جمال سالم بالدفاع عن سياسية أمريكا داخل قيادة تنظيم «الضباط الأحرار» الذي كان قد غاب قوسين أو أدنى من تنفيذ الانقلاب!
كما قال محيي الدين -في ص ١٢١- (ولابد لي من الوقوف ولو قليلا عند تطور توجهاتنا السياسية، ولابد لي من الإشارة إلى أن وجود جمال سالم معنا في الجنة القيادة، قد أضاف عنصرا جديدا، فجمال سالم بطبيعته كان معجبا بأمريكا، وقد قضى في أمريكا فترة العلاج على نفقة الدولة بعد إصابته في حادث سقوط طائرة، وعاد من أمريكا معجبا ومبشرا بنظام الحياة فيها، وبدأ جمال سالم ينتقد الإشارة في منشوراتنا إلى الاستعمار الأنجلو أمريكي، وطالب باستبعاد «الأمريكي»، والاكتفاء بمهاجمة الإنجليز، فلا فائدة لنا في مناصبة الأمريكان العداء!
وساند عبد الناصر في ذلك!
ثم طالب بأن نرفض في منشوراتنا الشيوعية، باعتبارها خطرا يهدد مصر أيضا، ورفضت ذلك بشدة، وبصعوبة أقنعتهم بأن نستمر كما نحن، لكنني بدأت ألاحظ متغيرات هامة في فكر عبد الناصر، فقد بدأ في أحاديثه معنا ينتقد الشيوعية، ويقول إن نظريتها القائلة بأن العوامل الاقتصادية هي المحرك الأساسي للأحداث السياسية هي نظرية خاطئة، وأن الصراع السياسي في جوهره هو صراع على السلطة عبر الأحداث التاريخية!
ولتأذن لي عزيزي القارئ بأن أخطو بك عدة خطوات الأكمل لك صورة العلاقة بالأمريكان!
فعندما تحركنا تحركا فعليا من أجل الإعداد للانقلاب كانت تساورني أنا وعديد من ضباط الفرسان مخاوف حقيقية من إمكانية تدخل القوات الانجليزية ضدنا، وكنا نناقش هذا الأمر بجدية، وكان ثروت عكاشة هو أكثر من توقف عند هذا الموضوع طالبا التأني في فعل أي شيء خوفا من أن نتحرك فتؤدي حركتنا إلى عودة الإنجليز لاحتلال كامل البلاد من جديد، لكن عبد الناصر كان يتلقى هذه المخاوف بهدوء غريب!
وعندما اجتمعنا لإنجاز خطط التحرك الفعلي كنا في منزل حسن إبراهيم وتحدثت طويلا عن مخاوف ثروت عكاشة من تدخل الانجليز، وكان عبد الناصر هادئا! وعلق على كلامي بكلمة واحدة هي: طيب.
ثم قال: إذا كان ثروت قلقان بلاش يشتغل!
ثم التفت إلى بغدادي وسأله: إيه أخبار علي صبري؟ كانت المرة الأولى التي أسمع فيها هذا الاسم!
وسألت: من هو علي صبري؟ وأجاب بغدادي: إنه مدير مخابرات الطيران، وهو معنا وقد أخذ بعثة في أمريكا، وهو على علاقة حسنة بالأمريكان، وأنه من خلال علاقته بالملحق الجوي في السفارة الأمريكية سمع تلميحات بأنه في حالة تحرك الجيش فإنهم سيطلبون من الانجليز عدم التدخل إذا كانت الحركة غير شيوعية ولا تهدد مصالحهم!
وانتهز بغدادي الفرصة ليعود إلى المطالبة بعدم مهاجمة الأمريكان، ذلك أنه لا داعي لإثارة عداء الأمريكان، وعندما حاولت الرد عليه، قال عبد الناصر: معلهش، بلاش حكاية الأمريكان دي حتى تنجح حركتنا وبعدها نقول ما نريد ونفعل ما نريد!
ثم ألقى عبد الناصر في الاجتماع بقنبلة جديدة، فقال: إن حسن عشماوي من قادة الإخوان عاود الاتصال به، وأبلغه أن الإنجليز يريدون التخلص من الملك، فقد أصبح مكشوفا ومكروها من الشعب، ولم يعد قادرا على ضمان مصالحهم، وأنهم يرون أن الشعب لن يقبل باستمرار هذا الملك المنحل والضعيف، ثم قال: إن عشماوي أكد له أن الإنجليز طلبوا من الإخوان اغتيال الملك، لكن الإخوان رفضوا خوفا من عواقب ذلك ضدهم، لقد كان حقا يوم المفاجآت بالنسبة لي)!
ولم يضع محيي الدين وهو يتعجب من هدوء جمال وعدم خشيته من التدخل البريطاني احتمال الدور الأمريكي في تطمين جمال عبدالناصر على نجاح الانقلاب، ووقوفها معهم، وذلك بشكل مباشر، أو عبر رجال أمريكا في التنظيم كجمال سالم أو علي صبري كما ثبت ذلك لاحقا، وأن جمال سالم قد نجح في مهمته بإقناع مجلس قيادة الثورة بتعزيز العلاقة مع أمريكا وإثبات عدائهم للشيوعية ولروسيا، وهو كل ما تريده منهم أمريكا!
وفي الوقت الذي كان جمال يضم ضباطا مغمورين دون أن يخشى من علاقتهم بالمخابرات البريطانية، والأمريكية، كان يقصي ضباط “الإخوان المسلمون”، وذلك قبيل تنفيذ الانقلاب بمدة قصيرة!
حيث قرر إقصاء عبد المنعم من التنظيم في آخر الترتيبات، إذ ما زالت الجماعة على علاقة بالقصر وبالحكومة وقد تعيق “الضباط الأحرار” والانقلاب العسكري بشروطها، كما ذكر محيي الدين -ص ١٢٤- (وفي هذا الاجتماع وضعنا خطا فاصلا في العلاقة مع عبد المنعم عبد الرؤوف، فقد عاود الإلحاح على ضرورة الارتباط بالإخوان، ولما رفضنا قال بالعربي أنا مرتبط بالإخوان، ولن أتركهم، وقررنا إبعاده، وفي هذا اليوم سرى بيننا تصميم على تحديد موعد نهائي لتحركنا، واتفقنا على نوفمبر ۱۹٥٢م إنه الموعد الأول)!
إعلام الإخوان بموعد الانقلاب:
ومع هذا التهميش والإقصاء لهم من التنظيم سيقوم جمال نفسه بإخبار الإخوان عن عزمهم على القيام بالانقلاب قبيل تنفيذه، كما يقول محيي -ص ١٣٧- (وفي هذه الأثناء كان جمال عبد الناصر منشغلا بعدد من القضايا، فقد اتصل بالإخوان ليبلغهم بالحركة، وليطلب مساعدتهم في حالة تحرك الإنجليز ضدنا، وقبل التحرك أبلغني عبد الناصر أنه أبلغ الإخوان باستعدادنا للتحرك، فسألته هل ردهم إيجابي؟ فهز رأسه بالموافقة، ولكنه أضاف: إنهم متعبين جدا، وعلينا أن نعيد الحسابات بالنسبة لهم، ففهمت من كلامه أنهم واجهوه بمطالب كثيرة، ولكن الظروف الحرجة أملت على عبد الناصر عدم مجابهتهم، كما أرسل شقيقاه عز العرب وشوقي لمقابلة أحمد حمروش، وكان أحد المسئولين عن قسم الضباط في منظمة «حدتو» [الشيوعية]، ليطلبا منه السفر إلى القاهرة لمقابلة جمال، وحضر حمروش ليقابل جمال عصر يوم ۲۲ يوليو، وأبلغه جمال بأن «الضباط الأحرار» سيتحركون الليلة، وطلب منه الاتصال بالضباط الأحرار، في الإسكندرية بهدف تأمين المنطقة هناك، وكنا نستشعر خطرا من وجود الملك هناك ومعه قوات من الحرس الملكي، وخشينا من أن يجمع حوله قوات أخرى ليستقوي بها كما فعل الخديوي توفيق إبان الثورة العرابية!
ولابد أن نتساءل: لماذا اختار عبد الناصر حمروش بالذات؟ ولعل الإجابة الأكثر منطقية هي أن عبد الناصر قد أراد أن يبلغ «حدتو»، بموعد الحركة، كما أبلغ «الإخوان»، ليضمن إمكانية مساندتها له.
وبالفعل أسرع حمروش إلى أحمد فؤاد، وأسرع الاثنان لمقابلتي، ثم توجه حمروش ليبلغ النبأ إلى الرفيق بدر سكرتير عام «حدتو»..
وهكذا أتم عبد الناصر تحصين الحركة سياسيا، وأصبح المسرح الآن مستعدا) كما يقول خالد! وصدق خالد في وصفه كل ما يجري بأنه مسرح سيعرض عليه أحداث ثاني انقلاب تديره الاستخبارات الأمريكية في المنطقة العربية بعد انقلاب حسني الزعيم في سوريا سنة ١٩٤٩م، إذ بدأت أمريكا بعد الحرب العالمية الثانية مباشرة باتخاذ الخطوات اللازمة لنقل ملكية محميات المنطقة العربية ودولها الوظيفية من بريطانيا إلى الولايات المتحدة الوريث الشرعي لها!
لقد كان ذلك أغرب انقلاب عسكري في التاريخ! فقد علم به قادة الجيش، والإخوان المسلمون، والشيوعيون، قبل حدوثه، بينما لم تعلم عنه المخابرات البريطانية!
إعداد جماعة الإخوان لمواجهة الإنجليز إذا تصدوا للانقلاب:
وقد أعد الإخوان بطلب من الضباط الأحرار خطة لمواجهة القوات البريطانية إذا حاولت عرقلة الانقلاب كما ذكر الصباغ في تصويباته، فقال: (المرشد العام يقرر اشتراك الإخوان في مقاومة أي محاولة لإحباط الثورة:
اضطر الأخ حلمي عبد المجيد لطلب إجازة من قيادة النظام لظروف شخصية، في الوقت الذي فكر فيه المرشد العام للإخوان المسلمين بأنه من واجب الجماعة الإعداد لمواجهة أي محاولة من الإنجليز لإحباط ثورة يوليو سنة ١٩٥٢م، وقد أسندت إلي رئاسة النظام بالنيابة، خلال إجازة الأخ حلمي عبد المجيد، في الوقت الذي فكر فيه فضيلة المرشد العام في هذه العملية.. فاستدعاني فضيلته إلى الإسكندرية بصفتي رئيس النظام الخاص بالنيابة، وطلب مني أن يستعد إخوان النظام لهذا الأمر، فاجتمعت على الفور بإخواني من قيادة النظام، وأعددنا الخطة المقترحة على أساس أن الحكومة متعاونة مع الإخوان تمام التعاون.
ثم سافرت إلى الإسكندرية، وعرضت هذه الخطة على المرشد العام فوافق عليها، وأصبح الأمر منتهيا لا ينتظر إلا إشارة البدء بالتنفيذ.
ومن ناحية أخرى دعا المرشد العام الأخ الكريم الأستاذ محمود عبده إلى الإسكندرية لنفس الغرض، للاستفادة بخبراته في أي معارك منتظرة..
الثورة تطلب أن تقوم قوات الجيش بتدريب الإخوان على القتال:
عرضت قيادة الثورة أن يقوم الجيش بتدريب الإخوان الذين سبق لهم دراية بالأعمال العسكرية لتأهيلهم للاشتراك في القتال المنتظر، فوافقت قيادة الإخوان على هذا العرض وأصدرت تعليماتها إلى الأخوين حسين كمال الدين ومحمود عبده لتنظيم التدريب بالاتفاق مع قيادة الجيش.
ولم يصل إلى علم قيادة النظام شيء مما تم الاتفاق عليه مع الأخ محمود عبده، أو ما تم الاتفاق عليه مع قيادة الجيش بشأن تدريب الإخوان عسكريا، ولكن الأخ محمود عبده أبلغ الدكتور حسين بالخطوات التي اتفق عليها بشأن هذا التدريب.
الدكتور حسين كمال الدين يخرج على قواعد النظام مرة أخرى:
تكرر من الأخ الدكتور حسين كمال الدين في هذه المرة ما سبق أن فعله سابقا فقد أصدر أوامره إلى الإخوان عن طريق رؤساء المناطق، للحضور إلى المركز العام لشحنهم في عربات الجيش إلى مراكز التدريب في معسكرات الجيش، وإذا بثورات من الغضب تصل إلى قيادة النظام من أعضائه، يعجبون كيف تصل إليهم تعليمات بخصوص نشاط عسكري عن غير طريق رؤساء مجموعاتهم في النظام، فنقلت قيادة النظام هذه الظاهرة إلى فضيلة المرشد العام، وشكت له كيف يتكرر هذا العمل عمدا من الدكتور حسين كمال الدين، رغم تكرار شرح خطورته على انتظام الصف داخل النظام، وزعزعة الثقة بمدى ارتباط قيادة النظام بقيادة الإخوان، ثم بينت قيادة النظام لفضيلة المرشد العام كيف أن هذا الطلب من قيادة الجيش، يمكن أن يكون تكتيكا متعمدا من قيادة الثورة لكشف إخوان النظام للحكومة، واقترحت على فضيلته أسلوبا للاستفادة من معسكرات التدريب التي تعدها الحكومة لهذا الغرض، دون أن تستطيع الحكومة كشف إخوان النظام بهذه الوسيلة الساذجة، وقد وافق فضيلة المرشد العام على اقتراحنا نظريا، ولكن الأخ الكريم الأستاذ الدكتور حسين كمال الدين ضرب به عرض الحائط عمليا، وسيبدو ذلك بوضوح في الفقرة التالية:
تشكيل لجنة للإعداد هدفها مقاومة الإنجليز:
أمر المرشد العام بتشكيل لجنة لهذا الغرض تتكون من:
1- محمود الصباغ بصفته مسئولا عن النظام بالنيابة.
2- حسين كمال الدين بصفته مسئولا عن مكتب إداري القاهرة.
3- صلاح شادي بصفته ضابط الاتصال بين الحكومة والإخوان.
4- محمود عبده بصفته من محاربي الإخوان الأكفاء.
في أول اجتماع لهذه اللجنة قدمت لها الخطة المقترحة من النظام والمعتمدة من فضيلة المرشد العام لمواجهة تقدم القوات الإنجليزية نحو القاهرة، ثم طلبت من الأخ الكريم الدكتور حسين كمال الدين أن يترك لي تبليغ تعليماته بخصوص العمليات العسكرية لإخوان النظام، حتى لا ينكشف إخوان النظام من غيرهم، عن طريق طاعة الإخوان العاديين لوصول الأوامر إليهم من الطريق الشرعي بالنسبة لهم وهو الأخ حسين كمال الدين، وامتناع إخوان النظام عن الطاعة لوصول الأوامر إليهم عن غير الطريق الشرعي، وهو أمراؤهم المسئولون داخل النظام، كما أن فضيلة المرشد العام قد أبلغني أنه أصدر إلى الأخ الكريم الدكتور حسين كمال الدين أمرا بمراعاة ذلك منعا من اضطراب الصفوف داخل الجماعة.
وعلى الرغم من ذلك فقد أبلغني بعض المسئولين في قيادة النظام أن هناك تعليمات صادرة للإخوان عن طريق مكتب إداري القاهرة بالمبيت في المركز العام، فأمرتهم أن يطيعوا جميع ما يصدر إليهم من تعليمات تصلهم عن طريق مكتب إداري القاهرة في كل ما يتصل بالنشاط العام، أما ما يتصل بالنشاط العسكري فإن الاتفاق تام على أن مثل هذه الأوامر ستصل إليهم عن طريق رؤساء مجموعاتهم في النظام).
خشية سيد قطب من الاحتواء الأمريكي للثورة:
لقد نجحت الاستخبارات الأمريكية في اختراق الضباط الأحرار، وضمان علاقتهم بها بعد نجاح الثورة، وهو ما كان يخشى منه سيد قطب، حيث أدرك خطورة الاختراق الأمريكي مبكرا، كما في كتاب الخالدي «سيد قطب من الميلاد إلى الاستشهاد» -ص ٢٩٩- وقال حين سأله سليمان فياض عن رضاه عن الثورة فأجابه (الأمريكان يريدون احتواءها بدلا من الإنجليز)!
كما نجحت أمريكا في الوقت ذاته في احتواء النظام الخاص وجماعة الإخوان نفسها للوقوف معهم، دون أن تكون القيادة لها، بخلاف ما كانت عليه العلاقة بينها وبين هؤلاء الضباط قبل ذلك!
انتقال مصر من النفوذ البريطاني إلى النفوذ الأمريكي:
لقد جرى احتواء «الضباط الأحرار» و«النظام الخاص»، ومصر لا تزال تخضع للنفوذ الأمريكي السياسي والاستخباراتي، حيث لا يصدر قرار آنذاك في مصر دون موافقة من السفير البريطاني والأمريكي! فقد جاء في كتاب الرئيس السادات «إنه جمال» الذي ألفه مطلع ١٩٥٧م ما يختصر المشهد السياسي في مصر قبل الثورة، ومدى تنامي النفوذ الأمريكي حتى تجاوز نفوذ بريطانيا نفسها بعد النصر التاريخي على ألمانيا النازية وإيطاليا الفاشستية الذي تحقق بعد الدخول الأمريكي في الحرب العالمية الثانية وإنقاذها أوربا، فيقول السادات -في ص ٩٤- عن احتمال فشل الثورة بتدخل بريطاني أو أمريكي (إن احتمال تدخل بريطانيا ضد الثورة في مراحلها الأولى كان يعتبر حقيقة لا بد أن تقع؛ لأن هذه الثورة لا بد أن تطيح بالأحزاب وزعمائها الذين تبسط عليهم [بريطانيا] حمايتها، وبالملك الخاضع لها!
ولم يكن الأمر يقتصر على بريطانيا وحدها، وإنما كانت هناك أمريكا أيضا، وكان الملك قد عقد لنفسه صداقة متينة مع سفير أمريكا في مصر المستر كافري، لكي يتقي بأمريكا شر إنجلترا، إذا ما فكرت أن تنقلب عليه في يوم من الأيام، وكان طبيعيا جدا أن ترحب أمريكا بهذه الصداقة، وأن تعمل على تعزيزها وهي التي بدأت تحس بأهمية هذه المنطقة من العالم، خاصة وأن شعور الكراهية ضد بريطانيا كان يزداد يوما بعد يوم في البلاد: مما أتاح لأمريكا فرصة ذهبية لكي تبني لنفسها سمعة تقدم على أنها ضد الاستعمار، وأنها بطلة الحريات، وتقرير المصير!
وبدأ مركز الثقل يتزحزح رويدا رويدا من السفارة البريطانية إلى السفارة الأمريكية، بمعنى أن رئيس الوزارة المصرية كان لا بد لكي يعين أن يكون مرضيا عنه من السفارة الأمريكية، ومعروفا تمام المعرفة لأفرادها، بعد أن كان هذا من اختصاص السفارة البريطانية ومستشارها الشرقي المشهور!
إزاء كل هذا كان لا بد أن نحسب حساب بريطانيا وأمريكا عند وضع خطة قيام الثورة، ولكننا بعد مناقشات طويلة انتهينا إلى قرار، وهو أن يترك أمر هذا التدخل الى ساعة وقوعه؛ لأنه لم يكن لدينا لا القوات ولا الأسلحة التي تستطيع أن نخصصها لمقابلة هذا التدخل! علما بأن بريطانيا كان لها أكثر من خمسة وثمانين ألف جندي مزودين بالسلاح والعتاد في منطقة القناة) انتهى كلام السادات، وهو ينبئ عن قصور في الوعي لطبيعة النظام الدولي الذي تشكل في الحرب العالمية الثانية سنة ١٩٤٢م، و”الحكومة العالمية” بقيادة أمريكا، وتخلي لندن مكرهة عن دورها الإمبراطوري لواشنطن باتفاق بينهما بعد عجزها عن حماية نفسها ومستعمراتها من ألمانيا النازية!
موقف أمريكا الرسمي من انقلاب ١٩٥٢م:
لقد كان «الضباط الأحرار» يقومون بالدور الذي تريد منهم أمريكا القيام به تماما، وهو الانقلاب العسكري، لتحل هي محل بريطانيا من جهة، وتقطع الطريق على الثورة الشعبية من جهة أخرى، سواء بتوجيه مباشر لرجالها من الضباط الأحرار، أو بالإيحاء والتوجيه غير المباشر!
كما يقول السادات في كتابه ص ٩٧
تفاهم غير منتظر:
وهنا خطر لنا خاطر، هو أن نخطر أمريكا عن طريق سفارتها بأن ثورة مسلحة قد قامت وسيطرت على الموقف!
وأن قيادة هذه الثورة قد رأت أن تخطر أمريكا حتى لا تستغل بريطانيا هذه الفرصة فتشوه الثورة، وأهدافها لأمريكا، وأننا عازمون على المضي بالثورة مهما كانت الظروف.
وأننا سوف نقاوم أي تدخل أجنبي بالقوة والسلاح مهما كان الثمن!
وفعلا اتفقنا بعد مناقشة قصيرة على أن نوفد ضابطا ذهب وطرق أبواب السفارة الأمريكية مع أول خيط من خيوط النهار، وأبلغ المسئولين فيها ما اتفقنا على إبلاغه إياهم..
ولقد كان رد الفعل على خلاف ما توقعنا، فإننا كنا نتوقع أن يكون سلوك أمريكا متحفظا إن لم يكن معاديا بوصفها حليفة بريطانيا، ولكن على العكس من ذلك أظهرت أمريكا فهما عجيبا للموقف، برغم أن سفيرها في مصر كان يعتبر الحامي الأول لحمى الملك!
قرار طرد فاروق: بل أكثر من ذلك فإنه عندما استنجد فاروق صبيحة ٢٦ يوليو سنة ١٩٥٢م بالسفير الأمريكي عقب أن حوصرت سراي رأس التين، فإن المستر كافري كان واعيا وحصيفا فلم يبادر إلى استدعاء القوات الأمريكية، مثلا، لحماية الملك فيهب الشعب كله للمقاومة وتقوم المذابح، وإنما أرسل مستشار السفارة الأمريكية المدعو سباركس إلى رئاسة مجلس الوزراء في بولكلي، حيث قابلنا في الساعة التاسعة صباحا ليطلب فقط باسم الحكومة الأمريكية أن يؤمن الملك على حياته الشخصية فقط، وكنا قد اتخذنا في الليلة السابقة قرارا في هذا الشأن، وهو أن يطرد الملك بعد تنازله عن العرش، واستبعدنا قرار محاكمته وإعدامه، بعد أن اختلفنا طويلا على ذلك.
صداقتنا للسفير الأمريكي: وهكذا بدا لنا أن أمريكا تفهم الأوضاع على حقيقتها بعقلية غير تلك العقلية الاستعمارية، وبدا لنا أيضا أن لأمريكا سياسة أمريكية على خلاف ما كنا نعرف من أنها تسير في ذيل السياسة البريطانية الاستعمارية، وخاصة في هذه المنطقة من العالم التي كان يدعي الساسة البريطانيون الاستعماريون أنهم خبراؤها الوحيدون، ولعل هذا يلقي لك ضوءا على ما قلته لك سابقا من أن تصرف الثورة حيال أمريكا كان مناقضا من أول يوم لتصرفها حيال بريطانيا، وأن صداقة حقيقية انعقدت بيننا وبين السفير الأمريكي المستر كافري! وأن الرجل كان مخلصا حقا، فمن أول يوم لبينا دعوة المستر كافري التي دعانا فيها إلى العشاء وذهبنا جميعا إلى منزله، قبل أن يعلم الناس في مصر والعالم من هم رجال ثورة مصر! في الوقت الذي قاطعنا فيه السفارة البريطانية تمام المقاطعة حتى أن المستشار الشرقي بها كان يبحث ويحاول أن يصل إلى معرفة أشخاصنا، ثم بدأ بعد ذلك يتصل ببعض أصدقائنا من الصحفيين لكي يدلوه على طريقة يتصل بها بنا، أو يكونوا واسطة لاجتماعه بأحدنا، كان هذا في الوقت الذي كان السفير الأمريكي فيه دائم الاتصال بنا، وفي كل مرة كان يظهر تفهما وإدراكا لحقيقة أهدافنا! مما جعلنا نحس أن أمريكا عازمة حقا على التمسك بما تعلن عنه من أنها ضد الاستعمار، وأنها مع حق تقرير المصير للشعوب الصغيرة التي ابتليت بالسيطرة الأجنبية..) انتهى اعتراف السادات بالعلاقة الوطيدة المدهشة بينهم وبين السفير الأمريكي! الذي كان على اتصال دائم بهم منذ اللحظة الأولى للانقلاب، حتى جرى طرد الملك! ليكون السادات أول من قرأ البيان الأول للثورة من «الضباط الأحرار»!
لقد كان «الضباط الأحرار» على اتصال مع السفير الأمريكي طوال الوقت، وكانوا معه على العشاء، في أول ليلة للانقلاب! وقبل أن يعلم الشعب المصري نفسه من الذين قاموا بالثورة!
مصر والاستعمار الجديد:
لقد نجحت أمريكا بسفارتها ونفوذها وجهاز استخباراتها أن تخترق التنظيم السري لمجموعة «الضباط الأحرار»، وأن تتحكم من خلاله في «النظام الخاص» للإخوان المسلمين، وسيكون عبد الرحمن السندي قائد «النظام الخاص» والمسئول عن جمال عبدالناصر الذي كان جمال عضوا تحت قيادته في «النظام الخاص»، أحد أهم أصدقائه بعد الثورة، وسيكون «النظام الخاص» فعليا تابعا لتنظيم «الضباط الأحرار» التي آلت إليهم قيادة الثورة والسلطة في مصر كلها بدعم أمريكي!
وستظل أمريكا تدير المشهد وتتحكم فيه طوال السنوات الأولى للثورة ليكتشف السادات بأن أمريكا كبريطانيا ليست سوى قوة استعمارية هي الأخرى! حيث يقول في كتابه «إنه جمال» ص ١١٢ (الاستعمار يبدأ ببعثة عسكرية:
فاتفاقية الأمن المتبادل التي تقدمها أمريكا للشعوب البريئة حينما تسعى هذه الشعوب إلى طلب العون لكي تحافظ على كيانها، ليست إلا استعمارا مباشرا صريحا.
يبدأ بالبعثة العسكرية الأمريكية وامتيازاتها وسيطرتها، وينتهي بالسيطرة الكاملة على مقدرات تلك الشعوب، مصائرها، وأرضها، وسمائها، وكان من نتيجة ذلك، أن كل بلد قبلت أو وقعت هذه الاتفاقية، تعاني اليوم فراغا خطيرا في داخلها، بين الشعوب والحكام، ولا بد أن يأتي اليوم الذي تنتصر فيه إرادة الشعوب، أما الحكام فهم بشر وإلى زوال)!
وهذا بحذافيره ما حدث لمصر بعد اتفاقية معاهدة كامب ديفيد، وما فعله السادات بعد عشرين سنة من صدور كتابه هذا حيث وقع سنة ١٩٧٨م تلك الاتفاقية التي توجت السيطرة الأمريكية على مصر والعالم العربي إلى هذا اليوم!
لقد كانت علاقة التنظيم السري للضباط الأحرار بأمريكا واستخباراتها حقيقة تاريخية قبل الثورة وبعدها، كما اعترف بذلك الرئيس محمد نجيب، وخالد محيي الدين، وأنور السادات، وغيرهم، واستطاعت واشنطن بهذا التنظيم العسكري وبتحالفه مع «الإخوان المسلمون» قطع الطريق على الثورة الشعبية سنة ١٩٥٢م، وإدارة شئون مصر بعد الثورة والتدخل فيها حتى في اختيار رؤساء الحكومات كإقصاء السنهوري، وحل الأحزاب ما عدا الإخوان! وتأجيل عودة الحياة النيابية، وإقصاء الوفد؛ لأنه رضخ للضغوط الشعبية وألغى اتفاقية المعاهدة مع بريطانيا، وعزل الرئيس محمد نجيب!
لقد كانت أمريكا تحضّر المشهد السياسي في مصر على أساس أنها الوريث الأنجلوساكسوني للإمبراطورية البريطانية، وتستعد لملء الفراغ بعد جلائها عن مصر، كما ذكر الرئيس نجيب في مذكراته ص ٣٣٥ حيث قال: (قبل أن توقع اتفاقية ۲۷ يوليو مع بريطانيا، كانت أمريكا تسعى إلى ملء الفراغ الذي سيتركه الإنجليز في مصر، كانت أمريكا تحلم بميراث الامبراطورية العظمى)!
فكيف سيطرت أمريكا على المشهد وأدارته بعد الانقلاب وحتى اليوم، وما دور سيد قطب وموقفه من ذلك، ولمَ لم يتعظ الإخوان بسابقيهم وتمسكوا بالواقعية وتخلوا عن المثالية،هذا ما سيتم بيانه،
فللحديث بإذن الله بقية!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق