الأربعاء، 19 أكتوبر 2022

البغل في الديوان.. (أكفر بكم- 6)

 البغل في الديوان.. (أكفر بكم- 6)
جمال الجمل

(1)

لم نصل بعد للوضع الذي يسمح لنا بتحديد موعد للثورة، فلا الحركة السياسية تسمح ولا وعي الشعب وصل إلى المنطقة التي نطمئن فيها لتنظيم قدرته في مواجهة نظام مركزي قمعي من الطراز العنيف. فالأحزاب هشة من حيث التمويل والتنظيم، والأهم من حيث الإرادة المستقلة التي تجعلها قادرة على التصرف السياسي وفق برامجها المكتوبة، فالبرامج شكلية و"سد خانة" لمجرد الحصول على الترخيص ومباركة النظام الذي تعمل تحته بقدر ما يمنحها من مساحة مأمونة للحركة. ولذلك فإن الحديث عن فعالية 11 تشرين الثاني/ نوفمبر، ليس أكثر من تذكير بالصراع بين النظام القادر، والمعارضة المسحولة تحت آلة القمع.

أوضح أن هذه القراءة الموضوعية الباردة لا تستهدف وقف الحشد من أجل التظاهر (أو ما يسميه البعض بالثورة)، لأن الدعوة للتظاهر حق في كل وقت وواجب سياسي لا يمكن الاعتراض عليه، الفكرة في ارتكاب أخطاء ذات طابع معنوي تتعلق بصنع أفق عريض للتوقعات، لأن الحصيلة الواقعية قد تؤدي إلى خذلان قطاعات بريئة في أوساط الشباب، وإصابة معنويات المتحمسين بخيبة أمل ترتد في الاتجاه المعاكس لفكرة الحشد الثوري على المدى الطويل.

(2)

تابعت ما تداولته مواقع وما روجه نشطاء عن صور غير مألوفة لنجل السيسي، قال البعض إنها لمحمود، وقال آخرون انها لحسن، ويبدو في إحداها شخصا غليظ الملامح مما يطلق عليه بعض الشعبيين تسمية "البغل". وتوصيف "البغل" ليس سبة، وليس انزلاقا خارج الأخلاق يوقعنا في خطيئة السخرية من الخلقة، لكنه تعبير شعبي يشير إلى الشخصيات ضخمة الجسد صغيرة العقل، وهذه هي النقطة التي نظرت بها إلى الصور بصرف النظر عن هوية الشخص الموجود، فلنعتبره "س"، لأنني لا أقطع بالأشياء دون التحقق الكافي منها. وتقديري أن أفضل تحليل للصور المنتشرة يجب أن يستند إلى التحليل العام، وليس إلى الاستخلاصات القطعية التي تستهدف "شخصا باسمه"، لذلك لن أتوقف أمام اسم الشخص، ولا يهمني هل الصور حقيقة أم "مفبركة" بخداع المونتاج وبرامج "فوتو شوب"، بالعكس سأعتبرها ملفقة أو حتى مجرد أليستريشن وصور تعبيرية صنعها شخص ما، ليقدم من خلالها "رسالة"، ومن هنا أبدأ التحليل:



الدعوة للتظاهر حق في كل وقت وواجب سياسي لا يمكن الاعتراض عليه، الفكرة في ارتكاب أخطاء ذات طابع معنوي تتعلق بصنع أفق عريض للتوقعات، لأن الحصيلة الواقعية قد تؤدي إلى خذلان قطاعات بريئة في أوساط الشباب، وإصابة معنويات المتحمسين بخيبة أمل ترتد في الاتجاه المعاكس لفكرة الحشد الثوري على المدى الطويل


(3)


في رأيي أن ظهور اسم "المخابرات العامة" في خلفية الصورة يستدعي اهتماما من الجهاز الوطني الذي كانت له هيبته وأدواره التي يفخر بها المصريون، ثم صار مجالا للحديث عن الفساد والتورط في السياسة الداخلية والمحسوبية، والأداء الاستفزازي الذي يجعل منه عدوا للشعب أو لقطاعات منه. وهذا يعني أن الجهاز لم يستطع أن يحافظ على استقلاليته واحترافه المهني وانشغاله بالأمن القومي الخارجي بدلا من تورطه في الداخل.

فالإعلام صار يتناول الجهاز وقادته بأخبار كثيرة، والجهاز الذي لا يملك (مباشرة) صار يملك ويدير مؤسسات معلنا عنها، مما يجعل منه مؤسسة قابلة للنقد والمحاسبة من الشعب إذا لم يكن من البرلمان وأجهزة الرقابة، وهذا شيء خطير فيما يتعلق بمؤسسات يجب أن تحافظ على سرية عملها، وأن تظل في أمان يحفظ عملها وسمعتها. وهذا يقتضي الحفاظ على مسافة مع العمل العام، ومع المنافسة والصراع مع مؤسسات داخلية على حصص سياسية أو مالية، تضع الجهاز في مكانة أقل مما كان عليها، كجهاز للأمن القومي يجب أن يظل دائما محل فخر من كل المصريين.

(4)

ذكرت كثيرا أنني من الرومانسيين الأخلاقيين الذين لا يتورطون في التلاسن على العائلات واستخدامهم في الصراع السياسي، لذلك لم أهتم بمعلومة إن كان "الجهم المتضخم" الموجود في الصور هو نجل السيسي، أو "س" من المخابرات، فأنا أهتم بالعمل العام وأحاسب الموظفين العموم وأتساءل عن أدوراهم ولا أفتش في البيوت وأسرارها.

ظهور اسم "المخابرات العامة" في خلفية الصورة يستدعي اهتماما من الجهاز الوطني الذي كانت له هيبته وأدواره التي يفخر بها المصريون، ثم صار مجالا للحديث عن الفساد والتورط في السياسة الداخلية والمحسوبية، والأداء الاستفزازي الذي يجعل منه عدوا للشعب أو لقطاعات منه. وهذا يعني أن الجهاز لم يستطع أن يحافظ على استقلاليته واحترافه المهني


لذلك فإن حديثي يركز على الصورة العامة لـ"دولة الدخان الأزرق وباشاواتها المتغطرسين" أيا كانت التعريفات الشخصية لهؤلاء المتغطرسين. ومن هنا تتكاثر الأسئلة في رأسي، وتحرضني على طرحها في المجال العام، لعل في الدولة ومؤسساتها (خاصة في جهاز المخابرات العامة) من يهمه الأمر، فيجد في أسئلتي المطروحة فرصة للتعليق والتوضيح، وكشف الأكاذيب (إذا كانت أكاذيب) وتبرئة الجهاز من مثل هذه السلوكيات التي تم تداولها داخل أحد المكاتب الرسمية.

وأبدأ أسئلتي:

1- هل صار فعلا هناك "زي رسمي" لموظفي وعناصر جهاز المخابرات العامة؟!

2- كيف يصمت الجهاز على تداول صورته بهذا الشكل المهين على مستوى واسع في الداخل وفي الخارج؟

3- ما مدى مصداقية الحديث عن صراعات بين الأجهزة، وصلت إلى حد استهداف المخابرات العامة والإساءة لصورتها؟

4- هل أدى الصراع السياسي داخل دواليب الدولة إلى تشظي وانقسام جهاز المخابرات على نفسه، بحيث تحول إلى أجنحة تنتمي إلى أشخاص متفرقين بولاءات متعددة؟ وما تأثير ذلك على الدور الوطني العام للمخابرات في ظل تصاعد المعارك الاستخباراتية في المحيط الأمني لمصر، خاصة ليبيا والسودان وإثيوبيا وسيناء؟

5- وحتى لا أطيل أختم اسئلتي للجهاز بسؤال بريء: إذا كانت هناك أخطاء بسبب وضعية الارتباك الأمني والسياسي بعد ثورة يناير وما تلاها، فهل هناك فرصة لتصحيح مسيرة الجهاز وإعادته إلى مساره الأمني القومي بعيدا عن احتراب وخصومات الداخل؟

هل أدى الصراع السياسي داخل دواليب الدولة إلى تشظي وانقسام جهاز المخابرات على نفسه، بحيث تحول إلى أجنحة تنتمي إلى أشخاص متفرقين بولاءات متعددة؟ وما تأثير ذلك على الدور الوطني العام للمخابرات في ظل تصاعد المعارك الاستخباراتية في المحيط الأمني لمصر


(5)

في إحدى الجلسات الشخصية مع الأستاذ هيكل قبل قرارات 3 تموز/ يوليو، دار الحديث بيننا عن صراع الأجهزة، وكان هيكل يعتبر الصراع عاديا إلا إذا أضر بالمصلحة القومية للوطن، وأفصح لي أنه شخصيا لم يكن محبوبا من جانب هذه الأجهزة (لأسباب تاريخية تخص مسيرته).

وفي إطار النقاش تبادلنا تصحيح بعض الوقائع التي كنا نتابعها في الإعلام، وناقشنا سياسة التضليل الإعلامي الشائعة في تلك الفترة، وأخبرني هيكل أن الدولة نفسها متورطة في تصنيع أكاذيب كثيرة وإطلاق قنابل دخان حتى لا تبدو الصورة واضحة، وأن هذا العمل (حتى من الناحية العسكرية) يشير إلى سيناريو إما للهروب وإما للاقتحام، وأن الطرف المستفيد من هذه التعمية هو من يملك نظارات الرؤية الليلية ويتفوق في أدوات الصراع. ولا شك أن الدولة حريصة على توسيع الفارق في الامكانيات بينها وبين كل الأحزاب والجماهير بطبيعة الحال، وتذكرت بعض المواقع المهتمة بتصحيح الأكاذيب مثل موقع "ده بجد؟"، وابتسم هيكل ابتسامة ذات مغزى، فنظرت له مندهشا، حينها بادرني بالسؤال: تعرف مين وراه؟

قلت: مجموعة شباب يحبون الحقيقة.

قال: مفيش في السياسة حاجات كده، كل فعل يلزمه تمويل ورعاية واحتضان وإلا انتهى سريعا، وما تتحدث عنه يعمل تحت رعاية أجهزة أمنية يهمها أن تصحح ما تريد وتتجاهل ما تريد.

سألته: هل تقصد المخابرات أم الأمن الوطني؟

قال: مش هتفرق كتير، لكن لدي معلومة أن هذا الموقع بالذات ترعاه المخابرات العامة.

وبناء على إعجابي القديم بالصفحة التي كانت تعمل من أجل إجلاء الحقيقة، وبالاتفاق الودي مع معلومة هيكل عن رعاية المخابرات العامة للحقيقة ومنابرها، أتساءل: إذا لم يكن من اللائق أن تشتبك المخابرات مع مؤسسات إعلامية، أو تهبط بمستواها للرد المباشر على "شائعة" تستهدف أحد عناصرها، كما تستهدف صورتها العامة، لكن رعايتها (أو امتلاكها) لمنابر إعلامية (في السر أو في العلن) يتيح لها أن ترد وتوضح بشكل غير مباشر، ولكن بمعلومات قاطعة، مثل أن حسن السيسي لا يعمل بالجهاز أصلا، أو أن الصورة ليست لمحمود، والأهم من الرد المباشر هو الحرص على الخروج من دائرة الصراع وتوضيح أن المخابرات ليست طرفا في ألاعيب الداخل، هذا إذا كانت عقيدة الجهاز لا تزال تستهدف الأعداء ولا تنشغل بالصراع الداخلي ومكاسب المحاصصة في الكعكة المحلية.

(6)

تقتضي الأمانة الفكرية أن أعترف بشكوكي في الصور، مع اعتقادي التام أنها حقيقية تماما من الناحية التعبيرية، أي أن الصور تشير على حقائق داخل الدواوين الرسمية، حتى وإن كانت الصور نفسها غير حقيقية أو محرفة. وهذا شيء مفهوم في الفن وإن كان ملتبسا في السياسة والإعلام، ففي الفن نعبر عن الحقائق عن طريق صناعة أكاذيب احترافية متقنة.

والمؤسف أن طريقة تناول الصور من جانب المعارضة لم تكن احترافية ولم تنجح في توصيل رسالة مفيدة، مثل دعم الحشد لمظاهرات 11 تشرين الثاني/ نوفمبر عن طريق زيادة معدلات الغضب عند النظام، فالمروجون للصور اختلفوا هل يقصدون محمود أم حسن؟ وخلطوا بين الرقابة الإدارية وجهاز المخابرات، وبالتالي فإن النتيجة هي صنع حالة غوغائية مثل كل التريندات التي تنتشر فجأة وتموت فجأة، وتبقى الحقيقة التي يعرفها الجميع، أن "دولة الباشاوات" مستمرة وما بيدنا حيلة.

الخطر المباشر على ثورة الشعب وأحلام الناس في حياة كريمة، يكمن في ذلك البغل المزمن الذي يحتل دواوين الدولة المصرية بجسده الضخم وعقله الصغير


وهذا يؤدي إلى تطبيع الناس على الفساد باعتباره قدرا لا يمكن الخلاص منه، ويحصر الأمل في الثورة على فكرة أن "شرفاء مجهولين في مؤسسات القوة سينجحون يوما في إنجاز الثورة التي ننتظرها. وحتى لو كان ذلك صحيحا ووصلت درجة صراع الأجهزة إلى نقطة الانفجار، فإن تغيير شكل السلطة القائمة وأيلولة الدولة لمجموعة جديدة من داخل النظام، لن يحقق لنا أي هدف من أهداف ثورتنا، لكنه سيؤدي إلى تغيير سلطوي، قد يكون أسوأ في القمع والفساد من سلفه، وهذه خطورة التعامل مع الثورة كفعل ديماغوجي يعتمد على الشائعات وانتظار "اللهو الخفي" لينجز للشعب ثورته، عن طريق إطاحة جناح بجناح أو مؤسسة بمؤسسة من داخل الدولة العميقة نفسها.

وهنا أتذكر ما أوحت لي به الصورة واخترته للعنوان؛ أن الخطر المباشر على ثورة الشعب وأحلام الناس في حياة كريمة، يكمن في ذلك البغل المزمن الذي يحتل دواوين الدولة المصرية بجسده الضخم وعقله الصغير..

وفي المقال المقبل نواصل الحكايات..
tamahi@hotmail.com




لست قطاراً.. (أكفر بكم ـ 1)

استيقظي أيتها الحشرة.. أكفر بكم (2)

عتاب وتوضيح.. "أكفر بكم" (3)


مبادرة من أجل "عودة سنوحي".. (أكفر بكم- 4)




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق