السيسي ونظرية التفويض الإلهي
"أنا ظهري ربنا، واللي (من) يقدر على ربنا يتفضل"..
لم تكن مجرد جملة عابرة قالها المشير السيسي في كلامه الارتجالي في ختام المؤتمر الاقتصادي قبل أيام، بل هي جملة معبرة عن قناعة الرجل التي كررها في سياقات عديدة وبصياغات متنوعة في لقاءات وأحاديث كثيرة من قبل.
في الدول الديمقراطية يستند الحكام إلى القبول الشعبي الذي تجسده نتائج الانتخابات النزيهة، ويعمل الحكام ألف حساب لشعوبهم لأنهم مدركون أنهم حتما سيعودون لطلب رضاها عندما تنتهي مدة حكمهم، ومن هنا تستهدف كل سياساتهم وقراراتهم رضا شعوبهم، ويكون من حق هذه الشعوب مساءلة هؤلاء الحكام خلال فترة حكمهم عبر كل وسائل المساءلة والمراقبة البرلمانية والقضائية والإعلامية.. الخ، وليس فقط عندما تنتهي دورات حكمهم.
في النظم الاستبدادية التي وصلت إلى الحكم عبر انقلاب عسكري على الإرادة الشعبية ذاتها لا يؤمن الحكام -ومن بينهم السيسي بطبيعة الحال- بقيمة الشعب، ولا يرون أنفسهم مسئولين أمامه، فهو لم ينتخبهم في انتخابات تنافسية حرة، وليس من حقه أن يعترض على أي قرار لهم.
لكن بعض النظم الاستبدادية تسعى لتعويض شرعيتها المفقودة عبر شرعية الإنجاز، فتقيم مشروعات كبرى يلمس نفعها عموم الناس، ومن ذلك قرارات حكام يوليو 1952 بفرض قانون الإصلاح الزراعي الذي استفاد منه ملايين الفلاحين المصريين، ومثل سياسة التأميم للمصانع والشركات، وتحسين أوضاع العمال ومنحهم حقوقا ظلوا محرومين منها لعقود طويلة، ومن ذلك أيضا بناء السد العالي لضبط تدفق المياه وانتظامها، ومنها إنشاء العديد من المصانع الكبرى والمساكن الشعبية في القاهرة والمحافظات، ومنها مجانية التعليم والصحة، وكلها سياسات حددت انحياز النظام الجديد للطبقات الفقيرة.. الخ، بغض النظر عن اتفاق أو اختلاف البعض مع تلك السياسات.
نفذ سياسات اقتصادية خطيرة منذ العام 2016، على رأسها بدء تعويم الجنيه المصري، مع تلبية مطالب صندوق النقد الدولي فيما يخص الرفع التدريجي للدعم عن السلع الرئيسية. وقد اعترف السيسي مؤخرا بأنه استخدم رصيده الشعبي لتمرير تلك السياسات، ما يعني اعترافه باستنفاد هذا الرصيد
بعد انقلابه على الرئيس المدني المنتخب حظي السيسي بدعم القوى العلمانية والمسيحية وبعض البسطاء، واعتبر ذلك دعما شعبيا جارفا له لم يتوفر لرئيس من قبله، بمن في ذلك جمال عبد الناصر. استند السيسي بشكل أساسي على تظاهرات جمعة التفويض التي دعا إليها في 26 تموز/ يوليو 2013، والتي شاركت فيها تلك القوى المذكورة، وحين ترشح للانتخابات الرئاسية مرتديا بزته العسكرية، ومتجاهلا وعودا سابقة بعدم الترشح، فإنه لم يكن مشغولا بصناديق انتخابات، فقد اعتبر أن ذلك التفويض كاف، وأن العملية الانتخابية هي استكمال للشكل فقط.
استند السيسي إلى تلك الشعبية (غير المؤكدة بأرقام انتخابية)، فشرع في إقامة مشروعات بدون دراسات جدوى، لتحقيق ما يسمى بشرعية الإنجاز، ثم نفذ سياسات اقتصادية خطيرة منذ العام 2016، على رأسها بدء تعويم الجنيه المصري، مع تلبية مطالب صندوق النقد الدولي فيما يخص الرفع التدريجي للدعم عن السلع الرئيسية. وقد اعترف السيسي مؤخرا بأنه استخدم رصيده الشعبي لتمرير تلك السياسات، ما يعني اعترافه باستنفاد هذا الرصيد، وهو لا يزال بعد في منتصف الطريق لاستكمال أوهامه.
لم تفلح المشاريع الكبرى التي ينفذها السيسي في جلب الرضا الشعبي، لسبب بسيط أنها لا تمثل أولويات حقيقية لا للشعب ولا للوطن، فلا تفريعة قناة السويس التي تكلفت ثمانية مليارات دولار حققت دخلا إضافيا كما بشروا من قبل، (الزيادة التي حدثت لعائدات القناة هي الزيادة الطبيعية لارتفاع تكلفة الشحن البحري عالميا)، ولا العاصمة الإدارية الجديدة تقدم منافع جديدة للناس، بالعكس فهي تمثل أعباء كبرى على الموظفين الحكوميين الذين سينقلون قسرا إليها، بعيدا عن مقار سكنهم (ناهيك عن تكلفتها الخيالية وتبلغ 60 مليار دولار)، ولا مدينة العلمين الجديدة ستقدم قيمة مضافة، ولا القصور أو الطائرات الرئاسية، ولا المونوريل، ولا الكثير من المشروعات ذات جدوى اقتصادية بالأساس، بل إن هذه المشاريع هي التي كبلت مصر والمصريين حتى الآن بأكثر من 120 مليار دولار من الديون الخارجية التي يتعثر النظام في سدادا اقساطها وفوائدها، ويلجأ إلى المزيد من القروض لعلاجها.
مع فشل السيسي في تحقيق الرضا الشعبي من خلال تلك المشروعات، ومع تزايد ضغوط السياسات الاقتصادية وغلاء الأسعار، وجد السيسي أن الطريق الأسهل وغير المكلف لشرعنة خطاياه هو إحياء نظرية التفويض الإلهي، فهو حاكم يستمد شرعيته من العناية الإلهية، وهو يتحدث مع الله
مع فشل السيسي في تحقيق الرضا الشعبي من خلال تلك المشروعات، ومع تزايد ضغوط السياسات الاقتصادية وغلاء الأسعار، وجد السيسي أن الطريق الأسهل وغير المكلف لشرعنة خطاياه هو إحياء نظرية التفويض الإلهي، فهو حاكم يستمد شرعيته من العناية الإلهية، وهو يتحدث مع الله، و"يقابل الله مرتين" (كما ذكرت إحدى الصحف)، ويعرف وحده ما هي مصلحة الشعب، ويطلب من الشعب سماع كلامه هو فقط ، ولسان حاله "ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد"، وهو مسنود بقوة الله (ربنا في ظهري)، ويهدد من يعترض عليه بأنه يعترض على الله ومن يقدر على ربنا يتفضل).
كانت إحدى الحجج الكبرى للانقلاب هي التخلص من جماعة الإخوان التي تريد الحكم باسم الله، وفرض قراراتها باسم الله، ووقفت القوى العلمانية داعمة للسيسي الحاكم العسكري فقط لأنه خلصها من الحكم الديني (الموهوم)، ثم ها هي اليوم تعيش الحكم وفقا لنظرية التفويض الإلهي تحت قائد عسكري، يدعي أنه بينه وبين الله علاقة خاصة توفر له إمكانيات غير منظورة، وتلهمه بقرارات مصيرية، حتى وإن بدت عديمة الجدوى!!
لم تفلح تبريرات النظام وأذرعه لموجة الغلاء والبلاء بأنها جزء من أزمة عالمية بعد وباء كورونا وحرب أوكرانيا، لأن المصريين يعرفون أن هذه الموجة سابقة على كلا الأمرين، وأنها بسبب المشاريع غير ذات الجدوى، وغير ذات الأولوية، والتي تكلفت مئات المليارات دون داع، فكان اللجوء إلى التبريرات الدينية للغلاء، ودعوة الناس للصبر عليه باعتبار ذلك من تمام الإيمان، وأصبح ذلك تعميما رسميا على خطب الجمعة في كل المساجد، والأحاديث الدينية في الإذاعة والتلفزة، والصحف.. وليكتشف الجميع أخيرا من الذي يستغل الدين لتبرير فساده واستبداده وفشله؟
twitter.com/kotbelaraby
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق