رحلة القلم من التهجير إلى التنوير
كانت رحلتي الأخيرة من السعودية الى إسطنبول في سبتمبر/ أيلول 2015، لكن قرار المهجر كان حاضراً من 2014. لم يكن ذلك بالضرورة مؤقتاً على تصعيد السلطات السعودية الذي تزايد في الداخل السعودي منذ انقلاب الثالث من يوليو/ تموز في مصر، ولكنه كان استعداداً نفسياً بعد قراءة خريطة التوتر، وتطور مشروع أبو ظبي، في مطاردة الحريات والديمقراطية في الوطن العربي.
كانت الإمارة الصغيرة في حينها قد حققت اختراقا قوياً، من خلال نجل الملك الراحل الأمير متعب، ومن خلال رئيس الديوان الملكي في حينه، خالد التويجري، ثم تمكّنت أبو ظبي من طاقمه، فجاء الاستدعاء للتحقيق بناء على تبني الديوان مطاردة أبرز من كتب عن الربيع العربي والحريات، وكان كتابي ليلة القبض على مصر مرفقاً بكامله في ملف القضية، غير أن الحقيقة التي اتضحت لي بعد ذلك، بدليل واضح، أن ولي العهد المعزول، كان أيضاً ضمن دائرة الاختراق الظبياني، وتبنى كما هو فريق الديوان مسار الاستهداف لقلم مهنا الحبيل. وهناك جذور لهذا الاستهداف في توافقٍ مشترك بين أمير الشرقية في حينها، محمد بن فهد وبين صهره ولي العهد السابق، منعني من السفر أحد عشر عاماً منذ اعتقالي في مظاهرة الظهران 2002، ثم تأسيس اللقاء الإسلامي الوطني لإقليم الإحساء (الشرقية السعودية)، لأسباب تخصّ فكري، وأخرى تخص تاريخ الإقليم، وبُعده العروبي الإسلامي المستقل، قد ييسر ا
لله توثيقها في صفحات الذكريات.
كانت أبو ظبي موجودةً بقوة داخل هيكل النظام بشقيّه، فمجرد أن صدرت مذكرة الاتهام، وقبل أي تصريح رسمي سعودي، أو حتى إعلامي، تبنّت صحيفة سعودية، كان يديرها أحد عملاء أبو ظبي المعروفين، هجوما عنيفا على مهنا الحبيل، والغريب أنه ربطه بكتاب من الأحساء، وهو كتاب اجتماعي ثقافي، كتبته داخل السعودية، تناول بعض حقوق الشرق والمعالجة الوطنية للطائفية. وقد ربط تصعيد الصحيفة انتمائي للأحساء إلى التهم الأساسية لموقفي من الحريات والإصلاح الدستوري في المملكة، ومساندتي الفكرية حركة حسم، ومطالبتي المستمرة بإطلاق الإصلاحيين. وكان مراسل الصحيفة نفسه من داخل الأطقم الأمنية للدولة، ضمن الشبكة الضخمة التي صنعتها أبو ظبي من الأمراء إلى أصغر الموظفين.
وهذا لا يعني أن الموقف مني، كقلم آمن بالحرية والنهضة عبر العروبة والفكر الإسلامي المستقل، صنعته أبو ظبي، بل هو أصلي في التاريخ الأمني السعودي، تجاه هذه القيم وأي شخصية عربية متطلعة للعدالة والمساواة، الذي شمل اليساريين والقوميين قديماً، ولكن الملف الأخير كان لإمارة أبو ظبي وهيكلها دور مباشر فيه.
بعد فترة من إبلاغي بانتهاء التحقيق، ووسط توتر متزايد، وبعيد وصولي إلى اسطنبول، كنت أشعر بأن هناك أمر سوءٍ يدبّر لي. وفعلاً وصل إلي اتصالٌ يطلب المراجعة الضرورية للمركز الأمني، فهمت منه مباشرةً خطوة التصعيد، والذي اتضح أنه بالفعل الإحالة على المحكمة السياسية التي أصدرت حكماً بالسجن ومنع السفر بعده، وحذف حساب تويتر، والمنع الكلي عن الكتابة، ومطالبات تعزير أخرى، قال القاضي أنه يدرسها، فتعزّزت رحلة المهجر النهائي، وبدأت مسيرة القلم الجديد.
أعود اليوم إلى زيارة قصيرة إلى إسطنبول من مهجري في كندا، في تزامن مع انتهاء المجموعة الفكرية التي أدعو الله أن ييسرها للشباب، مساهمة محدودة من هذا القلم، ضمن رحلة الكفاح العربي للنهضة والقيم، وبناء منظومة تجديد منضبطة لوعي إسلاميٍّ مختلف، كم خسر الوطن العربي وحاضر العالم الإسلامي بغيابه، وليس قلم الحبيل هنا مؤسِساً، ولا يزعم أنه من أعلامه. ولكن رسالة الثلاثية الفكرية، تربط بن جهود المتقدمين من الإصلاحيين الفكريين الإسلاميين، ونظريات المعرفة والتجديد الكوني، التي وصل إليها القلم أو اجتهاده الفكري، فتنظمها في ثلاثية لرحلة يقظة للشباب العربي من كل الاتجاهات، وكيف يُفهم الفكر الإسلامي، وكيف تعرف مقاصد الشريعة للحياة الإنسانية.
وكيف يكون هذا الوعي الجديد شريكاً حيوياً في رحلة التحرير، من الجهل والظلم والتخلف والتبرير الديني للاستبداد الذي أنزله الطغاة على أقطار الأمة، وكان من أهم عناصر تمكّنه جهل فئاتٍ من المسلمين برسالة دينهم، وجهل بعض حملة الدعوة الإسلامية بقضايا النهضة وفقهها، لفقدان غالب الخطاب الإسلامي المعاصر الأصل الذي يُبنى عليه تجديد الوعي بأصول الرسالة ذاتها، وهو الفكر المدني الذي أتاحته الشريعة، للحياة الإنسانية الفاضلة للأمم، وقد كُلفت الأمة الإسلامية بفهمه مناط استخلاف.
وحين يُحسن المسلمون التعبّد السببي لإنقاذ أمتهم، وبناء دولة العدالة الاجتماعية بينهم، يصلون حينها إلى خصوصية الفلسفة الإسلامية التي تغيب اليوم عن مصالح الإنسانية العالمية، فيضطرب التاريخ الاجتماعي بالظلم الجديد، وتسقط المساواة الاقتصادية، ويُعسَف بالعالم الجنوبي من الشمال الرأسمالي لغياب القسط العالمي، هذا ليس كومة وهم، ولا سلة أماني، وإنما حقائق فكرية، لن تنضج للعالم، حتى تنضج مسيرة القيم والعدالة والإحسان بين الناس، في بلدان المسلمين ومجتمعاتهم.
وهذه بالضبط رسالة الثلاثية الفكرية، ومقصد تحريرها، وقد أكّدتها الأحداث ومشهد التداعي والسقوط لدول الشرق، والأزمة الثقافية الجديدة بين العرب والأتراك، ليس في صراع الأنظمة بل الفكر، فتسقط في المأزق القديم نفسه، حيث لم تفرّقهم رسالة الحضارة الإسلامية التي جمعت حملتها العرب بالأعاجم، وأسّست لميدان نهضة العلوم الإنسانية، وإنما فرّقتهم السياسة، وتم استبدال قومياتهم وامبراطورياتهم عربا وأعاجم، بالرسالة الإسلامية نفسها، فزُحزح الحق ونحل الباطل باسم الدين.
مادة الكتب الثلاثة، "فكر السيرة" و"زمن اليقظة" و"في سبيل التنوير"، تعيد قراءة المنهج بعمق، وتنبّه الشباب من أثر الجهل العميق في مسائل الخلاف وأفق الحضارة، وسر المرض الصراعي، الذي يفتك بأفكار الأمة، ويهوي بها، بدلاً من أن تبني معالم نهضتها الذاتية لتهزم مستبد الداخل ومستبد الغرب، وآمل أن يجد الشباب في الثلاثية سكينة وجدان، وصوتا مخلصاً يقول لهم: الطريق من هنا.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق