الأربعاء، 29 يوليو 2020

أمهات .. في الظل المنير.. !!

أمهات .. في الظل المنير.. !!


د.عبدالعزيز كامل
كثير من الأمهات اللاتي ابتلين بابتلاءات الأبناء أو الأزواج في سجون المجرمين ؛ كن يعانين من الشدائد مثل معاناة ذويهن.. أو يزدن، فالمبتلى من الرجال أو الشباب ..قد يتعود أكثرهم في مرحلة معينة على التعايش مع بلواهم، في سجنهم أو معتقلهم أو منفاهم...لكن الأمهات أبدا لا يتعايشن مع فراقهم ..ولا تخف معاناتهن لآلامهم ..
#.. أضرب مثالا بأمي - تغمدها الله بالمغفرة والرحمات - ..فقد وعيت صغيرا على اعتقال والدي المسن وأخي الأكبر .. وأمي لم تزل وقتها في سن الشباب..وأشهد أني لم أرها ضاحكة حتى خرجا من معتقلات عبد الناصر ؛ بعد النكسة بقليل..
#.. ولما جاء عهد السادات..اعتقلت أنا وابن اختي عام ١٩٧٥ ، وكانت التهمة ترويج منشورات مكتوبة على بعض أوارق العملة..تطالب بالحكم بما أنزل الله.. ولم تكد أمي تفيق من تداعيات اعتقالي وأنا في الثانوية العامة.. حتى ابتليت عام ١٩٧٧ بسجني أنا وأخي وابن أخت لي في قضية لم يكن لنا علم بأي تفاصيلها، فضلا عن المشاركة في أي من مجرياتها ..
#.. بعد تكرار المضايقات الأمنية؛ اضطررت للسفر للسعودية، تاركا دراستي في جامعة القاهرة ..فيسر الله التحاقي بجامعة الإمام هناك.. لكني لم أكد انتهي من السنة الأولى حتى وقعت حادثة الحرم، التي كنت من أشد المحذرين لمن حولي من المشاركة فيها.. لكن أخا لي آخر جرى اعتقاله بسببها، دون أن يكون له شئ في عيرها ولا نفيرها..
#.. كان اعتقال أخي في السعودية قاصمة الظهر لأمي ، اذ عاشت ثلاث سنين لا تعلم أحي أخي أم ميت.. لاهي ولا أبي يرحمه الله، أما أنا فقد اضطررت للعودة لمصر وترك دراستي؛ لعلي استطيع فعل شئ في مواساتها..لكني اعتقلت في المطار على ذمة قضية.. لا أعلم للآن.. ما سبب حشر اسمي فيها ..؟! وأكثر شئ أحزنني هو تضاعف حزنها..
#.. لم تطل مدة اعتقالي عقب عودتي.. لكن لم تمض شهور حتى وقعت حادثة اغتيال السادات، التي لم أكن أعرف شيئا عن تفاصيلها ..إلا ماعرفه كل الناس بعد وقوعها.. فاعتقلت أنا وأخي وابنين لأختي الكبرى، رحمها الله، إضافة لأخي المعتقل في السعودية.. فتجمعت الهموم على أمي وأختي..
#..رأيت في السجن وقتها أبي وهو يبكي علينا ..رغم أنه - رحمه الله - كان نادر البكاء علانية ، فقلت له في الرؤيا.. يا ابي لم تبكي؟..قل كما قال يعقوب عليه السلام: ( فَصَبْرٌ جَمِيلٌ ۖ عَسَى اللَّهُ أَن يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا ۚ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ )( يوسف/٨٣).. فما هي إلا أسابيع..وإذا بي أنا وأخي نفاجأ برؤية أخينا الثالث الذي كان معتقلا في السعودية في سيارة التراحيل، حيث تم الإفراج عنه من هناك ..ليعتقل هنا، وما أدراك ماهنا.. ولا اعلم وقتها كيف كان حال أمي..
ثم فرج الله عنا تباعا..
#.. قررت بعد تكرار المرار في مصر أن اغادر إلى السعودية ثانية ..بعد ان اعتقلت في مصر مرة أخرى عام ١٩٨٤ .. وظللت هناك مستأنفا دراستي بعد وساطة مشايخ كرام لعودتي للدراسة بعد طول انقطاع.. وظننت أني قد كففت أمي هموم حمل همومنا بالبعد عن بلدنا .. حتى اعتقلت في السعودية عام ٢٠٠٨، وقد جاوزت أمي الثمانين .. ولم أكد أفكر ولا أبكي طوال حبسي الانفرادي إلا حزنا على أمي..التي لم تعرف خبر اعتقالي إلا مني، عندما سمح لي بالاتصال بها تليفونيا من السجن، فحاولت طمأنتها ، ظنا مني بأنها لابد وقد عرفت الخبر؛ بعد أن مر علي في السجن بضع شهور ..
#.. بعدما طال حبسي هناك دون أن تراني ؛ عرض أقاربي على أمي أن تقدم إلى الرياض لزيارتي في سجن الحائر، وقد كان ذلك، ولكن اللقاء الحار داخل الأسوار..كان هو آخر لقاء معها.. إذا عادت الى المدينة المنورة بعدها للمغادرة بعد اداء العمرة في اليوم التالي..ولكن بينما هي تستعد للعمرة تعبت قليلا ..ثم فاضت روحها على صدر بنتها.. ليكون جزاؤها بعد طول صبرها أن تدفن في جوار الحبيب صلى الله عليه وسلم..ومع خيار الصحابة في(البقيع) ، بعد أن صلى عليها الألوف في مسجد المدينة...ولتكون في مكان يلقى عليها فيه السلام ؛ من ملايين الحجاج والمعتمرين على مر السنين ؛ كلما مر الصالحون على مفترق الطرق المار بمدافن جنة البقيع..
#.. أردت من هذه القصة أن أستمطر الرحمات.. وأستجلب الدعوات في هذه الأيام المباركات لمستورات البطولة وصاحبات الجندية المجهولة؛ من الصابرات المحتسبات ؛ من الأمهات والزوجات والأخوات والبنات اللاتي عايشن أو لازلن يعايشن مرارات الابتلاء في الأحباء الأخلاء، ولايعلم بحالهن إلا رب الأرض والسماء..
فاللهم ارحم الأموات منهن، واربط على قلوب الأحياء وثقل موازينهن ، وأسعدهن بلقاء من غابوا ، و جبران من فقدوا .. و احفظهن بخير ماتحفظ به عبادك الصالحين، واعطهن واعط آباءنا في جناتك خير ما أعطيت الصابرات والصابرين ..
اللهم آمين

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق