الثلاثاء، 28 يوليو 2020

ملاذات الدم الآمنة

ملاذات الدم الآمنة


وائل قنديل
لم يكن هناك ما يضطر عبد الفتاح السيسي لاستعادة الثلاثين من يونيو/ حزيران 2013، وهو يتحدث بالأمس في افتتاح منطقة صناعية.. لم يكن ثمّة سؤال يستلزم الاستعانة بتلك الذكرى للإجابة، ذلك أنه يتكلم في نهاية يوليو، فما الداعي لمضغ جملة اعتراضية فحواها "لو كنا ظالمين في 30 يونيو لما وفقنا الله"؟.

الراجح، من واقع تحليل مضمون ارتجالات السيسي خلال السنوات الماضية، أنه لا يعود إلى تلك اللحظة، أو يستعيدها، أو يلوذ بها، أو يتخذها غطاء، إلا في لحظات الانكشاف، تلك اللحظات التي يستشعر فيها الجميع ينظرون إليه في دهشة وسؤال يشتعل في العيون والخناجر الخرساء: أي مصير كارثي ذهبتَ بنا إليه؟

وأزعم إنه ليس ثمّة انكشاف فاضح أكثر مما هو فيه الآن على صعيد القضية الأهم، أو الهم الأكبر، لمصر، أفرادًا ومؤسسات، وأعني موضوع سد النهضة، الذي اختطفه السيسي، وراح يلهو به منفردًا، كأنه لعبة أطفال سقطت في حجره، فقرّر ألا يشاركه أحد في الركض والاستعراض بها، منذ اليوم الأول لدخوله على هذا الملف، وسط ضجّةٍ من إعلام تافه، احتشد بكامل طبله وزمره وراء"الخليفة" الملهم المدجّج بقدراتٍ خارقةٍ، وتوفيق لا نهائي من السماء، بما يجعله يلمس المشكلة فتنفك عقدها، وتعرف طريقها إلى الحل التام.

لا يذكر السيسي في خطاباته العديدة الثالث من يوليو/ تموز 2013 أبدًا، بل هو طوال الوقت مختبئ هناك في الثلاثين من يونيو، كلما استشعر تصدّعًا في تلك الجبهة التي تأسست على الأكاذيب والأوهام والوعود بدولةٍ تخطف أبصار الدنيا، وتستثير الحاسدين والحاقدين على قفزاتها الرهيبة في الاقتصاد والسياسة والتطور الديمقراطي.

والشاهد أنه، بعد سنوات من الكلام، يتلفت المصريون فيجدون النهر قد أوشك على الانكماش، والإرهاب وقد أوشك على أن يكون رياضةً يوميةً لا يستغني عنها السيسي في سيناء، ويغذيها بدماء جديدة لأبرياء جدد من الجيش والشعب كل يوم.. حتى خط الابتزاز الجديد الذي دشنه في ليبيا، بمواجهة الغزو التركي المزعوم، بات الكل يدرك أنه ملهاةٌ تضاف إلى ملاهي الإدارة السيسية المنفردة، وأنه يلوّح بالحرب، فقط، من أجل إحداث أكبر كم من الصخب والضجيج، للتغطية على التفريط القصدي في حقوق مصر بنهر النيل.

كلما تبخرت الوعود السيسية، تجده يعود مذعورًا إلى الثلاثين من يونيو، مردّدًا الكلام الفارغ من أي مضمون عن إنقاذ هوية الدولة المصرية، كي تبقى مدنيةً عصرية، بينما الحاصل أمام الجماهير الآن أن لا دولة مدنية قامت، ولا دولة دينية ذهبت، بل صارت أشبه بنظام خلافة عسكرية، هيمنت وتحكّمت في مفاصل البلاد ومصائر العباد، حتى صارت السماء تمطر جنرالات، والأرض تنبت عسكرة، لتعود البلاد ستين عاماً إلى الوراء.

يجري ذلك كله والشخص الذي يقيم شراكة استراتيجية مع الفشل لا يفعل شيئًا سوى اختراع أوصاف ومسميات جديدة لنفسه، يفرضها فرضًا وجبرًا على المصريين، فهو الأمين الذي لم يفرّط في جزيرتين ونهر، والشريف الذي لم يخن القسم الذي أدّاه أمام رئيسه، والعادل الذي لم يحرق الناس أحياء ويعدمهم من دون محاكمات حقيقية، والرشيق الذي يتألم لزيادة أوزان شعبه، والمخلص، والأسد القوي، الذي يتغذى على أرز المانحين، ولا يزأر إلا في مواجهة شعبه، ويتحوّل إلى حمل وديع يمشي خلف صغار يحرّكونه هنا وهناك.

غير أن المدهش حقًا أن هناك من الخصوم المفترضين للجنرال من يعاونه على استعادة "30 يونيو" ملاذًا وثيرًا من الفشل والبلادة، حين يعيد إنتاج خطابٍ استقطابي مخيف، يمنح السيسي وجمهوره الفرصة الذهبية لاجترار الأكاذيب الخاصة بالانقلاب من أجل حماية البلاد من فاشية دينية تمارس التكفير والاتهام بالخروج من الدين على مخالفيها، وتوفر لكل تافهٍ المجال لكي يعتبر نفسه شهيدًا وضحية.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق