الخميس، 23 يوليو 2020

دعوة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام


دعوة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام



د. علي الصلابي

قال تعالى: {قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ *} [ال عمران: 43]. وقال عز وجل: {فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ سُنَّةَ الأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَحْوِيلاً *}[فاطر: 43]. والتاريخُ بما يحتوي من الحوادث المتشابهة، والمواقف المتماثلة، يساعد على كشف هذه السنن التي هي غايةٌ في الدقة والعدل والثبات.

وفي إدراكنا للسنن الربانية فوائدُ عظيمة، حتى لو لم نقدر على تفادي حدوثها والنجاة منها، حيث يعطينا هذا الإدراكُ والمعرفةُ صلابةً في الموقف، بخلاف من يجهل مصدر الأحداث، فإنّ الذي يعلمُ تكونُ لديه بصيرةٌ وطمأنينة، أما الذي يجهل فليس لديه إلا الحَيْرَة والخوف والقلق. ومن الـسنن الـثـابتـة من خلال دعوة الأنبيـاء عليهم الصلاة والسلام مـا يلي:

1 ـ سنّةُ سوءِ عاقبةِ المكذّبين:

إنّ الذين يكذّبون بايات الله ورسله، ويظلمون الناس بغير حق، ويَسْعَوْن في الأرض فساداً، وعدهم الله بسوءِ العاقبة، قال تعالى: {وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً وَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ عَذَابًا أَلِيمًا *وَعَادًا وَثَمُودَ وَأَصْحَابَ الرَّسِّ وَقُرُوناً بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا *وَكُلاًّ ضَرَبْنَا لَهُ الأَمْثَالَ وَكُلاًّ تَبَّرْنَا تَتْبِيرًا *} [الفرقان: 37 ـ 39].

2 ـ العاقبة للمتقين:

قال تعالى عقب قصة نوح عليه السلام: {قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ *} [الاعراف: 128]. فمن سنن الله تعالى أنَّ العاقبةَ للمتقين، والهلاكَ للمكذّبين المعاندين. قال تعالى عن هود عليه السلام مع قومه: {فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَمَا كَانُوا مُؤْمِنِينَ *} [الاعراف: 72]. وقال تعالى: {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلاً إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَانْتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ *} [الروم: 47]. وما جرى من تحقُّق هذه السنة في الماضي، سيجري مثلُه إن شاء الله تعالى في الحاضر والمستقبل إذا تحققت أسبابها من ظهور المتقين الذين يستحقّون نصر الله عز وجل.
قد يرى الناسُ موجبات العذاب والانهيار، قد حلّت بأمة من الأمم، ثم لا يرون زوالها بأنفسهم، لكنَّ عمر الأمم أطولُ من عمر الأفراد، ولا تقع إلا بأجل محدود لابدّ من استيفائه

3 ـ الابتلاء سنةٌ جاربةٌ للمؤمنين:

وهذه السنّة من الوضوح بحيث لا تحتاجُ إلى تعليق، حيث تواترت بها الأدلّةُ الكثيرةُ من القران والسنة، وحيث الوقائع والتجارب في حياة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وأتباعهم تشهد بذلك، ويكفي قوله تعالى: {الم *أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ *وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ *} [العنكبوت: 1 ـ 3]. وقوله تعالى: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلاَ إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ *} [البقرة: 214].

اعلان
وعن مصعب بن سعد عن أبيه قال: قلتُ يا رسول الله: أيُّ الناس أشدُّ بلاءً؟ قال: «الأنبياءُ، ثم الأمثلُ فالأمثلِ، فيبتَلى الرجلُ على حَسَبِ دينه، فإن كان في دينه صَلْباً اشتدّ بلاؤه، وإن كان في دينه رقة ابتلي على حَسَبِ دينه، فما يبرحُ البلاءُ بالعبدِ حتى يتركَه يمشي على الأرضِ ما عليه خطيئةٌ»، وحكمةُ هذا الابتلاء عظيمةٌ، وفوائدُه في التربية والتمحيص وتمييز الصفوف معروفةٌ، وعلى هذا ينبغي أن توطن النفوسُ على هذه السنة مع سؤال الله عز وجل العافية والثبات.

4 ـ سنّةُ إناطةِ التغييرِ بالبشر:

وتُعتبر هذه من سنن الله سبحانه الخالدة، التي أناطَ بالبشرية مسؤولية رقيّهم وانحطاطهم، ومسؤولية إتباعهم للخير أو الشر، حيث إنّهم مُنِحوا قدراً من الحرية والاختيار، ومع ذلك القدر من الحرية بعث إليهم المولى عزّ وجلّ الرسل، التي جاءتهم بالهداية الربانية، التي فيها خيري الدنيا والاخرة لمن اتبع المرسلين، قال تعالى: {فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلاَ يَضِلُّ وَلاَ يَشْقَى *} [طه: 123]، فإذا وجدت أسبابُ الهداية فإنّ النتائجَ تتبعها، كما قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد: 11] لذلك فإنّ التغيير يبدأُ من النفس، سواء بالارتقاء إلى أعلى، أو بالانتكاس والهبوط إلى أسفل، فهي تعتبر النقط الأساسية في تغيير النفس البشرية من الشرّ إلى الخير أو العكس، والبشر في كلتا الحالتين هم المسؤولون مباشرة عن إصلاح أنفسهم، كما قال تعالى: {إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} [الرعد: 11].

ولقد تعامل رسول الله صلى الله عليه وسلم مع هذه السنة في تغيير النفوس والمجتمع، ومن تأمّل هذه الآية الكريمة التي قرّرت حدوثَ التغيير من الله سبحانه مترتباً على حدوثه من النفس البشرية سواء بالسلب أو الإيجاب، وهذا الترتيبُ يضع البشرية أمامَ مفرق طرق، ويربط في أعناقهم مسؤولية عدم إحداث التغيير في النفس البشرية والمجتمعات الإنسانية وفق منهج الله القويم، قال تعالى: وهذه السنةُ {حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ} يمكِنُ إدراكها إدراكاً صحيحاً وكلياً إلا باتباع المنهج الرباني، الذي يربط بين السنن والأحداث التاريخية، ويحدد العلاقة السليمة بينهما، حيث إنّ اتباع المنهج الرباني يغطّي خير السنن، ويصرف الصوارف، قال تعالى: {قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدَىً فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ *} [البقرة: 38].

5 ـ سنة زوال الأمم بالعلوّ والطغيان:

قال تعالى: {أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ *إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ *الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلاَدِ *وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ *وَفِرْعَوْنَ ذِي الأَوْتَادِ *الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلاَدِ *فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ *فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ *إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ *} [الفجر: 6 ـ 14]. فتأمل في هذه الآيات الكريمة التي تقرّرُ سنةً من سنن الله الربانية التي لا تحابي أحداً من خلقه، إنّها سنةُ زوال الأمم بالترف والفساد، زوال الأمم بالتجبر والطغيان، زوال الأمم بالبطر والكبرياء، قال تعالى: {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا *} [الاسراء: 16]. أي أمرناهم بالأمر الشرعي من فعل الطاعات، واجتناب المعاصي، فعصوا وفسقوا، وحققوا أسباب الزوال والانهيار، فحقّت عليهم سنةُ الأخذِ والزوال، والتدمير والتنكيل، جزاءَ فسقهم وعصيانهم.
هذه السنةُ من أهم السنن الربانية التي يجب الوقوفُ عندها، وعدمُ نسيانها أو الغفلة عنها، والمتأمِّلُ في دعوةِ الأنبياء عليهم الصلاة والسلام مع أقوامهم يلمسُ هذه السنة بوضوح وجلاء

6 ـ سنة إهلاك الأمم بالظلم والإجحاف:

قال تعالى: {وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنْشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آخَرِينَ *} [الانبياء: 11]. فإذا ما فشى الظلمُ، وعدمُ إقامة العدل في أمة من الأمم، فقد تحقّقت فيهم أسبابُ الهلاك، وحقت عليهم سنةُ الله بالهلاك، ووقعت عليهم القاصمة، لأنَّ الله سبحانه تعالى قد حرّم الظلمَ على نفسه، وجعله بين العباد محرّماً، كما في الحديث القدسي: «يا عبادي إنّي حرّمتُ الظلمَ على نفسي، وجعلتُه بينكم محرَّماً فلا تظالموا». فإذا اختلّت الموازينُ، وانعدمتِ القيمُ، وتحكّم الأقوياءُ في رقاب الضعفاء، وقسم المجتمع إلى طبقاتٍ سادة وعبيد، وتلاعبَ السادةُ بحدود الله وأوامره، فقد حقّت عليه سنةُ الله، التي لا تحابي أحداً من خلقه، ولن تجدَ لسنّة الله تبديلاً ولا تحويلاً، جاء في الحديث الصحيح قوله صلى الله عليه وسلم: «إنّما هلك الذين مِنْ قبلكم أنّهم كانوا إذا سرَقَ فيهم الشريفُ تركوه، وإذا سرقَ فيهم الضعيفُ أقاموا عليه الحدَّ، وايمُ اللهِ، لو أنَّ فاطمةَ بنتَ محمّدٍ سرقتْ لقطعتُ يدَها».

7 ـ سنة لكل أمة أجل:

قد يرى الناسُ موجبات العذاب والانهيار، قد حلّت بأمة من الأمم، ثم لا يرون زوالها بأنفسهم، لكنَّ عمر الأمم أطولُ من عمر الأفراد، ولا تقع إلا بأجل محدود لابدّ من استيفائه، قال تعالى: {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ *} [الاعراف: 34]. وقال تعالى: {وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلاَّ وَلَهَا كِتَابٌ مَعْلُومٌ *مَا تَسْبَقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ *} [الحجر: 4 ـ 5]. وقال تعالى: {وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا *} [الكهف: 59].

8 ـ سنةُ الأيام سِجَالٌ بين الناس:

فمن رحمة الله سبحانه أنْ جعل مداولةَ الأيام سِجالٌ بين الناس، من شدّةٍ ورخاءٍ، وقوّة وضعف، وعزّ وذلّ، وصحةٍ وسقمٍ، وغنًى وفقر، امتحاناً لهم حتّى يعلمَ منهم ـ وهو أعلمُ بما يفعلون ـ الشاكرين من الجاحدين، والصابرين من الجازعين، والمجاهدين من القاعدين، والمنفقين من الممسكين، قال تعالى: {إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ *} [ال عمران: 14].

9 ـ سنة نصر الله للمؤمنين:

لقد قضت حكمةُ الله سبحانه وسنته الجارية على استحقاقِ المؤمنين لنصره إذا أتوا بشروطِ هذه السنّة، ومن هذه الشروط:
أ ـ الاستقامة على منهج الله، قال تعالى: {وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لأََسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا *} [الجن: 16].
ب ـ عدم الإشراك به سبحانه، وتحقيق الإيمان، والعبودية الشاملة، قال تعالى: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا} {اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لاَ يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ *}[النور: 55].
ج ـ ذكر الله كثيراً، قال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ *} [الانفال: 45].
هذه بعض السنن التي نلاحظها في دراسة دعوة الأنبياء والرسل. وفي إدراكنا للسنن الربانية فوائدُ عظيمة، حتى لو لم نقدر على تفادي حدوثها، والنجاة منها
فإذا ما حقق المؤمنون شروطَ هذه السنة، كما كان الأمر في عهد داود وسليمان ومحمد عليهم أفضل الصلاة والتسليم، فإنّ نصرَ الله لهم قريب، قال تعالى: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ *} [غافر: 51]. وقال تعالى: {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ *} [محمد: 7]. وقال تعالى: {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ *} [الروم: 47].

10 ـ سنة التدافع بين الحق والباطل:

وهذه السنةُ من أهم السنن الربانية التي يجب الوقوفُ عندها، وعدمُ نسيانها أو الغفلة عنها، والمتأمِّلُ في دعوةِ الأنبياء عليهم الصلاة والسلام مع أقوامهم يلمسُ هذه السنة بوضوحٍ وجلاءٍ، فالنبيُّ صلى الله عليه وسلم تعامَلَ مع هذه السنة، وظهرت جلياً في الفترة المدنية مع حركة السَّرايا والبعوث والغزوات التي خاضها النبيُّ صلى الله عليه وسلم ضدَّ المشركين. وهذه السنّةُ متعلقةٌ تعلّقاً وطيداً بالتمكين لهذا الدين، وقد أشار الله تعالى إليها في كتابه العزيز، وجاء التنصيصُ عليها في قوله تعالى: {وَلَوْلاَ دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ *} [البقرة: 251]. وفي قوله تعالى: {الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلاَ دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ *} [الحج: 40].

ونلاحظ في اية البقرة: أنّها جاءت بعد ذكر نموذج من نماذج الصراع بين الحق والباطل، المتمثّل هنا في طالوت وجنوده المؤمنين، وجالوت وأتباعه، ويذيِّل الله تعالى الاية بقوله {وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ *} [البقرة: 251] مما يفيد أنَّ دفعَ الفسادِ بهذا الطريق إنعامٌ يعمُّ الناسَ كلَّهم، وتأتي ايةُ الحجِّ بعد إعلان الله تعالى أنه يدافع عن أوليائه المؤمنين، وبعد إذنه لهم سبحانه بقتال عدوِّهم، ويختتم الايةَ بتقريرٍ لقاعدة أساسية: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ *}. لقد أدرك الصحابةُ هذه السنة، وعلموا أنَّ القضاء على الباطل وتدميره، لابدّ له من أمةٍ لها قيادة ومنهج، وقوة تدمغ الباطل وتزهقه، وأيقنوا أنَّ الحقَّ يحتاجُ إلى عزائم تنهضُ به، وسواعد تمضي به، وقلوب تحنو عليه، وأعصابٌ ترتبط به، لقد علّمهم النبيُّ صلى الله عليه وسلم كيف يتعاملون مع هذه السنة، فاستجابوا لأمرِ الله تعالى عندما أمرهم بالجهادِ في سبيله، فقد شرع الله عز وجل الجهادَ لهذه الأمة، وجعله فريضةً ماضيةً إلى يوم القيامة، لا يبطله جورُ جائرٍ، ولا عدلُ عادلٍ، وما تركه قومٌ إلا أذلهم الله، وسلّط عليهم عدوَّهم، وقد شرع الله عز وجل الجهادَ على مراحل، ليكونَ أروض للنفس، وأكثرَ ملاءمةً للطبع البشري، وأحسنَ موافقةً لسير الدعوة وطريقة تخطيطها.

هذه بعض السنن التي نلاحظها في دراسة دعوة الأنبياء والرسل. وفي إدراكنا للسنن الربانية فوائدُ عظيمة، حتى لو لم نقدر على تفادي حدوثها، والنجاة منها، حيث يعطينا هذا الإدراكُ والمعرفةُ صلابةً في الموقف، بخلاف مَنْ يجهل مصدر الأحداث، فإنّ الذي يعلم تكون لديه بصيرةٌ وطأنينةٌ، أما الذي يجهلُ فليس لديه إلا الحَيرةُ والخوف والقلق.
هذه السنن الشرعية إنّما تدرك من خلال النظر في التاريخ، وملاحظة مصائر الأمم، وقيام الحضارات وسقوطها وأسبابُ ذلك، والسنن الربانية تجيءُ في القران غيرَ محدّدة، لكي تشملَ على أكبر قدرٍ من الوقائع

السنن الربانية نوعان: سنن خارقة، وسنن جارية:

فالسنن الخارقة: هي التي يجريها اللهُ على خلاف مألوف الناسِ على يد رسولٍ من رسله، تأييداً من الله له بتلك المعجزة، كما حوّل العصا حيةً في يد موسى عليه السلام، قال تعالى: {قَالَ أَلْقِهَا يَامُوسَى *فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هَيَ حَيَّةٌ تَسْعَى *} [طه: 19 ـ 20].
وكما أنبع الماءَ من الصخرةِ عندما ضربها موسى بعصاه، قال تعالى: {وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَومِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْناً} [البقرة: 60].
والسنة الجارية نوعان: سنةٌ متعلقة بالأمورِ الطبيعية، كسنة الله في تعاقب الليل والنهار، والشمس والقمر، فهي تجري وفقَ ناموسٍ محدّدٍ قدَّره الله لها، وسنة متعلقة بدين الله، وأمره ونهيه، ووعده ووعيده، فهي ثابتةً لا تتبدّل، مثل نصره لأوليائه، وإهانته لأعدائه، كما أنّه سبحانه وتعالى إذا حكم في الأمور المتمثلة بحكمٍ، فإنّ ذلك لا ينتقض ولا يتبدّل ولا يتحوّل، فهو سبحانه لا يفرّق بين المتماثلين، وإذا وقع تغييرٌ فذلك لعدم التماثل، كما أنّ من سنته التفريقَ بين المختلفين، كما دلَّ على ذلك القران، قال تعالى: {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ *} [القلم: 35].

ومن هذا الباب صارت قصصُ المتقدّمين عبرةً لنا، ولولا القياسُ واطراد فعله وسنته لم يصحَّ الاعتبارُ بها، لأنّ الاعتبارَ إنّما يكونُ إذا كان حكمُ الشيء حكمَ نظيره كالأمثال المضروبة في القران، فهذه السنن الشرعية إنّما تدرك من خلال النظر في التاريخ، وملاحظة مصائر الأمم، وقيام الحضارات وسقوطها وأسبابُ ذلك، والسنن الربانية تجيءُ في القران غيرَ محدّدة، لكي تشملَ على أكبر قدرٍ من الوقائع، وتلامسَ أكبرَ عدد من التفاصيل، والجزئيات. كما أنّ معرفة السنن الربانية تفرضُ على الجماعة الواعية المدركة والملتزمة أن تتجاوزَ مواقع الخطأ التي قادت الجماعات البشرية السابقة إلى الدمار والهلاك، وأن تحسنَ التعامل مع تلك السنن، ومع قوى الكون، مستمِدّةً ذلك من منهج الله الذي سار عليه أنبياؤه ورسله صلوات الله وسلامه عليهم.
يمكنكم تحميل -سلسلة أركان الإيمان- كتاب:

الإيمان بالرسل والرسالات

من الموقع الرسمي للدكتور علي محمَّد محمَّد الصَّلابي

http://alsallabi.com/s2/_lib/file/doc/Book94(1).pdf

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق