( على الولايات المتحدة تحديد القواعد، واتخاذ القرارات، وعلى الدول الأخرى اتباع القواعد التي تضعها أميركا وشركاؤها لا العكس) باراك أوباما. 
أحدثت هجمات سبتمبر تطورات دراماتيكية عالمية عقب تقويضها نظرية الأمن الأميركي التي استندت إلى لعب المحيطات دور العازل لأي تهديدات خارجية للعمق الأميركي. ومن ثم ردت أميركا بتقسيم العالم إلى قسمين ( إما معنا أو ضدنا) حسب تعبيرات بوش. وأعلنت تدشين حرب عالمية ضد الإرهاب دون تحديد نطاقها الزماني أو المكاني. وبدأت هذه الحرب بغزو أفغانستان في عام 2001، في ظل بيئة شديدة التعقيد محليا نظرا للتنوع القبلي والعرقي، فضلا عن وجود دول مجاورة فاعلة في المشهد الأفغاني مثل باكستان وإيران والصين وروسيا والهند.
وكذلك تبنت إدارة بوش مبدأ الحرب الاستباقية والذي يقضي بشن الحرب ضد أي دولة قد تمثل خطرا على الأمن الأميركي، وفي هذا السياق تم غزو العراق في عام 2003 بدعوى حيازته لأسلحة دمار شامل وارتباط نظام صدام حسين بتنظيم القاعدة. 
وخلال تلك المرحلة تحركت أميركا بشكل أحادي، وانتهجت سياسات أسفرت حسب  مستشار الأمن القومي الأميركي السابق زبغنيو بريجنسكي (عن زيادة حدة التصدعات العالمية. وتعزيز موقع إيران الإقليمي، وتوريط أميركا في حرب عالمية غير متناهية… مما سرع من وتيرة تجريد سياسة أميركا الخارجية من الشرعية، ثم جاءت الأزمة المالية العالمية في عام 2008 لتزعزع الثقة في قدرة الولايات المتحدة على إدامة قيادتها للاقتصاد العالمي). وفي ظل تلك الأجواء جرى فتح أبواب مجموعة الثمانية في عام 2008 أمام انضمام أعضاء جدد من أسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية لتصبح مجموعة العشرين هي المجموعة الأكثر تمثيلا لتوزيع القوة العالمي.

حرب العراق 2003

أثبتت حرب العراق انقراض ظاهرة تمكن الدول الكبرى من احتلال دول أصغر ضعيفة التسليح وذات كتل سكانية كبيرة بخسائر زهيدة. وأكدت أن تلك النوعية من الحروب صارت مكلفة للغاية في ظل انتشار الأسلحة الخفيفة ووسائل تصنيع العبوات الناسفة والمتفجرات. وقد نتج عن غزو العراق تصاعد ظاهرة التيارات الجهادية، والتي وصلت ذروتها بنموذج تنظيم الدولة الإسلامية الذي سيطر على مساحات شاسعة بالعراق والشام لعدة سنوات.

ثورات الربيع العربي:

على امتداد الجزء الأكبر من التاريخ كانت الجماهير تعيش في حالة من العزلة السياسية النسبية. وأسفرت التطورات التقنية بدءا من اختراع المطبعة ثم الراديو والتلفاز وصولا إلى الانترنت عن تزايد مشاركة الشعوب في الشأن العام. وفي العالم العربي عجزت الحكومات الاستبدادية عن الوفاء بالحد الأدنى من حاجيات مواطنيها. فوصل الاستبداد السياسي إلى ذروته بالتوازي مع تردي الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية مما دفع الجماهير للخروج إلى الشوارع في ثورات مفاجئة بتونس ومصر وليبيا وسوريا واليمن ضمن الموجة الأولى من الثورات. وفي السودان والجزائر ضمن الموجة الثانية في نهاية عام 2018. ورغم الثورات المضادة التي رعتها بعض الدول الخليجية مثل الإمارات والسعودية إلا أن المنطقة العربية مازالت على صفيح ساخن.
وقد شهدت المنطقة تفكك العديد من الأنظمة بشكل يهدد النظام الدولي ذاته. وهو ما عبر عنه بشكل دقيق وزير الخارجية الأميركي السابق هنري كيسنجر قائلا (عندما لا تكون الدولة محكومة بكليتها، يبدأ النظام الدولي أو الإقليمي نفسه بالتفكك… مناطق اللاحكم أو الجهاد تمتد الآن عبر العالم  الإسلامي تاركة بصماتها على ليبيا، مصر، اليمن، غزة، لبنان، سوريا، العراق، أفغانستان، باكستان، نيجيريا، مالي، السودان، الصومال… إن جزءا كبيرا من مساحة العالم وكتلته السكانية بات على حافة الانزلاق إلى خارج النظام الدولي القائم على أساس كيانات الدول، بكل ما في تلك العبارة من معنى).

الصعود الأسيوي والصيني:

على امتداد ثمانية عشر قرنا كانت آسيا تساهم بنسبة 60% من إجمالي الناتج العالمي مقابل 30% لأوروبا، ولم تتدهور تلك النسبة سوى في القرنين التاسع عشر والعشرين. وفي ظل انخراط أميركا في الحرب ضد الإرهاب، عملت الدول الأسيوية وبالأخص الصين على تطوير نشاطها الاقتصادي ومد نفوذها إلى العديد من المناطق الحيوية بالعالم. حيث زادت الصين من حجم تجارتها مع أفريقيا من 10 مليارات دولار عام 2000 إلى 107 مليار دولار عام 2010. وكذلك أعلنت الصين عن مبادرة (حزام واحد، طريق واحد) التي تريد من خلالها إحياء طريق الحرير القديم. وهو مشروع تقدر قيمته بألف مليار دولار، ويهدف إلى إقامة حزام بري من السكك الحديدية والطرق عبر آسيا الوسطى وروسيا، وطريق بحري يسمح للصين بالوصول إلى أفريقيا وأوروبا عبر بحر الصين والمحيط الهندي. ويتضمن المشروع كذلك بناء طرق ومرافئ وسكك حديد ومناطق صناعية في 65 بلدا. أما على المستوى العسكري التقني فقد نجحت الصين في عام 2007 بإطلاق صاروخ تمكن من تدمير أحد أقمارها الصناعية. وكذلك تحتل الصين المركز الثاني عالميا في قائمة الإنفاق العسكري. كما تمثل الكتل السكانية الأسيوية الهائلة، وامتلاك الصين والهند وباكستان لأسلحة نووية عوامل قوة لا يمكن تجاهلها.
وحسب تعبيرات بريجنسكي فإن النمو الاقتصادي الصيني والتجديد التكنولوجي، وتحرر الصين من الالتزامات الخارجية المرهقة، وتزايد قوتها العسكرية باستمرار يضعها في الترتيب التالي بعد أميركا على سلم القوة العالمي. 

الوهج الروسي

رغم انحصار روسيا من الشرق بالصين واليابان، ومن الغرب بالقوى الأوروبية إلا أنها تحتل مكانة عالمية بسبب احتياطاتها الوفيرة من النفط والغاز، ومخزونها الكبير من الأسلحة النووية. وقد أدت مساعي الغرب لضم أوكرانيا وجورجيا للاتحاد الأوروبي إلى شن روسيا لحرب على جورجيا في عام 2008، واستقطاعها شبه جزيرة القرم من أوكرانيا في عام 2014 مما دفع أميركا وحلفائها الأوروبيين إلى فرض عقوبات على روسيا. وقد مثلت الثورة السورية فرصة أمام روسيا لامتلاك أوراق جديدة. فانخرطت في الحرب بسوريا لتحقيق عدة أهداف مثل: الحفاظ على مدخلها الوحيد إلى مياه البحر الأبيض المتوسط، ومنع الجماعات الجهادية من إقامة قواعد تهدد المصالح السوفيتية في سوريا وآسيا الوسطى فضلا عن حماية نظام بشار الحليف لها.

التراجع الأميركي

تحظى أميركا بمؤشرات متقدمة من حيث أبعاد القوة العسكرية والاقتصادية والتكنولوجية والمالية. فهي تمتلك قوات عسكرية منتشرة في أنحاء العالم، وتتمتع بميزانية عسكرية ضخمة تفوق موازنات الدول التالية لها مجتمعة، ولديها تكنولوجيا متطورة ، ونفوذ مالي هائل. ولكنها انخرطت في حروب استنزفت هيبتها وأدمت اقتصادها، فحرب أفغانستان تدخل حاليا عامها التاسع عشر لتصبح أطول حرب تخوضها أميركا في تاريخها، حيث تجاوزت حرب فيتنام التي استمرت ثمان سنوات ونصف. ورغم ذلك لم تكلل بالنجاح المتصور حيث تنخرط أميركا حاليا في مفاوضات مع طالبان مع أجل الاتفاق على ترتيبات الانسحاب الأميركي من أفغانستان.
وقد أدى التوزيع المتغير للقوة العالمية، وتنامي ظاهرة اليقظة السياسية الجماهيرية، وبروز  التحدي الاقتصادي الصيني لأميركا إلى تهديد استمرار هيمنة أميركا على النظام الدولي. فالنظام الذي فرضته أميركا بعد الحرب العالمية الثانية عبر شبكة من المؤسسات والمبادئ والقواعد يتعرض حاليا لمخاطر التقويض بسبب تراجع مشروعيته في أعين العديد من الدول الأخرى والتي ترى أن أميركا تتمتع بوضع خاص داخل النظام الدولي، حيث تحتفظ بحق انتهاك قواعده عندما ترى أن من الضروري التصرف بشكل حاسم للدفاع عن مصالحها بينما تعاقب الدول الأضعف عندما تخرق قواعد النظام المتفق عليها. وبالتالي تزايدت الدعوات لإجراء إصلاحات في المؤسسات الدولية تكفل مصالح مجموعة أكبر من الدول.
كما تساهم السياسات التي يتبناها ترامب حاليا في تقويض التحالف الأميركي الأوروبي، وتوتير الأجواء بالشرق الأوسط، وزيادة العداء مع الصين. ويحدث ذلك بالتوازي مع خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، واهتزاز مشروع الاتحاد الأوروبي ذاته، وتصاعد السخط المجتمعي بفرنسا، وتنامي نفوذ اليمين الديني والاتجاهات العنصرية في ألمانيا وغيرها من الدول الأوروبية على خلفية تصاعد ظاهرة الهجرة غير الشرعية. وهو ما يضفي مزيد من الفوضوية، ويهدد باندلاع حروب تعيد رسم معالم النظام الدولي. 

المصادر:

  1. (رؤية استراتيجية-  أميركا وأزمة السلطة العالمية) زبغنيو بريجنسكي – دار الكتاب العربي، 2012. 
  2. (النظام العالمي- تأملات حول طلائع الأمم ومسار التاريخ) هنري كيسنجر – دار الكتاب العربي، 2015. 
  3. ، خيارات بديلة للسياسة الأمريكية نحو النظام الدولي، ط1(كاليفورنيا، مركز راند،2017).