متى تغيّر مصر صورة البوفايل؟
منذ اليوم الأول لتولي عبد الفتاح السيسي ملف سد النهضة، وهو يلهو بسذاجةٍ في منطقة رد الفعل، تاركًا الفعل كله للإثيوبيين، لتصبح المعادلة قائمة على الأساس التالي: إثيوبيا تفعل والسيسي يتكلم.. إثيوبيا تقرر والجنرال يتسول.. إثيوبيا تقفز إلى الأمام والسيسي يغوص في الحضيض.
قلت عشرات المرات إن الممسك بالسلطة في مصر أظهر للإثيوبيين، منذ اللحظة الأولى، أن مصر بلا حول أو حيلة فيما يخص تقرير مصير نهر النيل.
وأقصى ما يمكن أن تقوم به هو الشكوى والصراخ، أو الظهور في لقطاتٍ عبثيةٍ على المسرح تطلب من إثيوبيا أن تحلف وتقسم بالله أنها لن تجور على حصة مياه النهر التي تتفضل بها على عبد الفتاح السيسي.
الحكاية ببساطة أن الأمم لا تكون مهيأة للحرب، و للسلام، إذا لم يكن حاصل جمع مكوناتها البشرية والجغرافية والاجتماعية واحدًا صحيحًا، ولا تكون قادرةً على حسم، أو إدارة صراع خارج حدودها، إذا كانت غارقةً في صراع مع نفسها في الداخل، وتضع أبناءها المخلصين في صدارة لائحة أعدائها اللدودين، وبالتالي تهدر معظم قدراتها المادية في الحرب على نفسها.
وعن مصر حدث ولا حرج، فالدولة مشغولة بالحرب على المواطن المصري، تشويه وتسلخه في جحيم الغلاء والضرائب والسياسات المنحازة لتلك الأقلية الصغيرة التي تمصّ دم الأغلبية المسحوقة المطحونة تحت عجلات اقتصاد متوحش، وسياسة أكثر توحشًا ونهمًا لالتهام الحريات العامة والخاصة.
مصر تحارب فقراء الوراق، وتحارب سكان سيناء الأصليين، وتحارب السجناء والمعتقلين، وتطلق عليهم جحافل وباء كورونا وهم في قيودهم داخل الزنازين، ولا تستمع لاستغاثات وصرخات تقول افتحوا الزنازين قبل أن يفتك الوباء بكل من داخلها.
هل عرف التاريخ دولةً تستطيع أن تحارب خصومها الخارجيين، بينما تحتشد بكامل طاقتها لمنع إدخال الليمون والدواء للسجناء الذين يواجهون الوباء وحدهم؟
هل دولة تعادي كاتبًا مثل محمد منير، وتحاربه بالقوة الباطشة حتى الموت، يمكن أن يصدّق أحد أنها جادّة في خوض حروبها المصيرية على الجبهة الخارجية؟
قلت سابقًا إن الإثيوبيين لن يحسبوا حسابًا لمصر في مشروع سد النهضة، ما دامت مصر منقسمة إلى مصريْن وشعبيْن متحاربيْن، وهي الحالة التي لا يدّخر السيسي وسعًا في تكريسها واقعًا وحيدًا وبليدًا. وبدلًا من محاولة الوصول بالوطن إلى حالةٍ من السلامة العقلية والنفسية، يستمر تغييب العقل وتدمير الوجدان الجمعي، وإظهار البلاد وكأنها في لوثةٍ تثير الضحك المرّ على ما يفترض أنها استراتيجيات مواجهة خطر اختطاف أديس أبابا نهر النيل، بالإعلان رسميًا عن بدء تعبئة خزّان سد النهضة.
في ردود الأفعال المصرية على الخطوة الإثيوبية تجد التالي: جسر جوي لنقل مشايخ وأعيان ووجهاء ليبيا إلى مصر، كي يظهروا في لقطاتٍ، تشبه لقطات الجنرال في مؤتمرات شبابه الاصطناعي، وذلك لإظهار العين الحمراء لأردوغان، كما يصوّر أبواقه الوطنيون جدًا المسألة.
تقرأ أيضًا: بعد تداول أنباء عن البدء في ملء خزان سد النهضة في إثيوبيا، وإعمالًا للقاعدة الشرعية "الضرر يزال"، أكدت لجنة الفتوى الرئيسة في مجمع البحوث الإسلامية التابع للأزهر الشريف أن من حق الدول المضارة أن تتخذ كل ما من شأنه إزالة هذا الضرر عنها، وبما يمكّن هذه الدول من المحافظة على حقوقها بكل الوسائل التي تراها مناسبة.
اكتشاف مذهل بالطبع من المجمع التابع للأزهر الشريف، لا يقل في أهميته عن إعلان دار الإفتاء المصرية الجهاد ضد إثيوبيا وتسيير حملة تغيير البروفايل على موقع التواصل الاجتماعى: "أدعم الدولة المصرية شارك في حملة دار الإفتاء المصرية لدعم مصر غير صورة بروفايلك".
هذا العبث الرسمي في موضع الجد لن يقوّي الروح المعنوية ولن يشحن الهمم والعزائم، بل يوصل رسائل إضافية إلى الداخل والخارج بأن حالة عبث قومي تعصف بمصر الكبيرة التي انخفض بها الصغار إلى حضيضٍ صارت تبدو معه أقل من أن تخوض معركة حقيقية.
الحاصل أن عبد الفتاح السيسي، منذ سطوه على السلطة، هو الذي غير صورة بروفايل مصر أمام العالم، لتكون على هذا النحو من المهانة والانسلاخ من دورها وهويتها، وتقدم وجهًا مخيفًا، وتتنازل صاغرةً عن بعض ترابها الوطني المقدس، فكيف يصدّق الآخرون أنها جادّة أو صادقة في التمسّك بنهرها المقدس؟
إن مصريًا حقيقيًا واحدًا في الداخل أو في الخارج لا يمكن أن يقف على الحياد، إذا كان الوطن يواجه خطرًا وجوديًا أو يمسّ أحد بكرامته وكبريائه، غير أنه من المهم في هذه اللحظة الدقيقة التمييز بين الوطن، بوصفه كيانًا مقدسًا، وحثالاتٍ تبتز الوطن والمواطن في سعيها المحموم إلى التكسّب من الاتجار في نوع فاسد من الوطنية الزائفة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق