نظرات وعبرات
محمود عبد الهادي
ما زال السؤال القديم يتجدد باستمرار، كلما استجدت كارثة، وانفجر صراع، وتعقدت الأوضاع، وتفاقم العجز والفساد، وتراكم التخاذل والانهزام:
متى ينتهي هذا الفصل المظلم من تاريخ أمتنا العربية؟
متى ينتهي الاستبداد ليفتح الباب واسعا أمام العدالة والتنمية والتطور وإطلاق الإبداع ومد جسور التعاون والتكامل بين أجزاء الأمة المتناحرة؟
إن ما تشهده المنطقة العربية في المرحلة الراهنة فيما بينها من الصراعات والانقسامات والتشرذمات والبطش والقتل والتنكيل شيء لا يصدقه عقل، وبصورة منفردة لا تجد لها مثيلاً في العالم، وقد ذكرنا سابقاً أن المسؤول عن هذا كله هو الاستبداد، فكيف لنا أن نتخلص من هذا الغول الذي يجثم على صدر الأمة منذ عقود طويلة أذاقها فيها أصناف المرارة والشقاء؟ وللإجابة عن هذا السؤال لا بد لنا من التعرف على الطرق والأساليب المستخدمة سابقًا وحاليًّا لتحقيق ذلك.
طرق التخلص من الاستبداد
شهدت المنطقة العربية على مدار السبعين عامًا الماضية، العديد من الطرق والأساليب التي لجأ إليها أصحابها للاستيلاء على السلطة، سواء للتخلص من الاستبداد أو لغيره من الأسباب، وأبرز هذه الطرق ما يأتي:
1- الانقلابات العسكرية
حوالي 125 انقلابًا ومحاولة انقلابية شهدتها الدول العربية منذ الاستقلال حتى الآن، منها 40 انقلاباً ناجحاً وأكثر من 80 محاولة فاشلة، لم تسفر أي واحدة منها عن الإصلاح والتنمية والانتقال بالدولة والأمة إلى المكانة المنشودة، لم تكن جميعها بهدف التخلص من الاستبداد، فكثير منها كان بغرض الاستيلاء على السلطة؛ بل بعضها كان انقلاباً على المحاولات المعدودة للتحول الديمقراطي، مثل انقلاب الفريق إبراهيم عبود على الحكومة الديمقراطية الائتلافية بين حزبي الأمة والاتحادي في السودان عام 1958، وانقلاب الفريق عمر حسن البشير على حكومة الصادق المهدي الديمقراطية عام 1989، وانقلاب الفريق عبد الفتاح السيسي على الرئيس الديمقراطي محمد مرسي أول رئيس مصري منتخب.
والانقلابات هي الطريقة الأكثر شيوعًا نظرًا لسهولة تنفيذها وقدرتها على الحسم، وسرعة سيطرتها على السلطة في حال نجاحها، وقد شهد العديد من الدول العربية العديد من الانقلابات العسكرية، في اليمن وليبيا والسودان والعراق وسوريا والجزائر وتونس، وحتى الأنظمة الوراثية لم تسلم من ذلك.
عادة يُلجأ إلى هذه الطريقة في المرحلة الأخيرة من عمر النظام المستبد، وتكون من داخل النظام نفسه على أيدي القوات المسلحة أو الأجهزة الأمنية، على غرار انقلاب الرئيس التونسي الأسبق زين العابدين بن علي على سلفه الرئيس الحبيب بورقيبة عام 1987، أو عن طريق مجموعات مناوئة تخفي نفسها داخل أجهزة النظام في انتظار الفرصة المناسبة للتخلص منه، على غرار انقلاب المشير عبد الرحمن سوار الذهب على الرئيس السوداني الأسبق جعفر نميري عام 1985.
40 انقلابًا شهدتها الدول العربية منذ الاستقلال، لم يسفر أي منها عن الإصلاح والتنمية والانتقال بالدولة والأمة إلى المكانة المنشودة؛ بل لم تكن جميعها بهدف التخلص من الاستبداد، فكثير منها كان لمجرد الاستيلاء على السلطة بدوافع أيديولوجية، وبعضها كان انقلابًا على الديمقراطية، وسرعان ما يقوم الانقلابيون بإعادة إنتاج الاستبداد القديم بأسماء ووجوه جديدة، وبشعارات براقة، لا يلبث الشعب أن يكتشف زيفها وخداعها، ويستسلم لقمعها وبطشها.
وسرعان ما يقوم الانقلابيون بإعادة إنتاج الاستبداد القديم بأسماء ووجوه جديدة، وبشعارات براقة، لا يلبث الشعب أن يكتشف زيفها وخداعها، ويستسلم لقمعها وبطشها، وقد كان انقلاب المشير سوار الذهب في السودان عام 1985 هو الاستثناء الوحيد في تاريخ الانقلابات العربية التي لم تخلّف نظام استبداديًا جديدًا، وإنما أسس لمرحلة ديمقراطية تنقل السلطة إلى الأحزاب السياسية عن طريق صناديق الانتخابات.
2- المواجهة السياسية
في هذا السيناريو، تبدأ بعض الطلائع النخبوية اليمينية أو اليسارية، المنظمة أو المستقلة بمعارضة النظام وتدعو إلى إسقاطه واستبداله، وتحث الجماهير على مواجهته مستعينة بوسائل سلمية كفلها لها القانون والدستور، مثل حرية الرأي والتعبير والتظاهر؛ لكن النظام المستبد المهيمن على كل شيء، لا يعترف بهذه الحقوق، ولا يقبل هذه الأعمال خشية أن تؤدي إلى انهياره، فيشدد الخناق على المعارضة، ويمارس ضدها كافة أنواع البطش والتنكيل، ويوجه لها أشد الاتهامات من العمل على تقويض الأمن وزعزعة الاستقرار، إلى خيانة الوطن والعمل لحساب جهات خارجية، ويصدر بحقها أحكامًا مشددة بالأعمال الشاقة أو السجن المؤبد، وأحيانًا الإعدام المباشر أو غير المباشر.
وإزاء هذه القمع ينتشر الرعب في صدور من بقي خارج السجون من المعارضة، فتهدأ أنشطتها الداخلية، وتتسلل إلى خارج الدولة لتبدأ المعارضة من الخارج بقوة حيث لا تصل إليها قبضة النظام الحديدية، وتبدأ بالعمل على فضح ممارسات النظام الاستبدادية والتعريف بجرائمه الإنسانية، طمعًا بكسب اهتمام المنظمات الدولية والحقوقية والدول ذات التأثير السياسي الكبير في المجتمع الدولي.
لم تفلح المواجهة السياسية في إسقاط أيِّ نظام مستبد حتى الآن، سواء من الداخل أو من الخارج، حيث يتحول الداخل إلى جحيم يطارد المعارضة في كل زاوية من زوايا الوطن، ويتحول الخارج إلى مأوى يستثمر وجود المعارضة لتحقيق مصالحه في الضغط على النظام المستبد لتقديم المزيد من التنازلات السياسية والأمنية والعسكرية والاقتصادية.
ورغم تكرارها وتعدد نماذجها، في مصر والعراق وسوريا والسعودية والمغرب والجزائر وتونس والسودان واليمن.. لم تفلح هذه المواجهة السياسية في إسقاط أي نظام مستبد حتى الآن، سواء من الداخل أو من الخارج، ليتحول الداخل إلى جحيم يطارد المعارضة في كل زاوية من زوايا الوطن، ويتحول الخارج إلى مأوى يستثمر وجود المعارضة لتحقيق مصالحه في الضغط على النظام المستبد لتقديم المزيد من التنازلات السياسية والأمنية والعسكرية والاقتصادية.
3- المواجهة المسلحة
في كافة التجارب التي شهدتها المنطقة العربية أثبتت هذه الطريقة فشلها في التخلص من النظام المستبد، وهذه الطريقة هي الأشد وطأة على الدولة التي تصبح مهددة بفقدان أمنها الاستراتيجي، وعلى الشعب الذي يدفع ثمن المواجهات المسلحة، أما النظام المستبد فيستغل ورقة المعارضة المسلحة لتعزيز سلطته وتأكيد مصداقيته أمام الشعب في أنه يواجه مجموعات إرهابية عميلة تنفذ مخططات أجنبية تستهدف استقرار الوطن وأمن المواطنين.
تتحول المعارضة المسلحة إلى ساحة مفتوحة لاستخبارات الدول الإقليمية والدولية وأجنداتها المتضاربة، ومصالحها المتشابكة، فالمعارضة في هذه الحالة بحاجة إلى المال والسلاح والتأييد السياسي، وجميعها بيد القوى الإقليمية والدولية التي لا تقدم شيئًا منها دون مقابل، وسرعان ما تتوارى أهداف المعارضة في إسقاط النظام المستبد وراء أهداف وأجندات الأطراف الإقليمية والدولية التي تدير المشهد، وتتحكم في سير الأحداث.
ومن جهة ثانية تتحول المعارضة إلى ساحة مفتوحة لاستخبارات الدول الإقليمية والدولية وأجنداتها المتضاربة، ومصالحها المتشابكة، فالمعارضة في هذه الحالة بحاجة إلى المال والسلاح والتأييد السياسي، وجميعها بيد القوى الإقليمية والدولية التي لا تقدم شيئًا منها دون مقابل، وسرعان ما تتوارى أهداف المعارضة في إسقاط النظام المستبد وراء أهداف وأجندات الأطراف الإقليمية والدولية التي تدير المشهد، وتتحكم في سير الأحداث، والشواهد الراهنة من حولنا كثيرة، في مصر والعراق واليمن وليبيا وسوريا، والنتائج الكارثية التي خلفتها هذه المواجهات المسلحة -ما زالت- أكثر من أن تحصى.
4- الثورة الشعبية
الثورة الشعبية مصطلح مضلل، والصحيح أنها حراك شعبي عفوي، يتسم بالفوضى والارتجال، ويفتقد إلى التنظيم، ويسيطر عليه الانفعال والغضب، وهو سريع الخوف وغير مستعد للتضحية، ولا يمكن لحراك على هذه الحال أن يقود ثورة قادرة على إسقاط نظام حكم مستبد شديد البطش مدجج بالأجهزة الأمنية والقوة العسكرية.
وهو ينشأ عادة عن ردة فعل عامة يقوم بها الشعب احتجاجًا على بعض ممارسات النظام، أو على فشله في توفير الحاجات الأساسية للشعب، وهذا الحراك لا يهدف إلى إسقاط النظام المستبد، إنما يسعى إلى تحقيق مطالبه ومعالجة مشكلاته.
الحراك الشعبي يتسم بالعفوية والفوضى والارتجال وقصر النفس، ويفتقد إلى التنظيم، ويسيطر عليه الانفعال والغضب، وهو سريع الخوف وغير مستعد للتضحية، ولا يمكن أن يقود ثورة قادرة على إسقاط نظام حكم مستبد شديد البطش، إلا إذا تم استغلاله وقيادته عن طريق قوى داخلية منظمة قادرة على المواجهة والتضحية والتمويل، أو عن طريق قوى خارجية إقليمية ودولية تريد إسقاط النظام، ما يؤدي في النهاية إلى إعادة إنتاج النظام المستبد على مقاس القوى أو الدول الراعية للثورة الشعبية.
هذا الحراك الشعبي يُستغلُّ مع قيادته عن طريق قوى داخلية منظمة تتوفر لديها القدرة على المواجهة والتضحية والتمويل في سبيل إسقاط النظام، أو عن طريق قوى خارجية إقليمية ودولية تريد إسقاط النظام، وهذه الطريقة ستؤدي في النهاية إلى إعادة إنتاج النظام المستبد على مقاس الدول الراعية للثورة الشعبية، ومن ذلك ما شهدناه فيما يُسمى (الربيع العربي)، ومؤخرًا في السودان، وقد رأينا النتائج المفجعة التي خلفتها هذه الطريقة في الدول التي شهدتها.
هذه هي الطرق الأبرز التي شهدتها المنطقة العربية وجربتها القوى والكيانات السياسية على مدى أكثر من 70 عامًا في محاولاتها للتخلص من الاستبداد، وكان من نتائجها ما شهدنا -وما زلنا نشهده– من الكوارث والمآسي والهزائم والتراجع والفشل، فهل نستمر في تجربة هذه الطرق من جديد لسبعين عامًا أخرى، أم نبحث عن طرق جديدة، أقل في خسائرها وأقدر على تحقيق أهداف المنطقة وشعوبها؟
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق