وفي مالي إمام يقود حراكا!!
بقلم: عبد الرزاق كابا الغيني Abdul Razziq Kaba
في 25 من الشهر المنصرم شاء الله أن أستمع لأول مرة إلى الإمام ديكو، الإمام المالي الشهير الذي يقود حراكا منذ أسابيع ضد الحكومة المالية التي يترأسها الرئيس إبراهيم أبوبكر كيتا (بوا) العجوز المالي الذي قضى معظم حياته متعلما في الجامعات الفرنسية، متجولا على شوارع باريس، حاضرا في أنديتها الأفريقية ذات الصبغة الاشتراكية، فهناك كان التجمع الاشتراكي الأفريقي وعلى رأسهم الرئيس الغيني الحالي ألفا كوندي، وزملاؤه الذين يفضل غالبا تسميتهم بأشقائي الكبار أو الصغار (Mes jeunes/ grands frères ) ومنهم محمد يوسفو النيجري، وإبراهيم بوبكر كيتا المالي، ولوران غباغبو العاجي كانوا يحدثون أنفسهم بأنهم الامتداد الصحيح، والأبناء الشرعيين، والأحفاد الأوفياء، والورثة البررة لآباء الاستقلال الأفريقي من سيكو توري، ، وباتريس لومومبا، وانكوامي نكروما، كان مبررهم الكبير لدعوى التوريث الثوري والاستقلالي الأفريقي هو ما بين الاشتراكية والشيوعية من علاقة ايدلوجية، ولا شك أن آباء الاستقلال قد تشبع كثير منهم من الأولى، بينما رضعوا ولو رذاذا من الثانية.
لقد رجعت الجماعة الاشتراكية الأفريقية الفرنسية إلى ديارهم، وبين 30 سنة الماضية حصلت تجاذبات سياسية كثيرة، وتمكن بعضهم من الوصول إلى أعلى هرم سياسي في دولهم، وصل كثير منهم إلى السلطة وقد أحكموا إعطاء الشعب عقارات التنويم المغناطيسي، أمنيات ووعود بالاستقلال السياسي الحقيقي، مراعاة المصالح الأفريقية في مواجهة النفوذ الفرنسي، أو ما أطلق عليه الرئيس الغيني “Couper le cordon ombilical avec la France” ويعني بالترجمة الحرفية “قطع الحبل السري (بضم السين) مع فرنسا” بعد مرور ما يربو على نصف عقد في السلطة تبين أن مواعيد الجماعة كانت مواعيد عرقوب، وأن جعجعتهم السياسية حيال النفوذ الفرنسي لم يكن يحمل طحينا، وأنصارهم الذين انتخبوهم رجعوا اليوم بخفي حنين. فاليوم وفي غينيا تجرى مظاهرات عارمة ضد الرئيس وحكومته في أقوى وأكبر المدن ولاء لحزبه بسبب وعودهم الفارغة في توفير البنى التحتية وعلى رأسها الكهرباء.
لنعود إلى الإمام الثائر محمود ديكو، في عام 1980 تقريبا يرجع الإمام إلى مالي بعد دارسته بالمدينة المنورة ليبدأ دعواته الإصلاحية، فيكتسب شعبية ويحظى بثقة المجتمع واحترام أطياف مختلفة من الشعب، ويرجع إبراهيم بوبكر كيتا إلى مالي عام 1986 من فرنسا، ومنذ ذلك الوقت والرجلان يشاركان بطريقتهما الخاصة في خدمة بلدهما على جبهات مختلفة، وفي 2001 يؤسس كيتا حزبه السياسي، ولنزاهة محمود ديكو، وحنكة إبراهيم بوبكر كيتا يلتقى هوى الرجلين، فيضع الديني ديكو ثقته في السياسي كيتا، فيناصره في حملته الانتخابية عام 2013م، فيصل الأخير إلى السلطة، ثم يتبين بعد فترة غدر السياسي لوعوده، وخيانته لشعبه، وخرقه للمواثيق والعهود، فتشتعل نيران الإعتراك بين الرجلين. فمن هنا يبدأ الإمام يقود حراكا ضد حليفه السابق.
دعونا نتذكر جميعا أنه وفي تاريخ المنطقة الغرب الأفريقي، ومنذ عصور الإمبراطوريات والمماليك الأفريقية كانت أئمة الدين من أهل الحل والعقد للأمة والمجتمع والدولة، ولا ننسى أن فرنسا تتذكر جيدا الإمام ساموري توري (لم يكن عالما دينيا، لكنه محب للدين وأهله) شيخ عمر تال، عثمان دان فوديو، عمر المختار وغيرهم كثير من أئمة الدين، ومشايخ الملة الذين قادوا بطولات ضد المستعمر، ودعونا نقول، وبأنه ومنذ بعد فترات الاستقلال المزعوم في الستينات، لم يعد لأئمة الدين شأن في أمور الدولة وخاصة في الدول ما يسمى ب “الفرنفكونية”، فقد نجح الاستعمار في إزاحتهم عن الساحة وتهميشهم في أمور العامة، ولم يعد لهم مكان إلا على منابر مساجدهم، وزوايا مدارسهم، وأكناف المناسبات الاجتماعية التي يدعون إليها، ولم يعد لهم دور كبير يذكر إلا الإعلان عن دخول رمضان وخروجه، وإرشاد الحجاج والإفطار مع الرئيس في برجه العاجي خلال رمضان. ببساطة فقد نجحت فرنسا بفرض المقولة المنتشرة في الثورة الأوروبية على الكنيسة وتعالميها ونفوذ رجال الدين “دع ما لقيصر لقيصر، وما لله لله”
ومن هنا تأتي أهمية “الإمام ديكو” كرمز وأيقونة وماركة تمثل واقعا سياسيا جديدا في الغرب الأفريقي الفرنكفوني منذ بعد الاستقلال المزعوم، لأول مرة ومنذ عقود يتردد في الإعلام الفرنسي، وفي دوائر صنع القرار الأفريقي مصطلح “L’imam” كرجل وطني يقف شامخا لتقرير مصير الشعب، لقد اندهش ايليزيه، والاتحاد الأفريقي والمجموعة الاقتصادية الأفريقية، وجنّن ديكو برجواجيو كوت ديفوار، وغينيا وسنغال وبوركينافاسو، “أهذا إمام يقود حراكا، أهذا إمام يقف شامخا لإزاحة رأس الهرم الساسي من كرسيه؟” هكذا اندهشوا وانزعجوا وفقدوا صوابهم من ظاهرة “ديكو” الذي يخاف اليزيه وأشياعه من تكراره في الغرب الأفريقي.
لقد استمعت إلى الإمام ديكو في تلك المقابلة الإذاعية الغينية وكأن على رأسي الطير، وخرجت من المقابلة بنتيجة أن هذا الرجل ليس عاديا، بل هو ينطلق من أسس ومبادئ واضحة، فهذا الإمام ليس زعيما منفعلا، ولا قائدا مفتعلا، وإنما هو رائد مفكر، يعرف ما يريد، ولماذا يريد، وكيف يريد، وأنى يريد. وتتمثل ما خرجت به من المقابلة في هذه النقاط:
1- الإمام له منظور عن الديمقراطية في أفريقيا، ويرى أن المشكلة ليست في شخص إبراهيم بوبكر كيتا، ولا أعمال الرشوة والفساد فحسب، وإنما يرى أن الديمقراطية كمفهوم و منظومة في الغرب الأفريقي فاشلة، وأن هذا الفشل لا يقتصر على مالي فحسب، وإنما على الغرب الأفريقي عامة.
2-الإمام يرى أن الديمقراطية في الغرب الأفريقي يجب أن تطبخ مع التقاليد الأفريقية والمنظومة الفلسفية الأفريقية، فيكون لزعماء الدين، والقبائل وحملة الفكر نوعا من النفوذ والمراقبة على السلطات السياسية، لأن هذه السلطات السياسية الأفريقية تستخدم الديموقراطية كذريعة للحصول على مكاسب مزيفة مزورة يصعب مراقبتها من داخل النظام الديمقراطي نفسه في الغرب الأفريقي.
3-يرى الإمام أن من الطامات الكبرى في الغرب الأفريقي هو تنويم الشعب وتخديرهم بأن رجال الدين يجب أن يكونوا بمنأى عن الإصلاح السياسي وعن الشأن العام.
4-يؤمن الإمام أن الكيانات الاقليمية كcedeao والاتحاد الأفريقي كيانات محترمة، لكنه يؤمن وبشكل واضح وصريح أن مالي شعب عظيم، ودولة عظيمة، ولا بد أن يكون للماليين كلمتهم الأولى والأخيرة في نوع الحكم، والحاكم وشكل الحكومة التي يريدونها.
5-يؤمن الإمام أن الشعب الأفريقي يجب أن يتحاور، ويجب أن يستمع بعضهم إلى بعض، ولا يؤمن إطلاقا بالمقولة الغربية الأمريكية الفرنسية “لا حوار مع الإرهابيين” ولذلك يرى أنه على الحكومات الأفريقية الدخول في حوار واضح وصريح مع الجماعات المسلحة، لأنهم أبناؤنا ويجب الاستماع إليهم، ومحاولة إقناعهم بترك الباطل الذي عندهم، ومراعاة بعض الحقوق التي يطالبون بها إذا كانت في مكانها.
6-الإمام ديكو واقعي غير مثالي، ولذلك يؤمن أن زعماء المعارضة التي يتحالف هو معهم، والحكومة التي يعارضها كلهم من نفس الفصيل السياسي “استخدام الديمقراطية للوصول إلى مآربهم السياسية الشخصية”، ولذلك لا يرى أن المعارضة هي حل مثالي للرئيس كيتا، لكنه يرى أنه يجب “درء المفسدة الأعلى بمفسدة أدنى”
7-وأخيرا، فهمت من الحوار أن الإمام ديكو كارزماتيكي حتى النخاع، فقد انبهرت كما انبهر الصحافيون الغينيون برزانته ونضجه، فهو هادئ في صرامة، مهاجم بحكمة، مخالف بعدل، مطالب بإنصاف، فهو ليس زعيما للمعارضة، فقد ناصر من يخاصمه اليوم، وقد دعا إلى عدم كسر السيارات، وهدم الممتلكات وحرقها، وإنما بالمطالبة بشكل عادل وصارم وحكيم بتحقيق مطالب حركة M5 دون سفك للدماء، ودون الركون للتلاسن بالسباب والشتائم.
إن الإمام ديكو يعيد إلى أذهان الفرنسيين ذكريات مريرة مع الأئمة الثوار في أفريقيا، كالإمام ساموري توري، وعمر تال، وعثمان دان فوديو، وعمر المختار وغيرهم الكثير. بل الأخطر أنه يرهب فرنسا وذيولها الحكام الأفارقة من تأسيس نمط جديد من “ولاية الفقيه” الإيراني، والذي أسسه الخميني والذي عاش فترة في فرنسا نفسها.
إن فرنسا وذيولها تخاف من أن يصاب أئمة أخرى في غرب أفريقيا بعدوى الإمام ديكو، فيبدؤوا ينتفضوا على تهميشهم، ويقفوا ضد الظلم والجور، ويكونوا قادة الإصلاح السياسي في دولهم. إن فرنسا وأذيالها في الغرب الأفريقي يخافون من ديكو الملهم، ديكو الموقظ، ديكو الإمام القائد، الذي يكسر الروتين، ويقضي على نموذج “الإمام” الذي صنعه وخلقه الإستعمار الفرنسي بعد قضائه على الإمبراطوريات والمماليك الأفريقية.
قد ينجح الحراك المالي وقد يفشل، وقد يتحقق للماليين مآربهم في الإصلاح وقد لا يحصلوا إلا على القشور دون اللباب، وقد يغدر بديكو من قبل الحكومة أو من قبل حلفائه السياسيين، لكن الحقيقة المرة والدرس العظيم أن الإمام ديكو قد غير مجرى التاريخ في الغرب الأفريقي الفرنكفوني، وكسر الروتين والصورة النمطية الجاهزة عن أئمة المساجد والدعوة في غرب أفريقيا الفرنكفونية، وفتح الباب على مصرعيه للأئمة الآخرين في دول أخرى بأن مكانهم بعد اليوم لا يقتصر على زوايا المساجد، وحفلات العقيقة والإعلان عن دخول رمضان وأعياد الأضحى والفطر، وإنما هم أئمة يمكن أن يقودوا حراكا.إسلامنا لا يستقيم عمود@بدعاء شيخ في زوايا المسجد إسلامنا لا يستقيم عموده@بقصائد لمدح محمد إسلامنا نور يضيء طريقنا@إسلامنا نار على من يعتدي
لا أستطيع الحكم على حركة M5 وتقدير مواقفهم، وهل هي تتوافق مع المصالح العليا للشعب المالي أم لا؟ ولا أستطيع أن أحكم على نوايا القادة المعارضين، كما لا أمتلك كل الأدوات والمعلومات إذا كانت مطالبة بعضهم بإزاحة الرئيس عن السلطة قبل انتهاء فترة رئاسته دستوري ومشروع، لكن أحببت تسجيل انطباعاتي على ما يحصل هناك، ووضع الإمام ديكو في قراءة تاريخية ضمن علاقة السياسي مع الديني.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق