نظرات وعبرات المصير المشؤوم
محمود عبد الهادي
لماذا نطالب بالقضاء على الاستبداد؟ هل يمكن فعلاً القضاء عليه؟ ما السبيل إلى ذلك في ظل حالة الاستحواذ الشمولي الذي يمارسه على الدولة ومن فيها وما فيها، وفي ظل ما يترتب عليه من إرهاب وقمع وإقصاء؟ هل الأفضل الاستسلام للاستبداد والتعايش معه والإذعان لما يصدر عنه، أم أنّ ذلك سيزيده بطشًا وتجبرًا وسيطيل أمد الفشل والمعاناة والفساد والانهزام؟ هل يمكن إصلاح الاستبداد، أم أنّ هذا من سابع المستحيلات؟
إنّ الأمر في غاية التعقيد والصعوبة والخطورة، حيث تلتقي في دعائم الاستبداد العديد من الإرادات الخارجية والداخلية، التي تجعل من عملية القضاء على الاستبداد في بلداننا أمرا بعيد المنال، نعم.. لكنّه لا يصل إلى حد المستحيل.
نتائج الاستبداد
يعد الوقوف في وجه الاستبداد مطلبًا حيويًا ومُلِحًّا ينبغي أن تتصدى له كافة القوى السياسية والاجتماعية والاقتصادية والتعليمية والإعلامية والمؤسسات الأهلية والشرائح النخبوية، بما في ذلك النظام المستبد نفسه، وهذا المطلب لا ينبع بداية من الرغبة المجردة في تغيير الحكم أو الاستيلاء على السلطة أو تداولها؛ وإنما من أجل التخلص من النتائج والآثار المرعبة الحالية والمستقبلية المترتبة على النظام المستبد، وفي مقدمتها:
الممارسات القمعية التي يقوم بها النظام المستبد تؤدي إلى نشر الخوف والرعب في نفوس الشعب لعدة أجيال متتالية، فتنشأ مهزوزة ومهزومة وواهية وعاجزة، بلا طموح أو آمال أكثر من المحافظة على المكانة والامتيازات، أو على النفس ولقمة العيش
- إشاعة الرعب:
إذ تؤدي الممارسات القمعية التي يقوم بها النظام المستبد إلى نشر الخوف والرعب في نفوس الشعب لعدة أجيال متتالية، فتنشأ مهزوزة ومهزومة وواهية وعاجزة، بلا طموح أو آمال أكثر من المحافظة على المكانة والامتيازات، أو على النفس ولقمة العيش. وهذا الرعب لا يقتصر على من هم خارج دوائر النظام؛ بل يمتد إلى من هم داخله كذلك.
- عسكرة الدولة:
حيث تتحول الدولة إلى ما يشبه الثكنة عسكرية، وتنتشر مظاهرها واستعداداتها في الأماكن الحيوية، تحسبًا لأي محاولة مباغتة للانقلاب على السلطة، أو التمرد عليها، أو التظاهر ضدها. ويصبح الجيش صاحب اليد الطُّولَى في إدارة مقاليد الأمور في الدولة؛ لأن النظام المستبد لا يضع ثقته إلا في المُخلصين له من قادة الجيش الذين يٌتحقَّق من ولائهم أولًا بأول.
- هيمنة الأجهزة الأمنية:
يصبح التدقيق الأمني والتمحيص والملاحقة والمتابعة، أو الاعتقال والتحقيق والسجن والتعذيب قدَرَ كل مواطن لا يُظهِر ولاءه للنظام؛ لأنّ ذلك قد يشي للنظام بأن هذا المواطن من المعارضة أو يعمل لحساب جهات خارجية، وأنه يسعى لزعزعة الاستقرار وتقويض النظام.
وهذه الحالة تؤدي إلى هيمنة الأجهزة واستكبارها وتحكمها بسير الحياة العامة للشعب وأنشطته المختلفة، وتسلّطها عليه، وتجبرها في التعامل معه، فتفعل ما تشاء، وتستولي على ما تشاء، وتعين من تشاء على من تشاء دون وجه حق.
- تقزيم عقل الدولة:
تسيطر قضية تأمين النظام وحمايته من السقوط والانهيار داخليًا وخارجيًا على عقل النظام المستبِد، وتصبح الشغل الشاغل الذي تُخصص له كافة الموارد والإمكانيات، على حساب الانشغال بتطوير الدولة واستقرارها وبناء مستقبلها وحل مشكلاتها؛ لهذا لا يبقى في عقل النظام إلا النذر اليسير.
النتائج الكارثية المترتبة على الاستبداد، تُحتِّم على الجميع الوقوف صفًا واحدًا لإسقاطه والقضاء عليه، من أجل بناء أجيال قادرة على إدارة حاضرها بوعي وحكمة وابتكار، وقادرة على بناء مستقبلها الآمن المستقر، ومواجهة تحدياته بكفاءة واقتدار
- تدمير الشخصية الوطنية:
لا حياة للاستبداد مع الحرية، وبالتالي يعمد النظام المستبِد إلى مصادرة الحريات الدستورية للمواطنين، وفرض رأيه عليهم، دون أن يسمح بالنقد أو النصح بأي مستوى من المستويات، ويعد كل من يفعل ذلك تهديدًا مباشرًا لاستقرار النظام.
هذه الحالة تؤدي بالضرورة إلى تدمير الشخصية الوطنية، وتعطيل الملَكات الإبداعية، ومصادرة الفكر التطويري للحاضر والمستقبل، مما يمثل إعدامًا جماعيًّا للكوادر العلمية والأكاديمية في كافة التخصصات والمجالات، وبالتالي تعميق الإحباط والتبلد واللامبالاة والانكفاء وضعف الإنتاجية.
- انهيار الاقتصاد:
النتائج السابقة تؤدي إلى انهيار اقتصاد الدولة، الذي يتحكم فيه النظام المستبد كيف شاء، تشريعاً وتخطيطاً وتنفيذاً، ما يزيد من قلق رجال الأعمال داخل الدولة من الدخول في مشروعات استثمارية جديدة، ويدفع رجال الأعمال خارج الدولة إلى الإحجام عن الدخول في مشروعات استثمارية داخل الدولة لا يتوفر فيها الحد الأدنى من الضمانات اللازمة لإنجاح المشروعات وتحقيق أهدافها الاستثمارية، إضافة إلى انهيار سياسات السوق، وهيمنة الجشع، والاستقواء بالنظام، وزيادة معدلات الربح واختلاق أساليب جديدة للكسب المبني على النصب والاحتيال والتجويع والإفقار.
كل ذلك يدفع إلى ارتهان اقتصاد الدولة للقروض والمؤسسات النقدية الدولية والرضوخ لشروطها تحت مسمى (الإصلاح الاقتصادي).
- تعطّل التنمية والبناء:
عندما ينهار الاقتصاد، ويسيطر الهوس الأمني على أداء السلطة المستبدة خوفًا على النظام وتدعيمًا لأركانه، وعندما تُصادر الحريات وتُعلّق المشانق لأصحاب الفكر التطويري للحاضر والمستقبل، لا أمل حينها في إحداث تنمية حقيقية للدولة والمجتمع والإنسان في كافة المجالات.
ونجد الأجهزة السياسية والإعلامية والتعليمية والفكرية للسلطة المستبدة تعمد إلى تصوير الفشل على أنه إنجاز، والديون على أنها دخل قومي، والمعاناة على أنها ضريبة وطنية من الشعب لمواجهة التحديات التي تتربص بالوطن من الداخل والخارج.
- انتشار الفساد:
كل ما سبق يشكّل بيئة صالحة لنمو الفساد وهيمنة المفسِدين، من المنتفعين والمتسلقين والمنافقين، فمن فساد الحكم، إلى فساد القضاء، إلى فساد السياسة والاقتصاد، إلى فساد الفكر، إلى فساد الدين والأخلاق، إلى فساد الفنون والعلوم، إلى فساد التجارة والصناعة، تجدهم في كافة المجالات والميادين، يحملون أبواق النظام، ويطوفون بها البلاد طولًا وعرضًا، يخدعون الشعب، ويسحرون أعينهم وآذانهم، ويخرسون أفواههم.
من أجل ذلك كله، وغيره كثير، تحتّم على الجميع الوقوف صفًا واحدًا في وجه الاستبداد، لإسقاطه والقضاء عليه، من أجل بناء أجيال قادرة على إدارة حاضرها بوعي وحكمة وابتكار، وقادرة على بناء مستقبلها الآمن المستقر، ومواجهة تحدياته بكفاءة واقتدار.
الاستبداد يحمل في طياته بذور فنائه، وانهيار الأنظمة المستبدة أمر حتمي، ولم يكن من قبيل الصدفة أن نشهد انهيار ما يقرب من ٢٠ نظامًا مستبدًا في المنطقة العربية في نصف قرن من الزمان، وألا يزيد متوسط عمرها عن ٢٥ عامًا، وأن تكون نهايتها على أبشع ما تكون النهاية.
السقوط الحتمي
مما يبعث الأمل، أن انهيار الاستبداد أمر حتمي، وأن سقوط أنظمة الحكم المستبدة أمر حتمي أيضاً، فالاستبداد يحمل في طياته بذور فنائه، وقد شهد القرن الماضي العديد من الأنظمة المستبدة في العالم.
تشير الدراسات المقارنة إلى أن عمرها يتراوح بين 30 و80 عامًا، على وجه التقريب، وفي المنطقة العربية بين 10 و50 عامًا، وتمر بالمراحل التالية:
1. مرحلة التكوين
تتسم هذه المرحلة بالخطاب الحماسي الذي يلهب مشاعر الجماهير، ويدغدغ عواطفهم بالحديث عن سقوط الظلم والفساد وبدء مسيرة تحقيق الآمال والأحلام، وفي هذه المرحلة تثبت دعائم السلطة، وتتكوّن النخبة الطليعية المؤمنة بفكرة النظام والمدافعة عنه وترسيخ الأطر التنظيمية، ومدّ شبكتها في أقطار الدولة الأربعة، وتمكينها من بسط سيطرتها عليها وإدارة أمورها.
2. مرحلة الهيمنة المُطبَقة
هذه المرحلة هي مرحلة عنفوان النظام المستبد، حيث تتم السيطرة الكاملة على الدولة، وفرض قِيَم النظام وسياساته، والقضاء على المعارضين والمناوئين، وتوجيه الإعلام والتعليم والفن توجيهًا كاملًا لدعم النظام، وتعزيز تأييد الشعب له والتفافه حوله.
3. مرحلة ظهور الفساد وانتشاره
بعد اكتمال هيمنة النظام المستبد على الدولة، وتثبيت دعائم سلطته، ومد أذرعه الأمنية في كل شبر من أراضيها، تبدأ عملية توزيع المناصب والأدوار القيادية على الأتباع والمؤيدين الأكثر ولاء، ولا يلبث هؤلاء أن يتحولوا إلى مراكز قوى تستقطب حولها كوادر ممن يؤيدها ويعضدها في مواجهة المراكز الأخرى، ويأخذ الجميع في الانشغال في تعزيز إمكانياتهم وبناء ثرواتهم وتحقيق تطلعاتهم الذاتية مستغلين بذلك نفوذهم وسلطتهم في فرض الإتاوات وجباية الرشاوى مقابل ما يقدمونه من تسهيلات، فيبدأ الفساد الإداري والمالي بالظهور والانتشار حتى تصطدم الدوائر بعضها ببعض.
4. مرحلة محاولات الإصلاح
يزداد الفساد تجذرًا واتساعًا، وتتفاقم أخباره أمام رأس السلطة الذي يحار في مواجهته والقضاء عليه؛ لأنه يحدث على أيدي أركانه، وتدريجيًا يزداد تقصير الأجهزة التنفيذية في واجباتها تجاه الشعب الذي تأخذ قواه الاجتماعية والفكرية في التململ والحديث التدريجي عن الفساد وضرورة الإصلاح، فتبدأ المحاولات الإصلاحية في أروقة السلطة المستبدة، واحدة تلو الأخرى، لكنها سرعان ما تفشل.
5. مرحلة الانهيار
تتعدد العوامل الداخلية والخارجية التي تُعجّل أو تؤخّر بعض الشيء انهيار النظام المستبد، سياسيًّا واقتصاديًّا وتنمويًّا وعسكريًّا واجتماعيًّا؛ لكنها في النهاية تتبلور على شكل حراك فئوي من داخل أروقة النظام وأجهزته العسكرية أو الأمنية للانقلاب على النظام بحجة الإصلاح، أو على شكل حراك جماهيري تقوده قوى وطنية منظمة بدوافع وإمكانات ذاتية، أو بارتباط مع جهات خارجية تلتقي مصالحها معها في إسقاط النظام.
ولم يكن من قبيل الصدفة أن ينتهي حكم العديد من الأنظمة المستبدة العربية في فترة لا يزيد متوسطها عن 25 عامًا، وأن تكون نهايتها كأبشع ما تكون النهاية، ونذكر من ذلك، أنظمة حكم كل من جمال عبد الناصر وأنور السادات ومحمد سياد بري وحسني مبارك وجعفر نميري وعمر البشير وصدام حسين وعلي عبد الله صالح والقذافي وبورقيبة وزين العابدين بن علي، وكان أقصرها فترة حكم السادات (11 عاماً)، وأطولها فترة حكم علي صالح (44 عاماً).
وليس الحال في الأنظمة الوراثية المستبدة بأفضل من ذلك، لكن خصوصية تكوينها وانهيارها تجعلنا لا نتناولها في هذا المقام، وتحتاج إلى مقام منفرد.
فإذا كان الأمر كذلك، لماذا إذاً يستبد النظام المستبد وهو يعلم أن خاتمته وخيمة؟
لماذا يستبد النظام المستبد وهو يعيش حياة مليئة بالخوف والقلق والشك والارتياب، رغم كافة مظاهر العظمة الظاهرية التي تحيط به على مدار الساعة؟
لماذا يستبد النظام المستبد وهو يعلم أن جميع الدعائم الأمنية والعسكرية والاقتصادية والإعلامية والشعبية التي يستند عليها سريعة الانهيار إذا حانت ساعة الصفر؟
لماذا يستبد النظام المستبد وهو يرى آثار الاستبداد الفادحة على الدولة والمواطنين حاضرًا ومستقبلًا؟ لماذا يستبد النظام المستبد وهو يعلم أن سقوطه حتمي وانهياره وشيك وإن توالت عليه السنون؟
أليس الأمر غريباً أم أنه سحر السلطة، وجاذبية الكرسي، وجبروت القوة، وعمى الطغيان؟
ويبقى السؤال: كيف يمكن التخلص من الاستبداد؟ هل ننتظر حتى ينهار تلقائيًّا مخلفًا وراءه استبدادًا جديدًا أشد سوءًا وبطشًا، أم أنّ المواجهة المباشرة حتمية، مهما بلغت التضحيات؟ هل من سبيل للتخلص من الاستبداد والأنظمة المستبدة بطريقة حضارية آمنة؟
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق