حد الجنون
من ينظر إلى الصراعات العربية الداخلية العبثية الدامية التي تشهدها كل من سوريا واليمن وليبيا -منذ ثماني سنوات- يصاب بحيرة شديدة، مصحوبة بهذيان أشد قد يصل به إلى حد الجنون؛ فما يحدث في هذه الدول هو الجنون بعينه، وصار كل من تأمل كثيراً في هذا الجنون من المراقبين يصيبه مسٌّ منه.
ثماني سنوات وآلة القتل والدمار تطحن البشر والحجارة دون تمييز، على أيدي قتلة تبلدت عقولهم فهي غبية بلهاء، وتعفنت قلوبهم فصارت بلا حياة أو حياء، اسودّت فيهم الدماء، ومات فيهم الإنسان، فهم بلا مشاعر أو أحاسيس، لا يتأثرون لموتى ولا لأشلاء، لا من رجال ولا من نساء ولا أطفال، دمروا الأوطان، ولا يرون في الدمار والدخان والنيران سوى غذاء لنشوة الأنا وهيمنة الإقصاء.
إنهم يهللون لانتصارات زائفة، ويفرحون بغنائم واهمة، لا يهزهم بكاء، ولا يفجعهم نحيب أو عويل، ولا يهتز طرفهم لرجاء. ذبحوا الطفولة، وأحرقوا الذكريات، ودمروا التاريخ والمكتسبات، وتاهوا في أنفاق مظلمة ما لهم فيها إلى خروج من سبيل. فهل من جنون أكثر من ذلك؟
لست بحاجة -في هذا المقام- إلى أن أسوق أرقاماً وإحصاءات عن حجم الكوارث والفظائع والخسائر والدمار والمعاناة التي خلفتها هذه الصراعات المجنونة، إذ يكفي أن تتابع شاشات الأخبار -في أي وقت من الليل أو النهار- لتصدمك المآسي المفجعة والفظاعات المروعة، بل وصل الحد بنا إلى درجة الإدمان والبلادة، فصرنا نقتات على أخبارها وصورها وفظائعها التي تتدفق علينا على مدار الساعة.
لقد أصبحت هذه الفظائع تشاركنا أوقات راحتنا ومتعتنا، ولحظات فرحنا وأنسنا في حلنا وترحالنا، دون أن يطرف لنا جفن، أو تهتز لنا مشاعر لكثرة ما اعتدنا عليها، فلا تصرفنا عن طعام أو استمتاع، ولا تكدر لنا صفواً، ولا تلغي لنا حفلاً، ولا تحرك منا تجاهها ساكناً، وكأننا نسمع ونشاهد أخبار الإنجازات والنجوم والمشاهير والاحتفالات والبهجة والسرور، أو نتابع فيلماً سينمائياً من أفلام الحركة والإثارة والرعب والحرب!!
صرنا نتغنى بالوجع، ونبدع في تلوين الألم وتأبين الفرح وحياكة الأكفان، ونصنع من قصص الدمار والطفولة الذبيحة والإنسانية المهترئة أهازيج شاحبة لشاشات الإعلام ومنصات التواصل الاجتماعي ومهرجانات الأفلام، نلهب بها المشاعر الحريرية، ونستدر بها الدموع الباردة الزرقاء.
لست بحاجة -في هذا المقام- إلى أن أسوق أرقاماً وإحصاءات عن حجم الكوارث والفظائع والخسائر والدمار والمعاناة التي خلفتها هذه الصراعات المجنونة، إذ يكفي أن تتابع شاشات الأخبار -في أي وقت من الليل أو النهار- لتصدمك المآسي المفجعة والفظاعات المروعة، بل وصل الحد بنا إلى درجة الإدمان والبلادة
ننشغل بتفانٍ مدهش لتقديم الدواء والغذاء والخيام، وأمامنا بوابة الموت مشرعة تنتظر من يغلقها، ودائرة النار تزداد اتساعاً وتنتظر من يطفئها، وناقلات الرعب والدمار تعبر الحدود تنتظر من يعيدها.. ولكن دون جدوى. انظُرْ.. من يعادي من؟ ومن يقتل من؟ ومن سينتصر على من؟ وهل من منتصر أصلاً؟
صار الوطن بأبنائه يعادي نفسه، ويقتل نفسه، ويدمر نفسه، ويهجّر نفسه، يخوض حرباً ليس فيها عدو، وليس فيها رابح أو منتصر. الجميع فيها مهزوم، والجميع فيها محروم، طبعاً عدا القادة الذين أتقنوا صناعة الموت والفناء، ويجيدون فن التستر والاختباء!
ألا تعجب معي من أناس يصبرون على القتل والدمار والفاقة والعناء دون جدوى لسنوات، ولا يصبرون على اللقاء والحوار والنقاش فيما بينهم لساعات أو لأيام؟ ويجدون في العودة إلى الحرب وتصعيدها بديلاً أكثر إقناعاً وحلاً أكثر صواباً، ويجدونها أسهل مراساً من الجلوس للحوار، ويأنسون لأصوات القصف والدمار والعويل على أصوات النقاش والحوارات واحتدادها؟!
ألا تعجب معي من قادة ومسؤولين يرون أوطانهم تنهار على رؤوس ساكنيها كل يوم، ويرون قوافل النازحين والمهاجرين تفر من الموت وتستجدي الغرباء لقمة عيش وحبة دواء وخرقة كساء، قد ضاقت الدنيا بهم، وهاموا على وجوههم بحثاً عن ملاذ لا يقتلهم؟
ألا تعجب معي من قادة ومسؤولين يصنعون من أنفسهم عدواً لأنفسهم، ويلفقون الذرائع ويختلقون الأكاذيب ليبرروا جرائمهم ويقنعوا أنفسهم بمشروعيتها؟!
أم ستقول إنها التدخلات الإقليمية والأطماع الدولية والكيد الصهيوني؟
أي تدخلات أو أطماع أو كيد هذا الذي يطمس على الوجوه ويعمي الأبصار والبصائر؟ أي تدخلات وأطماع وكيد هذا الذي يجعلك تصنع من بني وطنك عدواً تتلذذ بقتله وتدمير حياته وحاضره ومستقبله؟
أم إنها تدخلات الجنون والعبث والعمى وأطماع الوهم وسطوة الانخداع وكيد الرفاق المتسلقين؟
هل يستحق بقاء بشار الأسد في السلطة تدمير سوريا، وتحويلها إلى ساحة تجارب عسكرية وأمنية إقليمية ودولية؟ وهل يعتقد بشار وسلطته أنه قادر على القضاء على المعارضة وبسط السيطرة واستعادة الاستقرار؟ وهل تعتقد العارضة فعلاً أنها قادرة على إسقاط النظام؟
هل يعتقد الحوثي فعلاً أنه بتحالفه مع إيران سيسيطر على اليمن ويحقق له الاستقرار والنماء والهناء؟ وهل تعتقد الحكومة اليمنية فعلاً أن تحالف دعم الشرعية سيقضي على الحوثي ويعيد لليمن استقراره ويحافظ على وحدته؟
هل يعتقد حفتر فعلاً أن بإمكانه السيطرة على ليبيا والقضاء على حكومة الوفاق الوطني الليبية بما يأتيه من دعم إقليمي ودولي؟ وهل تعتقد حكومة الوفاق فعلاً أنها ستقضي على حفتر، وستمسك بزمام الأمور وتبسط سيطرتها من جديد على ليبيا بما يأتيها من دعم خارجي؟
ألا يفهم هؤلاء جميعاً حركة التاريخ؟ ألم يقرؤوا تاريخ الأمس القريب؟ وكيف انهارت الأنظمة والسلطات؟ وكيف تبخرت الأحلام وانكشفت الأوهام؟ وكيف كانت عاقبة الإحجام والإجرام؟
ألم يفهم هؤلاء بعدُ أن الإمبراطوريات هي التي تدير شؤون المحميات، وأن مصالح الدول الكبرى هي التي تحدد عدد القتلى وحجم الدمار في أوطانهم؟
ألم يدركوا أن بلدانهم لأهلها، وأنهم جميعاً أهلها؟ وأن هذه العداوة عداوة متوهَّمة، صنعتها أخطاء داخلية وتدخلات خارجية توافقت مع أهواء النفس وأطماعها؟
ألم يكتشف هؤلاء بعدُ سبب كل ما يحدث في بلدانهم، ومن هو العدو الحقيقي الذي يكيد لهم ويتربص بهم الدوائر؟ كم يحتاجون بعد من القتل والدمار والنزوح والتهجير والعذاب والمعاناة ليكتشفوا ذلك؟
إن الحرب العبثية التي تشهدها هذه البلدان كارثة كبرى لا ينبغي السكوت عليها، وهي فعل إجرامي فادح، لا بد لجميع الفئات والطبقات والمؤسسات أن ترفع صوتها عالياً لإدانته ورفضه، في هذه البلدان وفي غيرها من البلدان.
لا بد من إدانة الصراع المسلح الدائر في هذه البلدان، ومواجهته بكل الوسائل السلمية الممكنة، وخلق حالة فكرية ثقافية على كل المستويات تواجه هذا الإجرام وتشدد على أن الوطن والشعب فوق الجميع، وأن الحوار -وليس الدمار- هو الطريقة الوحيدة التي تساعد على الاتفاق على كيفية إدارة الوطن وتحقيق مصالح الشعب، وفق نظام تتفق عليه جميع الأطراف المتطلعة إلى القيام بهذه المهمة.
إن الحرب العبثية التي تشهدها هذه البلدان كارثة كبرى لا ينبغي السكوت عليها، وهي فعل إجرامي فادح، لا بد لجميع الفئات والطبقات والمؤسسات أن ترفع صوتها عالياً لإدانته ورفضه، في هذه البلدان وفي غيرها من البلدان
أما أمراء الحرب المسيطرون على المشهد السياسي في هذه البلدان فعليهم أن يخرسوا آلة القتل والدمار ويكفوا عن الفعل العسكري، وأن يجلسوا معاً داخل بلدانهم دون كلل أو ضجر أو اتهام أو تلاوم أو عتاب، وأن يقدموا لبعضهم من التنازلات ما يمكنهم من التوصل إلى حلول مناسبة يمكن التراضي حولها، دون تدخلات إقليمية أو ضغوط دولية، وأن يكون الوطن والشعب واستقراره وتطوره هو الهدف الذي تنزوي تحته أهدافهم الشخصية والفئوية، وأن يصبروا على ذلك شهراً وشهرين وعاماً وعامين، فذلك أقل كلفة من الاستقواء بآلات الحرب والدمار من جديد.
وليقف هؤلاء مع أنفسهم عندما يكونون أمام المرآة، أو حين يلقون الخطب الجوفاء والبيانات الخاوية، وعندما يتناولون الطعام الشهي والمشروبات المنعشة، أو يلقون برؤوسهم على الوسائد الوثيرة؛ فيتذكروا بشاعة ما يحدث، ويعبّئوا أعينهم بتلال الدمار وأكوام الجثث، وقوافل المشردين في الجبال والصحاري والثلوج، يعبرون من سياج إلى سياج، ومن حدود لحدود، وليستحوا من أنفسهم ومن شعوبهم ومن مستقبلهم.
وليعلم هؤلاء أنهم إن لم يفعلوا ذلك فليس أمامهم سوى المزيد من الدمار لأوطانهم، والقتل والتشريد لشعوبهم، وإن ما هو آتٍ سيكون أشد ضراوة وبشاعة مما كان، فلن يبقى الوطن واحداً ولا الشعب موحداً، وليعلموا أن أعمارهم قصيرة، وأنهم حتماً ستدور عليهم الدوائر كما دارت على من قبلهم، وسيطويهم التاريخ في صفحاته السود، وستلعنهم الأجيال القادمة لسنوات وسنوات وسنوات..؛ فما قاموا به من قتل ودمار، وما تسببوا فيه من كوارث ومعاناة، سيمتد أثره لأجيال عديدة قادمة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق