الحكّاء (2) | الهروب الكبير… بالمصري!
بطل الحكاية
(1)
لا تسألني عن اسمي، وإن أصررت فسأخبرك بغير اسمي، هكذا أوصاني الرجل الذي ساعدني على الهرب ولا أعرف اسمه.
(2)
بسم الله، ثم أزج بنفسي داخل القطار، أسترجع وصية الرجل مثل مريض حريص على الالتزام بوصفة الدواء التي كتبها له الطبيب، لا تأتِ بأي فعل لافت، لا تنظر في عين أحد حتى لا يكون ذلك سببًا في حديث، وإن حدث فلا تُدلِ باسمك الحقيقي، سأكون معك في نفس القطار، لكن ليس في العربة نفسها، سيكون هناك 4 آخرون غيرك يقصدون نفس مقصدك، لا تعرفهم، باستثناء صديقك الذي عرَّفتني إليه، وسيكونون في عربات مختلفة، سأتواصل معك بإشارات العين عند الوصول، انتبه جيدًا وإلا انكشف أمرنا جميعًا.
عملت بالوصية، جلست في مقعدي، تجنبت حتى النظر من النافذة عند توقف القطار في المحطات، ربما مخبر وبمحض الصدفة تقع عيناه على عيني فيطلب مني هويتي وتبدأ نهايتي.
يتحرك القطار والشمس تؤذن بالمغيب، القلق والتوتر يسيطران عليَّ تمامًا، أُخرِج من حقيبتي رواية "في قلبي أنثى عبرية"، أدفن رأسي فيها، أقرأ الإهداء الذي خطته "جهاد" على صفحته الأولى، قالت لي زوجتي إن الرواية تتحدث عن بطلين مختلفين انتصر حبهما على التحديات التي مرت بهما، أتمنى النوم وأطلبه ولا يأتي.
(3)
كان هذا الخبر إيذانًا بانقلاب حياتي رأسًا على عقب، نقلت أسرتي إلى مكان آخر، وذهبت أنا إلى القاهرة، غيرت رقم هاتفي؛ بل غيّرت الجهاز نفسه، وانقطعت عن الاتصال بأي شخص في العالم إلا زوجتي.
أتعب من القراءة، تنقذني الذاكرة، يبدأ الشريط من أول نوفمبر/تشرين الثاني عام 2014 حين أبلغني صديق محامٍ أن اسمي على ذمة قضية سياسية، وأن مديري في الشركة التي أعمل بها قد اُعتقل بالفعل، وأنه يتعرض لضغوط للإدلاء بأي معلومات عني.
كان هذا الخبر إيذانًا بانقلاب حياتي رأسًا على عقب، نقلت أسرتي إلى مكان آخر، وذهبت أنا إلى القاهرة، غيرت رقم هاتفي؛ بل غيّرت الجهاز نفسه، وانقطعت عن الاتصال بأي شخص في العالم إلا زوجتي.
مرت 3 أشهر، كانت الأيام تمضي بطيئة ثقيلة، في البداية نكون سعداء بأننا لم نقع في أيديهم؛ لكن نمط العيش يقتلنا قتلًا، وتصبح الحياة لا تطاق، اتخذت قراري المجنون، لا بد من مغادرة البلاد، وطبعًا ليس عن طريق المنافذ الرسمية، أبلغت صديقًا بذلك، وقلت له دبّر الأمر، عاد وأبلغني أنه تواصل مع شخص يقوم بذلك، وحدد لي المبلغ الذي يجب عليَّ دفعه.
يوم 20 فبراير/تشرين الثاني، دعاني صديقي لمقابلة هذا الرجل الذي وصل الإسكندرية بسيارته الخاصة، ركبت وقلبي يدق بشدة، كل شيء محتمل الآن، ربما يكون هو نفسه من رجال الأمن السريين، كان معه شخص آخر يجلس بجانبه، لم أكن أعرف اسم أيٍّ منهما، وهما لا يعرفان اسمي، ورحنا نجوب شوارع المدينة.
لم يكن لدي أي فكرة ماذا سأفعل إذا نجحت في الهروب ووصلت إلى السودان، في هذا الوقت كانت كل الحياة ومشاريعها تتلخص في الهروب، أن أنجو بجلدي من هذا الجحيم المسمى بالمعتقلات.
بلغة صارمة أبلغني أن من يجلس بجانبه سيكون مرافقي في شطر من الرحلة، ثم تلا عليَّ التعليمات، عليك بحقيبة ظهر بسيطة، ضع بها حذاء رياضيًّا يتحمل المشي الطويل، واشترِ زيًّا سودانيًّا، وحدد لي محلًّا بعينه، اشترِ هاتفًا آخر لا يتصل بالإنترنت، لا تحمل معك أكثر من ألف دولار، تزود بأغذية خفيفة وجافة، وحدّد يوم سفري بعد 4 أيام.
القطار يسير ببطء شديد، أو هكذا أشعر، الطريق طويل جدًا ومن المفترض أن نصل في 8 صباحًا، أي بعد 15 ساعة من لحظة تحرك القطار، لا بأس من العودة إلى الذاكرة.
في يوم السفر المحدد أحمل بطاقتَي السفر اللتين اشتراهما لي الرجل، واحدة من الإسكندرية إلى القاهرة والأخرى من القاهرة إلى أسوان، لم أتمالك نفسي وقررت المغامرة، ذهبت إلى والدتي مبكرًا لأودعها وأودع والدي بعد أن ودعت زوجتي وأطفالي.
لم يكن لدي أي فكرة ماذا سأفعل إذا نجحت في الهروب ووصلت إلى السودان، في هذا الوقت كانت كل الحياة ومشاريعها تتلخص في الهروب، أن أنجو بجلدي من هذا الجحيم المسمى بالمعتقلات.
في الطريق إلى محطة القطار كنت أحاول أن ألتقط بعيني صورًا لكل ما أمر به على أمل أن أحفظه في الذاكرة، فربما لا أرى الإسكندرية حبيبتي مرة أخرى، أستقل القطار وأصل القاهرة، قطاري التالي بعد أربع ساعات، لا بأس بمغامرة أخرى، أذهب إلى مقر عملي الذي استقلت منه وأودع الزملاء الأصدقاء.
(4)
أخيرًا وصل قطارنا أسوان، نزل الرجل الذي يرافقنا من عربته، ونزلت من عربتي، أشار بعينيه أن أتبعه، خرجنا من المحطة، فأشار لي أن أستقل شاحنة صغيرة تقف على مقربة من مخرج المحطة، ركبت أنا وصديقي، ولحق بنا 3 آخرون، وكان ذلك لقائي الأول بهم، الآن انتهت مهمة الرجل وبدأت مهمة السائق الذي انطلق بسرعة حتى وصل منطقة سكنية، وتوقف حاشرًا السيارة بين البيوت، وطلب منا أن نغير ملابسنا ونرتدي الزي السوداني، والأحذية الرياضية، ثم انطلق مرة أخرى سريعًا.
5 ساعات قاسية مرت علينا ونحن في هذه الحالة، الألم لا يُحتمل، كنت أستحضر في ذهني الآية (وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً)
بعد نصف ساعة كنا خارج المدينة حيث كانت تنتظرنا شاحنة أخرى على نفس الشاكلة، نزلنا من هذه وركبنا الأخرى، أمرنا السائق أن نركب بالخلف وننام على ظهورنا ونقوم بتغطية أنفسنا بالبطانية حتى لا يشك أحد في أننا لسنا سوى شحنة من الأشياء، وفعلًا كنا كشحنة من الأشياء، وانطلق بسرعة شديدة في طريق وعر فيما كنا نحن كقطع الكستناء فوق صفيح ساخن، من حين لآخر أرفع البطانية قليلًا فلا أرى سوى السماء، لا بنايات ولا أي علامات، ليس هناك غير صحراء قاحلة، أعود فأغطي نفسي ومن معي.
5 ساعات قاسية مرت علينا ونحن في هذه الحالة، الألم لا يُحتمل، كنت أستحضر في ذهني الآية (وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً)، لم يكن الأمر تدينًا بقدر ما كان يقينًا بأن لا ملاذ إلا الله، استمر هذا الحال إلى أن توقف السائق فجأة أمام مكان أشبه بكهف، وقال انزلوا وانتظروني هنا، سأذهب لتعبئة السيارة بالوقود، دب الفزع في نفوسنا.
(5)
في شمس حارقة، وصحراء مقفرة، وهواتف لا تعمل، وبعد أن فشلنا في إقناع السائق بأن يصحبه أحدنا، جلس خمستنا وسادسنا القلق، قلنا نبدد الوقت بالتعارف، اكتشفت لاحقًا أن الجميع التزم بتعليمات المهرِّب، ولم يخبرونا بأسمائهم الحقيقية، في حين أنا وصديقي حدثناهم بكل شيء.
مرت ساعة ونحن على هذه الحال، نفد صبرنا، وانتهى كلامنا، وجفت حلوقنا من الدعاء، فعلها المهرِّب إذًا، حصل على أمواله، وتركَنا هنا في هذا الفراغ اللانهائي وهرب، متى تأتي الحيوانات المتوحشة، هل سنموت فرائس، أم جوعى، أم عطشى؟ هل يمكنهم أن يعثروا على جثثنا؟ كيف سمنضي الليل؟ وهل سيطلع علينا نهار آخر؟
كيف يكون هذا مصيري، وأنا لم أرفع سلاحًا، ولم أتبنَّ يومًا عنفًا؟ هل هذه حقًّا عقوبة من يخالف الرأي؟ أإلى هذا الحد يضيق الوطن؟
تكاد ساعة أخرى تمر، ندرك أننا هالكون لا محالة، تتدفق الذاكرة، أحلى تواصل بيني وبين عمر هو بالعين، حوار كامل يجري مع صغيري بالعين، الآن أتوق إلى تلك النظرة، وإلى عناق دارين التي ما إن ترَني حتى تفتح كفيها الصغيرتين لتحتضنني، ما كنت أعتبره أداءً يوميًا عاديًّا بات الآن أمرًا بعيد المنال.
تظهر السيارة فجأة فنعود إلى الحياة، تنشرح صدورنا، تزول الغمة، ها هو السائق قادم، نلتف حوله ونهلل، كأننا أطفاله التائهون وقد وجدنا، يوقد نارًا، ويصر على أن نشرب قهوته، يصنع عدسًا ويدعونا إليه، لا شهية إلا لاستكمال الطريق.
عدنا مسرورين إلى مكاننا الذي كنا نكرهه في الشاحنة، نمنا والتحفنا بالبطانية والسماء، إلى أن سمعت صوت مكابح سيارة، وعلى رغم أن ذلك ضد التعليمات، فإنني وبطريقة تلقائية رفعت البطانية ونظرت لأكتشف أن سيارة شرطة آتية من الجهة المقابلة تلتف وتتجه مسرعة إلينا بعد أن شكَّت بأمرنا، فانطلق سائقنا بسرعة جنونية، وغادر الطريق الرئيسي التعيس إلى طريق جانبي غير ممهد أكثر تعاسة منه، فيما نحن نتمتم بكل الأدعية، بينما سحابة من الغبار تعزلنا عن رؤية السيارة التي تطاردنا.
10 دقائق تمر إلى أن تفقد الشرطة أثرنا، نتنفس الصعداء، نمضي في الصحراء طويلًا، الوقت يمر ببطء شديد ونخشى المفاجآت، إلى أن بدأ البحر يلوح لنا من بعيد، وعلى مقربة منه بيوت خشبية بدائية كأنها تعود إلى القرن الـ 15، يستمر السائق في سيره بين القرى وفي طرق ملتوية.
ثمة أمر غير مفهوم، بدأت تظهر أبراج الجيش غير أن سائقنا يمر بينها غير مكترث، اقتربنا من البحر وقد قاربت الشمس على المغيب، صعدت بنا السيارة إلى هضبة، توقف السائق وطلب أن ننزل، كنا هلكى؛ لكن خوفنا كان أكبر من تعبنا، صلينا المغرب والعشاء، نحن في فراغ تام، شعرت وكأني في مشهد سينمائي، السائق ومساعده وشخص آخر فوق جمله كانوا ينتظروننا، بوجوههم السمراء وأجسادهم النحيفة وجلابيبهم البيضاء، وغزالة ألمحها تمر من بعيد.
صديقي محمد أنقذني، ولن أنسى له ذلك طوال عمري، هو مصور ومُمنتج، وقد قُتل أخوه برصاص الداخلية في مظاهرات الإسكندرية، وجدناه فجأة يُخرِج من حقيبته في هذه الأجواء تفاحًا ويوزعه علينا، عادت لي الحياة وكأني تناولت تلك السوائل المغذية في المشفى.
أبلغنا السائق أن مهمته انتهت هنا، وأن علينا أن نسير متتبعين هذا الرجل فوق جمله، بعد سلسلة من التعليمات تليت على مسامعنا؛ لا تدخنوا، لا تشغلوا هواتفكم، أي ضوء أو همس سيعني نهايتنا، عليكم أن تتحركوا في سكون شديد.
زهاء ساعة ونحن نسير بين مرتفعَين، القمر أشفق علينا وهو غير مكتمل ببعض الضوء، الطريق وعر جدًّا، خمستنا نسير بصعوبة شديدة مسرعين وراء الجمل، الجمل انزعج من وقع خطواتنا وراءه، صاحبه انزعج منا لأننا أزعجنا جمله، أمرنا أن نسبقه، وأن نتلفت كل فترة ليشير إلينا إلى أين يجب أن نتوجه، وسيمضي هو خلفنا، نكاد نرى عصاه في هذا الليل بصعوبة شديدة، هل ستقتلنا العقارب أم الثعابين، أم رصاصة طائشة؟ بلغ التعب مبلغه، وشعرت بأنني بت خائر القوى تمامًا، وليس بوسعي التقدم خطوة واحدة إضافية.
صديقي محمد أنقذني، ولن أنسى له ذلك طوال عمري، هو مصور ومُمنتج، وقد قُتل أخوه برصاص الداخلية في مظاهرات الإسكندرية، وجدناه فجأة يُخرِج من حقيبته في هذه الأجواء تفاحًا ويوزعه علينا، عادت لي الحياة وكأني تناولت تلك السوائل المغذية في المشفى.
عبرنا هذا المضيق بصعوبة بالغة، وبعده بدأ الطريق في الانحدار، إلى أن فوجئنا بشاحنة تعترضنا في هذه الصحراء وفي هذا الوقت المتأخر من الليل، يشير سائقها لنا بضوء هاتفه، كنا كالسكارى، التفتنا إلى صاحب الجمل، فأشار أن نطمئن، تجمعنا عند الشاحنة، نحاول أن نلتقط أنفاسنا، سألناهم في توتر شديد أين نحن الآن؟ هل مازلنا في مصر؟ هل عبرنا الحدود؟ ضحك الرجال وقالوا مرحباً بكم في السودان.
هللنا وكبرنا وسجدنا لله، اتصلت بزوجتي وأبلغتها أنني عبرت الطريق الأخطر، لأخوض لاحقًا طريقي الطويل للوصول إلى أوروبا.
(6)
هل مازلت تريد أن تعرف اسمي؟ اسمي محمد، محمد عبد الفتاح، وهذه الرحلة على قسوتها أخف وطأة من سجون تحبس الذين قالوا لا.
المزيد من الكاتب
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق