لا دعاء للأقصى في يوم عرفة
وائل قنديل
في زمن ليس بعيدًا، كان موسم الحج بمثابة مؤتمر للأمة، تستعيد فيه ذاكرتها المعطلة، أو المعطبة، طوال العام، فتجد قضايا العالم الإسلامي والعربي الحقيقية حاضرةً وساطعةً في دعاء الخطباء والمتكلمين في يوم عرفة.
في شبابنا، كنا نتابع وقائع يوم عرفة المنقولة تلفزيونيا أو إذاعيًا، ركضًا وراء ميكروفون ينتقل من حنجرة إلى حنجرة كلها تتنافس ببديع البيان في استحضار الهموم والأوجاع والأحلام، فكانت فلسطين السليبة موضوعًا رئيسًا.
الدعاء في خطبة يوم عرفة كان للقدس وللأقصى ولفلسطين، والمستضعفين في الأرض من الشعوب المقهورة التي يفتك بها الاحتلال والظلم والاضطهاد، إلى الحد الذي كان معه التحذير من تسييس موسم الحج موضوعًا متكررًا على منصات الحوار والجدل.
الآن جاءت اللحظة التي يتم فيها تغييب فلسطين والأقصى والقدس عن خطبة يوم عرفة، في موسم حج استثنائي من كل الوجوه، إنْ على مستوى أعداد الحجيج، التي جعلت من المناسبة الأكبر والأهم في حياة المسلمين مجرد احتفالية تعبيرية، أو طقس فولكلوري رمزي، أو على مستوى الخطاب، وبشكل خاص مضمون خطبة عرفة التي جاءت مقتضبةً خاطفةً متسرّعة متعجلة، على الرغم من بحبوحة الوقت ورفاهية المكان، حيث لا زحام أو تكدّس أو تدافع .. لا مشكلات على الإطلاق في الحركة أو التفويج، انتقالًا بين المشاعر المقدسة.
كان"كورونا" مهيمنًا ومتحكمًا في تحديد أعداد الحجاج، كما كان مهيمنًا على الخطاب، والدعاء، إذ لم يكلف الخطيب نفسه بالدعاء "لإخواننا المستضعفين في كل مكان"، أو تذكّر المسجد الأقصى المهدد والمحاصر، والذي اقتحمه مستوطنون صهاينة بأعداد كبيرة صبيحة وقفة عرفات، فقط دعا الشيخ لملك السعودية وولي عهده "الأمين المأمون"، وألهب أذان المستمعين بكلام غزير عن حتمية طاعة ولاة الأمر في كل ما يفعلون، ووجوبية الدعاء لهم بالتوفيق والنجاح والسداد والفلاح، حتى لو كان ولاء هؤلاء الولاة للبيت الأبيض أكبر وأهم من انتمائهم للبيت العتيق والأقصى السجين.
فيما مضى، كانت النظم السياسية تمارس التطبيع والانبطاح والتفريط في الحقوق السياسية والإنسانية للأمة طوال العام، ثم تنتظر موسم الحج لتطلق خطباءها بالكلام الذي يهز المشاعر ويحرك القلوب الميتة عن أولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين، وواجب نصرة الأشقاء والأخوة المظلومين والمقهورين، لكن ذلك كله تحوّل إلى طقوس من الماضي، لم يعد مسموحًا بممارستها الآن، في زمن دونالد ترامب وتدشين المفهوم الصهيوني للاعتدال، وتسيير قوافل التطبيع السياحي في الاتجاهين.
التغييب العمدي للموضوع الفلسطيني عن منابر المساجد بدأ مع الانقلاب على كل التاريخ والجغرافيا والإنسان العربي، ووضع الإسلامي السياسي، بديلًا عن الاحتلال الصهيوني، عدوًا وحيدًا لأنظمة الحكم العربية المتلهفة على نيل الرضا الإسرائيلي، ورويدًا رويدًا صار الدعاء لفلسطين تهمة، حتى وصلنا إلى مرحلة الدعاء بالهلاك للمقاومة في كل مواجهة مع الاحتلال، ليغيب الدعاء بالنصر "لإخواننا في فلسطين" عن لائحة الأدعية الرمضانية في المساجد؟
وكما قلت سابقًا، بعضهم نسي الدعاء للأقصى، وبعضهم تناساه، إيثارا للسلامة، من رقيبٍ يعد أنفاس المصلين، ويكاد يفرض ضرائب على عدد التسابيح والأدعية، وصنف ثالث تجاهل الأمر، كون الحكاية "حكاية فلسطين" ابتلعها الصمت الرسمي العربي المطبق، وبات لدى بعض الدول العربية حكام على درجة "سفير" للكيان الصهيوني.
كل عام وفلسطين حاضرة في الذاكرة والوجدان، عربية خالصة، رغم أنف المهرولين.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق