الدكتور عزت السيد أحمد
كاتب ومفكر سوري
بداية لن نختلف علىٰ الاصطلاح، ولن نتيح الفرصة لمن يريد التلاعب في الاصطلاحات وسياق العبارة والتعبير. قل فصل الدين عن الدولة، فصل الدولة عن الدين، فصل السياسة عن الدين، الفصل بَيْنَ الدين والسياسة، الفصل بَيْنَ الدين والدول، الفصل بَيْنَ الدولة والدين… وهلمَّ جرًّا وجرجرة في سياق هٰذه العبارات الدالة علىٰ ما يسمَّى بالعلمانية بفتح العين أصلاً وكسرها لمن يشاء وإن تنطع بعض وقال بفرق بَيْنَ الفتح والكسر… قل ما شئت فكلها علىٰ اختلاف الجهات الدلاليَّة تعني نتيجة واحدة، وتقتضي نتيجة واحدة وهي ما يسمى العلمانية أو بالمعنى الأكثر دقَّة وغاية في القصد: عدم تدخل الدين في الدولة ولا في السياسة.
من الواضح وضوحاً لا لبس فيه؛ وضوحاً واقعيًّا وتصريحيًّا، هو الإصرار علىٰ جهة التدخل وهي من طرف الدين. لا يريدون أيَّ تدخل من قبل الدين في الدولة ولا في السياسة.
حسناً، وماذا عن تدخل السياسة أو الدولة في الدين؟!
هٰذا الوجه هو الذي لم يثره أحد، ولم يتعرض له أحد… علىٰ الرَّغْمِ من أنَّ العلمانيين في تنظيراتهم وبيضهم النَّظريَّات والآراء يقيمون معادلة وتكافؤاً بَيْنَ الطرفين من ناحية وجوب عدم التَّدخل. تدخل السِّياسة أو الدولة في الدين أمر يعنيناً مثلما يعنينا أمر تدخل الدين في السياسة أو الدولة. ولٰكنَّ الذي يعنينا أكثر هو الشق الثاني. فلنبدأ بإلقاء بعض الضَّوء علىٰ الشق الأول.
كلما دقَّ الكوز بالجرَّة، كما يقولون في الشام، ثارت ثائرة العلمانيَّة وحوارييهم ومساطيل أدعياء الموضوعية والحياد تهجُّما علىٰ الدين ورجال الدين وخاصة المسلمين بل وفقط المسلمين، وطالبوهم بعدم التدخل في السياسة، وعدم التدخل في الدولة… ودعوهم إلىٰ احترام العلمانيَّة، واحترام سلطة الدولة، وسياسة الدولة، وسيادة الدولة… وهلمَّ جرًّا وجرجرة في هٰذا المفهوم بتشعباته وانزياحاته.
أقول في ذٰلك: هٰذا أمر مفهوم، معلوم، مشهور، ومن العار أن نجد من ينكر مثل هٰذه الزوابع التي تثور بَيْنَ الحين والحين ضدَّ الدين بسبب أو من دون سبب… رُبَّما يكون في بعض الأحيان سبب، ولٰكنَّهُم في أكثر الأحيان يختلقون كذبة أو افتراء أو يستغلون زللاً ويثورون من مثل حمير جائعة مستنفرة فرت إلىٰ طنجرة، ظنتها مرعًى مخضوضراً.
ولٰكن، ولنعلن التحدي علىٰ الفور وأسأل بداية هٰؤلاء علىٰ الأقل ولا أستثني حواريي العلمانية من ذٰلك ومعهم الجاهلون من وراءهم أدعياء الحياد والموضوعية:
متى اعترض أيُّ واحدٍ علىٰ تدخل الدولة أو السياسة في الدين؟
هل سبق أن اعترض أحد علىٰ تدخل الدولة أو السلطة في الدين؟
اعطونا مثالاً واحداً. وإن لن يكفي إن وجد لٰكنَّهُ سيكون مؤنساً علىٰ الأقل. لن يكون كافياً لأنه من البلاهة بمكان قياسه إلىٰ ملايين المرات والأشخاص الذين يتشدقون بضرورة عدم تدخل الدين في الدولة أو السياسة أو السلطة.
لم تفتأ الدولة العلمانية عن التدخل في الدين منذ نشأتها، في الدول الإسلامية علىٰ نحو خاص وقلما إلىٰ حد العدم أن وجدنا تدخلاً للسلطة أو الدولة أو السياسية في الدين المسيحي أو اليهودي أو حَتَّىٰ البوذي، فمتى اعترض أيُّ علماني بالمطلق من دون تحديد هويته وعرقيته علىٰ تدخل الدولة أو السلطة في الدين؟!
أليس الأصل الفصل، والعدل هو الفصل بَيْنَهما وعدم تدخل أيٍّ منهما في الآخر. فلماذا يحظر الدين ـ الإسلامي تحديداً ـ من التدخل في الدولة أو السلطة أو السياسة، ولا يحظر علىٰ السياسة تسيس الدين والتدخل فيه وتصنيع مشايخ ورجال دين من ضباط المخابرات أو من الجهلة النكرات لاستخدام الدين في السياسة والإفتاء الضلالي؛ الضال المضل، علىٰ ما يرضي السلاطين ورغباتهم وميولهم وأهوائهم التي تتعارض مع الدين؟!!
حسناً، دعك من ذٰلك كله ولنبدأ من جديد. مشكلتنا ليست هنا، مشكلتنا أكبر من ذٰلك بكثير.
بادئ ذي بدء لن أتهم العلمانية الأوروبية في بداياتها أي اتهام بالازدواجية أو سوء النية أو خبث الطوية تجاه الإسلام مثلاً، كما قد يذهب بل كما يذهب بعضهم فعلاً.
العلمانية الأوروبية في بداياتها كانت صافية النية تجاه الفصل الصادق بَيْنَ الدين والدولة بمختلف جهاتها الدلالية التي سبق الكلام فيها.
نعم، لقد كانت الثورة اللوثرية ثورة علىٰ تدخل الدين في الدولة ورقابة الكنيسة علىٰ العقليات السِّياسية والاجتماعيَّة والاقتصادية والتَّربوية… ولذٰلك حكاية ليس هٰذا مكانها ولا أوانها. ونجحت الثَّورة وأحدثت القطيعة بَيْنَ السلطتين الزمنية والروحية، بَيْنَ الدين والسياسة، بَيْنَ الدين والدولة… ولٰكنَّ هٰذا النجاح حَتَّىٰ في بداياته كان مشروطاً وظرفيًّا.
حَتَّىٰ في بداياته كان مشروطاً وظرفيًّا ولم يكن مطلقاً، ظلَّت في البدايات تخوم متداخلة متشابكة علىٰ حياء أو استحياء حيناً، وعلىٰ حَذَرٍ حيناً، وعلىٰ توتر حيناً ثالثاً… ولٰكن حدث فعليًّا إقصاء سلطة الكنيسة شكليًّا عن الدَّولة والسِّياسة. ولٰكنَّ البابا ظلَّ المرجعيَّة الأساسيَّة والمحورية والصميميَّة في السياسة الغربيَّة وإن لم يظهر في الواجهة في هٰذا الشأن. كانت وظلت توجيهات بابا الڤاتيكان وتصريحاته منهاج عمل لزعماء الغرب علىٰ اختلاف مذاهبهم المسيحيَّة، ناهيك عن توجيهاته غير المعلنة. والأمثلة أكثر من أن تحصى أو حَتَّىٰ تعد.
زيارات الزعماء الغربيي عامة للبابا واجتماعاتهم به رُبَّما لا تخفىٰ علىٰ أحد فبالكاد يمكن أن تجد زعيماً غربيًّا علىٰ امتداد ساحبة القرن الماضي وإلىٰ الآن ليس له عدة صور من عدة اجتماعات مع بابا الڤاتيكان. تلكم أخبار تكاد تكون بحكم البداهات لم ينتبه لها أحدٌ، ولم يعلق عليها أحدٌ، ولم تدعو أحداً للتساؤل عن سرِّ هٰذه الحميمية وسرِّ هٰذه الاجتماعات، ولم يستنبط منها أحد مدىٰ ارتباط العلمانية الغربية بتوجيهات البابا وقيادته السياسة الغربية التي لا تبدو في الصورة بحال من الأحوال. ولٰكنَّهَا حقيقة. مرَّت وتمر وكأنها زيارات أو اجتماعات عائلية علىٰ فنجان قهوة بمناسبة عيد شخصيٍّ أو ذكرى عائليَّة.
الصور كلها موجودة علىٰ مواقع الإنترنت العالمية ولن يتعب أحد في العثور علىٰ صورة أي رئيس أو زعيم غربي يخطر في باله مع البابا.
والذي يقطع دابر الشك في هٰذا الشأن وهٰذا التحليل اجتماع البابا بزعماء الدول الأوروبية المسيحية فقط، أي باستثناء تركيا والبوسنة علىٰ سبيل المثال، في الڤاتيكان احتفالا بالذكرى ال60 لاتفاقية روما للشراكة الاقتصادية لدول أوروبا التي كانت نواة تأسيس الاتحاد الأوروبي كياناً سياسيًّا واقتصاديًّا وأمنيًّا وعسكريًّا ليكون كتلة موحدة فاعلة في العالم.
فكيف يمكن فهم ذٰلك؟
وهل يمكن فصله عمًّا سبق؟
أين فصل الدين عن الدولة أو عن السياسة في العالم الغربي الذي كله علمانيٌّ؟!
قد لا يلمس الكثيرون أثر الكنيسة في السياسة الأوروبية أو الغربية، وذٰلك لأنَّهُم قصيرو نظر بطبيعة الحال. إن من يريد لمس أثر للكنيسة أو البابا في السياسة الغربية كمن يريد دليلاً علىٰ أنَّ أمريكا هي التي تقود إسرائيل وليس العكس… الكلُّ يقول إنَّ إسرائيل هي التي تقود أمريكا ولا أحد يريد الاقتناع بأن إسرائيل ليست إلا بيدقاً متقدِّماً لأمريكا والغرب يلعبون بها كيف يشاؤون… ولٰكنَّ الدهاء يكمن في إظهار أنَّ إسرائيل هي التي تتحكم بأمريكا والغرب وليس العكس.
لا أطيل في العلاقة الأوروبية بالباب والكنيسة وكونها خاضعة للسلطة البابوية في تشريعات وكثيرة وكثير من السياسات الصميمية المحورية ودعك من الهوامش التي تمثل أكثر من تسعين بالمئة من السياسة والتصريحات والممارسات السياسية. لننظر قلعة الديمقراطية والعلمانية العالمية الولايات المتحدة الأمريكية.
يقولون إن العلاقات الأمريكية مع الكنيسة والبابا بدأت عام 1982م في الاجتماع التاريخي بَيْنَ البابا والرئيس الأمريكي رونالد ريچان. وكأنها العلاقة الأمريكية الأولى بالسلطة الدينية. وهٰذا وهم.
لنعد إلىٰ الرئيس الأمريكي رونالد ريچان الذي توجه عام 1982م بطائرته إلىٰ الڤاتيكان مقر الكنيسة الكاثوليكية، ليجتمع بالبابا يوحنا بولس الثاني. وفي هٰذا الاجتماع كما روت التسريات الإعلامية حينها تم الاتفاق بَيْنَ البابا والرئيس الأمريكي علىٰ خطة مشتركة للقضاء علىٰ الاتحاد السوڤيتي وتسخير إمكانات الكنيسة لمساعدة أمريكا والغرب في هٰذه الحرب. ودشنت هٰذه الاتفاقيَّة بالتوقيع عام 1984م تحت عنوان: «شراكة من أجل السلام والعدالة والكرامة الإنسانيَّة». والمهم في ذٰلك أمران:
الأمر الأول أنَّهُ في تموز/يوليو 1984م قالت السفيرة الأميركية كاليستا غينغريتش: «إنَّ الطَّرفين، ومن خلال ما قاما به، اعترفا رسميًّا بوجود رابط قائم بَيْنَهما منذ تأسيس بلدنا»، أي الولايات المتحدة، أي إنَّ الولايات المتحدة منذ نشأتها مرتبطة بالكنيسة. الأمر لا يحتاج تأويلاً.
الأمر الثاني البعرة تدل علىٰ البعير. نحن لم نشهد ما دار بَيْنَهما من أسرار ولٰكنَّنا شهدنا ما أرادوا تسريبه من الاجتماع بأنَّهُ اجتماع الاتفاق علىٰ إنهاء الاتحاد السوڤيتي. وشهدنا النتائج التي تمثلت بانتهاء الاتحاد السوڤيتي.
هٰذا الأمر يستحقُّ تحليلاً خاصًّا وقفت عنده سريعاً عام 1992 في كتابي كيف ستواجه أمريكا العالم، وقد لا أعود إليه لذٰلك أقف عنده قليلاً ولا أُغرق في التحليل.
أربعون سنة من الحرب الباردة لم ينته الاتحاد السوڤييتي فيها ولم يتأثر، لم ينته إلا عندما قرَّر البابا أن ينتهي الاتحاد السوڤيتي. فبعد هٰذا الاجتماع الثاني في عام 1984م تمت تصفيه قيادات الاتحاد السوفييتي الكبرى ليستلم ميخائيل چورباتشوف السلطة وينهي هو الاتحاد السوڤييتي خلال أقل ثلاث سنوات من حكمه. چورباتشوف هٰذا الذي نشرت صحيفة الديرشبيچل الألمانية في شباط عام 1992م صورة له قبل أن يكون رئيساً بفترة وهو إلىٰ يسار رونالد ريچان وإلىٰ يمين ريچان جورج بوش الأب. ويفرد ريچان يديه عليهما وكأنه يقول لهما: «ستكملان أنتما الدرب». هكذا علق الكثيرون علىٰ الصُّورة حينها.
حقيقة الأمر يحتاج تحليلاً مطولاً ففيه الكثير من الألغاز والدلالات. ولا أريد الدخول في ذٰلك الآن. ولٰكنِّي أعيد السؤال: لماذا لم يسقط الاتحاد السوڤييتي إلا عندما قرر البابا ذٰلك؟ وهل كان البابا راضيا بوجود الاتحاد السوڤييتي من قبل؟
علىٰ أي حال، نريد القول فقط إن الكنيسة تصنع القرار السياسي الغربي الصميمي والاستراتيجي وتسخر إمكاناتها لتنفيذ احتياجات السياسة الغربيَّة؛ الأخلاقية، والاقتصادية، والاجتماعية، والتربوية… وهلم جرًّا.
الكنيسة ليست بمعزل عن السياسة الغربية العلمانية كلها بإرادة زعماء العلمانية الغربية لا مرغمين ورُبَّما مرغمين فلست أجزم. والأدلة كثيرة أكثر مما سبق بكثير، وليس كل ما يعرف يقال. حسبك محاربة الإسلام في أوروبا، ودعم من بقاع العالم الأُخْرَىٰ. إذا كانت الدول الأوروبية علمانية فلماذا يحاربون الإسلام علىٰ صعيد الدول رسميًّا؟ ولا أتحدث عن الناس العاديين فهٰذه سلوكات شخصيًّة.
حربهم علىٰ الإسلام في بلادهم بالقوانين والإجراءات والأوقح من ذٰلك ملاحقتهم المسلمين في بلادهم وحربهم عليهم وفي هٰذا تفاصيل كثيرة.
فإذا كانوا يفصلون الدين عن الدولة كما يزعمون: فلماذا حربهم ضد المسلمين تحديداً؟ لماذا لا يحاربون عبدة الأصنام والأوثان وغيرهم…؟
في أحسن الظنون يمكن القول إِنَّهُم وهم علمانيون فعلاً بمنتهى الجدية لا يستطيعون إخراج الدين من صدورهم ولا من ممارساتهم، ولا يستطيعون فصل الدين عن السياسة ولا عن الدولة.
دعك من أوروبا ومن المسيحية والعلمانية. تشكل يهودية الدولة الإسرائيليَّة أكبر مثال صارخ علىٰ تلازم الدين والدولة من الطرفين وبمختلف المستويات والمسميات التي تصل ذروتها ليس إلىٰ الاعتراف أو القبول بها دولة دينية وسياسية وديمقراطية كل ذٰلك في الوقت ذاته بل إلىٰ حدٍّ فرض الاعتراف بها علىٰ أساس أنَّها دولة سياسية بهوية دينية. وليست إسرائيل وحدها التي تقول بذٰلك بل كلُّ الدُّول الغربيَّة وعلىٰ رأسها أمريكا؛ الغرب يسعى لفرض الاعتراف علىٰ كل دول العالم بما فيها الدُّول العربيَّة بأنَّ إسرائيل دولة دينية يهودية الهوية، ليست كالڤاتيكان بل هي دولة سياسية اقتصاديَّة مثل أي دولة ولٰكنَّهَا دولة هويتها دينية وفي القوت ذاته علمانيَّة، وأزيدكم في الشِّعر بيتاً؛ كل رؤساء وزراء إسرائيل أي حكامها الفعليون علمانيون بل ملحدون منذ نشأتها إلىٰ العقد الأخير أو رُبَّما أكثر قليلاً وفي الوقت ذاته يتصرَّفون علىٰ أساس أنَّهُم دولة دينية!!!
وتجاوز الأمر ذٰلك أي تجاوز التصرف إلىٰ حدٍّ التشريع والقوننة ففي 16/7/2003م أصدر الكنيست الإسرائيلي قراراً يقضي بضرورة ترسيخ فكرة يهودية الدَّولة، والعمل علىٰ تعميمها علىٰ دول العالم، ومحاولة انتزاع موقف فلسطيني إلىٰ جانب القرار المذكور، وهٰذا ما يفسر اشتراط إسرائيل قبول المفاوض الفلسطيني بفكرة يهودية الدولة قبل انطلاق مفاوضات محتملة بَيْنَ الطرفين. وفي أيام أوباما علىٰ سبيل المثال اشترط رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو قبوله لانطلاق أيِّ مفاوضات مع الفلسطينيين أن يقبلوا الاعتراف بفكرة يهودية دولة إسرائيل.
تصريحات ساسة الغرب ومفكريه في وجوب عدم فصل هوية الدولة اليهودية عن إسرائيل أكثر من أن تُعد. أورد أمثلة قليلة فقط:
في منتصف هٰذا العام 2020م إثر انفتاح الإمارات العربية العلني علىٰ إسرائيل صرح السفير الأمريكي في الإمارات قائلاً: «يجب علىٰ الجميع أن يدركوا أنَّهُ لا مجال للفصل بَيْنَ الدين والدولة في إسرائيل».
وبعد أشهر قليلة، وتحديد يوم الجمعة 23/10/ 2020م بعد الانفتاح الأوسع للتطبيع مع إسرائيل أعلن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب قائلاً: «نتوقع قيام السعودية قريباً بالتطبيع مع إسرائيل اليهودية»… هكذا بالحرف: إسرائيل اليهودية…
لا أطيل في الأمثلة علىٰ كثرتها، بل فحَتَّىٰ لو لم يوجد غيرها فهي كافية وزيادة، فالعقلية الغربية أصلاً قائمة علىٰ التعامل مع إسرائيل علىٰ أناه دولة دينية وفي تناقض صارخ في تصريحاتهم يصورونها علىٰ أنَّها واحة الديمقراطية والعلمانية في المنطقة. بل الأبعد من ذٰلك أنَّ إسرائيل هٰذه التي يريدون إقناعنا بأَنَّهَا واحة الديمقراطية في المنطقة هم أنشأوها علىٰ أساس ديني.
الطريف العجيب أن تجد العلمانيين العرب يقولون: «إن إسرائيل تستخدم هٰذا الشِّعار لجذب اليهود إلىٰ إسرائيل» ليسبغوا الشرعية علىٰ إسرائيل بخبث شديد.
هٰذه هي العقلية الغربية في التعامل مع المسيحية واليهودية في التعامل مع المسحية ومع اليهودية… ولٰكنَّهَا بعين عوراء تتعامل مع الإسلام. تجيز للمسيحية واليهودية التدخل في السياسة وعدم الفصل بَيْنَ السياسة والدين وتفرض تدخل الإسلام في السياسة وترفض إدخال السياسيين المسلمين الإسلام في السياسة. فقط الإسلام يتناقض مع العلمانية!!! فقط الإسلام لا يجوز أن يتدخل في السياسة!!! فقط الإسلام يجب أن يبقى بعيداً عن السياسة!!!
المشكلة الطريفة العجيبة الوقحة هي أن العقلية الغربية هٰذه كذٰلكَ تبيح تدخل الأديان الوثنية في السياسة وأن تقود الأديان الوثنية السياسة في بلادها وترفض أن يكون للإسلام أي تدخل في السياسة في بلاد المسلمين… وبطبيعة الحال في غير بلاد المسلمين التي كانت لنا معها وقفة خاصة في هٰذا الشأن.
وكيف تتدخل الأديان الوضعية أو الوثنية سيان في السياسة؟
الطريف العجيب الوقح أيضاً أن أصحاب الأديان الوثنية يتعاملون بالعقلية العربية ذاتها؛ فهم يجيزون لأديانهم الوثنية ولمراجعهم الدينية أن تتدخل في السياسة وأن تقود السياسة، والعدو لهم أيضاً هو الإسلام مثل الغرب تماماً: يرفضون تدخل الإسلام في السياسة، يرفضون أن يكون للإسلام علاقة بالسياسة!!!
بطبيعة الحال سيوجد من أبناء المسلمين من هم أشنع من الشناعة ويختلقون التبريرات والذرائع لدحض هٰذه الحقيقة.
لن أطيل في الجدال ولن أفتح أبواب التكهنات علىٰ أنواع الاعتراضات وإنما أكتفي بالقول: وماذا تسمون ما حدث ويحدث في الهند من حرب دموية ضد المسلمين لتهجيرهم بتشريعات دستورية تؤسس لهند هندوسية خالية من الإسىلام والمسلمين؟! هٰذا يحدث الآن ولم يحدث الآن؛ يعني نحن نشاهد أخباره في التلفزيون واليوتيوب نقلاً حيًّا أحياناً.
وقبل الهند علىٰ امتداد سنوات حدث التطهير العرقي الشامل في مينمار لطرد كل المسلمين من البلاد وتم ذٰلك بعد ارتكاب مجازر من أشنع المجازر في تاريخ البشرية. وتم لهم أن طهروا البلاد من المسلمين ليس بصمت الجميع بل بتواطئهم علىٰ هٰذه المجازر والتهجير. كما صمتوا ويصمتون عما تفعله الهند ضد المسلمين… أكثر من أربعمئة مليون مسلم في الهند تريد الهند القضاء عليهم بطريقة أو بأُخْرَىٰ.
ولا ننسى الصين الشيوعية ـ الكونفوشيوسية التي وضعت يدها علىٰ سائر المسلمين في تركستان وهو بلد تحتله وليس صينيًّا وقتلت من قتلت ومن بقي منهم تفرض عليهم ممارسات ضد الإسلام من أخلاق ومأكل ومشرب وعادات لا تختلف عن محاكم التفتيش الإسبانية, وأيضاً بصمت دولي قذر.
أنا لا أتحدث عن الحروب التي خاضها الجميع ويخوضونها ضد المسلمين حرباً دينية وحرباً ضد الإسلام وحقداً علىٰ الإسلام… فتلكم مسألة طويلة فيها من الوجع الكثير والكبير. أنا أتحدث عن فصل الدين عن الدولة، ولا يوجد أي خلط تسبيقاً علىٰ من يريد الاعتراض. الأمور واضحة ولا لبس فيها.
ولٰكن في إطار حروبهم علىٰ الإسلام والمسلمين والاتهامات الافترائية للإسلام والمسلمين بأنهم إرهابيون وأنهم يحاربونهم لأنهم إرهابيون فإني أعلق بمسألتين:
مسألة الإرهاب هٰذه لم تظهر إلا في العقود الثلاث الأخيرة علىٰ أساس عمليات إرهابية يقوم بها إسلاميون في أوروبا. والمسألة الثانية سأفترض كما يؤمنون بأن المسلمين كلهم إرهابيون منذ بداية الإسلام وأتساءل:
ـ كم قتل المسلمون من غير المسلمين منذ بدأ الإسلام إلىٰ اليوم وفي الحروب وفي غير الحروب؟
لن يكون المجموع أكثر عبر ألف وأربعمئة سنة أكثر من مليون.
الولايات المتحدة الأمريكية وحدها قتلت في أفغانستان خلال أشهر من المدنيين الأبرياء أكثر من مليون.
الولايات المتحدة وحدها في العراق خلال حرب الاختلال وخلال تحرير الكويت وفي سنوات الحصار أي كلها خلال عشر سنوات قتلت أكثر من ثلاثة ملايين.
فرنسا خلال مئة من الاحتلال في الجزائر قتلت عشرة ملايين إنساني مدني بريء.
لا أطيل العد. وأعود إلىٰ فصل الدين عن الدين عن الدولة.
كل الأديان السماوية والوضعية تتدخل في السياسة بصريح… العبارة وكل الأديان في الوقت ذاته تحارب تدخل الإسلام في السياسة وتريد فصل الإسلام عن السياسة.
كل الأديان تحارب المسلمين والإسلام ولا تسمح للمسلمين بأن يدافعوا عن أنفسهم.
المسألة الواضحة وضوحاً يفقأ عين الجاحد هي أنَّ المقصود هو الإسلام والإسلام فقط. لا ننكر أن العلمانية والثورة علىٰ الدين ثورة مسيحية من أجل فصل الكنيسة عن الدولة، ولا ننكر أنَّهَا ثورة صادقة، ولٰكنَّ فصل الدين عن الدولة أسطورة لا اساس لها في الواقع ولا بحال من الأحوال. بدليل ما سبق في كلامنا، والشواهد والشروح والتفاصيل أكثر من أن تحصى.
لماذا حلال علىٰ الأديان كلها أن تتدخل في السياسة وحرام علىٰ الإسلام التدخل في السياسة؟؟!!
ثَمَّة من سينتظر الجواب.
الجواب كان في كتاب موسع حمل عنوان انهيار أوهام فوبيا الإسلام. فإن أجبت هنا بسطر أو أسطر فلا يعني ذٰلك أن هٰذا هو الجواب كله.
تخيل أن أبرز وأكبر وأشهر سبب لحربهم علىٰ الإسلام أنَّهُ ينتشر بكثرة وسرعة في أرجاء العالم، ويخافون من أن يسود الإسلام العالم!!!
تخيل أنَّهُم يعلمون ويقرون بأن هٰذا الانتشار من دون إكراه ومن دون حروب!!!
تخيل الآن أنَّهُم لا يعلمون أنَّ الإسلام هو الصواب وهو الأفضل وهو القوي بصوابه ومنطقيته وأخلاقه!!!
وتخيل الآن أنَّهُم لا يعلمون أنَّهُم يحاربون الحق وهم يعلمون أنَّهُ الحق!!!
قد يعترض معترض بأنَّ هٰذا الكلام من الخيال. خيال هٰذا المعترض عفن بالتأكيد، وقوامه القيح والصديد. فهٰذا الكلام من تصريحاتهم المباشرة وغير المباشرة، ومما نراه رؤيا العين اليوم. وأكبر مثال علىٰ ذٰلك ما حدث قبل أيام قليلة عندما توصلت فرنسا إلىٰ الإفراج عن المواطنة الفرنسية صوفيا التي كانت مختطفة أو محتجزة عن إرهابيين إسلاميين في مالي. وذهب الرئيس الفرنسي ماكرون شخصيًّا لاستقبالها في المطار. وعندما نزلت من الطائرة عاتبت الرئيس الفرنسي علىٰ إساءاته إلىٰ الإسلام وأعلنت إسلامها وقالت لا تنادوني صوفيا أنا أسلمت وصار اسمي مريم. ودعت الله أن يحمي المسلمين ويحفظهم.
وفي أواخر النصف الأول من هٰذا العام أي قبل أشهر من إسلام الرهينة الفرنسية صوفيا/ مريم كانت الرهئينة الإيطالية سيلفيا رومانو التي أفرج عنها بعد أن قضت 18 شهراً رهن الاحتجاز لدى حركة الشباب المجاهدين بَيْنَ كينيا والصومال، أيضاً بعد الإفراج عنها أعلنت أنها اعتنقت الإسلام بمحض إرادتها واختارت أن يصبح اسمها عائشة، وأشارت إلىٰ أنَّهُا لم تتعرض للعنف. ومع ذٰلك ضاجت إيطاليا احتجاًجا عليها وشنت حرباً شنيعة ضد الإسلام متهمة إياه بالتطرف.
وغير ذٰلك الكثير من هٰذا القبيل. والسؤال الذي يفرض ذاته: إذا كانوا مختطفين عند إرهابيين وبهذه الأخلاق النبيلة الراقية التي جعلت أسراهم يعتنقوا دينهم حبًّا بهم ودينهم الذي جعلهم بهٰذه الأخلاق فكيف سيكون الحال لو لم يكونوا إرهابيين؟!
هٰذه هي الحقيقة.
فصل الدين عن الدولة أو عن السياسة أو عن السلطة وعنها كلها أسطورة بل خلاافة لا أساس لها في الواقع ولا يمكن أن تتحقق. لقد ناقشت ذٰلك وبينته من الممارسات الواقية التي نعيشها ونعرفها ولم ألجأ إلىٰ مناقشة فلسفية لاستحالة فصل الدين عن السلطة بمسمياتها ومستوياتها، والمناقشة الفلسفية المنطقية النفسية للموضوع ستقود إلىٰ النتيجة ذاتها. وأصلاً تبقى المناقشة الفلسفية مهما كانت منطقية خلق الممارسة الواقعية وأقل منها إقناعاً وإن لجأ بعض إلىٰ محاولة وضع العربة أمام الحصان لإثبات العكس. لأنَّ أمثال هٰؤلاء حاملوا السلم بالعرض إن توافق النقاش الفلسفي مع قناعاتهم أخذوا به ورفضوا التفكير النظري إن لم يتوافق مع رغباتهم، وإن لم يوافق الواقع رغباتهم أخذوا بالتفكير النظري والتنظير إن كان يخدم رغباتهم.
لسوء حظهم فإنَّ الطريقين كليهما يؤديان إلىٰ نتيجة واحدة هي أن فصل الدين عن الدولة خرافة لا يمكن أن تكون واقعاً مهما مارست السياسة من حربائية لستر هٰذه الحقيقة.
هٰذه هي الحقيقة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق