محمود عبد الهادي
بين اتفاق الصخيرات في المغرب 2015 واتفاق تونس 2020، 5 سنوات من القتل والسحل والإعاقة والنزوح والمعاناة متعددة الوجوه، والكوابيس متعددة الرؤوس. 5 سنوات من الدمار للدولة ومقدراتها، وللمجتمع ومكوناته، وللإنسان الليبي ومعنوياته وأحلامه وتطلعاته. الاتفاق الذي تحقق اليوم رائع، فلا تضيعوا الفرصة وتقتلوه مرة أخرى.
وإلى الذين يشككون ويتشاءمون ويتأففون ويتحيزون، أقول لهم ويحكم! كفى! ولتصفقوا للاتفاق، وللذين وقعوا عليه، ولتدعوا لهم بالتوفيق، وترفعوا أيديكم لهم بالتحية والإجلال، ولترجوهم بحرارة لاستكمال بقية المراحل، من أجل استعادة السلام والاستقرار، والشروع في إعادة بناء ليبيا، التي ما زالت تنتظر الانطلاق منذ أكثر من نصف قرن، لا تقدموا تشاؤمكم على تفاؤلكم، ولا تجعلوا تحيزكم يدفعكم للاستمرار في جرائم الحرب المتواصلة؛ بل قفوا صفا واحدا وساترا منيعا يحول دون العودة إلى الحرب مهما كانت الأسباب، أعربوا عن قلقكم وتخوفاتكم، وقدموا نصائحكم ومقترحاتكم؛ ولكن بعيدا عن الحديث عن النصر والهزيمة، والخوض في العوامل الداخلية والخارجية، والتشكيك في النوايا، والحديث عن المآلات والاحتمالات المتشائمة. لقد انتصرت ليبيا في إيقاف الحرب بهذا الاتفاق، فحافظوا على هذا النصر، وكونوا من حراسه.
إن كل يوم يأتي على ليبيا بدون قذائف وصواريخ وقصف وقتل ودمار، هو يوم عيد وفرح وبشرى، وإن هذه القدرة الهائلة على القتل والدمار أثناء الحرب، ينبغي أن تكون أعلى وأشد حماسة في إرساء قواعد الاستقرار والانطلاق في البناء والتنمية وصناعة المستقبل.
المسلمات الخمسة
على جميع الليبيين بوجه خاص، التسليم بأن الحرب الأهلية التي كانت دائرة، إنما هي حرب عبثية مجنونة، راح ضحيتها آلاف القتلى وعشرات الآلاف من الجرحى والمعاقين، وفر تحت وطأتها مئات الآلاف من النازحين والمهجرين، الذين ضاقت بهم العواصم العربية والعالمية، وبلغت خسائر النفط أكثر من 230 مليار دولار، عدا عن تكلفة الدمار، الذي لحق بالبنية التحتية، وتكلفة الانهيارات الاجتماعية والنفسية، التي لحقت بأفراد الشعب، الذين لا ناقة لهم فيها ولا جمل، ورغم أن جميع الأطراف يعلمون أمر هذه التكلفة الباهظة؛ إلا أنهم استمروا فيها، رغم أنهم يعلمون أيضا أنها في النهاية تحكمها مجموعة من المسلمات، التي لا محيد عنها، وفي مقدمتها المسلمات الخمسة التالية:
1. إن ليبيا لليبيين:
لجميع الليبيين، بكل اتجاهاتهم السياسية، وانتماءاتهم الفكرية، وولاءاتهم القبلية والجهوية، وجميعهم يقفون أمام الدستور والقانون على قدم المساواة، يتمتعون بحرياتهم المدنية وحقوقهم الدستورية الكاملة، بما فيها حق الترشح والانتخاب وتشكيل الأحزاب، ولا يحق لأحد أن ينكر على أحد، أو يتهمه، أو يعاديه، لأنه يخالفه في الاتجاه أو الانتماء، ما دام ملتزما بالدستور والقانون.
2. إن الحرب بين أطراف ليبية:
هذه الأطراف الليبية توحشت في ظروف استثنائية، واستسهلت استعمال السلاح لفرض أجندتها السياسية، سواء أكانت شخصية أم حزبية، داخلية أم خارجية، وأن الأطراف الخارجية مهما بلغ دورها داخل ليبيا لصالح هذا الطرف أو ذاك؛ فإنها ستبقى أطرافا خارجية، ولن يتوانى الليبيون جميعا عن الاصطفاف في مواجهتها عند اللزوم.
3. إن الجميع في الحرب الأهلية خاسرون:
هذه الحرب الأهلية، ليس فيها طرف رابح وآخر خاسر، فالجميع خاسرون، والخسارة فادحة، والخاسر الأكبر هو الوطن الذي يكون معرضا للانهيار والتفتيت، ومعه الشعب الذي تتلقفه الشظايا والحرائق، وتتقاذفه سيول النزوح والهجرة، فيتناثر ماضيه، وينهار حاضره، ويوأد مستقبله.
4. إنه مهما طال أمد الحرب الأهلية فإنها إلى زوال:
وبالتالي، فإن التعجيل بإيقاف الحرب هو رأس الحكمة، حفاظا على ما تبقى من الوطن، وحقنا للدماء، ورفعا للمعاناة، واستثمارا للمقدرات في إعادة البناء، وأن الغلبة لأحد الطرفين على الآخر، ستبقى دائما غلبة مؤقتة تنتظر أن تدور عليها الدوائر بفعل عوامل الزمن، وما تحمله من متغيرات وتحولات.
5. إن الحوار هو السبيل الوحيد الآمن لحل الخلافات الداخلية:
فمهما طالت فترة الحوار، فإن الوطن سيتعرض لبعض الأزمات الداخلية الاقتصادية والأمنية والتنموية؛ ولكنه سينجو من الحرائق والدمار والتمزق والانهيار، وسيظل الشعب بمأمن من القتل والإعاقة والنزوح والتهجير.
إن كل يوم يأتي على ليبيا بدون قذائف وصواريخ وقصف وقتل ودمار، هو يوم عيد وفرح وبشرى، وإن هذه القدرة الهائلة على القتل والدمار أثناء الحرب، ينبغي أن تكون أعلى وأشد حماسة في إرساء قواعد الاستقرار والانطلاق في البناء والتنمية وصناعة المستقبل.
نموذج يُحتذى
أكدت المبادئ الخمسة، التي قام عليها اتفاق المصالحة بين الأطراف الليبية برعاية الأمم المتحدة على ما يأتي:
1. وحدة الأراضي الليبية وحماية حدودها برا وبحرا وجوا.
2. الامتناع عن رهن القرار الوطني ومقدرات البلاد لأي قوة خارجية.
3. مكافحة الإرهاب سياسة وطنية مشتركة تساهم فيها كل مؤسسات الدولة.
4. احترام حقوق الإنسان وقواعد القانون الدولي.
5. بنود الاتفاق تسري على كامل الدولة الليبية برا وبحرا وجوا.
هذه المبادئ الخمسة، التي اتسمت بدرجة عالية من الوضوح والشمول والتحديد، أسست لقاعدة متينة للدخول في حوار جدي لإيقاف القتال وعدم العودة إلى الحرب من جديد، والاتفاق على مجموعة من الإجراءات العاجلة، التي تعزز المصداقية وتؤسس للتعاون المشترك بين طرفي النزاع لإدارة أعمال المرحلة القادمة، وإنهاء العداءات، ومنع أي خروقات، وقد ساعدت الروح التي سادت أجواء المفاوضات على التوصل إلى جملة من الأعمال الانتقالية العاجلة، وعلى رأسها:
- الوقف الفوري لإطلاق النار.
- إخلاء جميع خطوط التماس.
- تشكيل قوة عسكرية مشتركة محدودة للحد من الخروقات المتوقعة.
- تصنيف الكيانات والمجموعات المسلحة داخل ليبيا وتفكيكها، وإعادة دمجها في مؤسسات الدولة بحسب الحاجة، وحسب توفر الشروط.
- إيقاف التصعيد الإعلامي وخطاب الكراهية.
- فتح الطرق والمعابر البرية والجوية.
- حراسة المنشآت النفطية وضمان تدفقها.
- إيقاف القبض على الهوية والانتماء السياسي والاقتصار على القبض على المطلوبين جنائيا.
- إجراء انتخابات نيابية ورئاسية في ديسمبر/كانون الأول من العام القادم.
هذه المبادئ الخمسة والبنود المترتبة عليها، والروح التي سادت أجواء المفاوضات، تعتبر نموذجا يحتذى لإيقاف النزاعات الأخرى، التي تشهدها دول عربية أخرى كاليمن وسوريا. وهي تمثل الخطوة الأولى، التي انتظرها الشعب الليبي طويلا، حتى يعود إلى حياته الطبيعية بدون قصف ودمار وقتلى ومصابين.
إنها الخطوة الأولى في مسيرة بناء الدولة الليبية الجديدة المتماسكة، التي يتمتع فيها الليبيون جميعا بكافة الحريات والحقوق الدستورية، وتتنافس فيها القوى السياسية على التداول السلمي للسلطة، وفقا لأحكام دستور وقانون الدولة الليبية الممثلة لشعبها، وذات السيادة الوطنية المستقلة، التي تقيم علاقات متوازنة مع المحيطين الإقليمي والدولي وفقا لمصالحها المتبادلة مع كل منهما.
في الأسبوع القادم بإذن الله: كورونا.. أصل الحكاية| ضمانات تحويل العالم.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق