المصريون الحمر والمصريون الزرق
بالنسبة لشخص مثلي، عاصر عشرة انتخابات رئاسية أميركية على الأقل، شهدت صعود ديمقراطيين وهبوط جمهوريين، والعكس، من دون أن يُحدث ذلك تأثيرًا عميقًا في قضايانا العربية، فإن الشغف بالمعركة الدائرة حاليًا بين ترامب وبايدن أقل بكثير مما سبق.
لا يستغرقني مشهد الصراع الانتخابي في الولايات المتحدة، بقدر ما يدهشني ذلك الشغف الذي يصل إلى حد التماهي الذي يجتاح المجتمعات العربية، وهي تتابع فصول اللعبة الانتخابية باهتمام يزيد عشرات المرّات عن اهتمامها بأية انتخابات محلية تجري في بلدانها، على نحوٍ يبدو معه وكأن نتيجة الاقتراع ستنعكس في الحال على الأوضاع السياسية والاقتصادية في البلاد العربية.
صحيحٌ أنه لا يوجد أسوأ من دونالد ترامب على ظهر الأرض، ومؤكّد أن العالم صار أقل إنسانية وأكثر وحشية وانحطاطًا خلال السنوات الأربع الماضية، التي انفرد فيها ذلك التاجر الصفيق بإدارة الكوكب، إلا أنه ليس من المؤكّد أن معضلات العرب ستعرف، بوصول جو بايدن إلى السلطة، سوف تعرف طريقها إلى الحل، ذلك أنه ملتزم على نحو أكثر صرامة بالانحياز للكيان الصهيوني.
ومع ذلك، ربما يصبح الكون أقل قبحًا مع شخصٍ يخلف آخر كان تجسيدًا كاملًا لكل القيم القبيحة، ليس هذا فحسب، بل كان مبشرًا بالقبح داعمًا ومساندًا له في كل مكان في العالم، إلى الحد الذي كان يشيد معه بالأكثر قبحًا، كما فعل وهو يمتدح عبد الفتاح السيسي، وهو يصفه بأنه ذلك"القاتل اللعين"، وكما تبدى في استبساله واستعماله كل قوته لانتشال الفاعل الأول في جريمة قتل جمال خاشقجي من ورطته.
إذن، يبدو الأمر وكأن الغاية الأسمى في هذا الصراع الانتخابي هي سقوط ترامب، وليست نجاح منافسه بايدن، إذ يصبح، في هذه الحال، وسيلة للتخلص من هذا الكابوس الذي يخنق البشرية منذ أربع سنوات.
في الحالة المصرية تحديدًا، ينقسم المتابعون إلى مصريين حمر، يرون في دونالد ترامب مرشحهم، والحزب الجمهوري صاحب اللون الأحمر الفاقع حزبهم .. ومصريين زرق تتعلق أفئدتهم بمرشح الحزب الديمقراطي، جو بايدن، وكأنه طوق النجاة المنتظر للتحرّر من نظام الانقلاب الدموي القمعي القاتل لأي حلم بالحرية والديمقراطية.
كلا الفريقين يمارس نوعًا من التعلق الطفولي بأوهامٍ وافتراضاتٍ ليس ثمّة ما يسندها على أرض الواقع، أو في فضاء الذاكرة، ذلك أن قتل التجربة الديمقراطية الوليدة في مصر تم في وجود الديمقراطيين، ويمثلهم باراك حسين أوباما في الحكم، ولم يفعل شيئًا لمنع اغتيال الديمقراطية في مصر.
والوضع كذلك إن توقع التغيير في مصر بمجرد حدوثه في الولايات المتحدة افتراض خاطئ. ولا أظن أن المسألة بالنسبة لشعب عبد الفتاح السيسي لا تتجاوز كونها فرصةً لتعبئة بطاريات الكراهية المجتمعية والإقصاء السياسي، بإعادة إحياء الأكاذيب المخدّرة القديمة التي تبتز الجماهير بفزّاعة المؤامرة الدولية الكونية على مصر، المحكومة بنظام يقر ويعترف بأنه الحارس الأمين على مصالح العدو الصهيوني، الذي يتنافس لنيل رضاه المتسابقون نحو البيت الأبيض الأميركي.
على أن لحكاية التعلق العربي بعملية الانتخابات الأميركية جوانب أخرى، لعل أهمها أن الجمهور العربي الذي يعاني الحرمان والجوع إلى الممارسة الديمقراطية يجد في الحالة الأميركية مائدة افتراضية عامرة بكل الأصناف الشهية من منتجات المطبخ السياسي، لتأتي متابعة المواطن المصري، على سبيل المثال، للحالة الأميركية وكأنها استعادة لحالةٍ مرّت خاطفةً كان فيها عنصرًا فاعلًا، للمرة الأولى والأخيرة، حتى الآن، في حياته، ليصبح الأمر نوعًا من جلد الذات على ما فرّطت فيه سريعًا، بعد عقود طويلة من الانتظار، حيث يتحول الذين أسهموا في قتل آلية الانتخاب ومواراتها الثرى إلى مشجعين ومتفاعلين مع السباق الأميركي المبهر، بل ومحللين ومنظرين، يتحدّثون بوصفهم حرّاس الحياة الديمقراطية في أوطانهم، على الرغم من أن ذكريات الاصطفاف خلف "تحالف البندقية والقلنسوة والعمامة" لوأد الديمقراطية الوليدة لا تزال مشتعلة، لم تنطفئ بعد وكأنها حدثت بالأمس.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق