محمود عبد الهادي
هل كان مجرد صدفة أن ينعقد اجتماع سياسي رفيع المستوى في الجمعية العامة للأمم المتحدة يركز حصرا ولأول مرة على التغطية الصحية الشاملة، تحت شعار "التحرك معا لبناء عالم أوفر صحة"، وذلك في جلسته العامة المنعقدة في مقر الأمم المتحدة في نيويورك في أكتوبر/تشرين الأول من العام الماضي؛ أي قبل شهرين من ظهور فيروس كورونا؟
هذا الاجتماع تقرر التحضير له عام 2017 في الجمعية العامة للأمم المتحدة، وساهمت منظمة الصحة العالمية في إعداد الإعلان الصادر عنه في 14 صفحة، فهل كان هذا الاجتماع الاستثنائي مجرد جهد إضافي وتذكير ومناشدة حول المسؤولية الصحية للدول الأعضاء والشركاء، أم كان له علاقة بظهور فيروس كورونا من جديد؟ إذ إن الموضوع الصحي ليس غائبا عن التقارير والإعلانات والتوصيات والقرارات الخاصة بأهداف التنمية المستدامة، فهو يحتل الهدف الثالث من أهداف التنمية المستدامة، وينص على ضمان التمتع بالحياة الصحية والرفاهية لجميع الأعمار، ويعتبر شرطا أساسيا لتحقيق أبعاد التنمية المستدامة الثلاثة الاقتصادي والاجتماعي والبيئي.
تناول الإعلان الصادر عن هذا الاجتماع 3 جوانب رئيسية تحركت بشكل كبير بعد إعلان جائحة كورونا، وهي التمويل والتنظيم والتطوير الصحي التكنولوجي، وما كان لهذه الجوانب أن تتحرك على هذا النحو بدون حدث مصنوع شغل العالم على هذا المستوى، ولو لم تقع جائحة كورونا لما انتبه أحد لهذا الاجتماع، ولما صدر عنه
هل كانت مجرد صدفة أن ينعقد الاجتماع السياسي رفيع المستوى للجمعية العامة للأمم المتحدة حصرا ولأول مرة، تحت شعار "التغطية الصحية الشاملة: التحرك معا لبناء عالم أوفر صحة" قبل شهرين من ظهور فيروس كورونا؟
أولا: التمويل.. العقبة الكبرى
يعد تمويل أهداف التنمية المستدامة، على رأس القضايا التي تشغل اهتمام الأمم المتحدة لإنجاز خطة تحويل العالم بحلول عام 2030، حيث تبلغ احتياجاتها السنوية حوالي 6 تريليونات دولار. فكيف يمكن توفير هذا المبلغ الضخم؟ وكيف تقتنع الدول الأعضاء والشركاء، بأن عليهم بذل المزيد من الجهود فعليا لتوفير التمويل اللازم لأهداف التنمية المستدامة؟ فبالرغم من أن العالم ينفق حاليا 7.5 تريليونات دولار على الصحة سنويا؛ إلا أن المؤشرات الصحية تقول:
- إن نصف سكان العالم ما يزالون يفتقرون إلى الخدمات الصحية الأساسية.
- إن أكثر من 800 مليون شخص ينفقون ما لا يقل عن 10% من دخل أسرهم على الرعاية الصحية.
- إن ما ينفقه الناس من جيوبهم على الصحة يؤدي إلى إفقار ما يقرب من 100 مليون شخص سنويا.
- إن ثلث سكان العالم سيظلون محرومين من الخدمات الصحية الكافية بحلول عام 2030.
- إن العديد من النظم الصحية ليست مستعدة بما فيه الكفاية لتلبية احتياجات المتقدمين في السن.
- إن ارتفاع أسعار بعض المنتجات الصحية، وعدم المساواة في إمكانية الحصول عليها، يعرقل التقدم نحو تحقيق التغطية الصحية الشاملة.
- إن هناك نقص يقدر بـ18 مليون عامل في المجال الصحي على مستوى العالم.
- وفي مواجهة ذلك، أكد القادة المجتمعون كالعادة، على العديد من التعهدات، من بينها:
- السعي لإنتهاج سياسات فعالة للتمويل الصحي.
- ضمان الإنفاق العام المحلي الكافي على الصحة، وتعظيم كفاءة الإنفاق الصحي وضمان عدالة توزيعه.
- توفير موارد مالية كافية ومستدامة، لدعم الجهود الوطنية المبذولة في تحقيق التغطية الصحية الشاملة.
- الشراكات مع القطاع الخاص والجهات الأخرى صاحبة المصلحة.
- اتخاذ خطوات فورية لمعالجة النقص العالمي في عدد العاملين الصحيين البالغ 18 مليون عامل.
وكانت المفاجأة لأول مرة في تاريخ البشرية وفي تاريخ قمة الدول 20، يتم الاتفاق على ضخ مبلغ ضخم وقدره 5 تريليونات دولار لمواجهة الآثار المترتبة على انتشار جائحة كورونا، وذلك في قمة الرياض الاستثنائية التي انعقدت على الإنترنت في 26 مارس/آذار الماضي، وهذا يوضح كيف ساهمت "حكاية" كورونا في توفير تدفقات مالية كبيرة غير معهودة لدعم الجانب الصحي، والحلول الصحية البيوتكنولوجية اللازمة، وسنعرض لهذه التدفقات في مقالات قادمة بإذن الله.
معظم تعهدات إعلان الاجتماع السياسي رفيع المستوى حول الصحة الشاملة، تم تضمينها بصورة شبه حرفية في إعلان قمة الرياض الاستثنائية للدول الـ20 حول كورونا، والمنعقدة في مارس/آذار الماضي، تحت عنوان "مكافحة الجائحة".
ثانيا: تحقيق التنظيم والشراكة والشفافية
عملية تحويل العالم عن طريق أهداف التنمية المستدامة 2030، لا يمكن أن تتم دون أن تخضع لتنظيم دقيق على جميع المستويات وفي شتى المجالات، يتسع لجميع الشركاء من أصحاب المصلحة، ويتسم بشفافية عالية تتوفر فيها البيانات الكاملة الدقيقة، وتسمح بالرقابة الكاملة على كافة البرامج والمشروعات والسياسات والإجراءات، وقد عرض الإعلان السياسي في هذا المجال الجوانب التي ما زالت بحاجة إلى الكثير من العمل؛ لتتمكن من تحقيق التغطية الصحية الشاملة، وفي مقدمتها:
الحاجة الماسة إلى تسريع قابل للقياس.
الحاجة إلى إقامة شراكات عالمية وإقليمية ووطنية قوية، تشارك فيها جميع الجهات صاحبة المصلحة.
الأهمية الحيوية لتعزيز الأطر والمؤسسات التشريعية والتنظيمية.
وللمساهمة في التغلب على ذلك، تعهد الإعلان بتكثيف الجهود والإجراءات، وكان من بينها:
تنفيذ سياسات شديدة التأثير لحماية صحة الناس بإدماج الصحة في جميع السياسات الشاملة للحكومة بأكملها.
تعزيز نظم المراقبة والإعلانات الخاصة بالصحة العامة.
تحسين القدرات التنظيمية ومواصلة تعزيز نظام تشريعي وتنظيمي مسؤول وأخلاقي يشجع على شمول جميع أصحاب المصلحة، ويستجيب للاحتياجات المتغيرة في فترة تشهد تغيرا تكنولوجيا سريعا.
توفير قيادة إستراتيجية بشأن التغطية الصحية الشاملة على أعلى مستوى سياسي وتشجيع أكبر قدر من الاتساق في السياسات والإجراءات.
تعزيز نظم المعلومات الصحية وجمع إعلانات جيدة النوعية وحسنة التوقيت وموثوق بها، بما في ذلك الإحصاءات الحيوية.
تنشيط وتعزيز شراكات عالمية قوية مع جميع أصحاب المصلحة المعنيين من أجل دعم جهود الدول الأعضاء على نحو تعاوني.
إن هذه التعهدات وغيرها مما يتصل بموضوعها في إعلان الاجتماع السياسي رفيع المستوى حول الصحة الشاملة، ضُمنت بصورة شبه حرفية في إعلان قمة الرياض الاستثنائية للدول الـ20 حول كورونا، والمنعقدة في مارس/آذار الماضي، تحت عنوان "مكافحة الجائحة"، وقد توالت بعده المؤتمرات والقرارات والتعهدات التي تصب في هذا المجال.
ثالثا: التطوير الصحي التكنولوجي
انطلق هذا التطوير منذ سنوات بمشاركة العديد من المؤسسات البحثية والشركات المتخصصة، التي سعت للوصول إلى الاستفادة من التطور التكنولوجي في زيادة كفاءة الخلية في مواجهة الأمراض المعدية وغير المعدية، وزيادة كفاءة الجسم في مقاومة هذه الأمراض بصورة تلقائية تقلل تكاليف العلاج على مستوى الفرد والدولة، وربط ذلك مع البيانات الكاملة الصحية والاجتماعية والمالية للأفراد.
وقد حققت الأبحاث في هذا المجال تقدما كبيرا، وبدأت إجراء التجارب الأولية لها على البشر في بعض المناطق من العالم؛ ولكنها ما زالت بانتظار اللمسات الأخيرة لإطلاق نتائجها على مستوى العالم، وإقناع الدول والأفراد بقبولها، وفي حين كانت المؤسسات البحثية بحاجة إلى المزيد من الدعم لاستكمال أبحاثها، فإن الشركات الخاصة كانت بحاجة إلى تعهدات وتنظيم يسمح لها بتسويق منتجاتها على الدول الأعضاء، وجني أرباح الاستثمارات التي قامت بها في هذا المجال، وسنتكلم عن ذلك أيضا بمزيد من التفصيل والاستدلال في مقالات قادمة بإذن الله.
وقد تعهد الإعلان الصادر عن الاجتماع السياسي رفيع المستوى بكل ما من شأنه دعم الأبحاث في هذا المجال وتطمين الشركات الخاصة المستثمرة فيها، ومن ذلك:
السعي لإزالة الحواجز المالية، التي تحول دون الاستفادة من الخدمات الصحية الأساسية والأدوية واللقاحات والتكنولوجيات التشخيصية والصحية الجيدة والمأمونة والفعالة وميسورة التكلفة.
تحسين قدرات التحصين الروتيني والتطعيم، بوسائل منها توفير معلومات قائمة على الأدلة بشأن مكافحة التردد في تعاطي اللقاحات، وتوسيع نطاق تغطية اللقاحات لمنع تفشي الأمراض، وكذلك منع انتشار الأمراض المعدية وغير المعدية وعودتها إلى الظهور.
تكثيف الجهود الرامية إلى بناء وتعزيز النظم الصحية الجيدة، وتقديم المنتجات الطبية المأمونة والفعالة في الوقت المناسب وبطريقة منصفة ومتكاملة وبأسعار معقولة.
التغطية التدريجية لمليار شخص إضافي بحلول عام 2023 بالخدمات الصحية الأساسية العالية الجودة وبالأدوية واللقاحات الأساسية والتكنولوجيات التشخيصية والصحية عالية الجودة والمأمونة والفعالة وميسورة التكلفة.
توفير المنتجات الصحية والقدرة على تحمل تكاليفها وفعاليتها من خلال زيادة الشفافية في أسعار الأدوية واللقاحات والأجهزة الطبية ووسائل التشخيص والمنتجات المساعدة والعلاجات الخلوية والجينية والتكنولوجيات الصحية الأخرى.
وقد ساهمت جائحة كورونا بشكل استثنائي في تسريع العمل بهذه التعهدات، وما كان لها أن تتم على هذا النحو بدون ذلك، ويكفي للتدليل على ذلك التذكير بأن العالم أجمع ما زال ينتظر اللقاح الخاص بفيروس كورونا، والذي تشرف عليه منظمة الصحة العالمية بالتعاون مع مؤسسة بيل غيتس الخيرية، والذي تطمح المؤسسة أن يتم استكمال التجارب عليه والانتهاء من تلقيح 2 مليار إنسان بنهاية عام 2021.
فهل كان كل ذلك مجرد صدفة؟
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق