كم سعر دقيقة الإعلان عن السيسي؟
وائل قنديل
تضطر أحيانًا إلى التوقف بالريموت كونترول عند محطات تلفزيونية مصرية، هنا ستجد العجب العجاب: كل الفواصل بين أشواط المباريات، أو فقرات البرامج، مخصّصة بشكل أساس للإعلان عن عبد الفتاح السيسي.
ستجد الجنرال منافسًا لأنواع السمن البلدي والمقرمشات وباقات الموبايل وحملات التبرع للجمعيات الخيرية، والإرشادات الصحية لمواجهة فيروس كورونا.
سوف تجده النجم الأول في الأدعية، وفي الصناعة، والرياضة، والبناء، ستداهمك طلعته منبعثًا من مسجد، أو منتجع سياحي، أو مباراة كرة، أو حفل تبرّع للأيتام والمرضى والمحتاجين، ليصبح هو الأول في الرياضة، وفي الطب، وفي الهندسة، وفي فعل الخير، وفي العبادة.
عدد الدقائق المخصّصة للإعلان عن السيسي يفوق المدة المخصصة لترويج أي سلعة أخرى، مع فارق جوهري أن دقائق الإعلان عن السلع، من كريمات تصفيف الشعر، ودهانات البشرة، والأجبان والألبان، تعود بالربح على القنوات التلفزيونية، وقد تحقّق فائدة للمستهلك الذي قد يكون بحاجة لسلعة ما، أما فترة الإعلان عن الزعيم فهي دقائق مهدرة في الفراغ، لا تحقق عائدًا، ولا تجلب فائدة، إلا لشخصٍ واحدٍ يتفنن المخرجون والمصورون في تبييض وجهه وتجميل شكله، على النحو غير المعقول الذي ظهر به في حوار تلفزيوني ـ إعلاني ـ مع المخرجة السينمائية ساندرا نشأت قبل عامين، أو أكثر.
تتنافس هذه القنوات في ما بينها على من يعلن عن عبد الفتاح السيسي أكثر، سواء عن طريق مباشر، بترويج عبقريته وريادته في أفلام تتكرّر إذاعتها بانتظام تحت عنوان "سنوات من الإنجازات"، أو عن طريق النهش في كل منتقديه، بمخالب وأنياب مدربة على هذا الأسلوب بشكل جيد، وأغلب الظن أنهم يفعلون ذلك طلبًا للنجاة والسلامة من البطش، وهم يرون أمامهم رؤوسًا تتطاير في الهواء، تم قطعها بضربةٍ واحدة، بعد أن ضبطت متلبسة بالتعبير عن قناعاتها الحقيقية وآرائها الفعلية في دولة الجنرال، كما جرى مع النائب البرلماني، عبد الرحيم علي، الذي تم إعدامه سياسيًا بتسريبٍ صوتي واحد، تحدّث فيه عن واقع دولة الجنرال، بلهجة متحدية، يظهر من خلالها وكأنه مركز قوة.
الأمر ذاته تكرّر مع مرتضى منصور، الذي قد قطع شوطًا أبعد في تمثل شخصية السيسي، دفعته إلى التصريح مرارًا بأن مثله في رئاسة نادي الزمالك كمثل السيسي في رئاسة مصر، كلاهما زعيم، وكلاهما صاحب إنجازات، وكلاهما أنقذ وطنًا وشعبًا .. إلى آخر هذه الهستيريا. وعلى الرغم من ذلك، استيقظ منصور ذات يوم ليجد أن رأسه لم يعد في مكانه فوق كتفيه، وذلك إثر مجموعة من التسريبات المسجلة تحدّث فيها وكأنه الدولة.
يخرج السيسي من إعلانات النلفزيون، متسللًا إلى اختبارات القبول بالكليات العسكرية، معلنًا عن نفسه بنفسه: أنا صاحب الجيش، وأنا معيار الاختيار لمن يحلم بالالتحاق بكلية عسكرية.. أنا مصدر كل فعل، وأنا المبتدأ والخبر، وأنا النجم الأوحد، في كل المجالات.
هذه اللوثة الإعلانية تفاقمت عقب الإعلان عن نتيجة انتخابات الرئاسة الأميركية، فكانت مضاعفة مساحات استهداف المشاهد المحلي بما يتصوّر منتجوها أنها عملية ترميم ناجحة لتمثال محلي، ربط مصيره بالتمثال الجمهوري الأكبر في البيت الأبيض، الأمر الذي يعكس خوفًا مزدوجًا: خوف من الجمهور، وخوف على السلعة من اكتشاف رداءتها.
الشاهد أن جمهور السيسي وحاشيته يعانون نوعًا من أنواع الانفصام، يجعل لهم رأيًا في السيسي في العلن، ورأيًا مناقضًا تمامًا في الخفاء، إذ هو "التابو" المقدس أمام الكاميرات والميكرفونات، لكنه في الخفاء وفي الفضفضة في الجلسات الخاصة هو المادة الأمثل للسخرية، كما في واقعة الجنرال أحمد شفيق ورجل الأعمال صلاح دياب أخيرا.
هذا الانفصام نتاج طبيعي جدًا لسيادة الطغيان واستتباب دول الخوف وممالكه، ويفسره أستاذ الفلسفة الراحل، إمام عبدالفتاح إمام، في كتابه "الطاغية" على النحو التالي: "لا جدال في أن انفصام الشخصية الظاهر جدًا في الشخصية الشرقية جاء نتيجة لحكم الطاغية الذي يعتمد كما رأينا مرارًا على مبدأ الخوف وبث الرعب في قلوب الناس، فلا يستطيع أحد أن ينتقد أو يناقش، ولا أن يفكر بصوت مسموع، فيلجأ إلى الرياء والنفاق والتملق في الظاهر، ولا يفصح عما بداخله إلا إذا اختلى بصحبة يثق فيها، وهكذا يعتاد أن تكون له شخصية ظاهرة علنية هي التي تقول "نعم" بصفة مستمرة، وشخصية خفية مستترة يمكن أن تقول "لا" في أوقات خاصة!".
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق