الاثنين، 9 نوفمبر 2020

النفس السوية والنفس المضطربة وعوائق الارتقاء

 النفس السوية والنفس المضطربة وعوائق الارتقاء


د. ليلى حمدان

إن كل ضعف يعتري النفس السليمة يؤدي مباشرة إلى الاضطراب والمرض وكلما اشتد وطال أمده كلما كانت النتائج كارثية بموت القلب.

وننطلق دائما من الدراسات الإسلامية للنفس البشرية وعلى رأسها خلاصات ابن القيم في فهم سواء النفس واضطرابها، ولا شك أن تمام السواء النفسي يتحقق في رحاب الإيمان حيث يقول ابن القيم في إغاثة اللهفان: “فالنفس إذا سكنت إلى الله واطمأنت بذكره وأنابت إليه واشتاقت إلى لقائه وأنست بقربه فهي مطمئنة”.

ولكل من سواء النفس واضطرابها سمات ومرتكزات.

وبينما يعتبر سواء النفس دليلا على قوة النفس وصحتها يدل الاضطراب على مرض النفس وضعفها، وقد اختلفت المدارس النفسية في تحديد مرتكزات كل من السواء والاضطراب ويرجع ذلك أساسا للعقيدة التي يؤمن بها أصحابها والمفاهيم التي بنيت عليها دراساتها.

وتفوقت في هذا المجال الدراسات الإسلامية بإحاطتها بجانب الروح الذي أهملته الدراسات الغربية فكانت القاصرة.

مفهوم النفس السوية

ابد أن السواء مرتبط ارتباطًا وثيقًا بالهدف العظيم من خلق الإنسان وهو العبودية لله وحده لا شريك له، والتي تتحقق بأداء أوامره واجتناب نواهيه، وبالإيمان والاستقامة يصل المرء لحالة النفس المطمئنة وحالة القلب السليم ثم نتحدث عن عطاءات الهمة.

والأصل في السواء هو معرفة النفس ومعرفة الله سبحانه وعبوديته، كما جاء في الفوائد:”لا ينتفع بنعمة الله بالإيمان والعلم إلا من عرف نفسه ووقف بها عند قدرها ولم يتجاوزه إلى ما ليس له، ولم يتعد طوره ولم يقل: هذا لي. وتيقن أنه لله وبالله ومن الله، فهو الإيمان به ابتداء وإدامة، لا سبب من العبد ولا استحقاق منه، فتذله نعم الله عليه وتكسره كسرة من لا يرى لنفسه ولا فيها خيرا البتة، وأن الخير الذي وصل إليه فهو لله وبه ومنه، فتحدث له النعم ذلا وانكسارا عجيبا لا يعبر عنه، فكلما جدد له نعمة ازداد له ذلا وانكسارا وخشوعا ومحبة وخوفا ورجاء، وهذا نتيجة علمين شريفين: علمه بربه وكماله وبره وغناه وجوده وإحسانه ورحمته وأن الخير كله في يديه، وهو ملكه يؤتي منه من يشاء ويمنع منه من يشاء وله الحمد على هذا وهذا أكمل حمد وأتمه. وعلمه بنفسه ووقوفه على حدها وقدرها ونقصها وظلمها وجهلها وأنها لا خير فيها البتة، ولا لها ولا بها ولا منها وأنها ليس لها من ذاتها إلا العدم، فكذلك من صفاتها وكمالها ليس لها إلا العدم الذي لا شيء أحقر منه ولا أنقص، فما فيها من الخير تابع لوجودها الذي ليس إليها ولا بها.

فإذا صار هذان العلمان صبغة لها لا صيغة على لسانها علمت حينئذ أن الحمد كله لله والأمر كله له والخير كله في يديه، وأنه هو المستحق للحمد والثناء والمدح دونها، وأنها هي أولى بالذم والعيب واللوم. ومن فاته التحقيق بهذين العلمين تلونت به أقواله وأعماله وأحواله وتخبطت عليه ولم يهتد إلى الصراط المستقيم الموصل له إلى الله، فإيصال العبد بتحقيق هاتين المعرفتين علما وحالا، وانقطاعه بفواتهما، وهذا معنى قولهم: من عرف نفسه عرف ربه. فإن من عرف نفسه بالجهل والظلم والعيب والنقائص والحاجة والفقر والذل والمسكنة والعدم عرف ربه بضد ذلك فوقف بنفسه عند قدرها ولم يتعد بها طورها وأثنى على ربه ببعض ما هو أهله، وانصرفت قوة حبه وخشيته ورجائه وإنابته وتوكله إليه وحده، وكان أحب شيء إليه وأخوف شيء عنده وأرجاه له، وهذا هو حقيقة العبودية والله المستعان. اهـ.

وسواء النفس هو الكمال الإنساني بحسب مصطلحات ابن القيم وهو يحتاج لقلب السليم كما ورد في إغاثة اللهفان:” قد سلم من كل شهوة تخالف أمر الله ونهيه، ومن كل شبهة تعارض خبره، فالقلب السليم هو الذي سلم من أن يكون لغير الله فيه شرك بوجه من الوجه، بل قد خلصت عبوديته لله إرادة ومحبة وتوكلًا وإنابة وإخباتًا وخشية ورجاءًا، ولا يكفيه هذا حتى يسلم من الانقياد والتحكيم لكل من عدا رسول الله صلى الله عليه وسلم”.

وعلامات سواء النفس أو الكمال الإنساي تتلخص في: العبودية لله تعالى، التوازن والوسطية، البركة، الذكر، الصدق، الطمأنينة، الرضا، الأدب، التعاون والتكميل، التفاؤل والرغبة في الآخرة.

وتحقيق الوصول إلى السواء اختصره بعض الباحثين في ستة عوامل:

  • معرفة الله تعالى وطاعته.
  • معرفة النفس البشرية وحاجتها لله سبحانه وتعالى.
  • شمولية الإيمان بالحياة كلها واليقين بلقاء الله.
  • العدل في المعاملة والخلق في التعامل.
  • الوسطية في تلبية الحاجات من الغذاء والشهوة.
  • العمل والجد “المجاهدة”.

وبقدر ما يحقق الإنسان العبودية المتضمنة لهذه العوامل الستة بقدر ما يحقق السواء. والعكس صحيح، بقدر ما تضعف عبودية الإنسان لله تعالى بقدر ما يضعف السواء وتميل النفس إلى الاضطراب.

فسواء النفس سبيله الإيمان والاستقامة كما اتفقت مع ذلك الدراسات الإسلامية النفسية.

وخلاصة ابن القيم في تحقيق السواء أو الكمال الإنساني يكون بتحقيق العبودية لله وحده، وهذا يعني طاعة الله واجتناب نواهيه.

وبالايمان والاستقامة يصل المرء لحالة النفس المطمئنة وينعكس ذلك على جميع جوانب الإنسان النفسية والتربوية والاجتماعية والإيمانية بل وحتى السياسية والعسكرية.

والإنسان السوي هو الذي يلبي نداءات الروح والجسد على حد سواء. فمن أشبع الجسد على حساب الروح وقع في الشذوذ والانحراف.

مفهوم النفس المضطربة

والنفس المضطربة هي النفس المريضة التي مرض قلب صاحبها. ويتجلى اضطرابها في أفكارها وتصوراتها وحركاتها وسلوكياتها.

أما الشرك والكفر فقمة الاضطراب النفسي.

يقول ابن القيم في اضطراب النفس ومرض القلب: “القلب يعترضه مرضان يتواردان عليه إذا استحكما فيه كان هلاكه وموته، وهما مرض الشهوات ومرض الشبهات، هذا أصل داء الخلق إلا من عافاه الله”.

وقال أيضا – رحمه الله -: “مدار اعتلال القلوب وأسقامها على أصلين: فساد العلم وفساد القصد، ويترتب عليهما داءان قاتلان، وهما: الضلال والغضب، فالضلال نتيجة فساد العلم، والغضب نتيجة فساد القصد، وهذان المرضان هما ملاك أمراض القلوب جميعها”.

وأمراض القلوب أصعب من أمراض الأبدان، لأن غاية مرض البدن أن يفضي بصاحبه إلى الموت، وأما مرض القلب فقد يفضي بصاحبه إلى الشقاء الأبدي، عياذًا بالله تعالى. كما أوضح ذلك ابن القيم.

ويقول في الطب النبوي موضحًا التفاضل بين إصلاح البدن والقلب: “وإصلاح البدن بدون إصلاح القلب لا ينفع وفساد البدن مع إصلاح القلب مضرته يسيرة جدا”.

ويقودنا هذا للحديث عن وصف القلب المنكوس كما أخرجه مسلم من حديث حذيفة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “تعرض الفتن على القلوب كعرض الحصير عودًا عودًا، فأي قلب أُشربه نكتت فيه نُكتة سوداء، وأي قلب أنكرها نكتت فيه نكتة بيضاء، حتى تعود القلوب على قلبين: قلب أسود مربادًا كالكوز مجخيًا (أي مقلوبا)، لا يعرف معروفًا ولا ينكر منكرًا، إلا ما أُشرب من هواه، وقلب أبيض فلا تضره فتنة ما دامت السموات والأرض”.

وقال ابن القيم في إغاثة اللهفان مشخصًا هذا الداء: “ولما كان مرض البدن خلاف صحته وصلاحه وهو خروجه عن اعتداله الطبيعي لفساد يعرض له يفسد به إدراكه كليا كالعمى والصم والشلل أو يدرك الأشياء بخلاف ما هي عليه كإدراك الحلو مرًا أو يفسد حركته الطبيعية مثل: أن يضعف قوته الهاضمة أو الماسكة أو الدافعة أو الجاذبة، فيحصل من الألم بحسب خروجه عن الاعتدال فكذلك مرض القلب. ومرضه هو نوع فساد، يحصل له، يفسد به تصوره للحق وإرادته له، فلا يرى الحق حقا أو يراه على خلاف ما هو عليه أوينقص إدراكه وتفسد به إرادته له، فيبغض الحق النافع أو يحب الباطل الضار أويجتمع له وهو الغالب”.

والاضطراب يقود لموت القلب، جاء في إغاثة اللهفان: “القلب الميت الذي لا حياة فيه فهو لا يعرف ربه ولا بصيرة له بأمره وما يحبه ويرضاه بل واقف مع شهواته ولذاته، وكذلك القلب المريض هو قلب له حياة به علة فله مادتان يمده هذا مرة وهذا أخرى وهو لما غلب منهما”.

وعن مسببات هذا المرض وهذا الاضطراب يقول ابن القيم:” والفتن التي تعرض على القلوب هي أسباب مرضها وهي فتن الشهوات وفتن الشبهات، فتن الغي والضلال، وفتن المعاصي والبدع، فتن الظلم الجهل، فالأولى توجب فساد القصد والإرادة والثانية توجب فساد العلم والاعتقاد”.

ويوضح ابن القيم أن مرجع هذا الاضطراب كله إلى الذنوب، سواء بحق الله تعالى أو النفس أو المجتمع.

فيقول في الطب النبوي:”والذنوب للقلب بمنزلة السموم، إن لم تكن تهلكه أضعفته ولابد، وإذا أضعفت قوته لم يقدر على مقاومة الأمراض”.

والذنوب تضر القلب تماما كم تضر السموم الأبدان على اختلاف درجات الضرر، وعلى رأس هذه المعاصي والذنوب الشرك ومن وقع فيه فقد وقع في أقصى درجات اضطراب النفس.

ثم يقدم ابن القيم في الفوائد الخلاصة النفيسة: “مبدأ كل علم نظري وعمل اختياري هو الخواطر والأفكار فإنها توجب التصورات، والتصورات تدعو إلى الإرادات، والإرادات تقتضي وقوع الفعل، وكثرة تكراره تعطي العادة، فصلاح هذه المراتب بصلاح الخواطر والأفكار وفسادها بفسادها”.

ويصل ابن القيم إلى تشخيص آلية الاضطراب إذ يوضح أن بدايتها تكون من إهمال الخواطر والأفكار، مما يوقع صاحبها في الفتن والشبهات والشهوات، وبالتالي ولوج مستنقع الذنوب والمعاصي، ليقع المرء في القلق والحيرة والمرض والاضطراب.

يقول ابن القيم في الفوائد:” وأما الخطرات فشأنها أصعب فإنها مبدأ الخير والشر، ومنها تولد الإرادات والهمم والعزائم فمن راعى خطراته ملك زمام نفسه وقهر هواه ومن استهان بالخطرات قادته قهرا إلى الهلكات”.

وكما أن النفس السوية ترتكز في رقيها على عبودية الله سبحانه، فإن النفس المضطربة ترتكز في دنوها على عبودية الهوى والذات، وافتقاد التوازن بين حاجات البدن والروح.

وقد لخص بعض الباحثين عوامل الاضطراب كما يلي:

  • الجهل بالله.
  • الجهل بالنفس.
  • عدم الإيمان بالآخرة “عبودية الدنيا”.
  • الظلم في المعاملة وسوء الخلق في التعامل.
  • الافراط في تلبية الحاجات الغذاء والشهوة.
  • العجز والكسل “ضعف الثقة”.

وهنا يبرز إدخال الجانب الروحي كخلق وكمصدر وكغاية وهو ما أغفلته الكثير من الدراسات النفسية الغربية الحديثة.

ومن جمال هذا الدين أن الله خلق الإنسان وجعل له أهدافًا سامقة ومراتب عالية ليبلغها، وبيّن له ضعفه وأهمية إيمانه واستعانته بربه، وفي حال الخطأ والانحراف عن جادة الطريق، جعل له التوبة منفذًا ينفذ منه فيتخلص من اضطرابه ويرتقي.

ولذلك يملك العبد في يده طوق النجاة وحبل الانقاذ، إنها التوبة والاستدراك، فأي شيطان يجرأ على هزيمته.

معيار القياس

إن الركون لمعايير البشر لتحديد الطيب من الخبيث والخير من الشر والمقبول من المرفوض يخلق الاضطراب والفوضى، لأنه خاضع لأذواقهم المختلفة التي يصعب ضبطها، ولذلك يقول ابن القيم في مدارج السالكين: “القاعدة الأولى: أن الذوق والحال، والوجد هو حاكم أو محكوم عليه، فيحكم عليه بحاكم آخر، ويتحاكم إليه؟ فهذا منشأ ضلال من ضل من المفسدين لطريق القوم الصحيحة حتى جعلوه حاكما. فتحاكموا إليه فيما يسوغ ويمتنع وفيما هو صحيح وفاسد وجعلوه محكا للحق والباطل ثم إنه وقع من تحكيم الذوق من الفساد ما لا يعلمه إلا الله فإن الأذواق مختلفة في أنفسها كثيرة الألوان، متباينة أعظم التباين”.

ولذلك فإن الحكم على السلوكيات والعقائد والأقوال أصحيحة سوية هي أم فاسدة مضطرية؟ يعتمد على الكتاب والسنة، يقول في ذلك ابن القيم: “القاعدة الثانية: أنه إذا وقع النزاع في حكم فعل من الأفعال، أو حال من الأحوال أو ذوق من الأذواق، هل هو صحيح أو فاسد؟ وحق وباطل؟ وجب الرجوع فيه إلى الحجة المقبولة عند الله وعند عباده المؤمنين وهي وحيه الذي تتلقى أحكام النوازل والأحوال والواردات منه، وتعرض عليه وتوزن به فما زكاه منها وقبله ورجحه وصححه فهو المقبول، وما أبطله ورده فهو الباطل المردود، ومن لم يبن على هذا الأصل علمه وسلوكه وعمله فليس على شيء من الدين إنما معه خدع وغرور”.

فلا يحدد المرء الصواب من الخطأ، عن طريق هواه وميوله الذي هو طبع الحيوانات وأشباهها من بني آدم، فتميل بطبعها ونفرة طبعها، بل يجب أن يكون وفق الإسلام وشريعة الله، فما أمر به الله أخذ به وما نهاه عنه انتهى.

ومما يجدر ذكره أن المقياس الشرعي الرباني يتوافق مع ثلاث محاور رئيسة، وهي الفطرة السليمة والعقل والغاية من هذه الحياة. ومن خالف أحد هذه المحاور أو بعضها أو كلها وقع في الاضطراب ولذلك حفظها الشرع فأمن المسلم من هذا المرض.

ومعلوم أن الشريعة توافق الفطرة، فهي تؤكد ما استقر في فطرة الإنسان وأقرته العقول الصحيحة، فمن الفطرة أن يكره الإنسان الشر وخصاله، وأن يحب الخير وخصاله.

يقول ابن القيم في مفتاح دار السعادة: “لا ريب أن التدين بالشرائع يقتضي الاستحسان والاستقباح ولكن الشرائع إنما جاءت بتكميل الفطر وتقريرها لا بتحويلها وتغييرها، فما كان في الفطرة مستحسنًا جاءت الشريعة باستحسانه فكسته حسنا إلى حسنه فصار حسنا من الجهتين، وما كان في الفطرة مستقبحًا جاءت الشريعة باستقباحه فكسته قبحًا إلى قبحه فصار قبيحًا من الجهتين”.

وكذلك العقل يرفض الشر ويقبل على الخير، يقول ابن القيم في مفتاح دار السعادة: ” إن الحسن والقبح صفات ثبوتية للأعمال معلومة بالعقل والشرع، وأن الشرع جاء بتقرير ما هو مستقر في الفطر والعقول من تحسين الحسن والأمر به، وتقبيح القبيح والنهي عنه وأنه لم يجيء بما يخالف العقل وفطرته”.

وأضاف: “وَأما أمره وشرعه وَدينه فكماله غَايَة وسعادة فِي المعاش والمعاد وَلَا ريب عَنهُ الْعُقَلَاء أَن وَجه الْحسن فِيهِ أعظم من وَجه الْحسن فِي الْأُمُور الحسية وان كَانَ الْحسن هُوَ الْغَالِب على النَّاس وانما غَايَة أَكْثَرهم إِدْرَاك الْحسن وَالْمَنْفَعَة فِي الحسيات وتقديمها وإيثارها على مدارك الْعُقُول والبصائر قَالَ تَعَالَى {وَلَكِن أَكثر النَّاس لَا يعلمُونَ يعلمُونَ ظَاهرا من الْحَيَاة الدُّنْيَا وهم عَن الْآخِرَة هم غافلون}”.

ففي الأخير تبقى الغاية من هذه الحياة الفوز بالآخرة، وهو تمام السعادة للإنسان، ويجب لأجل تحقيق ذلك أن يكون السلوك الإنساني منسجمًا مع غايته النهائية التي حددها له الله خالقه سبحانه.

والخلاصة في سواء النفس واضطرابها أن الحكم على السلوكيات والقلبيات إن كانت على سواء أو اضطراب، يكون وفق المقياس الشرعي الإسلامي، وهو المقياس الوحيد الذي يتوافق مع الفطرة والعقل والغاية من الخلق والهدف الأخروي كل ذلك تحت أمر الله سبحانه وتعالى.

وهذا المعيار هو أدق المعايير السلوكية وأفضل المحركات في بناء الشخصية وتقديمها وقياس سوائها وشذوذها.

لذلك لابد من الرجوع الى المصدر الإلهي للحكم، لتفاوت البشر في أذواقهم وآرائهم وتوجهاتهم كما أن الأكثرية منهم يجهلون ما يصلحهم وما يضرهم.

والحكم على سواء شخص أو اضطرابه في ضوء الشريعة الغراء لا يكون فقط بحسب الـأهداف التي حققها بل وأيضا الأساليب التي اعتمدها في تحقيقها، فمن كان عمله مشروعا ووسائله مشروعة قد أحلها الله، فهو السوي، وبمقياس الشرع لا نقع في حيرة ولا لبس ولا حتى ظلم.

والمنهج الإسلامي يبني شخصية متحصنة من العناد المفرط الطاغي والتفريط والانقياد الأعمى والتيه والتسويف. فيصنع شخصية الحازم الملتزم صاحب المعرفة.

ولاشك أن أسمى وأكمل صور النفس السوية تتجلى في شخصية رسول الله صلى الله عليه وسلم بموازنته بين الحاجات المادية والروحية فقدم النموذج المثالي للنفس المطمئنة التي تحققت فيها جميع مؤشرات الصحة النفسية في أعلى مستوياتها.

وبهذه القدوة وبأنوار الكتاب والسنة يمتلك المسلم معيارًا شرعيًا شرعه الله تعالى وبيّنه رسوله صلى الله عليه وسلم، يتوافق مع الفطرة والعقل والغاية من الخلق.

وهو معيار واقعي يقدم نموذجًا رفيعًا طموحًا، يراعي ضعف الإنسان وكبواته، على عكس المعيار القيمي في الدراسات الغربية، الذي يفترض الكمال المطلق وهو أمر مستحيل.

مراتب السواء

مراتب السواء هي: الإحسان، الإيمان، الإسلام.

فرأس السواء والكمال الإنساني، هي مرتبة المحسن، يليها مرتبة المؤمن يليها مرتبة المسلم.

وهكذا المسلم الذي لم يكن محسنا يتحول لمقتصد، وإن لم يكن كذلك تحول لظالم لنفسه.

والنفس السوية تصل إلى أعلى السواء والكمال الإنساني بالمسابقة بالخيرات والإحسان، وتصل إلى المرتبة الوسطى بالإيمان والاقتصاد في الطاعات، وأما أدنى مراتب السواء فهي المسلم الظالم لنفسه الذي يحفظ بعض الخير فيمنع سقوطه في الاضطراب والحيرة.

وعن الفروق بين هذه المراتب يقول ابن القيم في طريق الهجرتين وباب السعادتين:” وأما السائرون إليه فظالمهم قطع مراحل عمره في غفلاته وإيثار شهواته ولذاته على مراضي الرب سبحانه وأوامره مع إيمانه بالله وكتب ورسله واليوم الآخر، لكن نفسه مغلوبة معه مأسورة مع حظه وهواهن يعلم سوء حاله ويعترف بتفريطه ويعزم على الرجوع إلى الله فهذا حال المسلم.

“وأما الأبرار المقتصدون فقطعوا مراحل سفرهم بالاهتمام بإقامة أمر الله وعقد القلب على ترك مخالفته ومعاصيه فهممهم مصروفة إلى القيام بالأعمال الصالحة واجتناب الأعمال القبيحة”.

ثم السابقون بالخيرات:” إنهم قوم امتلأت قلوبهم من معرفة الله وعمرت من محبته وخشيته وإجلاله ومراقبته فسرت المحبة في أجزائهم فلم يبق عرق ولا مفصل إلا وقد دخله الحب، فلا يتقلب إلا في شيء يظهر له فيه مرضاة ربه وإن كان من الأفعال العادية الطبيعية قلبه عبادة بالنية وقصد الاستعانة به على مرضاة ربه”.

والاضطراب الكامل هو الخروج من الإسلام وانطماس القلب وطبعه بالشرك والبدع يقول ابن القيم في طريق الهجرتين وباب السعادتين:” أما الأشقياء فقطعوا تلك المراحل – مراحل حياتهم- سائرين إلى دائرة الشقاء، متزودين غضب الرب سبحانه، ومعاداة كتبه ورسله وما بعثوا به، ومعاداة أوليائه، والصد عن سبيله، فقطع هؤلاء الأشقياء مراحل عمرهم في ضد ما يحب الله ويرضاه”.

نسبية السواء والاضطراب

يقول ابن القيم في إغاثة اللهفان: “والنفس قد تكون أمارة، وتارة لوامة، وتارة مطمئنة بل في اليوم الواحد والساعة الواحدة يحصل هذا منه وهذا، والحكم للغالب عليها من أحوالها”.

ومما يجب ذكره في هذا المقام هو أن العبودية منقسمة على القلب واللسان والجوارح وعلى كل منها عبودية تخصه.

والأحكام التي للعبودية خمسة: واجب ومستحب وحرام ومكروه ومباح وهي لكل واحد من القلب واللسان والجوارح.

لذلك فيتم الحكم أولا على الأقوال، ثم الأعمال ثم القلبيات، ومن ثم يتميز المرء السوي الصالح من المضطرب الطالح.

وطوبى لمن وافقت نواياه أقوله وأفعاله.

العقبات أمام الارتقاء

والآن بعد الإحاطة علما بطبيعة النفس البشرية وحالات السواء والاضطراب، نتحول للحديث عن العوائق التي تعرقل المسيرة يا من ينشد صناعة الهمة والارتقاء.

ومن جميل ما طرحه ابن القيم في دراسته للنفس البشرية تقسيمه للعقبات في ارتقاء الإنسان، إلى 3 أنواع وهي: العوائد، والعوائق والعلائق.

وعن الفرق بين العوائق والعلائق، يقول ابن القيم: “العوائق هي الحوادث الخارجية والعلائق هي التعلقات القلبية بالمباحات ونحوه”.

أما العوائد: فما اعتاده الناس وجرت به العادة، جاء في الفوائد: “السكون إلى الدعة والراحة وما ألفه الناس واعتادوه من الرسوم والأوضاع التي جعلوها بمنزلة الشرع المتبع بل هي عندهم أعظم من الشرع فإنهم ينكرون على من خرج عنها وخالفها ما لا ينكرون على من خالف صريح الشرع”.

والأصل في صاحب الهمة أن يزن العادات في ميزان الحق، فما توافق معه وكان حسنا، أخذ به وما كان غير ذلك فلا يلتفت له ولا يبالي فالأهم في طريقه هو موافقة الحق لا الخلق.

وهذه العقبة اجتماعية وتتعلق بالوسط الذي يعيش فيه الفرد.

أما العوائق: يقول عنها ابن القيم في الفوائد:”فهي أنواع المخالفات ظاهرها وباطنها، فإنها تعوق القلب عن سيره إلى الله وتقطع عليه طريقه وهي ثلاثة أمور: شرك وبدعة ومعصية، فيزول عائق الشرك بتجريد التوحيد، وعائق البدعة بتحقيق السنة، وعائق المعصية بتحقيق التوبة، وهذه العوائق لا تتبين للعبد حتى يأخذ في أهبة السفر ويتحقق بالسير إلى الله والدار الآخرة فحينئذ تظهر له هذه العوائق ويحس بتعويقها له بحسب قوة سيره وتجرده للسفر، وإلا فمادام قاعدًا لا يظهر له كوامنها وقواطعها”.

وهذه عقبة مرتبطة بالفرد نفسه أكثر من ارتباطها بالمجتمع، ولعل أهم نقطة في وصف ابن القيم أن هذه العوائق لا تظهر إلا لمن يعمل ويجد وينشط، وأما الكسول فلا يشعر بشيء.

أما العلائق: فيصفها ابن القيم في الفوائد فيقول: “فهي كل ما تعلق به القلب دون الله ورسوله من ملاذ الدنيا وشهواتها ورياساتها وصحبة الناس والتعلق بهم، ولا سبيل له إلى قطع هذه الأمور الثلاثة ورفضها إلا بقوة التعلق بالمطلب الأعلى”.

وتشكل العلائق عقبة أمام رقي النفس، كونها تخضعها للهوى وللشهوات، وهي متصلة من جهة بالمجتمع ومن جهة بسلوك الإنسان في هذا المجتمع، ومن جهة ثالثة بقلب الإنسان ونفسه.

وبالمقارنة نجد أن الدراسات النفسية قد اتفقت مع خلاصة ابن القيم بشأن العوائق النفسية والاجتماعية مع تفوقه عليها بالعائق السلوكي القلبي. لكن الدراسات النفسية أضافت لهذه العقبات، العوائق الجسمية والمادية والاقتصادية بشكل أكثر وضوحًا مما أشار إليه ابن القيم.

ومن هذه المعوقات

العوائق الجسمية (القدرات الجسدية والإعاقات)، والنفسية (الذكاء والقدرات العقلية والمهارات)، والمادية والاقتصادية (الوضع المادي والأسباب المادية) والعوائق الاجتماعية، (كالعادات والتقاليد والقوانين).

وفي الواقع فإن وجود العوائق في حياة الإنسان عامل صحي للنفس، لأن بلوغ الأماني يستوجب بذل الجهود والتضحيات لتذوق لذتها واستشعار روعة الإنجاز. ولا تبنى الأمجاد إلا بالتضحيات.

ويتفاعل المرء مع هذه العوائق وفق سلوكين، سلوك ثابت موروث، وسلوك متغير مكتسب ومتعلم تنحته الخبرات والنصائح.

وبعد هذه المعرفة، ما أن يصل المرء لمرحلة التوافق والرضا بالرغم من العقبات في طريقه والتحديات ينعكس نتاج همته كالنحلة تارة وكالنخلة أخرى، روحه لا تزال تواقة.

المطلوب من صانع الهمة

– تربية وتقوية القوتين العلمية والعملية، الأولى عن طريق الإيمان والعلم النافع، والثانية عن طريق تقوية الإرادة والمحبة بعمل الصالحات وأنواع الخير. والتكامل مع الغير عن طريق “التواصي بالحق والتواصي بالصبر” ويقتضي ذلك بيان الحق من الباطل واجتناب الرذائل وتصبير النفس في مقتضى العبودية لله وحده.

– معرفة الهدف الأكبر من حياة الإنسان وهي العبودية لله بمفهومها الشامل، وتحديد أهداف صغرى لتنظيم حياة الإنسان والاستفادة منها.

– حفظ العقل والاهتمام به. بعيدًا عن الآفات والخرافات ووصله بالله تعالى بقراءة القرآن وبالتفكر وبالتعلم وبحث المعرفة وبالاحسان.

– الاعتماد على المرجعية الثابتة وهي المقياس الشرعي الإسلامي، فالحق يتبع لا الخلق، والمنهج هو الكتاب والسنة.

– تقوية الإرادة والترفع عن سفاسف الأمور ومناشدة معاليها.

– تلبية حاجات الإنسان الطبيعية البدنية والروحية والنفسية بشكل متزن لا إفراط ولا تفريط فيه.

– الحرص على الصدق دائمًا لكسب المصداقية والترفع عن الكذب وورطاته في التبرير, وإن اضطر المرء فليستعمل المعاريض ولا يكذب.

– العمل على بناء الذات وشحذ الهمة باستمرار.

– الابتعاد عن مواطن الفتن والانتكاس ومثبطات الهمم.

بهذا الجمع نكون وصلنا لنهاية مرحلة التأصيل والتنظير لمفهوم النفس البشرية ولوازم صناعة الهمة، وسنتحول الآن للتطبيقات العملية، ولامتحانات إثبات الوجود، فبعد العلم يجدر العمل، وبعد المعرفة يجب ترجمة المفاهيم لحقائق ملموسة في حياة صانع الهمة.

وهو ما سنتناوله في الحلقة السابعة المقبلة بعنوان “معسكر التدريب لصناعة الهمة”.

وإلى ذلك الحين ردد معي كلمات نبي الله موسى عليه السلام: “لا أبرحُ حتَّى أبلُغ!”.



من سلسلة “صناعة الهمة” للدكتورة ليلى حمدان.


  1. صناعة الهمة أول مهمة
  2. مفاهيم أساسية لصناعة الهمة
  3. الإيمان: أولى الأسرار في صناعة الهمة
  4. معرفة النفس البشرية
  5. أسرار الصحة النفسية



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق