حقيقة إفراد الله بالألوهية تقتضي التوجه له وحده بالعبادة والطاعة وإفراده بتلقي التشريع. وعندئذ تصطدم هذه الحقيقة بشرعية الطغاة.
مقدمة
إن اختيار القرآن الكريم لتكرار قصة موسى وفرعون، له حكمته. ونتلمس منها أنها قصة مكررة في مواطن الحضارات والأنظمة المركزية. وأن الهداة والدعاة يجب أن يستلهموا دروسها لإصلاح المجتمعات ضد الكبر والتسلط وتفريق الشعوب.
ولقد لمس سيد قطب رحمه الله مواطن كثيرة، للعقيدة وللنفوس واستقبال الفراعن لها، وحركة المسلمين بدينهم أمامهم..
وهنا ننقل جزءا مما كتب ونعرض لجملة من القضايا التي أشار اليها ووقف عليها.
حقيقة المواجهة
يتضمن هذا الدرس قصة موسى، عليه السلام، مع فرعون وملئه. من حلقة مواجهتهم بربوبية اللّه للعالمين، إلى حلقة إغراقهم أجمعين. وما بين هذه وتلك من المباراة مع السحرة. وغلبة الحق على الباطل. وإيمان السحرة برب العالمين رب موسى وهارون. وتوعد فرعون لهم بالعذاب والتقتيل والتنكيل..
كانت بعثة موسى؛ والسياق يعرض القصة من حلقة مواجهة فرعون وملئه بالرسالة، ثم يعجل بالكشف عن خلاصة استقبالهم لها. كما يعجل بالإشارة إلى العاقبة التي انتهوا إليها. لقد ظلموا بهذه الآيات ـ أي كفروا وجحدوا ـ والتعبير القرآني يكثر من ذكر كلمة «الظلم» وكلمة «الفسق» في موضع كلمة «الكفر» أو كلمة «الشرك». وهذه من تلك المواضع التي يكثر ورودها في التعبير القرآني؛ ذلك أن الشرك أو الكفر هو أقبح الظلم، كما أنه كذلك هو أشنع الفسق..
والذين يكفرون أو يُشركون يظلمون الحقيقة الكبرى ـ حقيقة الألوهية وحقيقة التوحيد ـ ويظلمون أنفسهم بإيرادها موارد الهلكة في الدنيا والآخرة، ويظلمون الناس بإخراجهم من العبودية للّه الواحد إلى العبودية للطواغيت المتعددة والأرباب المتفرقة؛ وليس بعد ذلك ظلم؛ ومن ثم فالكفر هو الظلم «وَالْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ» كما يقول التعبير القرآني الكريم .
وكذلك الذي يكفر أو يشرك إنما يفسُق ويخرج عن طريق اللّه وصراطه المستقيم إلى السبل التي لا تؤدي إليه، سبحانه، إنما تؤدي إلى الجحيم..! ولقد ظلم فرعون وملؤه بآيات اللّه: أي كفروا بها وجحدوا. ﴿فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ﴾..
مدلول تعبير “المفسدين”
أما الآن فننظر كذلك في مدلول كلمة: «المفسدين» وهي مرادف لكلمة «الكافرين» أو «الظالمين» في هذا الموضع. إنهم ظلموا بآيات اللّه؛ أي كفروا بها وجحدوا.
فانظر كيف كان عاقبة «المفسدين» هؤلاء.
إنهم مفسدون لأنهم «ظلموا»؛ أي «كفروا وجحدوا».. ذلك أن الكفر هو أشنع الفساد، وأشنع الإفساد..
إن الحياة لا تستقيم ولا تصلُح إلا على أساس الإيمان باللّه الواحد، والعبودية لإله واحد.. وإن الأرض لَتفسَد حين لا تتمحض العبودية للّه في حياة الناس.. إن العبودية للّه وحده معناها أن يكون للناس سيد واحد، يتوجهون إليه بالعبادة وبالعبودية كذلك، ويخضعون لشريعته وحدها فتخلص حياتهم من الخضوع لأهواء البشر المتقلبة، وشهوات البشر الصغيرة..! إن الفساد يصيب تصورات الناس كما يصيب حياتهم الاجتماعية حين يكون هناك أرباب متفرقون يتحكمون في رقاب العباد ـ من دون اللّه ـ وما صلحت الأرض قط ولا استقامت حياة الناس إلا أيام أن كانت عبوديتهم للّه وحده ـ عقيدة وعبادة وشريعة ـ وما تحرر «الإنسان» قط إلا في ظلال الربوبية الواحدة..
فما الذي كان بين موسى وفرعون وملئه..؟
اللقاء الأول بين الإيمان والكفر
هنا يبدأ المشهد الأول بينهما :
﴿وَقالَ مُوسى يا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ﴾..
إنه مشهد اللقاء الأول بين الحق والباطل، وبين الإيمان والكفر.. مشهد اللقاء الأول بين الدعوة إلى «رب العالمين» وبين الطاغوت الذي يدعي ويزاول الربوبية من دون رب العالمين..!
﴿يا فرعون﴾ .. لم يقل له: يا مولاي..! كما يقول الذين لا يعرفون من هو المولى الحق..! ولكن ناداه بلقبه في أدب واعتزاز. ناداه ليقرر له حقيقة أمره، كما يقرر له أضخم حقائق الوجود ﴿إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِين﴾.
لقد جاء موسى، عليه السلام، بهذه الحقيقة التي جاء بها كل رسول قبله. حقيقة ربوبية اللّه الواحد للعالمين جميعا.. ألوهية واحدة وعبودية شاملة؛ لا كما يقول الخابطون في الظلام من «علماء الأديان» ومن يتْبعهم في زعمهم عن «تطور العقيدة» إطلاقا، وبدون استثناء لما جاء به الرسل من ربهم أجمعين..!
إن العقيدة التي جاء بها الرسل جميعا عقيدة واحدة ثابتة تقرر ألوهية واحدة للعوالم جميعها. ولا تتطور من الآلهة المتعددة، إلى التثنية، إلى الوحدانية في نهاية المطاف..
فأما جاهليات البشر ـ حين ينحرفون عن العقيدة الربانية ـ فلا حد لتخبطها بين الطواطم والأرواح والآلهة المتعددة والعبادات الشمسية والتثنية والتوحيد المشوب برواسب الوثنية، وسائر أنواع العقائد الجاهلية. ولا يجوز الخلط بين العقائد السماوية التي جاءت كلها بالتوحيد الصحيح، الذي يقرر إلها واحدا للعالَمين وتلك التخبطات المنحرفة عن دين اللّه الصحيح.
ولقد واجه موسى، عليه السلام، فرعونَ وملأه بهذه الحقيقة الواحدة، التي واجه بها كل نبي ـ قبله أو بعده ـ عقائد الجاهلية الفاسدة.. واجهه بها وهو يعلم أنها تعني الثورة على فرعون وملئه ودولته ونظام حكمه.
ربوبية الله تُسقط ما عداها من زيف
إن ربوبية اللّه للعالمين تعني ـ أول ما تعني ـ إبطال شرعية كل حُكم يزاول السلطان على الناس بغير شريعة اللّه وأمره، وتنحية كل طاغوت عن تعبيد الناس له ـ من دون اللّه ـ بإخضاعهم لشرعه هو وأمره..
واجَهه بهذه الحقيقة الهائلة بوصفه رسولا من رب العالمين، مُلزَما ومأخوذا بقول الحق على ربه الذي أرسله. ﴿حَقِيقٌ عَلى أَنْ لا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ﴾.
فما كان الرسول الذي يعلم حقيقة اللّه، ليقول عليه إلا الحق، وهو يعلم قدْره ويجدُ حقيقته، سبحانه، في نفسه..
﴿قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ﴾ تدلكم على صدق قولي “إني رسول من رب العالمين”.
وباسم تلك الحقيقة الكبيرة؛ حقيقة الربوبية الشاملة للعالمين.. طلب موسى من فرعون أن يطلق معه بني إسرائيل .
إن بني إسرائيل عبيد للّه وحده فما ينبغي أن يعبدهم فرعون لنفسه..! إن الإنسان لا يخدم سيدين، ولا يعبد إلهين؛ فمن كان عبدا للّه، فما يمكن أن يكون عبدا لسواه. وإذ كان فرعون إنما يُعبّد بني إسرائيل لهواه فقد أعلن له موسى أن رب العالمين هو اللّه. وإعلان هذه الحقيقة يُنهي شرعية ما يزاوله فرعون من تعبيد بني إسرائيل..!
إن إعلان ربوبية اللّه للعالمين هي بذاتها إعلان تحرير الإنسان. تحريره من الخضوع والطاعة والتبعية والعبودية لغير اللّه. تحريره من شرع البشر، ومن هوى البشر، ومن تقاليد البشر، ومن حكم البشر.
وإعلان ربوبية اللّه للعالمين لا يجتمع مع خضوع أحد من العالمين لغير اللّه ولا يجتمع مع حاكمية أحد بشريعة من عنده للناس. والذين يظنون أنهم مسلمون بينما هم خاضعون لشريعة من صنع البشر ـ أي لربوبية غير ربوبية اللّه ـ واهمون إذا ظنوا لحظة واحدة أنهم مسلمون..! إنهم لا يكونون في دين اللّه لحظة واحدة وحاكمهم غير اللّه، وقانونهم غير شريعة اللّه. إنما هم في دين حاكمِهم ذاك. في دين الملك لا في دين اللّه..! وعلى هذه الحقيقة أُمر موسى، عليه السلام، أن يبني طلبه من فرعون إطلاق بني إسرائيل :
﴿يا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ﴾ .. ﴿فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرائِيل﴾.
مقدمة ونتيجة .. تتلازمان ولا تفترقان.
الطغاة يدركون حقيقة تهديد زيفهم
ولم تغِب على فرعون وملئه دلالة هذا الإعلان. إعلان ربوبية اللّه للعالمين. لم يغب عنهم أن هذا الإعلان يحمل في طياته هَدم ملك فرعون. وقلب نظام حكمه، وإنكار شرعيته، وكشف عدوانه وطغيانه..
ولكن هل يستسلم فرعون وملؤه لهذه الدعوى الخطيرة..؟ هل يستسلمون لربوبية رب العالمين..؟ وعلامَ إذن يقوم عرش فرعون وتاجه وملكه وحكمه..؟ وعلامَ يقوم الملأ من قومه ومراكزهم التي هي من عطاء فرعون ورسمه وحكمه..؟
علام يقوم هذا كله إن كان اللّه هو «رب العالمين»..؟
إنه إن كان اللّه هو «رب العالمين» فلا حكم إلا لشريعة اللّه، ولا طاعة إلا لأمر اللّه؛ فأين يذهب شرع فرعون وأمره إذن، وهو لا يقوم على شريعة اللّه ولا يرتكن إلى أمره..؟ إن الناس لا يكون لهم «رب» آخر يُعبّدهم لحكمه وشرعه وأمره، إن كان اللّه هو ربهم؛ إنما يخضع الناس لشرع فرعون وأمره حين يكون ربهم هو فرعون؛ فالحاكم ـ بأمره وشرعه ـ هو رب الناس، وهم في دينه أيا كان..!
كلا..! إن الطاغوت لا يستسلم هكذا من قريب، ولا يُسلّم ببطلان حكمه وعدم شرعية سلطانه بمثل هذه السهولة..!
وفرعونُ وملؤه لا يخطئون فَهْم مدلول هذه الحقيقة الهائلة التي يعلنها موسى؛ بل إنهم ليعلنونها صريحة؛ ولكن مع تحويل الأنظار عن دلالتها الخطيرة، باتهام موسى بأنه ساحر عليم : ﴿قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ : إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ. يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ. فَما ذا تَأْمُرُونَ﴾..؟
إنهم يصرّحون بالنتيجة الهائلة التي تتقرر من إعلان تلك الحقيقة؛ إنها الخروج من الأرض، إنها ذهاب السلطان، إنها إبطال شرعية الحكم أو محاولة قلب نظام الحكم..! ـ بالتعبير العصري الحديث..!
إن الأرض للّه. والعبادَ للّه. فإذا رُدَت الحاكمية في أرض للّه، فقد خرج منها الطغاة الحاكمون بغير شرع اللّه..! أو خرج منها الأرباب المتألهون الذين يزاولون خصائص الألوهية بتعبيد الناس لشريعتهم وأمرهم. وخرج منها الملأ الذين يوليهم الأرباب المناصب والوظائف الكبرى، فيعبدون الناس لهذه الأرباب..!
هكذا أدرك فرعون وملؤه خطورة هذه الدعوة. وكذلك يدركها الطواغيت في كل مرة. لقد قال الرجل العربي ـ بفطرته وسليقته ـ حين سمع رسول اللّه، صلى اللّه عليه وسلم، يدعو الناس إلى شهادة أن لا إله إلا اللّه وأن محمدا رسول اللّه: «هذا أمر تكرهه الملوك!». وقال له رجل آخر من العرب بفطرته وسليقته: «إذن تحاربك العرب والعجم»..!
خاتمة
لقد كان هذا العربي وذاك يفهم مدلولات لغته. كان يفهم أن شهادة أن “لا إله إلا اللّه” ثورة على الحاكمين بغير شرع اللّه عربا كانوا أم عجما..! كانت لشهادة أن “لا إله إلا اللّه” جديتها في حس هؤلاء العرب، لأنهم كانوا يفهمون مدلول لغتهم جيدا.
ما كان أحد منهم يفهم أنه يمكن أن تجتمع في قلب واحد، ولا في أرض واحدة ، شهادة أن لا إله إلا اللّه ، مع الحكم بغير شرع اللّه..! فيكون هناك آلهة مع اللّه..! ما كان أحد منهم يفهم شهادة أن لا إله إلا اللّه كما يفهمها اليوم من يدعون أنفسهم “مسلمين”.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق