القدس تعيد تعريف كل شيء
وائل قنديل
8 مايو/ أيار 2018 القاهرة تشهد انقلابًا على التاريخ والجغرافيا والمنطق وعلم النفس وعلم الأخلاق، حيث أعلنت سفارة العدو الصهيوني لدى الحكومة المصرية التالي: أجرت السفارة الإسرائيلية في مصر هذا المساء مراسم استقبال بمناسبة عيد الاستقلال الـ70 لدولة إسرائيل في فندق ريتز كارلتون في ميدان التحرير بالعاصمة المصرية. وحضر المراسم لفيف من الدبلوماسيين ورجال الأعمال وممثلون للحكومة المصرية. واستمتع الضيوف بعشاء إسرائيلي خاص أعده الشيف شاؤول بن أديريت مع فريق طهاة الفندق.
سفير العدو الصهيوني علق منتشيًا "نحن اليوم في أوج معركة السلام. هذه المعركة تستوجب التغيير الواسع في الوعي والإدراك".
8 مايو/ أيار 2021 ملحمة الصمود في حي الشيخ جراح، تنمو وتتخذ شكل الزحف المقدّس لفلسطينيي 48 وفلسطينيي الضفة صوب المسجد الأقصى، ليصل العدد إلى نحو مائة ألف من الصامدين في ليلة قدر قدسية، يعلنون التحدّي ويقسمون يمين الأقصى، فيما كل بيت عربي في بلاد العرب يقسم معهم بقلبه ويهتف معهم من قلبه: فلسطين عربية والكيان الصهيوني عدو محتل وإلى زوال.
إذن، لقد أعادت القدس ضبط الوجدان العربي، وأعادت تعريف كل الأشياء، وأضاء الأقصى القلوب والعقول من جديد، فعاد العدو عدوًا والشقيق شقيقًا، واتخذت القيم والمعاني زخرفها وسطعت وتألقت واغتسلت الذات العربية وتطهرت مما علق بها من أوهام مفروضة قهرًا بكعب بندقية العسكري، وسفسطة المثقف الفاسد، وانبطاح السياسي البائس، وصفاقة صانع الدراما الانتهازي، ونخاسة الإعلامي الأجير.
كل الأوهام سقطت في ليالي القدس المباركة، واستردّت الكلمات معانيها الصحيحة والحقيقية، فعرف الكل أن التطبيع الحقيقي أن تحتضن شقيقك الفلسطيني وتصير القدس قدسك كما هي قدسه، والأرض أرضك كما هي أرضه، والوجع وجعكما معًا والحلم حلمكما على السواء، والاحتلال ينهش روحك كما ينهش روحه، ويهينك كما يهينه.
علمتنا القدس الدرس الذي تناساه بعضهم، وحاولوا فرض نسيانه علينا، وعرفتنا أن"عرب إسرائيل" ليسوا هم الفلسطينيين الذين يعيشون داخل الأراضي الخاضعة للاحتلال، بل هم هؤلاء الذين يحتلون قصور الحكم العربية، ويجعلون التطبيع مع العدو إلزاميًا، كالماء والهواء، يحقنون به شعوبهم قسرًا عبر الدراما والإعلام، ومن خلال التجارة والتبادل الاقتصادي، وأندية الغاز وملاهي السياسة.
عرب إسرائيل ليسوا هم البشر الصامدين في وجه الاحتلال بالداخل، وليسوا الصامدين في مواجهة مشروع الساقط ترامب وصبيه جاريد كوشنر وأتباعهما من حكام المنطقة، لفرض جغرافيا جديدة وتاريخ جديد يكتب بالعبري، لا بالعربي، فتحترق الخرائط وتنتحر السرديات، ليساق الشعب العربي إلى محرقة الواقع الإسرائيلي، فلا يبقى شيء في موضعه، ويصير الجميع "عرب إسرائيل الكبرى" الواقعين تحت غطرسة سلطتين: سلطة الاحتلال الصهيوني الصريح، وسلطات عربية تحت إمرة الاحتلال.
قبل أن تشتعل القدس والأراضي الفلسطينية بالغضب ضد الاحتلال، كان جاريد كوشنر، صهر ترامب والموزع الرئيسي لبضاعة صفقة القرن الفاسدة، يعلن عن مرحلة جديدة من بيزنس السلام الصهيوني، وحسب المنشور فقد بدأ تاجر البندقية الصغير، زوج إيفانكا ترامب، خطوات تأسيس "معهد اتفاقات أبراهام من أجل السلام" لكي يعمل على تعميق الاتفاقات التي توصلت إليها إسرائيل العام الماضي مع الإمارات العربية المتحدة والبحرين والسودان والمغرب.
المؤكد أن مثل هذا المشروع اللقيط يستهدف اجتذاب عدد هائل من الباعة الجائلين في حواري التطبيع، من مثقفين وسياسيين وفنانين وشخصيات دينية، فجاءت انتفاضة القدس وبعثرت كل أوراق الخيانة، أو الاستعداد للخيانة، وأظهرت أن كل ما كان يجري تسويقه والتربح من ورائه، من مصطلحات ذات بريق، مثل "ثقافة السلام" وتوحيد الأديان في اختراع تجاري جديد اسمه "الدين الإبراهيمي" هو محض عبث وعمليات نصب واحتيال تتخذ شكلًا ثقافيًا أو حضاريًا أو دينيًا.
لقد أقام الأقصى الحجّة على الجميع، وأجرت القدس استطلاعًا حقيقيًا للشارع العربي، فبان أن الشعوب مع فلسطين، وضد التطبيع، فيما لم يبق جمهور للتطبيع مع العدو سوى تلك الأنظمة التي تستمد وجودها وبقاءها من الارتباط بعلاقة عضوية بالاحتلال، ومعها مجموعات من النخاسين، في السياسة والتجارة والإعلام، وحولها قطعان من الحشرات المنتشرة في الفضاء الإلكتروني، يتم تسمينها وإطلاقها في مواعيد محددة، وبإيقاعات محددة، على كل من يرفض أن يتصهين.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق