الثلاثاء، 4 مايو 2021

رمتني بدائها وانسلّت… بايدن إذ يتحدث عن إبادة الأرمن

رمتني بدائها وانسلّت… بايدن إذ يتحدث عن إبادة الأرمن


إحسان الفقيه

في بعض الأماسي أجلس أمام نهرنا، نهر «الميزوري» العظيم، الشمس تغيب، والغسق يذوب في المياه، وتلوح لي في تلك الظلال قريتنا الهندية، وفي هدير النهر أسمع جلبة المقاتلين تموج مع قهقهات الصغار والكبار، لكنني أحلم، نعم، إنها ليست إلا أحلام امرأة عجوز، فأنا لا أرى إلا أشباحا، ولا أسمع إلا هدير المياه، ثم تنفجر الدموع في عينيّ، لأنني أعرف أن رجالنا ذُبحوا، وأن حياتنا الهندية انتهت، إلى الأبد.
بهذه المرثية، عبرت واهيني تلك المرأة التي تنتمي إلى شعب «هيداستا» من الهنود الحمر، عن طي صفحة تلك الأمة التي تعرضت لأبشع مذابح وإبادة عرفها التاريخ على يد القادم الأبيض، لتحقيق حلم العالم الجديد، أمريكا، التي نصّبت نفسها شرطي العالم.
تبكي المرأة الهندية أياما جاء فيها الصائل الأبيض ليعيث في الأرض فسادا، عندما كانت المحكمة العامة ترصد مكافآت مجزية لمن يأتي بفروة الهندي بعد سلخها، وتضع تسعيرة بحسب مقام الصياد، فرجل الميليشيا يختلف عن الجندي، وهذا يختلف عن المستوطن العادي. هنالك كان جون شفنغتون أعظم أبطالهم يقول: «اقتلوا الهنود واسلخوا جلودهم، لا تتركوا صغيرا ولا كبيرا، فالقمل لا يفقس إلا من بيض القمل» وأحد رؤساء أمريكا الرحيمة أندرو جاكسون، كان منهمكا في حساب عدد قتلاه من الهنود، بإحصاء أنوفهم وآذانهم المجدوعة، ويعشق حفلات التمثيل بجثث الهنود. فليس بعجيب أن يضفي وليم برادفورد حاكم مستعمرة بليتموت على قتل الهنود بالأوبئة والجراثيم، بعدا دينيا باعتبارها أعمالا تقرّب إلى الرب، فيقول: «إن نشر هذه الأوبئة بين الهنود عمل يدخل السرور والبهجة على قلب الله، ويفرحه أن تزور هؤلاء الهنود وأنت تحمل إليهم الأمراض والموت، وهكذا يموت 950 هنديا من كل ألف، وينتن بعضهم فوق الأرض بدون أن يجد من يدفنه، إنه على المؤمنين أن يشكروا الله على فضله هذا ونعمته». قارة كاملة، أباد الأمريكيون سكانها، قتلوا ما يزيد عن 112 مليون هندي أحمر، ينتمون إلى أكثر من 400 شعب، تعرضوا لـ93 حربا جرثومية شاملة ومذابح جماعية أكثر من أن تُحصى.
وعلى سبيل التنوع، انتقلت الوحشية الأمريكية من الأحمر إلى الأسود، فما لا يقل عن 25 مليونا من الأفارقة قضوا نحبهم قبل أن يصلوا إلى العالم الجديد، في رحلات الموت التي كان يجلب بها الرجل الأبيض العبيد السود من افريقيا، التي فقدت من أبنائها أكثر من مائتي مليون إنسان خلال عمليات الاختطاف القسري، من أجل خدمة السيد الأبيض في عالمه الجديد.
لم تقف إنجازات الأمريكي لإسعاد البشرية عند حدود الهنود الحمر والأفارقة، بل أغدقت على العالم في القرن العشرين بألوان الدمار، فمدينة درسدن الألمانية، التي لم تعد تشكل هدفا عسكريا بعد أن تجاوزها الروس، تتعرض لقصف أمريكي، يذهب ضحيته 150 ألف مدني وتم تخريب 60% من أبنيتها عام 1945. وفي العام ذاته يأمر الرئيس الأمريكي ترومان بإلقاء قنبلتين نوويتين على هيروشيما وناغازاكي اليابانيتين، ليسقط أكثر من مائتي ألف قتيل، ومئات الآلاف من المصابين، لا يزال الشعب الياباني يجد آثارهما إلى اليوم. ثم تشعل أمريكا عام 1949 حربا أهلية في اليونان يسقط خلالها 154 ألف شخص، بخلاف من أودعوا السجون، أو الذين أعدموا بموجب محاكمات عسكرية. ولما تدخلت الولايات المتحدة في فيتنام قتلت بين عامي 1968ـ 1971، ما يزيد عن 40 ألف فيتنامي، خلال برنامج يقضي بتصفية كل من يشتبه بانتمائه للفييتكونغ، أو يتعاطف معهم بمعدل 1800 فيتنامي شهريا على أقل تقدير، بحسب روي بروسترمن أستاذ القانون في جامعة واشنطن. بينما قدرت مصادر أخرى عدد الضحايا الفيتناميين خلال فترة التدخل الأمريكي بنحو 365 ألف قتيل، في ما نشرت «نيويورك تايمز» في الثامن من أكتوبر 1997 أن العدد الحقيقي للقتلى الفيتناميين من الغزو العسكري الأمريكي هو 2.6 مليون قتيل.
وعندما يصف الكاتب الأمريكي ناعوم تشومسكي، تورط بلاده في حروب طاحنة في كوريا، بعد عزل حكومتها الشعبية بقوله: «أشعلنا حرباً ضروساً سقط خلالها 100 ألف قتيل، وفي إقليم واحد سقط 40 ألفاً من الفلاحين قتلى في أثناء ثورة قاموا بها» عندما يقولها كاتب مثل تشومسكي فإنها شهادة لا يعتريها الشك في جرائم الولايات المتحدة بحق البشرية.
«أعتقد أن الأمر يستحق تلك التكلفة» كانت هذه العبارة جزءا من تصريح مادلين أولبرايت وزيرة الخارجية السابقة على مقتل نصف مليون عراقي بسبب الحصار على العراق. كان الجنرال تومي فرانكس قائد الحملة الأمريكية على بغداد محقا حين قال للصحافيين عن ضحايا الحرب: «نحن لا نعد الجثث» لكن شركة استطلاع بريطانية أجرت دراسة عن هذا الشأن، توصلت فيه إلى مقتل مليون و 33 ألف عراقي حتى عام 2007، بينما رجحت مصادر أخرى مقتل مليونين وأربعمئة ألف عراقي خلال سنوات الغزو.

مناجزة تركيا بمأساة الأرمن ورقة ضغط، تأتي في سياق محاصرة تركيا وترويضها، بعد أن ازداد نفوذها ودورها الإقليمي والدولي

أعتقد أن هذا الغيض من فيض الجرائم الأمريكية ضد البشرية يسوغ للعالم أن يطالب بمحاسبة الولايات المتحدة عن كل جرائمها والإبادات الجماعية التي ارتكبتها منذ قيامها وحتى اليوم. وهذا الغيض من فيض الجرائم الأمريكية كافٍ في أن يقال للجالس على المكتب البيضاوي في واشنطن: «من كان بيته من زجاج فلا يرمي الناس بالحجارة». جو بايدن كغيره من رؤساء أمريكا، تعهد في حملته الانتخابية بأن يعترف بتنفيذ الدولة العثمانية جرائم إبادة جماعية بحق الأرمن، وهذا يذكرنا بالمثل العربي السائر: «رمتني بدائها وانسلّت» وقد ذكر ابن سلام في كتابه «الأمثال» أن هذا المثل قيل في امرأة خزرجية كانت لها ضرائر، فسبتها إحداهن يوما، فرمتها هذه المرأة الخزرجية بعيب هو فيها، فقالت ضرتها «رمتني بدائها وانسلّت» فذهبت مثلًا. بايدن كغيره من رؤساء أمريكا، أعلن في حملته الانتخابية عن اعتزامه الاعتراف بإبادة الأرمن لكسب تأييد اللوبي الأرمني في بلاده، وها هو يفعلها في الرابع والعشرين من إبريل، وهو اليوم الذي اختاره الأرمن لإحياء هذه الذكرى، أعلنها بايدن زعما باحترام حقوق الإنسان! إن كان على تركيا أن تتحمل أخطاءً وقعت في الحقبة العثمانية، فمن باب أولى أن تتحمل الإدارة الأمريكية كل الجرائم التي ارتكبتها منذ فترة تأسيسها. لكن الفرق بينهما، أن الجرائم التي ارتكبتها أمريكا بحق البشرية مقطوع بصحته لا يعترضها شيء، ولا يشوبها شيء، أما ما حدث للأرمن في عهد الإمبراطورية العثمانية، فإنه يشوش على حقيقته أمور:
الأول: أن تقدير عدد الضحايا بمليون ونصف مليون قتيل هو أمر مبالغ فيه بدرجة كبيرة، سأتجاوز الرواية التركية بأن عدد الضحايا لم يتجاوز 300 ألف، وهو بلا شك عدد كبير جدا، لكنني سأعتمد على الكتاب الأزرق، وهو مجموعة ضخمة من الوثائق في الأرشيف البريطاني، وكان رئيس تحرير هذه الوثائق المؤرخ الشهير أرنولد توينبي أستاذ التاريخ بجامعة لندن، والذي كتب يقول عن أحداث 1915: «يبلغ عدد الشهداء الأرمن 600 ألف على نحو تقريبي». وهذا يدحض الرواية التي يعتمدها الأرمن والولايات المتحدة وأوروبا وروسيا وغيرهم عن عدد القتلى من الأرمن.
الثاني: أن تركيا وحدها هي من عرضت فتح أرشيفها الذي يحتوي على مليون وثيقة أمام لجنة من خبراء ومؤرخين من الأرمن وتركيا، للوقوف على حقيقة الأمر (مع الإقرار بسقوط عدد كبير من القتلى الأرمن) في الوقت الذي لا يجد فيه الأرمن وثيقة واحدة يلوحون بها لتعيين هذا العدد الضخم من الضحايا، بل إن هناك وثائق في الأرشيف الألماني تثبت أن الأرمن تورطوا في مجازر ضد رعايا الدولة العثمانية في الأناضول، فالأمر من الناحية الوثائقية لصالح الأتراك.
الثالث: تجاهل حقيقة مؤكدة وهي سقوط مئات الآلاف من العثمانيين المسلمين في الصراع الداخلي على يد الأرمن، بما ينفي حقيقة كونها إبادة ممنهجة شنها العثمانيون على الأرمن، بل تمت في إطار تصارعي، وبتجاوزات عديدة من ضباط عثمانيين بدافع انتقامي.
الرابع: تجاهل حقيقة تعاون الأرمن مع الروس ضد العثمانيين، وقيام الوحدات العسكرية الأرمنية بتنفيذ مذابح عديدة في المسلمين من رعايا الدولة العثمانية، ولا يخفى اكتشاف مئات المقابر الجماعية لقتلى على يد الأرمن موثقة في الأرشيف العثماني.
وهذا السرد ليس تهوينا من شأن مأساة الأرمن، فالأعداد الكبيرة لقتلاهم على يد القوات العثمانية لا يمكن إخفاؤها، لكن من الإنصاف أن يوضع الجرم في حدود تقديره وتقييمه الصحيح، أما المبالغات في أعداد الضحايا وتجاهل دور الأرمن العدائي تجاه الدولة العثمانية وتجاهل سقوط هذا العدد الكبير من المسلمين العثمانيين على يد الأرمن، فهو صورة من صور التكالب على تركيا الحديثة. وهذا ما يقوم به جو بايدن وحلفاؤه وأتباعه في مناجزة تركيا بمأساة الأرمن كورقة ضغط، فهو يأتي في سياق المحاولات المستمرة لمحاصرة تركيا وترويضها، بعد أن ازداد نفوذها ودورها الإقليمي والدولي، وأصبحت قوة عسكرية واقتصادية وسياسية لها ثقلها في المجتمع الدولي، بعيدا عن التبعية للشرق أو للغرب، وعلى بايدن أن يراجع تاريخه الملطخ بالدماء أولا قبل أن يرمي غيره بالذي هو داؤه، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق