وهي سورة مكية -كما يقول ابن عطية في التفسير - بإجماع المفسرين ، ولكن في المسألة شيء من الاختلاف، فقد نقل عن ابن عباس رضي الله عنه وجماعة: أنهم يرون آخر السورة مدنياً، فيرون أن أولها مكي وآخرها مدني ، والجمهور على أنها مكية، وهو المناسب لسياقها وموضوعاتها.
يقول سبحانه في صدر هذه السورة ومستهلها: ((ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ))[القلم:1]، نزلت هذه السورة في أول البعثة، تقريباً هي السورة الرابعة، نزل قبلها: ((اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ))[العلق:1] يقيناً، وربما المدثر والمزمل أيضاً، فهي الرابعة، أو تكون هي الثالثة أيضاً بعد المدثر، خصوصاً صدر هذه السورة، ولذلك إذا أردت أن تتدبر هذه السورة فحاول أن تستحضر الفترة التي نزلت فيها، ولم يكن نزل من القرآن إلا شيء يسير، والنبي صلى الله عليه وسلم في صدر بعثته ودعوته والسهام تتناوشه من كل جانب، والأقاويل، وأهل مكة في ثورة عارمة على هذه الدعوة، التي جاءت تنقض أصولهم ومجدهم المبني على الوثنية والجاهلية، وتدعوهم إلى الله الواحد القهار، فينطلقون ليعيبوا الرسول عليه الصلاة والسلام، ويجرؤ على هذا النبي العظيم أمثال الوليد بن المغيرةأو النضر بن الحارثأو الأخنس بن شريقأو أبي جهل ، أو غيرهم ممن لا يساوون شيئاً، ويرمونه صلى الله عليه وسلم بأبشع الألقاب والأوصاف، فينزل القرآن من عند الله يدافع عن النبي صلى الله عليه وسلم يوم لم يكن يملك الدفاع عنه أحد من الناس، حتى ابنته لما همت بالدفاع عنه آذوها، ووضعوا السلا على ظهره صلى الله عليه وآله وسلم، وضربوا أصحابه، بل ضربوه هو عليه الصلاة والسلام، وجاء أبو بكر ليدافع عنه وهو يقول: [أتقتلون رجلاً أن يقول: ربي الله وقد جاءكم بالبينات من ربكم؟!]، فضربوا أبا بكر حتى أغمي عليه من الضرب.
ولما بعث إليه النبي صلى الله عليه وسلم أحداً يسأله يطمئن عليه، قال: (يا رسول الله! كل مصيبة بعدك جلل) ، إذا أنت طيب فأنا طيب، وكل مصيبة سهلة إذا لم تكن قد مستك وآذتك.
ينزل جبريل عليه الصلاة والسلام بالوحي إلى محمد عليه الصلاة والسلام المضيق عليه، المؤذى، المكلوم، المجروح بأبشع الألقاب والصفات، رجل كله عقل وحكمة ورزانة يوصف بالمجنون، هكذا، أين الأخلاق؟! أين القيم؟! أين المروءة؟! خالفوه فنسوا كل شيء، وتجرءوا على كل شيء، بينما كان النبي صلى الله عليه وسلم محط الأنظار والحب والود عند الناس كلهم، يوصف بالعقل، ويحتكم إليه في الملمات، ويوصف بالأمانة، ويوصف بالخلق الكريم، وزين الله تعالى ظاهره وباطنه:
غلام رماه الله بالحسن يافعاً
في صدر شبابه.
على وجهه من كل مكرمة صور
كأن الثريا علقت في جبينه وفي خده الشعرى وفي وجهه القمر
ولما رأى المجد استعيرت ثيابه تردى رداءً واسع الثوب واتزر
(نْ) هذه السورة -سورة (ن)- حرف من حروف الهجاء، وتجدها في المصحف مكتوبة حرفاً واحداً فقط، يعني: حرف وفي وسطه نقطة، السورة مكتوب فيها (ن) هكذا، لم تكتب كاملة: نون ثم واو ثم نون أخرى كما تنطق، وإنما كتبت (نْ) هكذا، هذا أيضاً علامة على ضبط القرآن وإتقانه، وأنه كتب بهذه الطريقة وتلقاه الناس؛ لأن القرآن ليس كتاباً فقط، وإنما هو كتاب وقرآن،كتاب للمكتوب، وقرآن للمقروء، فلابد أن يتواطأ فيه السمع مع البصر.
أولاً: إعجاز القرآن، وأن هذا القرآن هو عبارة عن مجموعة حروف وكلمات وألفاظ من جنس ما تنطقون به أيها العرب، ومع ذلك الله يتحداكم أن تأتوا بمثله، فهذا الإعجاز اللغوي الذي تحدى الله به أئمة الفصاحة والبلاغة والبيان فبهتوا ولم يحيروا جواباً، وهكذا يقال في (ق)، (ص)، (ألم)، (آلمر) إلى غير ذلك من الحروف المقطعة.
ثانياً: قوله سبحانه: (ن) إشارة إلى اللغة أيضاً، وأهمية اللغة، وأن من نعمة الله تعالى على العباد أن مكنهم من اللغة وأقدرهم عليها قراءة وكتابة، ولهذا قال سبحانه ((الرَّحْمَنُ * عَلَّمَ الْقُرْآنَ * خَلَقَ الإِنسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ))[الرحمن:1-4]، وهذا من أعظم ميزات الإنسان عن الحيوان، ولهذا الحيوانات تسمى العجماوات؛ لأنها لا تنطق، ولا تسمع، ولا تبين، أما الإنسان فالله تعالى ميزه باللغة،وما يترتب عليها من الفهم والتفاهم والحوار والذوق والمعرفة والعقل والإدراك، واللغة شيء عظيم جداً عند الإنسان، حتى القدرة على الكلام، فالأبكم ربما يطوي كثيراً من المعاني والمشاعر في قلبه، لا يستطيع أن يبين عنها.
إذاً: التعبير بـ (ن) إشارة إلى منة الله تعالى على عباده باللغة مقروءة أو مكتوبة، وما في ذلك من ألوان البديع والإعجاز.
أيضاً من معاني البداءة بـ (ن) حفز الناس على التعلم وعلى التعليم، ولهذا قال بعضهم: إن المقصود بـ (ن) الدواة، وسواء صح هذا القول أو لم يصح، إلا أن بداءة السورة بـ (ن) ومثلها (ق) و (ص) فيها حفز للعرب وغير العرب والمسلمين عموماً والمؤمنين بهذا القرآن، والعرب كانوا أميين، بعث النبي عليه الصلاة والسلام في أمة أمية لا تقرأ ولا تكتب ولا تحسب، والعلم والمعرفة كان عند أهل الكتاب من اليهود و النصارى وغيرهم، فجاء القرآن أول ما جاء: ((اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ))[العلق:1]، وثالث ما جاء: ((ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ))[القلم:1]، فبداية الوحي والبعثة والرسالة بالتأكيد على معاني القراءة واللغة والكتابة والقلم والسطر والعلم، هذا لا ينبغي أنه يفوت علينا أبداً، تأسيس على المعرفة، ما جاء الإسلام ليربي الناس على التقليد، ولا على الهوى، ولا على العاطفة المجردة، لكن ليجعل المعرفة من أهم الأسس، سواءٌ كانت معرفة دينية أو معرفة دنيوية، ولهذا في السورة ذاتها تجد بعد قليل الله سبحانه وتعالى يوبخ المشركين بأن يقول: ((أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ))[القلم:37] .
إذاً: من معاني (ن) التحفيز على المعرفة والعلم، وأن الإسلام دين جاء لا يخاف من العلم، ولا يخشى على حصونه منه، ولا من العقل وإطلاقه، فليس في الإسلام كهنوت ولا أسرار ولا مشكلات، نريد ألا يثيرها أحد ولا أحد يتكلم عنها أبداً، دين واضح وضوح الشمس في رابعة النهار، العلم والمعرفة والعقل والفهم كلها أدوات تعزز هذا الدين إذا استخدمت بالطريقة الصحيحة.
وبعضهم يقولون: إذا كنا نتكلم عن العلم ونقصد العلم المبني على أسس صحيحة؛ فإنك تجد عند بعض المفسرين يقول لك: (ن) هذا هو الحوت الذي خلقه الله وجعل الأرض عليه، فيزعم هؤلاء أن الأرض على ظهر حوت! وبعضهم يقول: ثور. ومن الطريف أنهم يقولون: الزلزال، الثور إذا تعب قرنه ينقل الأرض من قرنه إلى القرن الثاني، عملية النقل هذه تسوي الزلزلة في الأرض، ويظنون الأرض كلها تتزلزل.
هذه معلومات إسرائيلية، أكاذيب ملفقة دسها أعداء الإسلام في كتب المسلمين، وتلقاها كثير من الناس بسذاجة، والعلماء السابقون جرت عادتهم أنهم إذا صنفوا ذكروا ما هب ودب، لكن اليوم أصبح الناس بحاجة إلى التمييز، وألا تساق الأقوال والروايات في معاني كلام الله؛ لأن كلام الله مقدس، فلا ينبغي أن ينسب إليه ما هو من المحالات، وما هو من الأباطيل، وما هو من الأكاذيب، وما هو مدعاة للسخرية والاستهزاء، فلا شك أن هذا من أبطل الباطل، والناس العقلاء كلها حتى قبل البعثة يعرفون أن الأرض ليست على قرن ثور، وليست على ظهر حوت، وإنما هي في الفضاء معلقة، وهذا صريح القرآن: ((أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَاءِ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ))[النحل:79] .
وهكذا الأرض، فإن الله تعالى يمسك السماوات والأرض، كما قال: ((أَنْ تَزُولا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ))[فاطر:41]، فليس هناك من ثور، ولا حوت، ولا شيء من هذا القبيل، وإنما هي قدرة الله التي تمسك الطير في السماء، وتمسك النجم والشمس والقمر والأرض والأفلاك كلها، والأرض ليست هي أكبر هذه الأفلاك، وإنما هي جرم صغير بالقياس إلى الشمس أو إلى غيرها من الأفلاك.
((ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ))[القلم:1] فيقسم ربنا سبحانه بالقلم إشادة به وتذكيراً بأهميته، وقد يكون المقصود بالقلم هنا القلم الذي كتب الله تعالى به مقادير الخلائق؛ فإنه قد ورد: (أن أول ما خلق الله القلم فقال له: اكتب)، يعني: ليس القلم هو أول المخلوقات، لا، لكن من أول ما خلقه الله (قال له: اكتب. قال: ما أكتب؟ قال: مقادير الخلائق، فجرى بما هو كائن إلى يوم القيامة)، هذا إشارة إلى علم الله تبارك وتعالى، وأن هذا العلم مكتوب فيما يتعلق بأحوال ما هو كائن إلى يوم القيامة، فهو ذلك القلم، وهو أيضاً القلم الذي يعرفه الناس، كما قال سبحانه: ((الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ * عَلَّمَ الإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ))[العلق:4-5] .
والقلم له دور كبير جداً في بناء الحضارات ورقيها، ولو نظرت إلى أثر العلم والكتابة والكتب لوجدت أن أثرها هائل جداً، وأن الأمم التي كانت تستهدف إسقاط غيرها ربما تستهدفها في ثقافتها، كما فعل التتر مثلاً حينما رموا الكتب في النهر، وكما فعلت كثير من الأمم التي تحاول أن تغزو أمة أخرى، فتدرك أن القضاء على ذاكرتها وعلى كتابها وعلى علمها وعلى ثقافتها وعلى خصوصيتها البيانية واللغوية، أنها هي قاصمة الظهر.
فالقلم نعمة كبيرة جداً من الله سبحانه وتعالى، ليس فقط بخلق القلم أو صناعته، وإنما بإلهام الإنسان أن يقرأ، وأن يكتب، وأن يدون، وأن يبحث، وأن يتطور، وتطور القلم الذي كان يكتب فيه باليد من خلال المخطوطات إلى الوسائل الحديثة وإلى الطباعة، وهنا المسلمون لما ترددوا في الطباعة، المطبعة أول ما جاءت ترددوا فيها، وبعضهم قال: لا يجوز أن نستفيد من المطبعة، فتأخرت الأمة الإسلامية قروناً إلى الوراء بسبب هذا القرار الذي تأخر عن وقته، ثم جاءت الوسائل الحديثة الإلكترونيات والرقائق والوسائط وغيرها، التي جعلت أمام الإنسان مجالاً واسعاً جداً للمعرفة وجمع المعرفة وتوظيفها وتنظيمها والاستفادة منها، هذا كله ليس إلا شيئاً من مدلول قوله سبحانه: ((وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ))[القلم:1]، يسطرونه يعني: يكتبونه في سطور، ولهذا قال سبحانه: ((وَالطُّورِ * وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ * فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ))[الطور:1-3] فما يسطرون يعني: ما يكتبون، ما يكتبه الملائكة في اللوح المحفوظ، ما يكتبه الملائكة في شأن المقادير، ما يكتبه الأنبياء مما يملونه على أصحابهم وعلى أتباعهم من الكتب المقدسة والوحي الإلهي، كما كان للنبي صلى الله عليه وسلم كُتَّاب الوحي، فيدعو فلاناً ويملي عليه فيكتب، ولهذا القرآن -كما قلت- ميزته أنه قرآن وكتاب، مقروء ومكتوب، ولهذا قال: ((وَمَا يَسْطُرُونَ))[القلم:1] وكان هناك كتاب متخصصون في الوحي، حتى في ذلك الزمن وفي تلك الأمة الأمية.
أيضاً ما يكتبه الناس وما يسطرون، فقوله سبحانه: ((وَمَا يَسْطُرُونَ))[القلم:1] هنا قسم بكل ما يكتب، سواءٌ كتبه أهل السماء أو أهل الأرض، الأقدمون أو المتأخرون، في خير أو شر، أو حق أو باطل، الله تعالى يقسم بالقلم وبكل ما يسطرون.
تناسب رائع جداً، فيقسم الله تعالى بالعلم والمعرفة والقلم واللغة وهذه المعاني الحكيمة على ضلال ما يدعيه المشركون من الترهات التي لا تستند إلى برهان، ولا إلى علم، ولا إلى هدى، ولا إلى كتاب منير، قسماً قوياً ناجزاً: ((ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ * مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ))[القلم:1-2] لست كما يزعمون. والأمر يقتضي أن يقسم الله تعالى على هذا المعنى؛ لأن المشركين لما شرقوا بالدعوة طاروا كل مطار، وقالوا كل ما يخطر على بالهم مما لا تقبله العقول، ولا الأذواق، ولا الأخلاق، العرب كان عندهم أخلاق، لكن لما جاءت الرسالة وشرق بها من شرق منهم تناسوا قيمهم وأخلاقياتهم وتصرفوا بعيداً عنها، ومن ذلك أن يصموا رجلاً في جلال سيدنا محمد صلى الله عليه وآله وسلم بهذه الفرية البذيئة، ويقولون: إنه لمجنون، فيقولون: هذا الذي يقوله محمد هو هذيان تمليه عليه الجن، وهم حينما يقولون هذا الكلام يريدون أن يصرفوا الناس، بحيث إنهم يعرفون أن الكثير من البسطاء والسذج والبلهاء والأغبياء لا يبحثون عن الدليل ولا يتحرون، ولا يعتمدون على الوسائل المعرفية ولا على الأدلة، وإنما يتقبلون ويتلقفون الشائعات ثم يرددونها ويعملون بها دون تبصر، فإذا قالوا: مجنون فمجنون، مجنون أصبح كل إنسان يتحاشى أن يلقاه أو يقابله أو يسمع منه، وما زالوا ببعض العقلاء حتى وضع القطن في أذنيه خشية أن يسمع شيئاً من كلام النبي صلى الله عليه وسلم من كثرة ما سمع، هذا يقول: مجنون، وهذا يقول: ساحر، وهذا يقول: كاهن، وهذا يقول: شاعر، فأكثروا عليه، فالله سبحانه وتعالى يقسم بـ ((وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ))[القلم:1] الذي يدل على أن الأمر قسم بالمعرفة، قسم بالإيمان، قسم بالعلم، بالكتابة.
((مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ))[القلم:2] لست بمجنون، لست كما قالوا.
وقوله: ((مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ))[القلم:2] يعني: بما أنعم الله به عليك، فهي مثل قوله: ((فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ))[الحجر:98] يعني: أنعم الله عليك بما أنعم به عليك من العلم والمعرفة والوحي والرسالة والفضل، حتى هو صلى الله عليه وسلم رقم واحد في البشرية كلها بإجماع العقلاء والمنصفين، حتى من غير المسلمين، فضلاً عن تفضيل الله تعالى له وأنه أفضل ولد آدم، وأول من يدخل الجنة، فهو سبحانه يقول: بما أنعم الله عليك من هذه الفضائل لست بمجنون. ((مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ))[القلم:2].
ويمكن أن يكون من المعاني أن المقصود بالنعمة هنا: الوحي والرسالة، وهم إنما وصفوه بالجنون بعد الرسالة وبعد الوحي، فكأن المعنى يقول: هذه الرسالة التي اختصك الله بها وميزك الله تعالى بها لست فيها بمجنون، وإنما هو فضل تفضل الله به عليك، وإن كان هؤلاء القوم لا يريدون أن يعترفوا بأن الملك يأتي ويوحي إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وإنما يريدون أن يقولوا: إن الذي يأتيه الشيطان، ولهذا قال ربنا سبحانه: ((وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ * وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ * إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ))[الشعراء:210-212] وهذا معنى يتكرر في القرآن كثيراً.
والمقصود هنا ليس مجرد نفي الجنون عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وإنما أولاً: أن يتولى الله تعالى الدفاع عن نبيه صلى الله عليه وسلم في جميع المقامات، وكفى بذلك فخراً، قد كان يؤذي قلب النبي صلى الله عليه وسلم أن يسمع مثل هذا الكلام من أقرب الناس إليه من ذوي القربى وممن يعرفونه، هذا يؤذيه، وربما لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم مناسباً أن يتولى بنفسه أن يقول: لا، لست كذلك، فتولى الله تعالى بذاته العلية مقام الدفاع عن رسوله صلى الله عليه وسلم ونفي ما يقولون.
وقد نفى الله تعالى عن نفسه العظيمة ما نسبه إليه المشركون والملحدون والكافرون، كما قال سبحانه: ((مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ))[المؤمنون:91] إلى غير ذلك من النفي الذي تكون مناسبته ادعاءات وتقولات وأكاذيب يطلقها فئة من الناس، فيكون من كمال إيضاح الرسالة وبيانها وإقامة الحجة أن ينص على نفيها، ونفيها ليس فقط نفياً لها، وإنما إثبات لضدها، فلما يقول: ((مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ))[القلم:2] يعني: لست كما يدعي هؤلاء المغرضون، وإنما أنت نبي مصطفى مكرم مختار.
(وإن لك) ثم قال: (لأجراً) ولم يقل: وإن لك أجراً، وإنما قال: (لأجراً)، أيضاً هذا تأكيد آخر، وهو فيه ظل القسم وأثر القسم بـ ((ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ))[القلم:1] أن للنبي صلى الله عليه وسلم أجراً، والأجر في الدنيا وفي الآخرة، ويعني الرفعة، ويعني الثواب، ويعني الجنة عند الله سبحانه وتعالى، ويعني الرضوان، ولهذا جاء به نكرة (لَأَجْراً)، فيشمل كل الأجور وهو أجر عظيم.
أولاً: هذا الأجر ليس من الناس فيمنون به عليك، ويتبعون ما يقدمونه المن والأذى، كما كان الناس يفعلون في الجاهلية، كانوا يمدحون مثلما مدح النابغة يقول:
علي لعمرو نعمة بعد نعمة لوالده ليست بذات عقارب
يقول: له علي نعمة ليست بذات عقارب، يعني: يتبعها المن والأذى والقيل والقال، فالله سبحانه وتعالى يقول: هذه نعمة من الله ليس فيها من ولا أذى، إذاً: هذا من معاني قوله: ((غَيْرَ مَمْنُونٍ))[القلم:3] .
أيضاً: غير مقطوع؛ لأن المن هو القطع، فقوله: ((لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ))[القلم:3] يعني: غير منقطع، بل هو أجر دائم، وهذا من الإعجاز؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لما نزلت عليه هذه الآية الكريمة وهذه السورة كان أتباعه يعدون على أطراف الأصابع، على رءوس أصابع اليد الواحدة أو اليدين، فالله عز وجل لما يقول: ((وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا))[القلم:3] يعني: أجر عظيم هائل كبير.
ثم يقول: ((غَيْرَ مَمْنُونٍ))[القلم:3] ليس فيه منة ولا انقطاع، مستمر، يمكن أن بعض الناس يتساءل يقول: ما هذا الأجر؟ لكن اليوم نحن لا نسأل ونقول: ما هذا الأجر؟ لماذا؟ لأننا نراه بعيوننا، فإن النبي صلى الله عليه وسلم دعا إلى الهدى، فله من الأجر مثل أجور من تبعه من غير أن ينقص من أجورهم شيء، وسن السنن الحسنة فله أجرها وأجر من عمل بها من بعده صلى الله عليه وسلم إلى يوم القيامة، ولا أحد حتى من المسلمين يمن على رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل المنة لله ورسوله، كما قال الأنصار لما سألهم النبي صلى الله عليه وسلم، قالوا (لله ورسوله المن والفضل) ، فالله تعالى هو الذي من علينا أن هدانا للإيمان، وللنبي صلى الله عليه وسلم في أعناقنا منن بعد منن فيما علمنا وأرشدنا، وسن لنا من السنن، وبين لنا من الطرائق، ونصحنا أصدق النصيحة وأكملها وأزكاها وأوفاها، فهذا أجر غير ممنون، بل المنة لله ورسوله، وهو غير مقطوع؛ لأنه باقٍ ما بقي في الأرض من يقول: الله الله، فهذا فقط نموذج من الأجر المستمر غير المنقطع، وفضل الله لا ينقطع ولا يتناهى للنبي صلى الله عليه وآله وسلم.
(وإنك) للتأكيد أيضاً، (لعلى) ما قال: إنك على خلق عظيم، ((وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ))[القلم:4]، ولم يقل: لذو خلق عظيم أيضاً، وإنما قال: (على)، وغالباً (على) عند العرب تعني التمكن، مثلما تقول: فلان راكب -مثلاً- على الخيل أو على الفرس، يعني: متمكن عليها، أما لو كان ممسكاً بها فلا تقول: عليها، فـ(على) تدل على التمكن والفوقية، كأن الخلق العظيم شيء مجسد والنبي صلى الله عليه وسلم عليه وفوقه.
إذاً: هو متمكن من الخلق العظيم، خلقه العظيم ليس شيئاً عابراً أو تكلفاً أو أمراً جانبياً أو في حال دون حال، بعض الناس قد يكون على خلق عظيم في حال الضعف مثلاً؛ لأنه ما يملك شيئاً فيتظاهر بالأخلاق، ولهذا الحكماء يقولون: الأخلاق تبين عند الشدة، النبي صلى الله عليه وسلم في مكة كان مستضعفاً، فوصفه ربه بأنك لعلى خلق عظيم، لكن في المدينة تمكن عليه الصلاة والسلام وفتح مكة فيما بعد وقال: (اذهبوا فأنتم الطلقاء) .
هذا الخلق العظيم ما يتغير، خلق عظيم في الملأ وفي الخلاء، بعض الناس مع الناس أخلاقه ممتازة، لكن إذا ذهب إلى بيته تحول إلى وحش كاسر مع أولاده ومع زوجته ومع خدمه، سيئ الملكة، سيئ الخلق، النبي صلى الله عليه وسلم على خلق عظيم في الملأ وفي الخلاء، حتى مع أزواجه، بعض الناس يكون على خلق عظيم مع الموافق، مع أصحابه وجماعته وأصدقائه، لكن إذا اختلف مع أحد أطاح به، مثلما حصل لهؤلاء المشركين حتى راحوا للحبشة يحاولون إقناع ملك الحبشة بأن يطرد المسلمين منها، وهم كانوا يكرمون الضيوف ويستقبلونهم، ما الذي تغير؟ الاختلاف جعلهم ينسون الأخلاق؛ لأنهم لم يكونوا على خلق عظيم، أما أنت فإنك لعلى خلق عظيم.
والخُلُقْ يعني الدين،ويعني الأخلاق الطيبة في التعامل مع الناس قريبهم وبعيدهم، برهم وفاجرهم.
وقوله سبحانه: ((عَظِيمٍ))[القلم:4] هذا وصف لأخلاق النبي عليه الصلاة والسلام في مقابل ما ذموه وما قالوا فيه، فربنا سبحانه يقول: ((وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ))[القلم:4] وكان من خلقه العظيم أن يصبر عليهم، فهم يقولون: شاعر، ساحر، كاهن، مجنون، والنبي صلى الله عليه وسلم كان يصبر عليهم ويدعوهم إلى الله سبحانه وتعالى، ويتحمل هذه الآلام، فربه سبحانه يعزيه عن ذلك ويجازيه جزاءً عاجلاً -وهو من الأجر غير الممنون- أن يقول له ربه: ((وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ))[القلم:4]، هذا فيه دليل على أن الأخلاق مثلما ذكرنا عن المعرفة في أول السورة، الأخلاق من المعاني الأساسية التي جاء الإسلام لإرسائها، ولهذا كان من خلقه العظيم ليس فقط التطبيق في نفسه، وإنما الدعوة إلى الأخلاق، كما قال عليه الصلاة والسلام: (إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق)، (لأتمم صالح الأخلاق) .
وكما قالت عائشة رضي الله عنها: لما سألت عن خلقه عليه السلام، قالت: (كان خلقه القرآن) .
إذاً: من الناس من قد يتكلم عن الخلق بلسانه وخطب ومحاضرات ودروس، لكن لما تقترب من الناس الذين جالسوهم وعاشروهم يقول لك: والله الأمور ما هي على ما يرام، ترى الكلام سهل، لكن الفعل وسط، اسأل زوجته، اسأل أولاده، اسأل جيرانه، اسأل زملائه، تجد هذا الإنسان شرساً، غليظ الطبع، حاد المزاج، غضوباً، كذوباً، لئيماً، بخيلاً، وهو قد يتكلم عن الكرم والجود والحلم والتسامح إلى غير ذلك.
أما محمد صلى الله عليه وسلم فالله عز وجل زينه بالثنتين معاً، أن دينه جاء ليعلم الأخلاق، وهناك كتب خاصة فيما أمر به النبي صلى الله عليه وسلم من الأخلاق وحث عليه، فضلاً عما في القرآن الكريم، وكذلك سلوكه وتطبيقه العملي كان خير قدوة ومثال في ذلك.
((وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ))[القلم:4] وهذه في الواقع أنها حجة علينا جميعاً أيها المسلمون، أن ندرك أن علينا أن نقتدي بالنبي صلى الله عليه وسلم مثلما نقتدي به في تفصيل الصلاة، كيف نركع، وكيف نسجد، أن نقتدي به في الخلق العظيم، والخلق العظيم هنا غير محدد؛ لأن الفطرة تعرف كثيراً من الأخلاق والنبل، هذا شيء فطري، ولهذا يقول ربنا سبحانه: ((وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ))[الحج:77]، فجزء كبير من الخير مما يعرفه الناس بالفطرة ولا يلزم فيه تفصيل، ولا يلزم فيه بيان محدد.
((بِأَيِّيكُمُ الْمَفْتُونُ))[القلم:6] سوف ترون وتجدون أيكم الذي هو مفتون أنت أم هم، وهذا رد على قولهم: إنه مجنون، لكن سبحان الله! لم يقل: بأيكم المجنون، وإنما قال: ((بِأَيِّيكُمُ الْمَفْتُونُ))[القلم:6]، وقد تكون الفتنة معناها الجنون؛ لأنهم يقولون: فلان فتنته الجن، يعني: أصابته بالجنون، ولكن الإعجاز القرآني قال: ((بِأَيِّيكُمُ الْمَفْتُونُ))[القلم:6] أولاً: لأن الله سبحانه وتعالى لا يريد أن يقول: إنهم هم مجانين، لأنهم لو كانوا مجانين ما كانوا مكلفين ولا مأمورين ولا منهيين ولا محاسبين ولا ملومين، الجنون أمر يخرج الإنسان عن طور التكليف، ولهذا قال: ((بِأَيِّيكُمُ الْمَفْتُونُ))[القلم:6] يعني: الذي أصابته الفتنة.
وأيضاً أن كلمة: (بأييكم المفتون) تدل على المعنى الواسع، يعني: أيكم الذي وقع في الفتنة، ووقع في الضير، ووقع في النقص، ووقع في الهوى، ووقع في الضلال، أنت أم هم؟ وهنا الله سبحانه وتعالى لم يبين، ويكفي أنه قال: ((فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ))[القلم:5]، وهذا مثل قوله سبحانه: ((وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ))[سبأ:24]، وكما قال سبحانه: ((أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ عَلَى الْهُدَى * أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى * أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى * أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى))[العلق:11-14]، هذا مما يسمى بالتنزل للخصم، يعني: انتظروا واصبروا وسوف تبصرون (بأييكم المفتون)، يعني: قوله: (بأيكم) الباء هنا لم يقل: أيكم المفتون، فكأن المعنى: بأيكم وقعت الفتنة، ستعلمون بأيكم وقعت الفتنة بك أم بهم.
قال سبحانه: ((إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ))[القلم:7] وهذا فيه إشارة إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم ومن معه هم المهتدون، وأن هؤلاء القوم قد ضلوا عن سبيله وما كانوا مهتدين، يعني: لا تبال بما يقولون، فالله تبارك وتعالى أعلم بذلك.
قال سبحانه: ((فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ))[القلم:8] .
يا محمد! لا تطع المكذبين، وهذا من إعجاز القرآن أيضاً وربانيته: أن الله يأمر النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: ((فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ))[القلم:8]، فالنبي عليه الصلاة والسلام يقرؤها ويلقنها لأصحابه في نهي الله تعالى له أن يطيعهم، وتحذيره من ذلك، بل وتهديده إذا لم يمتثل، كما قال سبحانه ((وَإِذًا لاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا * وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا * إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا))[الإسراء:73-75]، هذا دليل على تحذير الله وتهديده للنبي صلى الله عليه وسلم لو فعل، هذا وحي، النبي صلى الله عليه وسلم لا يخاطب نفسه ويقول: لا تطع المكذبين، وإنما يخاطبه ربه، فهو يتلو هذا القرآن ويلتزمه ويطيعه، كما قال سبحانه: ((يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا *وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ))[الأحزاب:1-2]، فقال هنا: ((فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ))[القلم:8] فيما يطلبون أو يلتمسون، ماذا كانوا يريدون؟ كانوا يقولون: اترك هذه الدعوة ودع الكلام هذا، على الأقل لا تتكلم عن آلهتنا، ولا تفند عباداتنا، ولا تنتقد الشرك والوثنية، وبمقابل ذلك نحن نكف عن تعييرك ووصفك بأنك شاعر أو ساحر أو كاهن أو مجنون، فالله سبحانه وتعالى يقول: ((فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ))[القلم:8].
ومرة قالوا له: تعال، هناك حل أنه نعبد إلهك سنة وتعبد إلهنا سنة، فإذا كان الذي تفعله أنت صواباً نكون أخذنا جزءاً منه، وإذا كان ما نحن عليه صواباً تكون أنت أخذت شيئاً منه، فنزل قوله تعالى: ((قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ * لا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ * وَلا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ))[الكافرون:1-3] .
الديانة والعبادة والعقيدة ليست مسألة دنيوية، أو بيع أو شراء، فيها مساومات وفيها مناصفات وفيها تحولات، قضية الإيمان بالله سبحانه وتعالى قضية جوهرية لا مجال للمساومة عليها، ولهذا قال سبحانه: ((فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ))[القلم:8] .
((وَدُّوا))[القلم:9] تمنوا ((لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ))[القلم:9]، ((وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ))[القلم:9] وهذا معناه: أنه في مرحلة من المراحل تمنوا أن يسكت النبي صلى الله عليه وسلم ويطاوعهم فيما يريدون، ليسكتوا هم أيضاً ويتركوا ما يشيعون عن النبي صلى الله عليه وسلم من الأباطيل، فالله سبحانه وتعالى يحذر نبيه من ذلك.
وهذا دليل على النهي عن المداهنة، والمداهنة معنى غير المداراة، المداراة صدقة، مداراة الناس صدقة كما يقول عمر رضي الله عنه، لكن المداهنة مذمومة؛ لأن المداهنة هي المداهنة في الدين، أما المداراة فهي الأخلاق.
وسبحان الله العظيم! هذا الكتاب المعجز في نفس السياق الذي يقول فيه: ((وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ))[القلم:4] يقول: ((وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ))[القلم:9]، إذاً: هناك فرق بين الأخلاق وبين المداهنة، ومعظم الناس قد لا يدركون هذا فيخلطون بينهما، فربما أغلظوا في القول وأساءوا في الخلق، وظنوا هذا من الديانة والقوة والغيرة، وربما داهنوا في دينهم وظنوا هذا من الخلق، بينما بينهما فاصل واضح، فالله سبحانه وتعالى -مثلاً- لما أرسل موسى و هارون إلى فرعون قال: ((فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى))[طه:44]، ((ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ))[النحل:125] .
فالأخلاق معنىً عظيم في المعاملة والقول والفعل والتعاطي مع كل الأطراف وفي كل الأحوال، هذا معنىً مطلوب، أما المداهنة فهي أن يتخلى عن دينه، أن يترك أمر التوحيد وأمر العبادة، أن يترك الشرك والوثنية مقابل أن يسكتوا عنه؛ لأنه آذاه أن يقولوا: ساحر، أو شاعر، أو كاهن، أو مجنون.
قال سبحانه: ((وَلا تُطِعْ))[القلم:10] تكريراً للمعنى الأول، لما قال: ((فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ))[القلم:8] يعني: عموماً، نص بعد ذلك على أصناف منهم ليبين شناعة وفظاعة ما هم عليه، فوصفهم بعشر صفات، فقال سبحانه: ((وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ))[القلم:10].
وهذه الآية قيل: نزلت في الأخنس بن شريق ، وقيل: في الأسود بن عبد الأسد ، وقيل: في أبي جهل ، وقيل: في النضر بن الحارث ، ولكن قوله سبحانه: ((وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ))[القلم:10] دليل على أن هذه ليست سوى أمثلة، وإلا فالنهي يشمل الكل وليس مجموعة أفراد.
((كُلَّ حَلَّافٍ))[القلم:10] الآن انظر، هذه صفات المعاندين المستكبرين على الدعوة.
((حَلَّافٍ))[القلم:10] يعني: كثير الحلف بالحق وبالباطل، وبمناسبة وبغير مناسبة، وهذا دليل على عدم تعظيمه للحلف والعهد والميثاق للفجور الموجود في قلبه، وهو أيضاً دليل على عدم ثقته بنفسه وشعوره بأن الناس لا يصدقونه، ولهذا يعزز كلامه دائماً بالحلف، فمن هنا قال ربنا سبحانه: ((وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ))[البقرة:224]، وحذر النبي صلى الله عليه وسلم من أن ينفق الرجل سلعته بالحلف الكاذب.
وحلف أبو بكر على النبي صلى الله عليه وسلم في تأويل رؤيا، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تحلف)، لا تجعل الحلف بالله على لسانك، عظم الله سبحانه وتعالى.
أيوب عليه الصلاة والسلام كان يمشي في السوق، فيرى رجلاً يحلف بالله كاذباً، فيرجع إلى بيته ويكفر عنه، كراهية أن يذكر الله عز وجل إلا في خير، ورأى عيسى رجلاً يسرق، فقال له: سرقت؟ قال: لا والله ما أسرق، فقال عيسى : آمنت بالله وكذبت عيني. انظر النبوة فيها تعظيم للعهد والميثاق، والعلاقة مع الناس، والوعد والحلف، أما هؤلاء فلا يقيمون وزناً، ولهذا قال: ((وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ))[القلم:10]، ثم قال: ((مَهِينٍ))[القلم:10] والمهانة هي الحقارة، يعني: حقير، وكأن (مهين) صفة أخرى غير الحلف، غير كونه حلافاً، فالصفة الثانية كونه مهيناً، يعني: حقيراً في نفسه وضيعاً لا شأن له:
وما المرء إلا حيث يجعل نفسه ففي صالح الأعمال نفسك فاجعل
((هَمَّازٍ))[القلم:11] يعني: إنسان يعير الناس ويعيبهم، ولا يمر أحد عليه إلا قال فيه قولاً، سواءٌ بلسانه، أو بوجه، إما أن يلوي وجه، أو يخرج لسانه. وأصل الهمز يكون بالأعضاء، باليد مثلاً، أو بالرجل همزه، لكن استعير لمعنى الأذى للآخرين وإيصال الشر إليهم والعيب بأي طريقة كانت، فهذا الإنسان هماز، يعني: يعيب الناس، ولا يرى الحسن في الناس، وإنما يرى الخطأ، بل يجعل الصواب خطأ، كما قيل:
إذا محاسني اللائي أدل بها كانت عيوباً فقل لي كيف أعتذر
فهذا هماز، يهمز الناس، يعيبهم، هذا طويل، وهذا قصير، وهذا سمين، وهذا نحيف، وهذا أسود، وهذا أبيض، وهذا بخيل، وهذا جبان، وهذا كذاب، وتجده يملأ فمه بالأقوال وكأنه ليس محاسباً عما يقول، وإن وجد أن يعيبهم بالأخلاق عابهم، وإن لم يجد عابهم بأشكالهم، وإن لم يجد عابهم بأنسابهم، وإن لم يجد افترى عليهم وكذب عليهم؛ لأنه لا يريد أن يثني على الناس بخير، ولهذا كان من علامة الفضيلة أن يكون الإنسان يثني على الناس بالخير، ويبحث عنهم، ولن تعدم أن تجد من إنسان سلوكاً حسناً تمدحه به، أما أن تبحث عن عيوب الناس فهذا خطأ كبير، إن ذممت الناس ذموك، وإن عبتهم عابوك.
((هَمَّازٍ))[القلم:11] فهذا يهمز الناس.
ثم قال: ((مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ))[القلم:11] كما أنه يحاول أن يعيب، وكأن كل أحد يمدح كأنه يدفع من جيبه شيئاً، يضايقه أن يمدح أحد، يريد أن يتفوق عليه مع أنه وضيع مهين، إلا أنه أيضاً كلما مدح أحد يظن أن هذا المدح تنقص له هو أو ازدراء له هو، فيؤذيه ذلك، ثم هو يحاول أن يفسد العلاقة الاجتماعية بين الناس.
(بنميم) النميمة، (نميم) يعني: نميمة، أو هي جمع مفرده نميمة، والنميمة: هي القالة بين الناس، ينقل كلام هذا في هذا، وكلام هذا في هذا.
إذاً: هو يغتاب الناس: ((وَلا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا))[الحجرات:12] ويخرج الغيبة بمخارج شتى، ومع ذلك هو يمشي بالنميمة فيفسد ما بين الناس، ما بين الأزواج والأصدقاء والجيران والأحبة بالمشي بالنميمة، وهذه مهمة بالنسبة له، هذا هو يسعى إليها، ليس فقط ينم، وإنما يمشي، ولهذا النبي صلى الله عليه وسلم قال: (وأما الآخر فكان يمشي بالنميمة) الذي يعذب في قبره.
ويقول صلى الله عليه وسلم: (لا يدخل الجنة قتات) يعني: نمام، لئلا تتكلم في الناس ولا تفسد العلاقة بين الناس، بل المشروع لك أن تنقل الكلام الطيب بين الناس حتى تصفو العلاقة بينهم؛ لأن العلاقة البشرية غالباً يعتريها ما يعتريها من المشكلات، فإذا كانت مهمتك إصلاح العلاقة أصبحت تنقل الكلام الطيب بينهم حتى تهدأ نفوسهم، أما مثل هذا فهو مشاء بالنميم؛ لأنه يسوؤه أن يرى علاقة الناس فيما بينهم على ما يرام.
((مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ))[القلم:12] ما قال: مانع، (مناع) يعني: شديد المنع، والخير: هو المال، ((وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ))[العاديات:8].
إذاً: هذا إنسان بخيل، ولم يقل: بخيل، وإنما قال: ((مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ))[القلم:12]؛ لأن البخل يتفاوت، أما لما يصفه بأنه مناع للخير فكأنه قد وضع على الخير حارساً وأبواباً وحجباً فلا يصل من خيره إلى الناس شيء.
وأيضاً الآية هنا لما يقول: ((مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ))[القلم:12] أبلغ؛ لأن معناها: أنه يمنع الخير من نفسه ومن غيره، يعني: حتى لو وجد إنسان يريد أن يتصدق أو ينفق حاول أن يفتر في همته وقال: يمكن أن تحتاجها هذه، ترى هناك احتمال أزمة اقتصادية، أو هناك شيء من هذا القبيل، أو يمكن أن هذا الإنسان الذي تريد أن تعطيه إنسان لا يعرف المعروف ولا يذكر الجميل، هذا ناكر للجميل، تعطيه اليوم ولو تحتاجه بعد سنة تنكر لك وما أعطاك، إذاً: لا تعطه! يحاول بكل وسيلة أن يصد الناس عن فعل الخير، يعني: ليس هو فقط يمنع الخير من نفسه، بل يمنع الخير من الناس.
زد على ذلك أنه لما يقول: ((مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ))[القلم:12] الخير هو المال، والخير أيضاً أوسع من المال، فكل ألوان الخير يحاول أن يمنعها، ومن ذلك أنه يحول بين الناس وبين الإيمان، ويحاول أن يصدهم، وأن يصرفهم، وينشر قالة السوء عن المؤمنين وعن المصلحين حتى يمنع الناس من الخير، بل أكثر من هذا.
((مُعْتَدٍ أَثِيمٍ))[القلم:12] وما الفرق بين المعتدي وبين الأثيم؟ هناك فرق، أما (المعتدي) فهي من العدوان، من الاعتداء، فهو معتد على الناس، صاحب عدوان، فيه أنانية، وفيه نزق، وفيه ظلم، وفيه طيش، ولهذا يبغي على الناس، يبغي عليهم بالمال إن كان تاجراً، ويبغي عليهم بالعلم إن كان عالماً، ويبغي عليهم بالديانة إن كان ظاهره التدين، ويبغي عليهم إن كان شريكاً: ((وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ))[ص:24].
وبنو إسرائيل بغى بعضهم على بعض، وقد يبغي الإنسان بأمر دين أو دنيا أو علم، وكثيراً ما يبغي المختلفون بعضهم على بعض، هذا صاحب اعتداء على الناس، يعتدي عليهم، يظلمهم، ويكذب عليهم، ويأخذ أموالهم ويتهمهم، إذاً: في علاقته مع الناس أساس هذه العلاقة الاعتداء، معتدٍ، أما في علاقته مع الله فأساسها الإثم، ولهذا قال ((أَثِيمٍ))[القلم:12]، ((مُعْتَدٍ أَثِيمٍ))[القلم:12]، وهو إذا ارتكب إثماً يقال له: آثم، من فعل كذا فهو آثم، من أكل الربا فهو آثم، من زنا فهو آثم، لكن الله عز وجل لم يصفه بأنه آثم وإنما وصفه بأنه أثيم، وهذا معناه: أن الإثم لم يعد مجرد حالات خاصة، وإلا فإن المؤمن قد يخطئ وقد يعصي وقد يغلط وقد يستزله الشيطان أو النفس الأمارة بالسوء، لكن هذا الإنسان أثيم، يعني: الإثم مطبوع عليه وجبلة أصبحت جزءاً من خلقه وشخصيته وصفته، فهو أثيم، وليس فقط آثماً أو مخطئاً، وإنما أثيم.
وقدم قوله: ((مُعْتَدٍ))[القلم:12] على قوله: ((أَثِيمٍ))[القلم:12] إشارة إلى عظم شأن حقوق الناس، وأن الدين جاء يحفظ هذه الحقوق ويكرسها ويأمر بها، ويعطي أعظم الأجر على أدائها، ويتوعد بأعظم الوعيد على الإخلال بها، وهذه معان يحتاج الناس الذين يقرءون القرآن إليها، إلى أن يتعلموا كيف أن الله سبحانه وتعالى قد يسامحك في الخطأ الذي في حقه سبحانه، لكن لا يسامحك في الخطأ الذي في حق عباده أياً كان هؤلاء العباد من الأقربين أو الأبعدين، ولهذا يقول العلماء: حقوق الله مبناها على المسامحة، قد يسامحك الله، لكن حقوق الناس حقوق العباد مبناها على المشاحة، الشح يعني.
((عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ))[القلم:13] انظر! ختم هذه السياقات وهذه الصفات بقوله: ((عُتُلٍّ))[القلم:13]، وكلمة (عُتُلٍّ) بضم العين وضم التاء وتشديد اللام، (عُتُلٍّ) هي معبرة بحد ذاتها حتى لو لم تعرف معناها.
(عُتُلٍّ) هذه تشمل مجموعة من الصفات، هذا إنسان شره، أكول، شروب، نهم، عنده طمع شديد، وتعلق بالدنيا والملذات، وأيضاً هذا الإنسان فيه غلظة وشدة، ومنه العتل، كما قال سبحانه: ((فَاعْتِلُوهُ إِلَى سَوَاءِ الْجَحِيمِ))[الدخان:47]، فالعتل هو الدفع بشدة، فهذا الإنسان (عُتُلٍّ) يعني: غليظ الأخلاق.
وفي ذلك إشارة إلى أن من علامات التدين والإيمان الرفق والسماحة، السماحة حتى في مظهر الإنسان ووجهه، لا تقطب وجهك، ولا تشمخ به، تواضع، ابتسم، طيب كلامك، لسانك، أقوالك، لا تقْسُ على الناس بالدفع والضرب والغلظة في القول والغلظة بالفعل؛ لأن الله عاب هذا على أمثالهم، وقال: ولا تطعه.
إذاً: قوله سبحانه: ((وَلا تُطِعْ))[القلم:10] أولاً: معناه أنك لا تطع من كانت هذه صفاته، ولا تطع حتى من فيه صفة واحدة من هذه الصفات. وأيضاً: إذا كان الله تعالى ينهى عن طاعة هؤلاء ففيه التحذير من هذه الصفات أن تكون فيك مجتمعة، أو أن يكون فيك واحدة منها. إذاً: هذا جزء من الخلق العظيم، أن ينأى المرء بنفسه عن مثل هذا المنحدر الذي انحدر إليه مثل هؤلاء.
((عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ))[القلم:13] يعني: فوق ذلك ومع ذلك كله فهو عتل زنيم، والزنمة هي: الشيء المتعلق برقبة الحيوان أو في أذنه، يعني: شيء ملحق به يترك متعلقاً به، يكون في مقدمة رقبته أو يكون في أذنه، ويسمى زنمة، يعني: قطعة صغيرة من اللحم معلقة به، فهو لما قال: ((زَنِيمٍ))[القلم:13] يحتمل أن يكون المعنى أنه معلق ملحق بقومه وليس منهم.
وقد ورد أن الوليد بن المغيرة إنما ادعاه أبوه بعدما كان عمره ثماني عشرة سنة،النضر بن الحارث ورد أنه لم يكن من قريش وإنما كان من ثقيف أو غيرها، ثم جاء عندهم وأصبح حليفاً لهم، وهنا ليس المقصود التعيير بالنسب، وإنما المقصود الإشارة إلى أن هذا الإنسان ليس له فخر بأخلاقه، كان يفتخر بنسبه وحسبه ومكانته ومجده ومجد آبائه وأجداده، فالله سبحانه وتعالى بعدما قطع عنه الفخر بالأخلاق وبالدين قطع عنه الفخر أيضاً بالنسب وقال: إن هذا الإنسان زنيم، فهو ملحق بهؤلاء القوم وليس منهم أصالةً، فلم يعد له ما يفخر به من أمر الدين ولا من أمر الدنيا.
ثم يقول ربنا سبحانه وتعالى: ((أَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ))[القلم:14] يعني: هذا على سبيل الاستنكار: أأن كان ذا مال وبنين يكفر ويعاند وقد كان له مال وكان له ولد؟! يدل عليه قوله: ((مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ))[القلم:12]، وقد ورد في قصة الوليد بن المغيرة : ((وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا * وَبَنِينَ شُهُودًا * وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا))[المدثر:12-14] فبدلاً من أن يشكر ((إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ))[المطففين:13]، إذا يقرأ عليه القرآن يكذب ويقول: (أساطير الأولين)، و الوليد هو أول من قال: هذا سحر يؤثر، ولكن بعد ذلك تلقفته عنه أفواه زعماء الكفر والضلالة والوثنية، فصاروا كلهم يقولون هذا، (أساطير)، والأساطير: جمع أسطورة، وهي الأكذوبة، وقيل: هي كلمة عربية مأخوذة من السطر والكتابة، أو كلمة رومية معربة، المهم أنه يقول: هذه أساطير ليست حقائق.
ولهذا قال ربنا سبحانه: ((سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ))[القلم:16] (نسمه) يعني: نضع له، وسماً وعلامة، مثلما يوسم الحيوان، ولهذا قال: ((عَلَى الْخُرْطُومِ))[القلم:16] والخرطوم: هو الأنف، لكن غالباً يستخدم للحيوان، مثل خرطوم الفيل ويقصد به أنف الإنسان، ولكنه مناسب جداً لقوله: ((سَنَسِمُهُ))[القلم:16] يعني: إشارة إلى ضعف أو غياب الجوانب الإنسانية فيه، وأن الجوانب البهيمية والحيوانية من جنس الشره في الأكل والشرب، ومن جنس العدوانية، ومن جنس الشر ومنع الخير والتسلط على الناس؛ أن هذه برزت فيه، ولهذا قال سبحانه: ((سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ))[القلم:16]، وقد حدث هذا يوم بدر ، كما قال ابن عباس رضي الله عنه: إن صاحب هذه الآية ضربه المسلمون يوم بدر على أنفه، فكان وسماً معه إلى أن مات، وأصبح الناس يعرفونه به، وبهذا حجم الله سبحانه وتعالى أثر هذا الإنسان ودوره، حتى حينما نزلت هذه الآيات قبل بدر، لأن الناس أصبحوا يعرفونه وينتظرون وعيد الله تبارك وتعالى فيه.
ثم ينتقل السياق بعد هذه المواجهة مع الملأ المشركين المتمردين العتاة، ينتقل إلى قصة تذكر لأول مرة -وربما للمرة الوحيدة- في القرآن الكريم، الله سبحانه وتعالى ضرب هذه القصة مثلاً لزعماء قريش، كما سوف يضرب مثلاً آخر للنبي صلى الله عليه وسلم في قصة يونس صاحب الحوت: ((فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ))[القلم:48] ، هنا قال: ((إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ))[القلم:17] اختبرناهم بالمال وبالولد وبالرزق والزرع وغيرها في مكة .
((كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ))[القلم:17] وهذه جنة كانت في اليمن قريبة من صنعاء اسمها ضروان ، بالضاد والراء والواو والألف والنون: ضروان ، قيل: كان هؤلاء القوم يهوداً أو نصارى ، المهم أنهم كانوا أهل كتاب، والرجل صاحب المزرعة رجل كريم يعطي الفقراء والمساكين والمحتاجين، ولما مات كان عنده ثلاثة أولاد، فتغيرت طريقتهم وقالوا: إن الظروف تغيرت، الأمور صعبة ونحن محتاجون، وقرروا أن يمنعوا الفقراء والمساكين حقهم من هذه المزرعة، فعاقبهم الله تعالى عقاباً عاجلاً، وضرب الله تعالى المثل بهذه القصة، ربما كانت معروفة عند العرب أو ليست معروفة، وجاء بها القرآن الكريم إشارة إلى أهل مكة ، وأنهم إن أصروا على كفرهم وجحودهم فسوف يصنع الله تعالى بهم كما صنع بأصحاب الجنة.
((أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا))[القلم:17] يعني: تقاسم هؤلاء الثلاثة الإخوة فيما بينهم على أنهم سوف يقومون بقطع البستان أو الحديقة أو الجنة بصرامها، يعني: أخذ الثمر منها، ((مُصْبِحِينَ))[القلم:17] أول الصباح، يعني: قبل أن يأتي إليهم الفقراء والمساكين، يأتون في آخر الليل والناس لم يخرجوا بعد ولم ينطلقوا، ويقومون بصرام هذه الجنة حتى لا يحصل أحد منها على شيء.
((وَلا يَسْتَثْنُونَ))[القلم:18] ما قالوا في قسمهم: إن شاء الله، لماذا؟ لأنهم واثقون ومتأكدون ومزمعون على ذلك، وأيضاً لم يستثنوا حق الفقراء والمساكين، ولهذا قال: ((وَلا يَسْتَثْنُونَ))[القلم:18] لا هذا ولا ذاك، لم يستثنوا في يمينهم بأن يقولوا: إن شاء الله، ولا استثنوا بأن يجعلوا للفقراء والمساكين حظاً؛ لأنهم أصلاً قصدوا أنهم يصرمونها بليل حتى لا يعلم أحد.
قال الله عز وجل: ((فَطَافَ عَلَيْهَا))[القلم:19] انظر (فطاف) لحظة واحدة.
((طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ))[القلم:19] دار عليها، أصابها طائف، والطائف غالباً ما يأتي بالليل، ومنه يقال: الطيف، يعني: الحلم الذي يراه الإنسان في المنام.
((طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ))[القلم:19] ما هذا الطائف؟ نار أحرقتها، شيء أتى عليها وهم نائمون، الجماعة غارون نائمون، يظنون الأمور على ما يرام، بينما الله سبحانه وتعالى صنع بهم هذا وأرسل طائفاً منه سبحانه.
((فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ))[القلم:20] الصريم: هو الليل، الليل البهيم المظلم يسمى صريماً، الذي ليس فيه برق ولا نور، شديد الظلمة يسمى صريماً، أصبحت المزرعة كالصريم، يعني: ما تفرق المزرعة من السواد الذي يلفها، أصبحت سوداء محروقة عن آخرها، هم لا يعلمون بذلك، ولهذا لما كان آخر الليل تنادوا، كل واحد يوقظ الثاني، تنادوا مصبحين أول الصباح.
((أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَارِمِينَ))[القلم:22]، يعني: كل واحد يستعجل الثاني يقول: إذا أنتم جادون على الصرام فهيا، تأخرنا، عجلوا.
((اغْدُوا))[القلم:22] اذهبوا.
((عَلَى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَارِمِينَ))[القلم:22] يعني: أنتم ستصرمونها وتقطعونها جادين في ذلك، وهذا -طبعاً- لا يقصد به الشرط، يعني: إذا أنتم، وإنما على سبيل الاستعجال، مثلما تقول لإنسان إذا رأيت أنه تأخر، تقول: إذا أنت جاد في السفر توكل على الله، أما إذا أنت ألغيت السفر فهذا شيء ثان، فالمقصود به الاستعجال هنا، إن كنتم صارمين فاغدوا على حرثكم.
((فَانطَلَقُوا))[القلم:23] والانطلاق هنا يوحي بالسرعة والعجلة، وأيضاً مع الانطلاق هم يتخافتون، وهذا من سخرية الله بهم أنهم هم يتخافتون، يعني: هم ثلاثة كل واحد يهمس في أذن الثاني، بينما الله سبحانه وتعالى أخبرنا بماذا يتخافتون فسمع به القاصي والداني، هم يتخافتون، ماذا يقولون؟
((أَنْ لا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ))[القلم:24] الليلة لا أحد رأى ولا أحد سمع ولا خبر ولا علم، لا يدخل عليكم أحد من المساكين، أحكموا الإغلاق وعجلوا، الله سبحانه وتعالى فضح هذا التخافت: ((أَنْ لا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ))[القلم:24] .
((وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ))[القلم:25] هم انطلقوا الآن، وكما قالوا: ((اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ))[القلم:22] غدوا فعلاً، ذهبوا في أول النهار.
((وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ))[القلم:25] يعني: سرعة، الحرد من معانيه السرعة، فهم مسرعون؛ ولهذا قال: ((فَانطَلَقُوا))[القلم:23]، وأيضاً الحرد معناه: المنع، يظنون أنهم قادرون على أن يمنعوا الفقراء والمساكين، وما بينهم وبين البستان أو الحديقة إلا شيء يسير، وأيضاً الحرد من معناه: الحقد والمقت والغضب، فهم غاضبون على الفقراء والمساكين، ناوون بهم شراً، فهم على حرد، مسرعون، غاضبون، ناوون للمنع، قادرون عليه.
((قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ))[القلم:26] ما هذه مزرعتنا، ليست هذه هي، يبدو أننا أخطأنا الطريق، ما هذا طريقنا؛ لهول المفاجأة، أو أنهم أدركوا أن هذا عقاب الله تعالى لهم، وأنهم قد ضلوا حينما منعوا الفقراء حقهم، ولهذا قالوا: ((بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ))[القلم:27]، الله تعالى أراد حرماننا جزاءً وفاقاً، والجزاء من جنس العمل لما حرمنا الفقراء والمساكين والمحاويج، هنا لما رأوا المصيبة والنكبة والعذاب جرى بينهم حوار كالعادة دائماً بعد الفشل، بعد سقوط البناء، بعد انهيار المؤسسة أو فشل الشركة أو فساد البناء أو زوال الدولة تبدأ مقالات كثيرة وأقاويل وأحاديث وحوارات واتهامات متبادلة، وكل أحد يحاول أن يبرئ نفسه من التبعة ويلقي بها على الآخرين، هذا هو الذي حصل.
((قَالَ أَوْسَطُهُمْ))[القلم:28] (أوسطهم) يعني: سناً وأعقلهم، الأوسط تطلق على الأعقل، وأكثرهم إيماناً، ويبدو أن هذا ما كان على رأيهم، كان معترضاً ولكنه لم يكن أيضاً جاداً، ولهذا لما رآهم مصرّين على ذلك وافقهم واشترك معهم في القسم وانطلق معهم، ولهذا هو ذكرهم، ودائماً عند الفشل كل واحد يقول: أنا كنت أقول كذا، أنا كنت أقول كذا، هذا فعلها أيضاً.
((قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلا تُسَبِّحُونَ))[القلم:28] لكن لم ينفعه هذا، لم يستثنه الله تعالى منهم؛ لأنه وافقهم في نهاية المطاف على الأمر.
((لَوْلا تُسَبِّحُونَ))[القلم:28] يعني: أن يسبحوا الله تعالى ويذكروه، فيعطوا للمساكين حقهم ولا يبخسونهم.
((قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ))[القلم:29] سبحوا ربهم بعدما رأوا هذا، واعتبروا بهذه النتيجة وهذا المصير، واعترفوا بالظلم، وهذا حسن، هذا دليل على الإيمان: ((لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ))[الأنبياء:87]، قالها آدم عليه الصلاة والسلام، وقالها الأنبياء والرسل، وقالها كل من تاب إلى الله تعالى وأناب، فهم قالوا: ((سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ))[القلم:29]، يعني: ما فعله الله تعالى بنا عدل، فالله منزه عن الظلم، وإنما هذا هو ما نستحقه.
((فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلاوَمُونَ))[القلم:30] هنا بدأت عملية التلاوم، مثلما قلنا: الفشل يعقبه التلاوم.
والناس من يلق خيراً قائلون له ما يشتهي ولأم المخطئ الهبل
فهنا بدءوا يتلاومون، واللوم هو درجة وسط، يعني: دون التوبيخ وفوق العتاب، أحياناً تعاتب الإنسان ثم تلومه ثم توبخه، (فهم يتلاومون) يعني: كل واحد منهم يلوم الثاني ويقولون: ((يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ))[القلم:31] لكن هنا التلاوم مفيد؛ لأنه تضمن اعترافاً بمسئولية كل فرد منهم، كل واحد منهم يقول: أنا كنت ظالماً، كلنا كنا ذلك، بينما التلاوم غير المفيد أن كل واحد يلقي بالتبعة واللوم على الآخرين، ويحاول أن يبرئ نفسه وينأى بها.
آمنوا بالله سبحانه وتعالى وعرفوا الخطأ؛ ولذلك أبدلهم الله تعالى خيراً منها لأنهم أنابوا، قد ورد أن الله تعالى أعطاهم بدل هذه المزرعة والبستان والحديقة حديقة أخرى مليئة بالعنب، وقيل: إنها كانت من العنب وغيره، حتى قال بعضهم: إن العنقود من ضخامته كان كالرجل القاعد في هذه الحديقة وهذه الجنة، لماذا؟ لأنهم أنابوا إلى الله سبحانه وتعالى وسألوه أن يبدلهم خيراً منها، وأن يرغبوا إليه، الرغبة إلى الله، يعني: الرغبة فيما عنده وسؤاله سبحانه.
قال سبحانه: ((كَذَلِكَ الْعَذَابُ))[القلم:33] يعني: هذا عذاب الدنيا، جزء من عذاب الدنيا بذهاب المال.
((وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ))[القلم:33] يعني: أهل مكة هذا العذاب، وهذا فيه تعريض أن يصيبهم الله تعالى بعذاب وهم كانوا في نعمة في مكة ، وقد حدث هذا، فلما أصروا دعا عليهم النبي صلى الله عليه وسلم وقالَ: (اللهم أعني عليهم بسبع كسبع يوسف)، فأصابهم العذاب في الدنيا، ((وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ))[القلم:33] .
ثم يقول سبحانه: ((إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ))[القلم:34] مناسبة هذه الجنة جنة الدنيا والمال والبنين أن عند الله تعالى للمتقين ما هو خير من ذلك، وأولئك القوم كانوا يقولون للنبي صلى الله عليه وآله وسلم: نحن خير منكم في الدنيا، وسوف نكون خيراً منكم في الآخرة، كما يقول قائلهم: ((وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنقَلَبًا))[الكهف:36] .
فدائماً يكون هناك حالات من الطغيان إذا رزق الإنسان، ((كَلَّا إِنَّ الإِنسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى))[العلق:6-7] إذا لم يستشعر نعمة الله تعالى عليه، أما هؤلاء القوم فقالوا: ((إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ))[القلم:32]، بينما قريش لا يعترفون بنعمة الله، وإنما يرون أنها بما كسبت أيديهم وبما عملوا على علم: ((إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي))[القصص:78]
قال سبحانه: ((إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ))[القلم:34] يعني: ليست كجنة الدنيا التي ممكن يصيبها المطر أو يصيبها الحريق أو تصيبها الآفة، وإنما جنات متعددة وهي جنات النعيم، النعيم الأبدي السرمدي.
فلما قالوا: نحن أحق بجنات النعيم أيضاً؛ قال سبحانه: ((أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ))[القلم:35] لا يكون هذا، وإنما بينهم الفرق الهائل الشاسع.
قال سبحانه: ((مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ))[القلم:36] بناءً على أي أساس حكمتم بأنكم سوف تكونون أفضل من بلال و عمار و صهيب و سلمان وغيرهم في الآخرة؟! هذا الحكم الذي بنيتموه حكم ظالم وغير موافق للعدل، ولهذا قال سبحانه: ((أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ))[القلم:35]، هل الآخرة مقياسها مادي بالنسب أو الحسب أو غير ذلك من الاعتبارات؟! لا، مقياسها بالعمل الصالح، ولهذا المسلم أياً كان نسبه أو حسبه أو بلده، والمجرم كذلك يحاسبون بمقتضى أعمالهم، فقال سبحانه ((مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ))[القلم:36]، حكمكم هذا مبني على ماذا؟ ((أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ))[القلم:37] عندكم كتاب؟ يعني هذا الحكم الذي بنيتموه هل بنيتموه على كتاب؟! والسورة اسمها سورة (ن والقلم)، وهم كانوا أميين، فالله سبحانه وتعالى يقول: عندكم كتاب؟! يعني: لا كتاب عندكم، ولستم أهل كتب ولا درس ولا علم، فما عندكم من كتب تدرسونها أوصلتكم إلى هذه الحقيقة، وفي ذلك إشارة إلى أهمية العلم والمعرفة، وأن أي دعوى يدعيها الإنسان ما عنده فيها شيء يدرس وعلم وحجة فهي مردودة عليه، وإلا فكما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لو يعطى الناس بدعواهم لادعى قوم دماء قوم وأموالهم، ولكن البينة على المدعي)، هذا يدعي الآن أنه سوف يكون في الآخرة أفضل من بلال و عمار و صهيب ، طيب! هات البينة، الدليل، عندك كتاب تدرسه فيه حجة بينة وبرهان؟! لا.
يسخر منهم ربنا سبحانه يقول: ((إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا تَخَيَّرُونَ))[القلم:38] يعني: ما شاء الله، الكتاب هذا الذي تدرسون فيه صيد على هواكم وعلى مزاجكم، لكم فيه الشيء الذي تخيرون، تخيرون أن لكم الجنة ولكم المجد ولكم الفضيلة والسابقة والرفعة حتى في الآخرة، فأين هذا؟! أين هذا الكتاب؟!
((إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا تَخَيَّرُونَ))[القلم:38] يعني: هذا سخرية منهم واستضعاف لعقولهم، أنه هذا الكتاب الذي تدرسونه جعل لكم فيه إذا ادعيتموه الشيء الذي تتخيرونه، فلكم الحسنى؟! كما قال: ((وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمْ الْحُسْنَى لا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ))[النحل:62] .
ثم يقول سبحانه: ((أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ عَلَيْنَا بَالِغَةٌ))[القلم:39] أما كان واحد منهم كان حلافاً ومهيناً؟! ربنا سبحانه هنا أيضاً يعرض بهم ويسخر ويقول: ((لَكُمْ أَيْمَانٌ))[القلم:39] على الله سبحانه وتعالى، ((بَالِغَةٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ))[القلم:39]، هل جاءكم نبي أو رسول بأيمان مغلظة من عند الله سبحانه وتعالى وعقود وعهود لكم خاصة يا قريش، تقولون: نحن أهل الحرم، وأهل السدانة، وأهل السقاية، وأهل بيت الله، وأهل حرمه؟! لكم أيمان إلى يوم القيامة، ما هو فقط في الدنيا، يعني: في الدنيا تقولون لكم الدنيا ولكم الخير، لكن أيضاً حتى يوم القيامة هذه الأيمان تصل إلى يوم القيامة وتبلغ إلى يوم القيامة فيكون لكم فيها الجنة؟! ((إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ))[القلم:39] كأن الحكم صار لكم في الدنيا وصار لكم في الآخرة، بينما الإنسان منكم لا يستطيع أن يتحكم في نفسه.
قال ربنا سبحانه للنبي صلى الله عليه وسلم: ((سَلْهُم))[القلم:40] اسألهم.
((أَيُّهُمْ بِذَلِكَ زَعِيمٌ))[القلم:40] من هو الكفيل بهذا الذي يكون زعيماً لهم؟! والزعيم هو القائد أو هو الكفيل، كما قال: ((وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ))[يوسف:72]، فيقول الله سبحانه وتعالى: اسأل هؤلاء القوم: من هو الزعيم الذي سوف يتكفل عن جماعته وقومه بأن يعطيهم هذه الوعود في الدنيا والوعود في الآخرة؟!
((سَلْهُم أَيُّهُمْ بِذَلِكَ زَعِيمٌ))[القلم:40] إذاً: ما عندهم كتاب يدرسون، ولا عندهم عهود ومواثيق من الله سبحانه وتعالى بالغة إلى يوم القيامة، ما عندهم كفيل يكفل لهم ذلك ويتعهد لهم به.
قال سبحانه: ((أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ))[القلم:41] هذا الاحتمال الرابع، يعني: لهم أحد ينصرهم من الأوثان والأنداد والمعبودين؟!
((أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ فَلْيَأْتُوا بِشُرَكَائِهِمْ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ))[القلم:41] ليأتوا بهم في الدنيا يثبتون هذا الأمر، أو ليأتوا بهم يوم القيامة.
قال الله سبحانه وتعالى: ((يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ))[القلم:42] يعني: يأتون بشركائهم وتبين حقائقهم وتبين أحكامهم في ذلك اليوم العظيم.
((يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ))[القلم:42] يعني: يوم الشدة العظيمة، والعرب كانوا يعبرون عن الشدة بهذا المعنى، كما صح عن ابن عباس رضي الله عنه أنه [كان يقول: ((يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ))[القلم:42] يعني: عن شدة] والشاعر يقول:
قد شدت الحرب بكم فشدوا وشمرت عن ساقها فجدوا
لأن الناس يكشفون عن سوقهم، والمرأة تكشف عن ساقها للخدمة، والرجل يكشف عن ساقه للقتال أو للهرب، أو كناية عما يصيب الناس في ذلك اليوم.
((يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ))[القلم:42] لله عز وجل حين يتجلى ربنا سبحانه.
((وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ))[القلم:42] لا يملكون السجود في ذلك اليوم.
((خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ))[القلم:43] خشوع اضطراري بسبب الانتكاسة التي يشعرون بها، والهول والذلة تغشاهم من كل مكان.
((وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ))[القلم:43] في الدنيا سالمون، طيبون، أصحاء الأبدان، أقوياء الأجسام، الواحد منهم عتل طويل عريض، ومع ذلك يرفضون السجود يوم كانوا يستطيعونه، أما الآن فهم يريدونه فلا يمكنون منه.
((فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ))[القلم:44] اتركني معهم، لا تحمل لهم هماً ولا تقلق منهم، ولا تدخل معهم في شيء، دعني وإياهم، وهذا بقدر ما هو تسلية للنبي صلى الله عليه وآله وسلم، وتطمين لأن يمضي في دعوته ويصبر، هو أيضاً تهديد شديد ووعيد أكيد لهم؛ لأن الله عز وجل صاحب القدرة التامة والعلم والملك الذي لا يعجزه شيء يقول لمحمد صلى الله عليه وسلم: ((فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ))[القلم:44] اتركني معهم.
((بِهَذَا الْحَدِيثِ))[القلم:44] يعني: القرآن أو ((بِهَذَا الْحَدِيثِ))[القلم:44] يعني: حديث الآخرة والغيب والجنة والنار، وهما بعضهما من بعض.
((سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ))[القلم:44] هذا وعيد شديد وتهديد أكيد؛ لأن الله سبحانه وتعالى يقول: ((سَنَسْتَدْرِجُهُمْ))[القلم:44] الاستدراج يعني: تنزل عدوك درجة بعد درجة، تتدرج معه، فإذا كان الله هو الذي يستدرج سبحانه، وأيضاً عزز هذا المعنى بقوله سبحانه: ((سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ))[القلم:44] من الجهة التي لا يعلمونها، يعني: لا يدركونها، فقد يأتيهم شيء نقيض ما يتوقعون، مثل إنسان يتوقع أن يأتيه العدو من هذه الجهة وعنده يقين، فيفاجأ بأن خصمه أتاه من الجهة الأخرى التي لم يكن يخطر في باله أن العدو يأتي منها، ولا حتى على سبيل الحيلة.
((مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ))[القلم:44] يعني: الإنسان لو كان يعلم يمكن أن يتقي الاستدراج أو يتقي النازلة التي تنزل به، لكن إذا كان لا يعلم كيف يتقي ما لا يعلم؟
وهنا نؤكد على قضية العلم، والسورة جاءت بالعلم وبالمعرفة والقراءة، أنك تستطيع أن تتقي عدوك بالعلم وبالمعرفة، وتستطيع أن تمكر بعدوك بالعلم والمعرفة.
إذاً: الاستدراج والاستنصار والنصر والقوة والغلبة هي بالعلم، فالله تعالى يعلم وهم لا يعلمون؛ ولهذا قال سبحانه: ((سَنَسْتَدْرِجُهُمْ))[القلم:44]، هذا -حقيقة- وعيد مرعب يجعل حتى المسلم يخاف أن يكون يعطى شيئاً فيكون ذلك استدراجاً مثلاً، كما قال سبحانه: ((أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ * نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ))[المؤمنون:55-56] لا، قال سبحانه: ((بَل لا يَشْعُرُونَ))[المؤمنون:56] .
إذاً: يمكن أن يعطيك الله المال والولد والسمعة والرئاسة والجاه والمنصب والزوجة والولد والسكن والعافية وتقول: الحمد لله، هذه كلها نعم، دليل على أن الله راض عني، ما هو بالضرورة، الله سبحانه وتعالى يقول: ((سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ))[القلم:44] فهذا يجعل المؤمن يكون عنده خوف وإشفاق.
قال سبحانه: ((وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ))[القلم:45] استدراجهم من حيث لا يعلمون، مثل قصة موسى وكيف أنه نشأ في حجر فرعون، وكذلك قريش كادوا للنبي صلى الله عليه وسلم فالله تعالى أنقذه منهم وحماه وأظهر دعوته.
قال سبحانه: ((وَأُمْلِي لَهُمْ))[القلم:45] (أملي) يعني: أمهلهم، الإملاء هو الإمهال، ((فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا))[الطارق:17]، وكما قال سبحانه: ((وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ))[آل عمران:178]، فقال هنا سبحانه: ((وَأُمْلِي لَهُمْ))[القلم:45] أمهلهم، أنظرهم، أعطيهم الفرصة بعد الفرصة.
((إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ))[القلم:45] والكيد هنا في مواجهة كيد الكائدين وكفر الكافرين، ولهذا قال: ((إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا * وَأَكِيدُ كَيْدًا))[الطارق:15-16]، فكيدي في مقابل كيدهم ومكرهم وتكذيبهم.
ثم يقول سبحانه: ((إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ))[القلم:45] يعني: ليس ككيدهم الضعيف، وكيد أنصارهم من الشياطين أيضاً: ((إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا))[النساء:76]، وإنما الله سبحانه وتعالى يحكم عليهم الأمر من كل وجه.
يقول سبحانه: ((أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ))[القلم:46]، هل أنت تسألهم أجراً مقابل دعوتك أن يعطوك مالاً أو عطاءً؟
((فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ))[القلم:46] يقولون: ثقيل العطاء علينا وأكثرت علينا، هذا هو المغرم، النبي عليه السلام كان يستعيذ بالله من المأثم والمغرم، المغرم هو الدين، ويقول: (إن الرجل إذا غرم حدث فكذب، ووعد فأخلف)، وهذا أيضاً دليل على أنهم أصحاب أموال وتعريض بمنعهم للخير وحبهم الشديد للمال، هل تكذيبهم بسبب أنهم يطلب منهم أجر؟ النبي عليه السلام يقول: ((قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا))[الأنعام:90]، ((قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ))[الفرقان:57]، ((وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ))[الشعراء:109] ، وهكذا كل الرسل، الدعوة ما هي في مقابل مال ولا دنيا ولا سلطان، وإنما دعوة لله سبحانه وتعالى، فهؤلاء القوم هل هم من الدين مثقلون، يقولون لا نستجيب لك لأن هذا يترتب عليه تبعات واستحقاقات مالية نحن لا ندفعها؟! ليس الأمر كذلك، الدعوة للخير ليست في مقابل مادي.
((أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ))[القلم:47] فيعلمون كل شيء ويكتبون ويطلعون على الغيب ويعرفونه وينقلون منه؟! ليس الأمر كذلك، والله سبحانه وتعالى هنا يحاصرهم بالمزيد من الأسئلة من هنا ومن هنا، كما قال قبل قليل لما حكموا لأنفسهم بالجنة، الله سبحانه وتعالى هنا يقول: ((مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ * أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ * إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا تَخَيَّرُونَ * أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ عَلَيْنَا بَالِغَةٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ))[القلم:36-39]، كما قال سبحانه وتعالى: ((أَمْ خَلَقُوا السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بَل لا يُوقِنُونَ * أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ *أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ))[الطور:36-38].
أسئلة وراء أسئلة من شأنها أن تحرك عقولهم وقلوبهم، وتقيم الحجة عليهم، وتهز الغافلين والمعرضين هزاً حتى يستيقظوا، فهو هنا سبحانه يقول: ((أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ))[القلم:47]، النبي صلى الله عليه وسلم نفسه لا يعلم الغيب، فهل هؤلاء عندهم شيء من الغيب؟
ولهذا قال: ((فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ))[القلم:48] كما ذكر الله تعالى القصة قصة أصحاب الجنة مثلاً لقريش إن كفروا وأصروا أن يعذبهم الله، ذكر لنبيه صلى الله عليه وسلم مثلاً آخر، قال: ((فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ))[القلم:48] يعني: حكمه القدري بأن الله يكتب ما يشاء، ويعجل ما يشاء، ويؤجل ما يشاء، ويقدر ما يشاء، فاصبر لحكم الله بالمرض والصحة، والقوة والضعف، والغنى والفقر، القدر لابد أن تصبر عليه، وأيضاً حكم الله الشرعي، إذا أمرك الله بالصلاة فصل، وإذا أمرك الله بالإعراض فأعرض، وإذا أمرك الله بالهجر فاهجر هجراً جميلاً، وإذا أمرك الله بالصبر فاصبر أيضاً صبراً جميلاً، يقول هنا: ((فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ))[القلم:48] أياً كان هذا الحكم حكماً قدرياً أو حكماً شرعياً.
ثم يقول: ((وَلا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ))[القلم:48] يعني: أمام كلامهم: ساحر، شاعر، كاهن، مجنون، أن يصيبك مثل ما حصل لصاحب الحوت وهو يونس عليه الصلاة والسلام،يونس بن متى وكان في العراق في نينوى فضاق ذرعاً بقومه: ((فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ))[الأنبياء:87] أي: لن نضيق عليه؛ وأنه لا يلزم هؤلاء القوم، وخرج مغاضباً من قومه وركب في السفينة فعطبت وألقي به، ((فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ))[الصافات:142] يعني: آت بما يلام عليه.
(إِذْ نَادَى) وهذا هو الشاهد، صاحب الحوت: ((إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ))[القلم:48]، نادى ربه سبحانه ((لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظَّالِمِينَ))[الأنبياء:87]، ((فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ))[الأنبياء:87] ظلمة الحوت وظلمة البحر وظلمة الليل، في الليل حتى الملائكة يقولون -والله تعالى أعلم-: يا ربنا! هذا صوت معروف من مكان غير معروف.
((إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ))[القلم:48] الكظم يعني: الشيء الذي في داخل الإنسان، ولا يبوح به، وهو ضائق بما جرى من قومه: ((إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا))[الأنبياء:87] كما قال سبحانه، وهو أيضاً مكظوم في بطن الحوت بما صار إليه الأمر، وهو يعلم أن الله تعالى هو الذي يزيل هذا الكظم، كما قال سبحانه عن يعقوب : ((وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ))[يوسف:84]، فهذا معنى (مكظوم).
((لَوْلا أَنْ تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ))[القلم:49] تداركته نعمة من الله سبحانه وتعالى، ولهذا نبذ بالعراء وهو مذموم، نبذه الله تعالى أو جعل الحوت ينبذه، يعني: يلقيه بالعراء بالساحل، فأخرجه الحوت، كما قال سبحانه: ((فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ * لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ))[الصافات:143-144]، ولهذا نقول: ((لَوْلا أَنْ تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ))[القلم:49] بأن الله تعالى ألهمه التسبيح، ولهذا على الإنسان أن يسبح مثلما سبح أصحاب الجنة: ((سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ))[القلم:29]، ((يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ))[القلم:31] يسبح الإنسان إذا أخطأ أو عصى، يسبح ربه عز وجل.
قال: ((لَوْلا أَنْ تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ))[القلم:49] بأن ألهمه التسبيح والاستغفار.
((لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ))[القلم:49] يعني: آت بما يذم عليه، فكأنه نبذ بالعراء ولكنه غير مذموم، وإنما الله تعالى غفر له، أو أن معنى السياق: ((لَوْلا أَنْ تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ))[القلم:49] يعني: لبقي في بطن الحوت، كما قال: ((لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ))[الصافات:144]، ولكن الله تعالى تداركه فلم يبق في بطن الحوت، وإنما نبذه الحوت وألقاه.
قال سبحانه: ((وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ))[القلم:51] يكادون يزلقونك بأبصارهم، ينظرون إليك نظراً حديداً، ويقولون فيك قولاً شديداً، ويحاولون أن يؤثروا في دعوتك، كما قال سبحانه: ((وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ))[القلم:9] .
إذاً قوله: (( لَيُزْلِقُونَكَ )) يعني: يجعلونك تزلق عن الطريق، هذا من معانيها، فتنحرف ولو قليلاً، كما قال: ((وَلَوْلا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ هِمْ شَيْئًا قَلِيلًا))[الإسراء:74] هذا من المعاني، وأيضاً من المعاني أنهم بشدة نظرهم إليه وحدة نظرهم إليه كأنهم يريدون أو يحاولوا أن يسقطوه عن الطريق، فلا يدعوه يمشي عليه الصلاة والسلام.
(( لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ )) كما نفاه ربه في أول السورة عاد فذكره في آخرها توبيخاً لمن قالوه.
ثم يقول سبحانه: ((وَمَا هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ))[القلم:52]، في أول السورة قال: ((مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ))[القلم:2] فأثنى على النبي صلى الله عليه وسلم بكمال العقل وكمال الرسالة، وكذب ما يدعيه الأدعياء والأغبياء، وفي آخر السورة قال: (( وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ ))، (( وَمَا هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ )) إشارة إلى أن الأمر بالنسبة للمشركين لم يكن متعلقاً بشخص رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما كان متعلقاً بهذا القرآن، فمن يوم سمعوه بدءوا يضربون أخماساً بأسداس ويشرقون ويغربون ويقولون ما لم يكونوا يقولونه من قبل.
إذاً: الأمر متعلق بهذا القرآن، ولهذا قال ربنا سبحانه: (( وَمَا هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ ))، هم يحاصرونه بـمكة الآن، يحاصرونه ويلاحقونه من بيت إلى بيت، أسلم من بني فلان شخص، وأسلم من آل فلان اثنان، وأسلم مصعب بن عمير وأسلم أبو بكروأسلم علي بن أبي طالب ، هؤلاء أهله، هؤلاء بنو هاشم، وأحاديث، يحاصرون الإسلام.
فربنا سبحانه يقول تسلية للنبي صلى الله عليه وآله وسلم وإقامة الحجة عليهم: (( وَمَا هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ )) ما هو فقط لقريش أو مكة أو جزيرة العرب ، يوم كان محاصراً هذه رابع سورة نزلت من القرآن يأتي فيها: (( وَمَا هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ ))، سيشرق ويغرب ويسمع به الناس، ويرتفع صوت الأذان: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله من إسطنبول إلى إندونيسيا إلى المغرب إلى أرجاء الأرض، وتضرب قوة الإسلام في عمق أوروبا نفسها، فلا يبقى في الأرض بيت مدر ولا وبر إلا أدخله الله تعالى هذا الدين بعز عزيز أو بذل ذليل.
هذه القوة والعزة التي وعد الله تعالى بها بقوله: (( وَمَا هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ )) تحققت، وهذا من الأجر غير الممنون، ((وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ))[القلم:3]، فتحقق ما وعد الله تعالى به رسوله صلى الله عليه وسلم، وخفت ذكر هؤلاء القوم: ((هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا))[مريم:98] والله أعلم.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق