هل نفهم ما يحدث؟
محمد جلال القصاص
@mgelkassas
بسم الله الرحمن الرحيم
لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
هل نفهم ما يحدث؟
يقرر كثير منهم أن الوعي زاد ويزيد، وأن جيل اليوم لن يُفعل به ما قد فُعل بالذين من قبله لشدة وعيه. فهل حقًا زاد الوعي؟!، هل بات لدينا وعيًا يمنعهم من أن يفعلوا بنا ما فعلوه بمن قبلنا؟!
تعال معي نسير على ظهر الأيام نستعرض حالنا منذ جاء أمتنا عدو اليوم (الاحتلال الغربي). ودعنا نمشي على مهل... ولن أطيل عليك فالمقام مقال .. فقط نقف على المعالم الرئيسية، ونسأل عند كل معلم: هل حقًا زاد الوعي؟! ونتحدث عن مصر، وهي وإن كانت حالة إلا أنها تصلح للتعميم لتشابه التجارب في الأقطار الأخرى.
(1)
جاء الفرنسيون إلى مصر ورحلوا سريعًا، واختار شعب مصر بحريةٍ تامة من يحكمه، وبدأت مصر تبني نفسها بسواعد أبنائها، وأرسلت البعثات إلى الدول المتحضرة، وشيدت الطرق والكباري، وشقت الأنهار واستصلحت الأراضي، وأنشئ جيش عرمرم وسع ملك مصر حتى كادت تبتلع الدولة العثمانية، ثم ماذا؟!
بعد أن انتهت التجربة بمئة وخمسين عامًا بدأنا نفهم!!
بعد قرن ونصف بدأ الحديث عن أننا لم نهزم الفرنسيين وإنما رجعوا لمشاكل تتعلق بالثورة في دولتهم، ورجعوا لحصار الإنجليز لهم في مصر، فقد دمَّر الإنجليز أسطولهم في معركة (أبو قير البحرية)، وجلسوا لهم في البحر، ثم حملوهم كالأطفال وأعادوهم إلى فرنسا؛ ولهزيمتهم في الشام وموت كثير من جنودهم بالطاعون؛ وفهمنا أنهم جاءوا للقضاء على صحوة كانت قد بدأت في الأزهر بقيادة العلماء ومشاركة أهل الحل والعقد وأهل الرأي... قضوا على حركة تجديد كانت تحدث على قواعد الشريعة كل مئة عام وبشكل تلقائي؛ وفهمنا أن شباب الفرنسيين (القزم نابليون ورفاقه) وضعوا الأساس لتغيير المجتمع وتغيير نموذج الحكم؛ فتغيرت قيادة المجتمع من علماء الشريعة وأهل الحل والعقد إلى آخرين لهم اتصال بالسلطة الجديدة أو بالغرب (تجارة الغرب، وبعثات الغرب التبشيرية/ التعليمية/، وسفارات الغرب) وكانوا نصارى في الغالب. حتى علماء الشريعة تغيروا، وذلك بمزاحمة المتعلمين في البعثات- والمتعلمين على مخرجات البعثات والنقولات عن الغرب- لهم. وبدأ السير في طريق جديد... كلنا دخلنا طريقًا جديدًا: السلطة.. والمجتمع. والمقصود أننا بالفعل فهمنا.. بالفعل زاد الوعي لدينا ولكن بعد قرنٍ ونصف... جاء الوعي متأخرًا.. بعد أن قضوا حاجتهم وانصرفوا.. بعد أن أخرجوا فينا من أحبهم وانتسب إليهم!!
(2)
وبعد أن رحل عرابي بسنين عددا فهمنا أن الفرنسيين لم يكونوا أعداء للإنجليز وأصدقاء لنا، وأن صديق عرابي المستشرق بلنت وزوجته لم يحبوا العرب، وأنهم شجعوا عرابي على الثورة وهم يعلمون ضعفه كي يقضون عليه وعلى من حوله .. شجعوه على الخروج قبل الاستعداد لتقتل بذرة التمرد والبناء الصحيح، تمامًا كما فعل أبو جعفر المنصور مع محمد النفس الذكية؛ وبعد عشرات السنين فهمنا أن برقيات السفير الفرنسي (تحدث عنها محمد عبده وغيره) لتشجيع الثورة والثائرين كانت دفعًا للضعفاء الغافلين.. الحمقى.. قليلي الوعي لآتون معركة لن يصبروا فيها ساعة، ولن يرجعوا منها بعافية، ولن تُبقي لهم أثرًا صالحًا مصلحًا؛ وفهمنا أن الفرنسي سيمون دي ليسبس (مهندس القناة) كاذب وأن أعداءه من بني ملته (الإنجليز) أحب إليه منا. ولكن: ماذا فهمنا؟!!، ومتى فهمنا؟!!
فهمنا ما فعل بنا.. وبعد أن فعل بسنين عددا. فكان أول ما كتب عن الكتلة المحركة لعرابي وعبده والأفغاني ومن حولهم بشكل مباشر أو من خلال النصائح هو كتاب الدكتور محمد محمد حسين (الاتجاهات الوطنية في الأدب المعاصر) وكتابات الأستاذ أنور الجندي، ورافقهما كتابات ألبرت حوراني التي بينت أن هؤلاء نقلوا أفكارهم عن الغرب.. وصنعوا الجسور التي عبر من عليها الغرب. وأن ثمة كتلة من عددٍ من الأشخاص الغربيين والنصارى صنعوا المشهد في نهاية القرن التاسع عشر وبداية العشرين وحركوه. فهمنا بعد أن دخل الإنجليز وقضوا حاجتهم وأخرجوا منا من أحبهم وانتسب إليهم!!
(3)
هاج أدعياء الحرية، ينددون بالاستبداد والمستبدين، ويثورون الأمة ضد الخلافة العثمانية بدعاوى شتى، يقولون: حرية، ويقولون: وطنية، ويقولون: قومية عربية، ويقولون خلافة إسلامية عربية، واتصل العدو بالجميع وأمدهم بأسباب حتى اجتمعوا على العثمانيين لا ليساهموا في محاولات الخلافة للإصلاح من نفسها، وكانت تحاول بكلتا يديها من أواخر القرن الثامن عشر. انظر: ألبرت حوراني (محررًا)، الشرق الأوسط الحديث، أول بحثين في الكتاب.
ظن الجميع أن باستطاعتهم امتطاء ظهر العدو وصولًا لأهدافهم... كانوا أفرادًا، وخاصة دعاة الإصلاح فقد فشلوا في إقامة (عروة وثقى)، أو محدودي القوة (الذين كانوا في السلطة كالشريف حسين).كان المشهد أكبر من مساحة رؤيتهم ونفوذهم. وانتهى الجميع إلى حيث لا يريد الجميع. فلا نالوا حرية، ولا خلافة إسلامية، ولا قومية عربية. ولا النصارى الذين عاون بعضهم الاحتلال بشكل مباشر تحسن حالهم، بل صار حال مجموع النصارى بعد انتهاء الخلافة أسوأ من حالهم أيام قوة الخلافة، وانتهى السلام الداخلي بينهم (فتش عن الأمة القبطية)، وهنا حديث عالٍ منتشر عن خسائر الأقليات.. عن الطائفية وضررها على الجميع بعد مجيء الاحتلال الغربي لمن شاء أن يصغي إليه.
وكل ثورة تتلو علينا درسًا واحدًا خلاصته: أن الثورات الشعبية أحد أدوات الغرب لتطوير المجتمعات في اتجاهه هوو ( انظر للكاتب: كيف استطاع الغرب أن يجذبنا إليه عن طريق الثورات؟)، وانظر إلى حال الأمة قبل بدء الثورات (في القرن الثامن عشر) وانظر إلى حالها اليوم، ولا تخدع نفسك بأن الذين تجمعوا في ميادين مصر والسودان والجزائر يريدونها مؤمنة محجبة ساجدة راكعة قارئة داعية. إنهم يرفعون شعارات باللغة الإنجليزية يتحدثون لمن فرق جمعهم وشتت شملهم وغلبهم على ما في أيديهم.. يستعين بعضهم على بعضهم بعدوهم... بمعنى أن الصراع داخلي.. وفي المجتمع وليس في السلطة كما قد كان.
(4)
مشاريع التنمية:
والأمر لا يتعلق بالجانب السياسي والعسكري فقط، بل بالجانب الاجتماعي أيضًا. ونشير إشارات:
سؤال النهضة بشقيه (لماذا تخلفنا؟، وكيف ننهض؟)، أجاب عنه ثلاثة: الإسلاميون، والعلمانيون، وقوم خلطوا صالحًا وآخر سيئًا.. أولئك الذين يتجمعون تحت مظلة (الإسلام الحضاري).
وحاول العلمانيون-باعتبار أنهم هم الذين مُكنوا من السلطة والمجتمع- النهوض مرة بعد مرة، وفي كل مرة يفشلون... في كل مرة يحاولون الصعود يقعون على أعجازهم ويُتركون هامدين يصيحون من الألم، يضحك عليهم من يمر بهم. لم ينجحوا مرة. مع أنهم في كل مرة يأتون بوصفة التقدم والرقي من عند المتقدمين في الشرق أو في الغرب!!
وحين تفتش في التفاصيل تجد أنهم يفشلون بعوامل خارجية بالأساس، والمختصون يقولون: العامل الخارجي لا يعمل إلا بمعاونة عوامل داخلية موافقة له. ولكني أضيف: أن العوامل الخارجية المفسدة صنعت عوامل داخلية موافقة لها. فالمفسدون في الداخل (في السياسة، والثقافة، والمال...) جلهم صناعة خارجية. وهذه بعض محاولات التنمية الجادة التي وقعت على أعجازها شلاء تصيح وتجمع الناس حولها يتعظون من حالها ويتندرون:
أراد محمد علي دولة حديثة، وكان جادًا مخلصًا فيما يريد، وأمدوه (سليمان باشا الفرنساوي، والبعثات العلمية،..)، وأراد أبناؤه من بعد تطوير مصر لتكون كأوروبا، ثم ماذا؟
الفشل. والاحتلال مرة ثانية. دورة جديدة في دهاليز الفقر وسراديب الألم والحسرة.
وصدروا للشعوب العربية فكرة الاستقلال، وقاتل المخلصون بأيديهم وعقولهم من أجل الاستقلال، وبعد عشرات السنين تبين أن الاستقلال لا يعدوا تفتيت وتقسيم للأمة الإسلامية. تبين أن (الاستقلال) هو مرحلة جديدة من التبعية. وكان شرط السيد الجديد (الأمريكان) أن يتم تعميم (الدولة القومية) كصيغة حكم على الجميع، وحدثت التحولات في السلطة والمجتمع بأيدينا.. بأموالنا.. ولم نفهم إلا بعد عشرات من السنين. والعجيب أن كثيرًا منا دخل التيه جادين متعصبين للكيانات الصغيرة الجديدة...
وصدروا للدول القومية الحديثة فكرة الاعتماد على الذات، وهم يعلمون جيدًا أن أي دولة صغيرة لا تستطيع الاعتماد على ذاتها. وفي ذات الوقت كانوا يدشنون في بلدانهم شيئًا آخر مغاير تمامًا لما يصدروه لنا، وهو الاعتماد المتبادل المعقد، ولم نفق إلا بعد أن فشلت تجربة الاعتماد على الذات وخرجنا منها مديونيين على حال أسوأ من التي كانت أيام الاحتلال القديم.
حاول العلمانيون ان ينهضوا أكثر من مرة، وفي كل مرة يفشلون، وبعد كل فشل يتقدم إليهم الغربيون بوصفة جديدة للنمو، ويأتون إليها مسرعين فرحين مسرورين، ثم بعد أن (نلبسها/ نشربها) يتبين أنها (مقلب دولي). ثورة عبد الناصر، انفتاح السادات، خصخصة مبارك، نقوم من الفقر لنقع فيه...
إن ما يحدث الآن هو حلقة من سلسلة الفشل التي تُصدر للأمة تحت مسمى الإصلاح، فالآن تسلط القائمون على النظام العالمي على الدول الصغيرة وينفذون رؤاهم الاستهلاكية. يحولون العمران لسلع استهلاكية ترهق الطبقة المتوسطة وتشغلها عن المشاركة في السلطة-أو في صياغة أنماط الحياة- برأي أو فعل. فكل يوم مدن عمرانية جديدة.. موضة جديدة في السكن. ويحاولون إحكام القبضة على العمران بعسكرة الحياة المدنية وتحويل الناس إلى كتل تتحرك رغمًا عنها في مسارات محددة، ويحاولون صنع عادات الإنسان، فلا يكاد يلتفت أحد وإن أراد الإلتفات. ويحاولون الخروج من العمران الكائن بعد أن اكتظ إلى أرضٍ جديدة فسيحة يخططونها كما يريدون ويسكنونها هم ومن يحتاجونه لخدمتهم من الكادحين. بل ويحاولون صنع عادات الإنسان ليكون كالآلة يتحرك حيث يشاءون. وجادون في تنفيذ رؤاهم. والسؤال: هل نفهم ما يحدث؟!
نفهمه بعد أن يحدث، ومن يفهم منا حال الفعل قلة قليلة لا تستطيع تغيير مسار الفعل...
وأنتقل إلى نوعٍ جديد من الأمثلة على أننا إن فهمنا فإننا نفهم متأخرًا.. على أن الذين يفهمون ما يحدث منا قلة قليلة لا تستطيع تغيير ما يحدث.
المدارس النقدية والإلحاد النسبي!!
في التسعينات ظهر الدكتور عبد الوهاب المسيري، وحين تضع مخرجات الدكتور المسيري بين يديك- وشخصُهُ حبيب أدعو له كلما تذكرته- تجد أنه فعل ما كان رائجًا في الثقافة العربية والإسلامية في القرنين الماضيين، وهو النقل عن الغرب. نقل معركةً كانت محتدمة في السياق الغربي إلى ساحتنا. وهي نقد المادية (الإلحاد الصلب. الوضعية Positivism)، أو التحول من الحداثة إلى ما بعد الحداثة. وشارك في استحضار عزت بيجوفيتش إلى ساحتنا؛ وإلا الآن لا أدري ما الذي روَّج بضاعة المسيري وعزت بيجوفيتش في ساحتنا العربية؟! وخاصة أن الإلحاد الصلب (الذي لا يؤمن بأي غيب) لا يشكل ظاهرة مجتمعية؟! وإن كان عزت بيجوفيتش خاض معركة حقيقية في سياقه الزماني والمكاني فعلينا أن نودَّعها مع رحيل أسبابها، لا أن نستدعي من اشتهر ونصنع صراعًا فكريًا لا حاجة لنا به!
من وجهة نظري يمكن تفسير ذلك بأن عبقرية المسيري نبتت في الغرب حال تراجع الاشتراكية (دينه الأول)، وحال فشل السلوكية المادية كمنهج للبحث والتحليل وفشلها كمدرسة فكرية حاولت أن تتحول إلى نموذج معرفي Paradigm ومن ثم منظورٍ ولم تستطع؛ وحال ظهور المدارس النقدية في الغرب (المدرسة النقدية بصيغتها الحديثة [الفرانكفونية]، والمدرسة الإنجليزية، والبنائية، ثم الاتجاهات النقدية الأخرى) فجاء إلينا وأخذ جانبًا عما يحدث في بيئته (مصر، وكانت يومها مشغولة بميلاد جديد للصحوة الإسلامية بعد انتهاء موجة حسن البنا وسيد قطب)، وصنع سياقًا خاصًا به، تحدث فيه عن نقد شيء غير موجود بيننا (الإلحاد الصلب)، وانضم إليه الذين يبحثون عن دور- أو عن ذاتهم من خلال دور- بعيدًا عن الصحوة الإسلامية، فأكملوا هذا الطرف المعرفي بحديث عن (النظريات النقدية الغربية، وضعف الدولة القومية الحديثة) ظنوا أنهم إن اندسوا بين المدارس النقدية الغربية سيجدون مساحة لغرس بذور الإسلام في السياق العالمي المعاصر، وظنوا أن تراجع هيمنة الدولة يعطي للإسلاميين مساحة!!
غاب عنهم أن المدارس النقدية الغربية تطوير للغرب نفسه في اتجاه نوع جديد من الإلحاد والكفر بالله وما أنزل على رسله.. هو الإلحاد النسبي (ما بعد الحداثة)، وفي الجانب السياسي فإن ما يحدث هو إضعاف للدولة القومية لصالح الكيانات غير الرسمية (المنظمات الأهلية، والشركات العابرة للقوميات، وجماعات العنف غير الرسمي وشبه الرسمي...)، بمعنى أن الغرب يطور أدواته المعرفية والسياسية لمزيدٍ من السيطرة وإعادة الصياغة لمجتمعاتنا نحن المسلمين وغير المسلمين من أهل الجنوب والشرق.
هو الرجل الأبيض الشمالي الغربي يكمل مسيرة امتلاك أسباب القوة والسيطرة على غيره، أو قل: هي الخلافة الأمريكية تكمل الغزوات الإمبراطورية بأدواتها الثقافية بجانب الأدوات العسكرية والسياسية، والمطرفون فكريًا في سياقه.. ينقلون عنه.. لم يخرجوا عن منظومته: تعلموا في مدارسه وقرؤوا لكتّابه فطبعي جدًا أن ينقلوا عنهم.. أو يتفاعلوا معه. حين يدخل أحدهم السبل فإنه يرى السبيل مستقيمًا.. لا ينتبه إلى أن السبيل ضلال في الغاية ويستدل على مخالفة الصراط المستقيم بحال رفقاء السير.. من يوافقك؟، من يسير بجوارك؟، وحال النفس مع الله وإلا فكل يرى ما يأتيه حسنًا (زين لهم سوء أعمالهم) (ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون).
غاب عن المطرفين فكريًا أن الإسلام منظومة متكاملة.. لها رؤية مستقلة في كل شيء. وتعمل مجتمعة. بمعنى أنه لا يمكن تجزئتها (أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ)، وإن جزئيت دخلت في غيرها وفقدت ذاتيتها. وكل المنظومات هكذا.. لا ترضى بغيرها إلا تابعًا.
وتبنى المسيرى أحد أغرب الأطر النظرية لتحليل الظاهرة الصهيونية، وهي أنها جماعة وظيفية، وحاول تهميش دور التدين الصهيوني اليهودي المسيحي العلماني في صناعة الحدث، ولا أدري هل علم أن اليهود مكون أساسي من مكونات الفاعل الدولي الذي يوظف ما يسمى بـ "دولة إسرائيل"؟، وقد قال الله عن اليهود (ويسعون في الأرض فسادًا) والتعبير بصيغة المضارع التي تفيد الاستمرارية. ونَظَرَ للعلمانية من زاوية لم ينظر إليها غيره (العلمانية الكلية والعلمانية الجزئية). ولذا مضى المسيري وقد ترك جسرًا عريضًا بين الكفر والإيمان يسمى (العلمانية الجزئية) و (الجماعات الوظيفية)، بمعنى أن كثيرًا من جهده- ويقيني أنه بدون قصد- وظف في إطار الزحف الغربي الشامل على أمتنا.. مثَّل حالة من الوعي الزائف والمعارك التي لا حاجة لنا بها. ولذا تجد المسيري محل ثناء من الملحدين وأنصاف الملحدين.
(انظر عرض أحمد سعد زايد لكتاب "الجهل المقدس"، حيث أثنى على المسيري وكان يقلد صوته وآداءه أحيانًا. واطلعت على عددٍ من الأوراق البحثية المحكمة تطالب بالإفادة من أطروحات المسيري في تطوير الصحوة الإسلامية في اتجاه العلمانية).
واجب الوقت في أن يجتمع عامتنا.. سادتنا.. نخبتنا على الشريعة: يحررون أصولها، ويشيدون على قواعدها، ويدفعون عنها؟!. وأأكد: أني أحترم شخص المسيري، وأن التحدث عن التجربة بعد انتهائها ليس كالتحدث عنها وقت حدوثها، وليس من اجتهد فاخطأ كمن أراد الخطأ ابتداء.
وقد أتيت المسيري- وهو من عقلائنا ومفكرينا الكبار- لأقول: أن الأزمة عريضة وعميقة وأننا في تيه أشد من تيه بني إسرائيل!
الأنساق المغلقة(الجماعات)!!
والمقصود بها الجماعات الإسلامية المنظمة كالإخوان المسلمين وحزب التحرير والحركات السلفية المسلحة، والتكتلات السلفية العلمية المنظمة وشبه المنظمة.
تمثل هذه المرحلة كلها حالة من الوعي المتأخر، أو أحد مظاهر التيه الذي دخلته الأمة الإسلامية، أو أحد شهود العيان على توظيف الحركة الإسلامية من قبل خصومها...
كنا أمة فصرنا جماعة. على أمل أن تتضخم الجماعة فتصبح أمة. فكان أن أصبحت الجماعة جماعات (أنساقًا مغلقة/ أحزابًا) وانشغل كل بأخيه. والمشهد الأكثر ووضحًا على أن كل جماعة لن تبرح مكانها حتى تحسم مع أختها هو مشهد الجماعات المسلحة التي تقتتل وليس بينهم خلاف عقدي/ أيدولوجي أو منهجي .. فقط اختلاف (الأمير). (كل حزبٍ بما لديهم فرحون). ولابد من الخروج من صيغة الجماعات/ الأنساق المغلقة. والحل-كما قدمت مرارًا- في التحول إلى النخب المتخصصة.
النمو العضوي!!
أضاف الأستاذ سيد قطب-رحمه الله- للذهن المعاصر أربعة مصطلحات: أولها: التصوير الفني في القرآن الكريم، يقول: يعرض القرآن الكريم مشاهد حية. كأنك-حين تقرأ، أو تسمع- تشاهد مشهدًا مصورًا بأجمل أدوات التصوير.
وتدبر: (مُتَّكِئِينَ فِيهَا يَدْعُونَ فِيهَا بِفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرَاب. وَعِندَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ أَتْرَابٌ) (يَوْمَ يُحْمَىٰ عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَىٰ بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ)، وقرأ القرآن بهذا الاختراع الأدبي (التصوير الفني)، وهو سر الجمال في كتابات الأستاذ سيد. والثلاثة الأخر: جاهلية المجتمعات المعاصرة، والعزلة الشعورية، والنواة الصلبة/ الفئة المؤمنة). وتجمعت هذه الثلاثة فيما يمكن أن نسميه بـ (البناء العضوي)!!
تحدث سيد قطب عن المجتمع الإسلامي المعاصر، ووضع تصورًا خاصًا، يقول: يُبنى كما يبنى الجسد، من فرد، فاثنان، فأربعة، فثمانية كما المتتابعة الحسابية حتى يصير اثنا عشر ألفًا وبهذا يكون قادرًا على مواجهة الجاهلية، وطالب المؤمنين بالعزلة الجسدية أو الشعورية، والاستعلاء بالإيمان. وقد شرحت هذا في مقالين سابقين. وأريد هنا أن أسأل: هل مثَّل سيد قطب حالة من الوعي الزائد أم ساهم في التردي؟
قدمت مقالين سابقين عن الأستاذ سيد قطب ورؤيته، وأعود لأكمل عليهما إن شاء الله.
محمد جلال القصاص
1أغسطس 2019
بسم الله الرحمن الرحيم
لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
هل نفهم ما يحدث؟
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق