مداخلة مع عبد الوهاب المسيري والمتحمسين
د.محمد جلال القصاص
إننا في أعماق جب.. في قلب إعصارٍ فيه نار. وإن الجماعات الإسلامية والمتحمسين نتوء في جسد الأمة، والحل ليس في يد الجماعات ولا المتحمسين. ولا حول ولا قوة إلا بالله.
بسم الله الرحمن الرحيم
{لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم }
كثيرًا ما كان الدكتور عبد الوهاب المسيري يردد بأننا لا نستطيع أن ننهض كالغرب إلا إذا مررنا بمرحلة احتلال لغيرنا من الشعوب كما فعلوا. يشير إلى أن الغرب نهض على أكتاف غيره من الشعوب التي احتلها.
وأخذ بعض الكرام الأفاضل من الزملاء ذات المعنى فقال بأن "الغرب لم يتقدم بمحض الذكاء وتطور الزراعة والصناعة. بل تقدم بالحروب والسلاح وامتصاص الثروات ونهب الشعوب". والمعنى المتبادر للذهن أن لا تطور بلا حرب.. أن العمل المسلح (أو الثوري العنيف) ضد السلطة والمجتمع ضرورة للنهوض!!
وهنا خلل في منهجية التفكير عند المسيري وعند المتحمسين!!
يبحث الدكتور المسيري ورفاقه من النهضويين عن رقي مادي.. ما يسمونه حضارة (بنيان.. عقارات.. طرق وكباري، ومواصلات، ووسائل اتصال متقدمة) ، وحضارتنا حضارة قيم. تتمحور حول تعبيد الناس لله. ليس في يدنا غير هذا، كما قال ربعي بن عامر لرستم (قائد جيش الفرس)، حين سأله: ما الذي جاء بكم؟ : "الله ابتعثنا والله جاء بنا لنخرج من شاء من عبادة العبادة لعبادة الله، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة"، والعمران يأتي ثمرة لعبادة الله وتعبيد الناس لله (انظر للكاتب مقال: "القيمة العليا في الإسلام"، ومقال: " كيف تعمر الأرض بمن لا يستهدف العمارة؟").
والمسلمون الأول نهضوا بدون أسباب مادية تذكر، نهضوا بأخلاقٍ عالية جعلت الناس يفرون إليهم ويسابقونهم فيما هم فيه، فكان علماء الجيل الثاني من هذه الأمة، وهم الإئمة الأعلام المتبوعين في الحديث والفقه وغيرهما، من غير العرب الفاتحين. لم تكن حالة من نهب الثورات والاستقواء بها كما فعل الغرب. بل كان المسلمون يوزعون المال في أهله دون أن يستأثروا بشيء بدعوى الاستعانة به على تشييد الملك والتمكين للدين. كان التمكين للدين بالخلق الحسن وقضاء حوائج الناس وتمكين الناس من القدرات الكامنة في موطنهم إن هم آمنوا بالله وحده لا شريك له وما أنزل على رسوله، صلى الله عليه وسلم؛ ومن أعجب ما تجد في هذا السياق أن الخلفاء الراشدين اهتموا برعاية شؤون الأفراد في الوقت الذي كانوا ينازلون فيه القوى العظمى (الفرس والروم) مجتمعة، لم يجهدوا الأفراد-من المسلمين أو غيرهم- بدعوى تقوية الجيوش، ولم يسلطوا العسكر على خيرات البلاد وما في أيدي العباد بدعوى بناء الدولة كما يقال اليوم. بل اهتموا بدايةً بحقوق الأفراد، وحين استقر الفرد وارتاح أثمر مجتمعًا آمنًا مطمئنًا مجتهدًا معمرًا، وانحسر الشر في المتنازعين على السلطة. والمقصود أن للنهوض عندنا سياق آخر، وأسبابٌ أخرى خُلقية (قيمية) بالأساس. وحين تدقق النظر في حال الغرب (أوروبا، ثم الولايات المتحدة) تجد أنهم نهضوا بأربعة وليس بواحدةٍ كما يدعي المسيري والمتحمسين:
أولها: وجود رؤية خاصة بهم. تأسست على العداء للدين الكنسي والإسلامي. ربما لأنهم واجهوا غزاة (العثمانيين) ولم يواجهوا فاتحين كما حدث في الأندلس.
وثانيها: حصولهم على أسباب مادية من خلال غزو دول أمريكا الجنوبية أولًا ثم رُكُبوهم البحر والاتجار مع الهند وغيرها (العصر الميركانتي)، ثم احتلال العالم الإسلامي والسيطرة على موارده وأسواقه، وهذه التي يعنيها الدكتور المسيري، وهي فقرة تابعة وجزء من منظومة صعودهم وتمكنهم، وليست وحدها، ولا تصلح لتقدمنا فنحن أمة رحمة، كما قدمت.
وثالثها: انهيار منظومة القيم الإسلامية، ثم تبدلها. وهذا من أهم العوامل في تخلفنا واستمرار تفوقهم، فقد جاءوا إلينا ونحن معدومين ماديًا وفكريًا، ثم عملوا على تبديل منظومتنا الفكرية حتى صارت تبعًا لهم، ولذا تجد بين المنتسبين للفكر الإسلامي من يطالب بنهوض كنهوض الغرب، بل تجد من المنتسبين للصحوة الإسلامية من ينتصر للغرب للمناهج الغربية ويرى أن الديمقراطية هي نهاية التاريخ.. يرى أن البشرية تتطور منذ خلقت في خط مستقيم صاعد، وأن ما عليه الغرب الآن هو الرشد!!
وكأن الله لم يقم السموات والأرض على
الإيمان والكفر، وكأن الله لم يهلك السابقين بكفرهم بالله، وكأن الذين سادوا اليوم أشد قوة من الذين كانوا من قبلهم، وكأنهم سبقوا. والله يقول: {
أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً ۚ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِن شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ ۚ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا} (فاطر:44).
ورابعها: القتال الداخلي بين المسلمين، وذلك منذ ظهور الصفويين في إيران، حيث ظهرت قوى إسلامية تقاتل بعضها وتستعين بالآخر على بعضها.
ولذا فإن علينا أن نبحث عن إجابة لهذا السؤال: هل نسير في اتجاه استعادة نموذجنا الحضاري أم ننافسهم على ما في أيديهم؟!!
وفتش عن إجابة من الأفعال لا من الأقوال. وسترى بوضوح أن النخبة الفكرية (المثقفة) .. أن النخبة "الثورية/ المتحمسين" تنافس الغرب على ما في يده، ويأخذها بين يديه ويسير بها إلى حيث يريد، وإن كانت تعارضه بلسانها!!
دبَّ هذا الخلل المنهجي في التفكير للمتحمسين، مع أنهم "سلفيون" يبحثون عن توطين العقيدة الصحيحة في حياة الناس، وذلك بسبب العجلة، والرغبة الشديد في التخلص من الوضع القائم في أسرع وقت، يظن أن التغيير عمل جيل لا أجيال؛ ويظنون العمل المسلح هو الوسيلة الأسرع، ولا يلتفتون للتجارب التي نعيشها في واقعنا المعاصر (منذ العقد السادس في القرن العشرين)، وخاصة أنها متكررة في كل بقعة من الأرض، وكلها أدت إلى عكس ما أرادت.. كلها دخلت في عملية توظيف من قبل القوى الدولية والإقليمية من أجل تدمير الموجود لإعادة البناء على مبادئ غربية، بمعنى أنها كانت سببًا في نهوض الغرب وتمكنه لا مقاومته وكسر شوكته؛ وقد تحدثت عن هذا المعنى طويلًا (انظر: وقفة مع المطالبين بثورة مسلحة، وانظر: الحركات الجهادية تقاوم الغرب أم تدعمه [ثلاث مقالات]،،،،). وكذا جماعات المعارضة بالخارج هي الأخرى توظف في صراع السلطات مع بعضها البعض، ولا تخرج عن السياق الدولي، وقد أتيت هذا المعنى كثيرًا ومبكرًا. والتجارب التي عايشناها ونعايشها شديدة الوضوح.
إننا في أعماق جب.. في قلب إعصارٍ فيه نار. وإن الجماعات الإسلامية والمتحمسين نتوء في جسد الأمة، والحل ليس في يد الجماعات ولا المتحمسين. ولا حول ولا قوة إلا بالله.
د.محمد جلال القصاص
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق