الاثنين، 16 أغسطس 2021

عقد على الربيع العربي.. نغني موطني!

 عقد على الربيع العربي.. نغني موطني!

نور الدين قدور رافع

انقضت الانتخابات السّورية معلنة فوز بشار الأسد بنسبة تفوق 90%، بعد مرور عقد على حرب أكلت الأخضر واليابس في سوريا، وفرقت أبناء الوطن الواحد إلى أشياع ومقاتلين ومهجرين ومفقودين، وما كان حقيقة بالأمس من حرية وعدالة للشعب أصبح اليوم سرابا لدى من تلحفوا بلباس الخزي، وانضووا تحت لواء الأسد أو نحرق البلد، ومثلما ثار الشعب السّوري على الظلم، وطالب بشيء من حقه في الكرامة والرفاه، انتفضت شعوبنا التواقة لأن تأخذ نفسا واحدا نحو حلمها في التغيير ضد الاستبداد، حلم لطالما استبشر به الكثيرون في أوطاننا، وهم يمرون باللحظة التاريخية في بعث روح النضال العربي.

ومنذ أن خرج الناس في حماة عام 1982 وصولا إلى سقوط الشرعية الثورية في مصر عام 2013 بانقلاب عسكري، زعم كثير من المثقفين والنخبويين تلاشي الحلم العربي في كسب رهان التغيير وجدوى الانجرار إلى دعوات إسقاط الأنظمة، معللين ما افتروه من خطابات ومواويل بائسة مكتوبة في أقبية المخابرات، بعدم جاهزية شعوبنا وقصورها في اختيار طرق التغيير الحضارية، وهم يحمّلونها ما اقترفت يد الطغم الفاسدة من قتل وتشريد ضد الإنسانية.

ها نحن اليوم نرصد قول الأسد عن انتفاضة السّوريين واصفا إياها بثورة الثيران، وهو يرتدي ثوبا مخضبا بدماء آلاف القتلى والمفقودين، في صورة القائد الذي دانت له حدود مملكة الصمت، وبدل أن يطوي صفحة القتل والتهجير، وينزوي إلى مشاريع المصالحة الدولية، والتي لا تخفف من معاناة الضحية إلا بشيء من الاعتراف للجلاد باستعادة حكمه، راح يجثوا بكلمات خطت فشله السياسي والأخلاقي تجاه مجتمعه وتاريخ أرضه.

يذكرنا هذا الانحطاط اللاأخلاقي والانبطاح السياسي بتصريحات "محمد الصحّاف" وزير الإعلام والخارجية العراقي الأسبق، وهو يصف الغزاة الأميركيين وأعوانهم المرتزقة.. بـ"العلوج"، التي راهن الاحتلال عليها في تفتيت المنطقة وجر شعوبها نحو الخراب والدمار، شاهدنا كيف أنّ دولا عربية تعرضت لغزو أجنبي للإطاحة بما يسمى بأنظمة الممانعة؛ إلا أنّ الأمر كان مختلفا عندما تحالفت قوى الشر كلها لوأد الانتفاضات الجماهيرية 2011، فقد كان سقوط العقيد معمر القذافي على يد الناتو بداية ترويض ثانية للفاعلين الجدد، فمآلات التجربة الديمقراطية وبروز قيادات ثورية من الإسلاميين سرّع في استجلاب عسكريين للانقلاب على الانتقال السياسي الآمن.

هي ثيران قامت بثورة شعارها الحرية والعدالة، وما هي بعُلُوج تستجدي مرتزقة يستبيحون أوطانها، وما كان لتنظيم داعش الإرهابي أن يرسم خلافة مزعومة مسنودة بالطائرات المسيرة، لولا أنّ العربي استكان للظالم وأوجس منه خيفة، ولعل الأشياء البسيطة التي كان من الممكن حدوثها لو أنّ الشرعية الثورية التاريخية استجابت لمطالب شعبها في التغيير، وهي انكفاء دولها على مشاكلها الداخلية وقطع الطريق على التدخلات الأجنبية؛ إلا أنّ استئثار الأسديين بالحكم المطلق كان السبب الرئيس بدون مراباة في تحويل البلاد إلى خراب، توشك الولدان أن تشيب من هول الدمار الواقع.

جنون العلوج.. على خطى الاحتلال

في بداية الثمانينيات من القرن الماضي، قمع الأسد الأب متظاهرين خرجوا في حماة يطالبون بالعدالة والحرية، حيث اقتحمت قواته العسكرية المنطقة بقصف مدفعي راح ضحيته المئات من القتلى، بعد حصار جائر فرضه الجيش عليها بدعوى احتضانها جماعات إرهابية، قضي على الانتفاضة الشعبية حينها وزج بالآلاف في السجون وغيّبت الأصوات المعارضة، ليفتتح حافظ الأسد مرحلة مخيفة ومرعبة من تاريخ سوريا، معلنا تحلل الأسديين من دماء الضحايا والقتلى المدنيين، باسم الدولة والقومية والممانعة.

بعد مجزرة حماة المروعة، تتالت الانتكاسات العربية، التي شوهت مجتمعاتنا وثقافتنا مرسخة الصراعات الهوياتية الزائفة، خدمة لاستمرارية الطغم الممسكة بيد من حديد على الدولة، ومع داء جنون الاستبداد الذي أصاب الأنظمة وتفاني العلوج في الاستحواذ على الحكم والثروة، طيلة عقود من النهب المنظم والفساد الممنهج، ظلت الطبقات الهشة ترزح في غيابات الفقر والجوع والجهل، ومتى استشرفت أفقا لاستصلاح حالها المعيشي والاجتماعي والثقافي، تهافتت عليها ذئاب الغابة لسلب ما بقي لها من رفات أحلام، حتى إنّ الأمل باستعادة ما سُرق منها بات معضلة معقدة في زمن أمسى الثوري فيه إرهابيا، وسارقوا أكفان الناس حماة الأمة والوطن.

مثّل النظام السوري طبيعة تكوين الساديين الحاكمين، وهم يرسمون لوحة زائفة للوطنية بعد استقلال الدول عن المستعمِر، فالأسديون بوصفهم طغم سلطوية ظلت لأكثر من نصف قرن تعزز حكم العائلة وتنسج الادعاءات الباطلة على شعوبها، بتكريس خطابات تأليه الزعامة وتوحيد الصف الوطني تحت لواء الآباء التاريخيين المؤسسين للنظام لا الدولة، ولعل الكثير ممن ذكرت أسماؤهم في سجل مناهضة الاحتلال، لم يكونوا سوى أدعياء تربصوا بطموحات الشعوب في الخلاص عن مستعمِرها، وهم اليوم يستنسخون ما استفردت به آلة القتل الهمجية للغزاة في العراق وفلسطين، كي يورّثوا السلطة لجيل مافيوي يستعدي التاريخ والهوية والإنسان، من أجل ذلك سارعت العلوج لصناعة أعداء وهميين لخلق شرعية زائفة، وهم بذلك يسلكون طريقا سار عليه أرباب الفاشية والنازية في تقديس ذواتهم وتسبيق حواشيهم عن الوطن بوصفه البيت الكبير الجامع للثقافات والهويات المختلفة.

ومثلما تفانى المقهورون في تمردهم عن الطغم الحاكمة، التي أفقرت شعوبها وداست على كرامتها بخطابات القائد المفدى، والزعيم الذي لا يشق له غبار طيلة سنوات من العبث والتيهان، ها نحن نرصد اللحظة الثورية، وهي تكتب حقيقة لا مناص منها، كانت قد تجسدت في كل من سوريا واليمن وليبيا، أنّ القائد الذي سرق الثورة وأمم الثروة في ثوب المناضل الأول يملك القدرة على إبادة شعب كامل للحفاظ أو توريث السلطة، وليضيع مع جنونه مستقبل نهضة الأمة في صراعات دولية تتوزع فيها تركة سايكس بيكو للمرة الثانية على أقليات وجماعات انفصالية.

ثمة حكاية شعبية تروي لعن الناس لغسّال كان يسرق أكفان الموتى بعد دفنهم، وقد ورث ولده الصنعة وساءه ما يحكيه الناس عن أبيه، فلما اشتد عوده في الصنعة قام ذات ليلة بتجريد مقبور من كفنه ليعلقه على سور المدينة، وعندما اصطبح الناس على صياح بعضهم البعض من هول ما رأوه، ترحموا على من كان يسرق الأكفان ليعيد بيعها، واستعادوا بالخوف على المتعهد الجديد.

ربما هذا هو حال أنظمتنا العربية كلها بدون استثناء، من متعهد جرّد شعبه من لحاف الكرامة والحق وألبسه المذلة والهوان، إلى وريث علقت مشانقه المنتشرة وبراميله الحارقة أثواب الرضع والحوامل على هياكل البنيات المتهاوية.

صناديق مستباحة.. عن تحالفات الفضول

لا يمكننا اعتبار الربيع العربي حدثا اجتماعيا منفصلا عن التراكمات التاريخية والموروث الكولونيالي، اللذين نخرا الهوية والثقافة لقرون؛ بل إنّ المستعمِر لم يكتف حينما ترك الجغرافيا، التي نهب ثرواتها وأسهم في تخريب إنسانها وأرضها، أن يوطّن أبناء يبرونه بالقهر والخوف والخذلان، إذ ليس من المعقول أن تجثوا طغم على رقاب البروليتاريا آخذة منها الحق في كل شيء، لا لبناء دولة القانون والرفاه؛ بل لتعيد الغاصب من نوافذ عواصمنا المفتوحة على اتفاقيات التقسيم المكملة لمشاريع تفقير الشعوب وإذلالها، وإلى وقت غير بعيد كان العمّال والنقابيون والأحزاب على مختلف صنائعهم وأيديولوجياتهم يقفون بالمرصاد في وجه الدعم، الذي تحصل عليه البرجوازيات الحاكمة.

ومن أجل ألا تستشيط البروليتاريا على ولي أمرها فيسومها سوء العذاب والقتل، تحالفت قوى التمثيل النقابي والاجتماعي مع الأوليغارشيا بدعوى الأمن والتنمية، ممهدة بذلك بيع المؤسسات والشركات العمومية بمبالغ رمزية، وليشيع في أوساط نخب ضبابية وجمعيات حقوقية وأحزاب ريعية حكاية المخلص الكابريزي، والمناضل الأكثر براعة في تسفيه الحقيقة وسرقة البلاد، فلم يترك لشعبه سوى حدود مكلومة بخيام المهجرين وقصص المفقودين في غيابات البحر.

تصدرت الأنظمة العربية مسارح السخرية الانتخابية بحشر المعارضة في صناديق، وضمّها إلى فيالق من الدجالين والمهرجين، كي تصور لعالم لا يملك الجرأة على الاعتراف بديمقراطية عربية واعدة، مسخا آخر من مسوخ الاستقلال والديمقراطية الهزلية المستبيحة لحقوق الشعب والأمة، ويا ليت من انحازوا إلى جلاديهم وأوقدوا أفران الضغينة وهم يهيّجون الشعوب ضد من استنكر التبعية والاستصغار، أن ينصتوا إلى ضمائرهم، إن هي ما زالت على شيء من الحقيقة، أو أن يستمعوا إلى أصوات من اتهموهم أنّهم دعاة فوضى وخراب، عساهم يسلمون جميعا.

 

10 سنوات وأكثر انقضت وما زال الجرح العربي ينزف من الخليج إلى المحيط، سجناء رأي داخل أقبية تكتم الأصوات المناهضة للاستبداد، مهجّرون قدموا أنفسهم قربانا للمستقبل تاركين أوطانهم تعثوا العلوج بها فسادا، ثوريون استعادوا روح الحياة فانطلقوا حاملين رايات التغيير والتجديد، حالمين بمستقبل أفضل للذين يرثون المجد من بعدهم، ربيع عربي يكفيه أنه أخرج شعوبا من مآزقها كي يكشف لها الوهم الذي عاشته، وهي تغني.. موطني.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق