إشراقات قرآنية سورة المرسلات

إشراقات قرآنية سورة المرسلات

د.سلمان العودة 

بين يدي سورة المرسلات

أسماؤها وعدد آياتها

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، ونصلي ونسلم على سيدنا وإمامنا محمد بن عبد الله، الذي بلغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة، فجزاه الله تعالى وجزى إخوانه من النبيين والمرسلين أفضل الجزاء وأتمه وأوفاه، وجزى أصحابه الذين نقلوا وبلغوا وأدوا ما أمروا فكانوا خير أصحاب لخير نبي.

ثم السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وما أجملها أن نجلس في بيت من بيوت الله ونتدبر بعض كلامه، ونُقبل عليه بقلوبنا وعقولنا وأفئدتنا؛ رجاء أن يمنحنا الله العلم والمعرفة، ويكشف لنا من أسرار هذا الكتاب العظيم ما يصح به إيماننا ويثبت به يقيننا ويطيب به عيشنا.

وسوف نعيش -إن شاء الله هذه الليالي- مع جزء تبارك سورة سورة، نصيبنا اليوم سورة المرسلات.

هذه السورة الكريمة لها أسماء، من أسمائها: (وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً) فتسمى باسم الآية الأولى منها، وهذا هو الذي كان معروفاً عند الصحابة رضي الله عنهم، فعلى سبيل المثال: في الحديث المتفق عليه عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: (كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في غار بـمنى وقد نزلت عليه سورة (والمرسلات عرفا)، فجاءت حية فقمنا إليها فلم نستطيع أن ندركها، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: وقيت شركم، كما وقيتم شرها).

وكذلك حديث ابن مسعود في سنن أبي داود وغيره في النظائر التي كان النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ بها في الصلاة، فقال: (إنه كان يقرأ سورة (وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً) و (عم يتساءلون) في ركعة)، وفي حديث ابن عباس أيضاً -وهو في البخاري - يقول: (إنه صلى المغرب فقرأ سورة (وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفاً)، فسمعت قراءته أم الفضل فبكت وقالت له: والله لقد أذكرتني بقراءتك هذه السورة نبي الله صلى الله عليه وآله وسلم، إنها لآخر سورة سمعته يقرأ بها في صلاة المغرب) .

ومن أسمائها أيضاً: (والمرسلات)، وهذا الاسم جاء في حديث النظائر لـابن مسعود أيضاً وغيره.

ومن أسمائها: (المرسلات) بدون الواو، وهذا هو الموجود في المصاحف ومعظم كتب التفسير.

وذكر بعضهم أن هذه السورة تسمى سورة (العرف)، ولم ينسب لأحد خاص، ولكن لذكر العرف فيها (والمرسلات عرفا)، فهذه أسماؤها.

أما عدد آياتها فهي خمسون آية باتفاق علماء العد ولم يقع عندهم اختلاف في عدّ آياتها.

مكان نزولها

هي سورة مكية عند أكثر العلماء والمفسرين ، ويدل على ذلك أمور:

الأول: حديث ابن مسعود الذي ذكرته قبل قليل في نزولها في الغار؛ ولهذا قال ابن العربي وغيره: إن من طرائف هذه السورة أنها نزلت تحت الأرض، فكما أنه وجد في القرآن المكي والمدني والسفري وغير ذلك، فيوجد ما نزل تحت الأرض، ومنه هذه السورة فإنها نزلت في الغار. يعني: والجبل فوقهم.

ويدل على أنها نزلت بـمكة ؛ لأن ذلك كان ليلة الجن وكانوا مختفين في غار بـمنى .

إذاً: هي سورة مكية، وهناك آثار تدل على أن السورة مكية، وهو قول أكثر العلماء، ومما يؤكد هذا المعنى موضوعات السورة، فإن هذه السورة مليئة بالوعيد والتهديد والتخويف، وذلك غالب في القرآن المكي لمواجهة كفر الكافرين ورفضهم دعوة النبي صلى الله عليه وسلم، وكذلك السورة مليئة بتقرير العقيدة والإيمان بالله واليوم الآخر والثواب والعقاب والجنة والنار، وهذا شأن القرآن المكي في الغالب.

وقد أشكل على كونها مكية ذكر الركوع في آخرها في قوله سبحانه: ((وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ))[المرسلات:48]، فذكر عن ابن عباس وغيره أنهم يرون أن هذه الآية مدنية.

والصواب: أن السورة مكية كلها، وأما ذكر الركوع هنا ((وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ))[المرسلات:48]؛ فإن الذين استشكلوه وظنوه مدنياً قالوا: إن هذا يوم القيامة، يعني: إذا قيل لهم يوم القيامة: اركعوا لا يركعون. كما ورد في الآية الأخرى: ((يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ * خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ))[القلم:42-43]، فقالوا: إن المعنى: إذا قيل لهم: اركعوا يوم القيامة لا يستطيعون الركوع، وهذا شأن المنافقين، والنفاق لم يوجد إلا في المدينة .

والصواب أن نقول: إن قوله: ((وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ))[المرسلات:48] في الدنيا، يعني: إشارة إلى تمردهم وإبائهم ورفضهم الانصياع وعدم إيمانهم ولا أدائهم للصلاة، وهذا كثير في القرآن المكي، كما في قوله سبحانه: ((وَوَيْلٌ لِلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ))[إبراهيم:2]، وكما في قوله سبحانه : ((الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ))[فصلت:7]، وفي آية أخرى قال: ((مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَلا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ * مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا))[الروم:31-32]، فذم المشركين بأنهم لا يقيمون الصلاة.

إذاً: هذا هو المقصود بقوله: ((وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ))[المرسلات:48]، وبناءً عليه نقول: إن السورة كلها مكية على القول الصحيح المختار .

مميزات السورة

أما فيما يتعلق بموضوع هذه السورة:

فإن هذه السورة فيها سر وتميز عن معظم آيات وسور القرآن الكريم، ففيها عشرة مقاطع، كل مقطع منفصل عن الآخر ليس معطوفاً عليه، وإنما يبدأ مستقلاً، وبعد كل مقطع منها يأتي التهديد الرباني: ((وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ))[المرسلات:15] ليعطي معنى جديداً يتعلق بالمقطع المشار إليه.

إشراقات في قوله تعالى: (والمرسلات عرفاً ...)

بدأت السورة بالقسم، والله تعالى يُقسم بما شاء، فقال سبحانه: ((وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفًا * فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفًا * وَالنَّاشِرَاتِ نَشْرًا * فَالْفَارِقَاتِ فَرْقًا * فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْرًا * عُذْرًا أَوْ نُذْرًا * إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَوَاقِعٌ))[المرسلات:1-7].

أقسم الله تعالى بهذه الأشياء، وهذا يُشبه القسم في سورة الذاريات: ((وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا))[الذاريات:1]، ويشبه القسم أيضاً في سورة النازعات: ((وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا))[النازعات:1]، فهو قسم بأشياء أراد الله تعالى أن يُوجّه نظر الناس إليها.

المقسم به في أوائل آيات السورة

بعض المفسرين يقولون: إن المقسم به هنا كله شيء واحد، فيكون مثلاً القسم بالريح إذا كان المقصود الرياح فهي المرسلات، وقد ورد أن الله تعالى يُرسل الرياح: ((اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ))[الروم:48]، ((وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ))[الحجر:22]. إذاً: هي مرسلة، وكذلك في حديث ابن عباس : (كان النبي صلى الله عليه وسلم أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل فيدارسه القرآن، كان الرسول صلى الله عليه وسلم كان أجود بالخير من الريح المرسلة)

إذاً: الريح تسمى مرسلة، والرياح: مرسلات، وبناء عليه قالوا: إن المرسلات هي الرياح، وكل ما بعدها على هذا القول فهي الرياح أيضاً، لكن يأتي إشكال هنا، وهو أنه قال في آخرها: ((فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْرًا))[المرسلات:5] فهل الرياح تلقي ذكراً؟

قال بعضهم: نعم، تلقي ذكراً لأن الريح إذا عصفت ودمرت مثلما حصل في إعصار (جونو)، وقلبت السيارات وأسقطت الأعمدة، وحدث منها أشياء وأشياء؛ فإن الناس يفزعون إلى الذكر وإلى التسبيح وإلى الاستغفار، والنبي صلى الله عليه وسلم أمر بالدعاء وسؤال الله الرحمة والاستعاذة بالله من العذاب عند هبوب الريح، فيكون هذا سبباً، كأنها ألقت على ألسنة الناس ذكراً لله سبحانه وتعالى، أو جددت لهم ذكراً لما نسوا.

ولكن هذا فيه نظر، والأقرب أن المقسم به -طبعاً في هذه السور- أنه ينقسم إلى قسمين:

القسم الأول: الرياح، الريح.

والقسم الثاني: الروح وهي الملائكة.

معنى قوله تعالى (والمرسلات عرفاً)

فنقول: المرسلات عرفاً هنا هي الرياح، وهذا ظاهر ومتبادر، وقوله: (عُرْفاً) هي: عرف الفرس، وعرف الفرس هو الشعر الذي يكون على ناصيتها ذات اليمين وذات الشمال، وكذلك عرف الديك، فعلى هذا يكون المقصود الرياح المتتابعة؛ لأن العرب يقولون مثلاً: جاء القوم إلى فلان عرفاً كعرف الفرس، يعني: إذا التفوا عليه أو أقبلوا عليه أو ما أشبه ذلك.

فيكون المقصود هنا بقوله: ((وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفًا))[المرسلات:1] أي: كعرف الفرس، رياح متتابعة يتبع بعضها بعضاً، فيقسم الله تبارك وتعالى بها.

معنى قوله تعالى (فالعاصفات عصفاً)

((فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفًا))[المرسلات:2]: والفاء هنا -كما هو معروف- الفاء ليست من حروف القسم في اللغة العربية، وإنما هو عطف هنا.

إذاً: لابد أن تكون العاصفات هي: المرسلات والله أعلم؛ لأنها معطوفة عليها، فإذا قلنا: إن المرسلات هي: الرياح، فالعاصفات هي: الرياح أيضاً، وهل وصف الله تعالى الرياح في القرآن بأنها عاصفة؟

نعم، ((هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ))[يونس:22].

إذاً: (الْعَاصِفَاتِ عَصْفاً) هي الرياح أيضاً، وقوله: (فَالْعَاصِفَاتِ) يدل على أن هذا الشيء يقع بعد الأمر الأول، فهي أولاً ترسل وكأنها ترسل وتبدأ هبوبها بهدوء.

ومن العواصف ما يكون هبوبها            بعد الهدوء وراحة الربان

فتبدأ هادئة ثم تزداد وتتسع حتى تعصف عصفاً، ولهذا قال: ((وَالْمُرْسَلاتِ عُرْفًا * فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفًا))[المرسلات:1-2].

يعني: زادت وعصفت، وعلى هذا يكون المقصود بهذا القسم هو الرياح.

توجيه معنى الآيات السابقة على كون المراد بها الملائكة

ولو قلنا: إن المقصود هو الملائكة لكان المعنى واضحاً، فالملائكة ترسل أيضاً، فالله تعالى ((يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ))[الحج:75]، ويرسل الملائكة ((بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ))[النحل:2]، يُرسلهم بالوحي ويُرسلهم بالعذاب ويُرسلهم بما شاء، وبناءً عليه يكون قوله: (الْمُرْسَلاتِ عُرْفاً) إذا قلنا: إنهم الملائكة أي: معروفاً، فإنهم يرسلون بالمعروف، فيكون القسم هنا ليس بكل إرسال، وإنما بإرسالهم بالأمر الشرعي المعروف، كإرسالهم بالوحي وما أشبه ذلك.

(فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفاً) على هذا يكون أيضاً هذا تابعاً، والمقصود به: الملائكة في عصفها بالباطل ((بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ))[الأنبياء:18]، أو في عصفها بالمبطلين وإزالتهم وإدحاض حجتهم.

لكننا نختار أن المقصود بهاتين الآيتين الرياح.

معنى قوله تعالى (والناشرات نشراً)

ثم أقسم الله تعالى قسماً آخر فقال: ((وَالنَّاشِرَاتِ نَشْرًا))[المرسلات:3]، وهذا قسم لأنه غيّر الفاء، بدل الفاء، قال: (وَ)، لم يقل: (فالناشرات)، قال: (وَالنَّاشِرَاتِ) فدل على أنه قَسم آخر وقَسم جديد، فأقسم الله تعالى في صدر هذه السورة بقَسمين:

الأول: بالريح وهي المرسلات.

الثاني: بالملائكة، بالروح، ((يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ))[النحل:2]، ((تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ))[القدر:4].

إذاً: الريح والروح أقسم الله بهما، فقال: ((وَالنَّاشِرَاتِ نَشْرًا))[المرسلات:3]، فيه مناسبة لطيفة في القسم بين الرياح وبين الملائكة؛ لأن الريح تُرسل مبشرة، تُرسل فتبعث السحاب ((فَتُثِيرُ سَحَابًا))[الروم:48]، تُرسل بالمطر، والمطر فيه حياة للأرض وللنبات، أما الملائكة فهي تُرسل بالوحي والحق، والحق فيه حياة للقلوب وحياة للأرواح وللإيمان وللنفوس؛ ولهذا جمع الله تعالى بينهما لأن سر الحياة فيهما، وكثيراً ما يجمع الله تعالى في القرآن الكريم بين حياة القلوب وبين حياة الأرض، مثلاً: لما ذكر الله تعالى حياة القلوب: ((أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ))[الحديد:16] عقَّب بقوله: ((اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا))[الحديد:17]، إشارة إلى أن القلوب الميتة تحيا بالقرآن، وكذلك الأرض الميتة تحيا بالنبات، فيكون بذلك مناسبة لطيفة للقسم بالرياح ثم إتباعه بالقسم بالملائكة.

فيما يتعلق بالقسم بالملائكة: قال: ((وَالنَّاشِرَاتِ نَشْرًا * فَالْفَارِقَاتِ فَرْقًا * فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْرًا))[المرسلات:3-5]

إذاً: هو قَسم واحد (والناشرات)، أما ما بعده فهو عطف عليه من غير قَسم؛ لأن الفاء ليست حرف قسم، وإنما هي أداة عطف تدل على التعقيب، يعني: يكون بعده مباشرة، فهنا قوله سبحانه: ((وَالنَّاشِرَاتِ نَشْرًا))[المرسلات:3] بدأ بالأعم، فقوله: (النَّاشِرَاتِ) إذا قلنا: هي الملائكة فهي تنشر أجنحتها حينما تطير بين السماء والأرض، وهي أيضاً تنشر الصحف، سواء كانت هذه الصحف في السماء أو كانت في الأرض أو كانت يوم القيامة: ((وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا))[الإسراء:13] ؛ ولهذا الآن أنا أقول: هذا المصحف منشور بين يدي، عثمان رضي الله عنه قُتل والمصحف منشور بين يديه، (دخل النبي صلى الله عليه وسلم على اليهود يحاجهم في بيت المدراس فقال: ((فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا))[آل عمران:93]، فجاءوا بالتوراة فنشروها)، ففتح الكتاب يسمى نشراً.

إذاً: هنا وصفها بالناشرات، وهي: الملائكة تنشر أجنحتها وتنشر الحق وتنشر الكتب وتنشر الخير، إذاً: هذا معنى عام ((وَالنَّاشِرَاتِ نَشْرًا))[المرسلات:3]، والمصدر هنا هو للتوكيد.

معنى قوله تعالى (فالفارقات فرقاً)

ثم قال: ((فَالْفَارِقَاتِ فَرْقًا))[المرسلات:4]، يعني: بعدما نشرت فرقت، والفرق هو: التمييز والبيان، فهي تُفرق فرقاً وفرقاناً بين الحق والباطل، والهدى والضلال، والخير والشر، والإيمان والكفر، ولهذا بعدما نشرت أجنحتها، ونشرت كتبها التي جاءت بها وبُعثت بها، انتقل إلى الحديث عن أثر هذا النشر وهو الفرقان: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا))[الأنفال:29] ((يَوْمَ الْفُرْقَانِ))[الأنفال:41]، فالفرقان هو: التفريق والتمييز بين الحق والباطل، ومن هنا قال: ((فَالْفَارِقَاتِ فَرْقًا))[المرسلات:4]، يعني أن الملائكة تفرق بما جاءت به من الوحي من السماء بين الحق والباطل، ولهذا قال هنا: ((فَالْفَارِقَاتِ فَرْقًا))[المرسلات:4]، فيكون الفرق أثراً عن نشرها، يعني: بعد نشرها فرقت.

معنى قوله تعالى (فالملقيات ذكراً)

ثم قال: (فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْراً) يعني: مجرد نزول الملائكة يبدأ الوضوح ويتمحض الحق من الباطل، وهذا إشارة إلى مثل قوله تعالى: ((بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ))[الأنبياء:18]، بمجرد ما يبين الحق يخنس الباطل، ولا يحتاج الأمر إلى جهد جهيد وعمل كبير، فبمجرد ما نشرت الملائكة أجنحتها هنا فرقت بين الحق والباطل حتى قبل أن يتم الإلقاء؛ لأن المقصود البداية والإرادة والتوجه لهذا الأمر، ولذلك قال بعد هذا: ((فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْرًا))[المرسلات:5]، هذا الذكر هو الفرقان، فهي تُلقي الذكر على الرسل والأنبياء المصطفين عليهم الصلاة والسلام، ((فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْرًا))[المرسلات:5] على من يشاء من عباده، هذا الذكر هو ما ينزل على الأنبياء ومنه القرآن.

معنى قوله تعالى (عذراً أو نذراً)

ولذلك عقَّب بقوله: ((عُذْرًا أَوْ نُذْرًا))[المرسلات:6] يعني: هذا الذكر المنزَّل عليهم يكون إما إعذاراً أو إنذاراً، وأنت تلاحظ أن القرآن أيضاً فيه معنى ثالث غير الإعذار والإنذار، وهو التبشير، كما في قوله سبحانه: ((إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ))[الإسراء:9] إذاً: لم يذكر البشارة هنا لماذا؟

لما أسلفت قبل قليل أن سياق الآية سياق وعيد وتهديد وتخويف للكافرين المصرِّين الذين تعاظمت عليهم الحجج، ومع ذلك هم يصرفون وجوههم عنها وهي تُحاصرهم من كل جهة، ومع ذلك يصدون عنها صدوداً؛ فلذلك لم يذكر البشارة هنا، وإنما ذكر الإعذار أو الإنذار: ((عُذْرًا أَوْ نُذْرًا))[المرسلات:6]، قد يكون عذراً للمؤمنين لأن المؤمنين لما سمعوا ما أُنزل إلى الرسول فاضت أعينهم من الدمع وأقبلوا وآمنوا بالله ورسوله، فكان ذلك إعذاراً لهم وبياناً للحجة وغفراناً لما سلف؛ لأن الله لا يؤاخذهم على ما فرط منهم في زمن الجاهلية قبل أن تقوم عليهم الحجة؛ ولهذا قال سبحانه: ((وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا))[الإسراء:15]، وقال: ((وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ))[الأنعام:19]، وذكر عن الكافرين يوم القيامة: ((أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ))[الأعراف:172]، يعني: لا تقولوا ذلك؛ لأن الحجة قامت عليكم بإلقاء الذكر من الملائكة على الرسل والأنبياء.

وقوله: ((عُذْرًا أَوْ نُذْرًا))[المرسلات:6] النذر -والله أعلم- هو للكافرين أيضاً؛ لئلا يكون لهم حجة؛ لأن الكافرين لم ينتفعوا بهذا الوحي انتفاع الذي آمن به وعمل، ولكن الحجة قامت عليهم؛ ولهذا قال ربنا سبحانه: ((رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ))[النساء:165] فليس لهم حجة، لماذا؟

الإنذار قد وصلهم والوحي قد بلغهم والحجة قد قامت عليهم، فلا عذر لهم إذاً؛ ولهذا قال: ((عُذْرًا أَوْ نُذْرًا))[المرسلات:6].

وعلى هذا المعنى يكون العذر في حق المؤمنين، لأنهم آمنوا، ولأنه بإيمانهم غُفر لهم ما قد سلف، انتهوا فغُفر لهم ما قد سلف، فلا يُؤاخذهم الله على ما فرط منهم في أزمان الجهل والشرك لعدم العلم وعدم قيام الحجة، أما النذر فهو للكافرين لأنهم لم ينتفعوا ولكن فقط قامت عليهم النذارة.

معنى قوله تعالى (إنما توعدون لواقع)

ثم قال سبحانه بعد هذا القسم: ((إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَوَاقِعٌ))[المرسلات:7] هذا هو جواب القسم بعدما أقسم الله، والله تعالى إذا أقسم على أمر دل على أنه عظيم وجليل، وحتى الأشياء التي يُقسم الله تعالى بها هناك توجيه النظر إليها، قال هنا: ((إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَوَاقِعٌ))[المرسلات:7] الوعد هنا قد يكون المقصود به وعد الآخرة، القيامة، الجزاء، الحساب، وهذا يقيناً هو مقصود، ومما يدل على أنه هو المقصود أن سياق السورة كلها جاء بهذا الخصوص، وبالوعد والوعيد ووصف القيامة وأحوالها وما يكون فيها.

إذاً: ((إِنَّمَا تُوعَدُونَ))[المرسلات:7] يعني: من البعث والجزاء والحساب ((لَوَاقِعٌ))[المرسلات:7] أي: لحادث وقائم وجار كما وعد الله تعالى.

ويحتمل أن يكون قوله: ((إِنَّمَا تُوعَدُونَ))[المرسلات:7] أشمل من ذلك، يعني: كل ما توعدون على الإجمال وعلى التفصيل، فيدخل في ذلك أمور، يدخل منها مثلاً: ((وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ))[النور:55]، ويدخل فيه تفاصيل الوعد الذي أخبر الله تعالى أنه سيقع من الأحداث والأكوان والكوارث والمشاكل والمصائب وأمور الخير والشر الموعودة في القرآن الكريم أو فيما ثبت في صحيح السنة النبوية، وهذا فيه إشارة إلى الفرق بين الوعد الحق والوعد الكاذب أو الوعد المفترى، الفرق بين وعد الرحمن ووعد الشيطان: ((وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ))[إبراهيم:22]، فوعد الشيطان كما قال تعالى: ((الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ))[البقرة:268]، وعد كاذب، أما وعد الله تعالى فهو الحق.

نبقى في أمر ثالث بينهما، وهو وعد الإنسان، طبعاً وعد الإنسان من الناحية الشرعية، النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (آية المنافق ثلاث: وإذا وعد أخلف)، وهذا دليل على أن كون الإنسان يكون من عادته إخلاف الوعد هذا من علامات النفاق، لكن لو وعد وفي نيته أن يفي ثم لم يف لعارض فليس عليه في ذلك شيء، وإذا ترتب على الوعد التزام للآخر فالأقرب أنه يجب الوفاء بالوعد، مثلاً: إنسان قال: أنا أريد أن أتزوج، فقال له أحد الناس: تزوج وإذا عقدت فعندي لك خمسون ألف ريال، والرجل ذهب وخطب وتزوج وعقد وجاء لصاحبنا وقال: خمسين ألفاً.

قال: مهناش يفتح الله.

هل يجوز؟ بعض الفقهاء يقول: نعم. لا يلزم لأن ماله عنده، لكن الأقرب أنه ما دام ترتب عليه التزام يصعب الانفكاك منه بناء على هذا الوعد؛ أنه يجب عليه الوفاء بما وعد، وهذه من علامات الإيمان.

ولكن هناك نقطة أخرى في موضوع الوعد أيضاً، وهي أن بعض الناس في الخطب والمحاضرات والدروس والبرامج الإعلامية وتحليلات الأخبار السياسية والاقتصادية وغيرها؛ كثيراً ما يتكئون على المواعدات، فيقول: سيحدث كذا وسيحدث كذا، وهذا تجده -مثلاً- في المحللين الاقتصاديين، وتعرف نكبة الأسهم وكيف أن كثيراً من الوعود لم تتحقق، وكذلك في القضايا العسكرية لما يحدث غزو عسكري أو تحدث مشكلة يكون هناك مواعدات، في المسائل الأخلاقية تجد بعض الناس لما يتحمس وهو على المنبر يتوعد الناس يواعدهم أنه إذا لم يتغير هذا فسوف يحدث كذا وكذا، وفي الشوارع يقع ... إلى آخره، مثل هذه المواعدات البشرية الإنسانية غالباً تنطلق من حماس أو من اندفاع أو من رأي خاص، ولكنها تحتمل الخطأ والصواب؛ ولذلك الأجود والأفضل للإنسان ألا يتورط في مواعدات معينة قد تُحرجه في المستقبل، وإنما يبين ما يعتقد أنه صواب وما يعتقد أنه خطأ وما هو مخوف، ويضع الاحتمالات المتعددة لئلا يُواعد الناس على أمر من الأمور، حتى إن من الناس من قد يتوعد بأمر شر، أنه سيتم غزو لهذا البلد ثم ينتقل إلى البلد الآخر ثم الثالث ثم الرابع، فإذا لم يتحقق الشيء الذي توعد الناس به ضاق صدره؛ لأن كلمته لم تقع، حتى يصبح يتمنى أن يقع الشر، لا كرهاً للناس ولا بغضاً للمسلمين ولا حباً في الأذية لهم، ولكن من أجل أن يظهر صادقاً فيما وعد؛ ولهذا رب كلمة تقول لصاحبها: دعني، ألا يتورط الإنسان في مواعدات لا يجزم بها.

هنا قال الله سبحانه وتعالى : ((إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَوَاقِعٌ))[المرسلات:7] لإنه ((وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ))[الأحقاف:16] بالنسبة للمؤمنين، وكذلك هو وعد حق لا يتخلف بالنسبة للكافرين، هو وعد الله.

إشراقات في قوله تعالى: (فإذا النجوم طمست ...)

هذا المقطع الأول، بعده انتقل إلى سياق آخر فقال سبحانه:

((فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ * وَإِذَا السَّمَاءُ فُرِجَتْ * وَإِذَا الْجِبَالُ نُسِفَتْ * وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ * لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ * لِيَوْمِ الْفَصْلِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الْفَصْلِ * وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ))[المرسلات:8-15].

هذا المقطع الأول الذي فيه ((وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ))[المرسلات:15]، وفيه ذكر الله تبارك وتعالى قوله: ((فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ * وَإِذَا السَّمَاءُ فُرِجَتْ))[المرسلات:8-9] لم يذكر من الذي طمسها لأنه معروف، الأمر بيد الله سبحانه وتعالى، في الدنيا الناس قد يترددون وقد يشكون، لكن الأمر هنا يتعلق بأمر الآخرة الذي يصبح الأمر فيه عياناً لا شك فيه؛ ولهذا لم يكن ثمت حاجة إلى أن يُبين من هو الفاعل، وإنما أجمله، وهذا الإجمال فيه نوع من الاختصار أيضاً.

ولعل من أسباب الإجمال أيضاً تقديم الاسم على الفعل: ((فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ))[المرسلات:8] والنجوم اسم مقدم على الفعل الذي هو (طُمِسَتْ)، بخلاف ما نجده -مثلاً- في سورة القيامة، قال الله سبحانه وتعالى: ((فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ * وَخَسَفَ الْقَمَرُ * وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ))[القيامة:7-9]؛ لأن الفعل جاء قبل الاسم، والاسم (البصر) هو الذي نُسب إليه البرق: ((فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ))[القيامة:7]، والقمر خُسف به، نُسب إليه الخسوف ((وَخَسَفَ الْقَمَرُ))[القيامة:8] وإنما هو بإذن الله تبارك وتعالى.

فهنا قال: ((فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ))[المرسلات:8] والطمس يحتمل أمرين:

إما أن يكون المعنى: ذُهب بنورها وضوئها فأظلمت، وعلى هذا تكون النجوم بقيت أجراماً، ويحتمل أن يكون قوله: (طُمِسَتْ) يعني: ذهب بها وبنورها فأُزيلت ومُحيت، مثلما تقول: طُمس الكتاب: إذا كان عليه كتابة فمُحيت، يقال: طُمس الكتاب أو مُحي، وكذلك الطمس على الأعين ((وَلَوْ نَشَاءُ لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ))[يس:66] يعني: بالعمى أو بإزالة العين بالكلية، وكذلك ((رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ))[يونس:88]، يعني: أن تؤخذ منهم أموالهم أو تتحول إلى شيء آخر لا يستفيدون منه ولا ينتفعون به.

هنا قال: ((فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ))[المرسلات:8] وهذا من علامات الساعة والقيامة، وقد يكون في ذلك إشارة إلى زوال الشمس أيضاً؛ لأن الشمس هي أكبر الأجرام الفلكية المضيئة التي هي قريبة من الناس، وكثير من النجوم نورها من نور الشمس، فذهاب نورها إشارة إلى ذهاب نور الشمس أيضاً، وهذا ورد النص عليه في مواضع أخرى ((إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ))[التكوير:1].

معنى قوله تعالى (وإذا السماء فرجت)

((وَإِذَا السَّمَاءُ فُرِجَتْ))[المرسلات:9] السماء هي هذه القبة الزرقاء التي نراها أمامنا، و (فُرِجَتْ) معناها: تشققت، كان فيها أبواب؛ ولهذا قال: ((فَكَانَتْ أَبْوَابًا))[النبأ:19]، كان فيها شقوق وصدوع، وقد يكون من معاني (فُرِجَتْ) أنه بدلاً من أن تنظر إليها الآن فتجدها في غاية الإحكام والإتقان والجمال، كما في سورة تبارك ((ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ))[الملك:4] أي: من نظر السماء، أما في ذلك الموقف فالسماء تفرج، يكون فيها فرج أو فروج كثيرة وتشقق.

معنى قوله تعالى (وإذا الجبال نسفت)

((وَإِذَا الْجِبَالُ نُسِفَتْ))[المرسلات:10] والنسف قد يكون معناه تفجيرها، وقد يكون معناه أن تتحول إلى شيء خفيف هباء، كما قال: ((وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا))[النبأ:20]، وقال سبحانه: ((وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا * فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا * لا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلا أَمْتًا))[طه:105-107]، فيكون معنى (نُسِفَتْ): سوّيت بالأرض. أو يكون معنى (نُسِفَتْ) أي: حوِّلت من مواد صلبة إلى مواد ضعيفة، مثل الهباء الذي تراه في الهواء.

معنى قوله تعالى (وإذا الرسل أقتت)

((وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ))[المرسلات:11] هذه الأشياء الكونية فيما يتعلق بالنجوم والسماء والجبال واضحة، ثم أعقبها بقوله: ((وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ))[المرسلات:11] . والقراءة المشهورة (أُقِّتَتْ)، وهناك قراءة أخرى -وهي من القراءات المتواترة السبعية-: (وُقِتَت) بالواو ، والمعنى واحد، أي: حُدد لها وقت، والرسل أُقتت قبل ذلك، يعني: من الآن حُدد للرسل وقت ومنذ أن بعثوا، والله سبحانه وتعالى يقول: ((يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ))[المائدة:109] إذاً: توقيت الرسل بمعنى تحديد وقت لهم يُجمعون لميقات يوم معلوم هذا حدث، وإنما المقصود بقوله: ((وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ))[المرسلات:11] -والله أعلم- يعني: حان وقتها، حان تنفيذ ما أُقتت له، فمعنى (أُقِّتَتْ) أي: جُمعت، حان وقت اجتماعها، الوعد الذي ضرب لهم قد وقع الآن فاجتمعوا، فيجمعهم الله سبحانه وتعالى.

معنى قوله تعالى (لأي يوم أجلت ليوم الفصل)

((وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ * لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ * لِيَوْمِ الْفَصْلِ))[المرسلات:11-13]، يعني: لما أُجِّل الرسل منذ القدم وبُعثوا، بعث إبراهيم و نوح و موسى و عيسى ومحمد وإخوانهم من النبيين كانت الرسالة تأتيهم والأجل يُضرب لهم أنه أجل الحساب للرسل كلهم جميعاً ولأممهم، وربما استعجلت بعض الأمم ((وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ))[ص:16]، لكن الله سبحانه وتعالى يصبر على عباده ((وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلًا لا رَيْبَ فِيهِ))[الإسراء:99]، وهو يوم الحساب.

فالآن الدنيا قد زالت، والنجوم قد طُمست، والسماء قد فرجت، والجبال قد نُسفت، والرسل قد أُقتت وجُمعت، انتهت الدنيا والموقف هو موقف يوم القيامة ((لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ * لِيَوْمِ الْفَصْلِ))[المرسلات:12-13]، ((هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْنَاكُمْ وَالأَوَّلِينَ))[المرسلات:38]، أُقتت ليوم الفصل، الفصل للعباد الذين أخطئوا في حق ربهم فكفروا به أو كذبوا رسله أو عبدوا غيره، هذا فصل.

والفصل أيضاً بين العباد يقتص لبعضهم من بعض، حتى يقتص للشاة القرناء من الشاة الجلحاء، وحتى تؤخذ مثاقيل الذر من أحد ((فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا))[الكهف:49].

معنى قوله تعالى (وما أدراك ما يوم الفصل)

فقال هنا: ((لِيَوْمِ الْفَصْلِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الْفَصْلِ))[المرسلات:13-14]، هذا تأكيد وتعظيم، وكثيراً ما يرد هذا الاستعمال في القرآن الكريم: (وما أدراك) أو: (وما يدريك)، كما في قوله: ((الْقَارِعَةُ * مَا الْقَارِعَةُ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ))[القارعة:1-3]، ((وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ))[الانفطار:17]، ((وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ))[الطارق:2]، إشارة إلى أن المسئول عنه أمر عظيم فوق الإدراك وفوق الاستيعاب وفوق القدرة، وإنما المقصود التعظيم والتهويل من شأنه، فهنا قال: ((وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الْفَصْلِ))[المرسلات:14]، ثم لم يبين ولم يجب، يكفي أنه يوم الفصل.

معنى قوله تعالى (ويل يومئذ للمكذبين)

عقَّب بقوله: ((وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ))[المرسلات:15].

(وَيْلٌ) المقصود والصحيح أن المقصود بالويل العذاب، (وَيْلٌ) أي: عذاب لهم، و (يَوْمَئِذٍ) يعني: يوم الفصل (لِلْمُكَذِّبِينَ) بهذا الخبر بالرسل بالقرآن بالوحي. هذا مقطع.

إشراقات في قوله تعالى: (ألم نهلك الأولين ...)

ثم قال سبحانه في مقطع آخر: ((أَلَمْ نُهْلِكِ الأَوَّلِينَ))[المرسلات:16] يسألهم الآن، يقيم عليهم الحجة من نوع آخر، الحجة في المقطع السابق فيها إشارة إلى الآيات الكونية؛ لأنه سبحانه لما يقول: ((فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ))[المرسلات:8] يلفت نظرهم إلى النجوم وما فيها من العبر، والسماء أيضاً وما فيها من الآيات ((وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ))[الذاريات:22] والجبال أيضاً ((أَفَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ * وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ * وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ))[الغاشية:17-19] ((وَإِلَى الأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ))[الغاشية:20]، فالله تعالى أقام عليهم الحجة بالآيات الكونية التي من فوقهم ومن تحتهم ولا مهرب لهم منها، إن رفع رأسه فالسماء وإن نزّل رأسه فالأرض، وإن التفت يميناً فالجبال وإن التفت يساراً فالأنهار، وحتى لو كان أعمى لا يرى تقوم عليه الحجة ((وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ))[الذاريات:21].

أما الحجة الثانية فهي حجة من نوع آخر، حجة تاريخية إن صح التعبير، ((أَلَمْ نُهْلِكِ الأَوَّلِينَ))[المرسلات:16]؟!

هذا استفهام، والمقصود: أهلكناهم.

من هم الأولون؟

قد يكون المقصود بـ (الْأَوَّلِينَ): الأمم القديمة مثل أمة نوح، ((ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الآخِرِينَ))[المرسلات:17] يعني: الأمم المتأخرة كأمم هود و شعيب و صالح و موسى .

وقد يكون المقصود بـ (الْأَوَّلِينَ): كل الأمم الذين كانوا قبل رسالة محمد صلى الله عليه وسلم، وهذا أحسن، فيكون المقصود بالأولين هنا كل السابقين الذين أهلكم الله. طيب!

هل المقصود هنا الإهلاك بذاته، يعني: بالموت؟ أم المقصود الإهلاك بآية وبعذاب من عند الله عز وجل؟

الأقرب أن يكون المقصود الإهلاك بالعذاب، بدليل قوله: ((كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ))[المرسلات:18]، فدل على أن المقصود الإهلاك الذي هو عذاب الاستئصال، أن الله تعالى يُنزل عليهم آية من السماء أو يسقط عليهم كسفاً، أو يزلزل بهم الأرض، أو يُبيدهم سبحانه بآية من عنده ، فهذا هو موضع العبرة، مع أن في ذلك متضمناً بالاعتبار بالموت والهلاك بحد ذاته، وأن الدنيا مهما طالت فهي قصيرة.

معنى قوله تعالى (ثم نتبعهم الآخرين)

ومن هنا قال: ((أَلَمْ نُهْلِكِ الأَوَّلِينَ * ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الآخِرِينَ))[المرسلات:16-17]، ولاحظ أنه لما قال: ((أَلَمْ نُهْلِكِ الأَوَّلِينَ))[المرسلات:16] (نهلك) مجزوم بـ(لم)، (أَلَمْ نُهْلِكِ)، بينما قال في الآية التي بعدها: ((ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الآخِرِينَ))[المرسلات:17]، و(نتبع) هذا فعل مضارع مرفوع، لم يقل: ثم (نتبعْهم) وإن كانت هذه قراءة، قال: ((ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الآخِرِينَ))[المرسلات:17] إشارة إلى أن المعنى أننا سوف نتبعهم الآخرين أو نحن نتبعهم الآخرين، ولذلك ابن مسعود كان يقول: (ثم سنتبعهم الآخرين) يعني: في المستقبل، والمعنى ((أَلَمْ نُهْلِكِ الأَوَّلِينَ))[المرسلات:16]؟ بلى قد أهلكناهم، ثم نحن -الله سبحانه وتعالى- (نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ)، يعني: كما أهلكنا من قبلكم نهلككم أنتم إذا فعلتم مثل فعلهم، فيكون المقصود بالآخرين هنا: من كانوا في عهد الرسالة المحمدية وبلغتهم هذه الآيات ومن جاء بعدهم إلى اليوم، وهذا فيه إشارة إلى عظمة القرآن، أن حجة القرآن هذه ليست على أبي لهب و أبي جهل و عتبة و شيبة و النضر بن الحارث فحسب، لا، على الذين يسمعون القرآن اليوم، ففيه إشارة إلى أن الذي أهلك الأولين ((وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الأُولَى * وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَى * وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَى * وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى * فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى))[النجم:50-54]، أنه يهلك الآخرين أيضا، يتبعهم الآخرين إذا شاء وإذا عصوا وأصرّوا.

معنى قوله تعالى (كذلك نفعل بالمجرمين)

((كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ))[المرسلات:18]، يعني: كما أهلكنا الأولين نهلك الآخرين؛ لأن السنة واحدة، وليس بين أحد من البشر وبين الله نسبٌ ولا سبب إلا نسب وسبب التقوى.

الأرض لا تقدس أحداً، والقبيلة لا تقدس أحداً حتى لو كان من آل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولو كان من عُمّار المسجد الحرام، ولو كان ما كان، العبرة هي بالعمل؛ ولهذا قال: ((كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ))[المرسلات:18] كما فعلنا بالأولين نفعل بالآخرين، ((وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ))[المرسلات:19] أيضاً هذا وعيد آخر.

إشراقات في قوله تعالى: (ألم نخلقكم من ماء مهين ...)

أنواع من الحجج المقامة على المشركين في آيات السورة

جاء في المقطع الثالث (أَلَمْ)، ولاحظ أنه استئناف ليس له علاقة بحرف العطف -مثلاً- معطوف على الذي قبله، لا، ابتداء جديد صوت جديد وسؤال جديد: ((أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ))[المرسلات:20] ؟ وهنا انتقل الأمر، انظر: الحجة الأولى كانت حجة كونية: النجوم، السماء، الجبال.

الحجة الثانية حجة تاريخية: ((أَلَمْ نُهْلِكِ الأَوَّلِينَ))[المرسلات:16] كلكم تعرفون قصص الأمم الغابرة والسابقة، بل حتى قصص الأمم الحاضرة اليوم، من هو الذي لا يعرف هلاك بعض الأمم التي عصت وعتت وتمردت فعاقبها الله تعالى ((فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ * إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ))[الفجر:13-14].

هنا حجة ثالثة قريبة منك بين جنبيك ((أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ))[المرسلات:20] ؟

تقرير، هذا سؤال، والقرآن كثيراً ما يطرح الأسئلة حتى يتحرك عقل الإنسان ويقف وجهاً لوجه أمام الحقيقة ((أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ))[المرسلات:20]؟ بلى خلقناكم، أولاً خلقناكم وهذا حجة وعبرة؛ لأنه لا أحد غير الله يدعي أنه خلق ((هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ))[فاطر:3]؟! يعني: هل تعرفون أحداً ادعى أنه خلق؟ أبداً ما هناك أحد أصلاً ادعى، وإنما الخالق هو الله سبحانه وتعالى، وقصة إبراهيم مع النمرود : ((إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ))[البقرة:258] أيش يحيي ويميت؟

قال: آتي باثنين قد استحقوا القتل فأعفو عن واحد وأقتل الثاني، هذا خداع لغوي ليس إحياء وإماتة؛ لأن إبراهيم كان يقصد الإحياء بمعنى جعل الحياة في المادة الجامدة، بدلاً من أن يكون هذا جماداً أو تراباً يتحول إلى إنسان يتحرك وينطق، هذا لا يملكه إلا الله الواحد الأحد؛ ولهذا قال: (أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ) خلقناكم، ما هناك أحد غير الله خلق، وأيضاً (مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ)، ((خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ))[الطارق:6].

وهنا قد يكون المقصود ماء الرجل، مع أن الإنسان مخلوق من ماء الرجل ومن بويضة المرأة معاً كما في السنة النبوية: (إذا علا ماء الرجل أذكرا بإذن الله، وإذا علا ماء المرأة أنث بإذن الله)، وكما قال في الآية الأخرى سبحانه، قال: ((إِنَّا خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ))[الإنسان:2] (أمشاج) أي: أخلاط، فهي مخلوطة من ماء الذكر وماء الأنثى، من حيوان الرجل وبويضة المرأة.

ولا مانع أن يكون المقصود بالماء المهين الأمرين معاً: ((أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ))[المرسلات:20] والإشارة بأنه مهين يعني: حقير مستقذر عند الناس لا قيمة له ولا وزن له، وهذا يعطي أن قيمة الإنسان من حيث أصل الخلق ما هناك شيء يؤهلك لميزة؛ ولهذا لما قال ربنا سبحانه: ((أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ))[المعارج:38] يعني: من الكفار ((أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ))[المعارج:38] كل واحد ينتظر جنة، قال الله سبحانه وتعالى: ((كَلَّا إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ))[المعارج:39] الحاجة التي هم خبروها وعلموها هذه الحاجة ما تؤهلهم أنه كل واحد منهم ينزل عليه ملك خاص كما كانوا ينتظرون، ولا تؤهلهم أن يدخلوا الجنة أيضاً كما يأملون، فأصل الخلقة وإن لم يكن شيئاً قذراً -يعني: ليس نجساً على القول الصحيح، أن الماء ليس نجساً على القول المختار - لكن هو مهين، يعني: زهيد يسير لا قيمة له في ذاته؛ ولذلك لا يُؤهل الإنسان لشيء مما يتوقعه، ومع ذلك هذا فيه أعظم العبرة، أنه كيف يخلق الله تعالى من هذا الماء المهين إنساناً قوياً جلداً، يسمع ويرى ويبصر ويفكر ويعقل ويتحرك، وعنده قدرات هائلة وعظيمة جداً، حتى إنه يبني ويعمر، بل يصل الحال به إلى حد التحدي والرفض والإصرار والتكبر حتى على ربه عز وجل، فهو يقول هنا: ((أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ))[المرسلات:20] هذا هو الواقع، ولا يستطيع أحد منهم أن ينكر هذه الحقيقة التي تجبهه تصدمه وجهاً لوجه، ولأن هذه حقيقة مؤكدة قررها ربنا سبحانه مع أنها بصيغة الاستفهام (أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ) يعني: كأنه قال خلقناكم من ماء مهين.

معنى قوله تعالى (فجعلناه في قرار مكين إلى قدر معلوم)

عقب بقوله: ((فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَكِينٍ))[المرسلات:21] يعني: هذا الماء ((فِي قَرَارٍ مَكِينٍ))[المرسلات:21]، ما هو القرار المكين؟! رحم المرأة. استقروا به ما شاء الله تسعة أشهر أو ما دون ذلك، وقرار مكين يعني: ثابت محكم متمكن مع ضعفه.

والغريب أن هذا الرحم يقول العلماء: إنه خلال فترة الحمل يكبر بنسبة أربع وعشرين مرة عن حجمه الطبيعي، حتى يستوعب هذا الجنين الذي هو عالق بجداره كقطعة لحم أو مضغة صغيرة لا ترى ثم ترى قليلاً ثم تكبر، حتى إذا وضعت المرأة رجع هذا القرار المكين -الرحم- إلى حجمه الطبيعي، حكمة لله سبحانه وتعالى، كل الناس مروا بهذا حتى الرسل والأنبياء عليهم الصلاة والسلام إلا من ذكر الله: ((إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ))[آل عمران:59].

((فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَكِينٍ * إِلَى قَدَرٍ مَعْلُومٍ))[المرسلات:21-22]، والأقرب أن القدر المعلوم هو: قدر نزول هذا الحمل إن كان تاماً أو ناقصاً، فهذا هو القدر الذي حدده الله سبحانه وتعالى .

معنى قوله تعالى (فقدرنا فنعم القادرون)

قال: ((فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ))[المرسلات:23].

(قَدَرْنَا) أي: كان الله تعالى قادراً، فهو قدير وقادر لا يُعجزه شيء؛ ولهذا قال: (فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ) هذا إشارة إلى الخلق والاحتجاج عليهم بالخلق الذي لا يقدر عليه إلا الله، قال: (فَقَدَرْنَا) يعني: وحدنا (فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ) وهذا إشارة إلى التضخيم والتفخيم، فإن الله تعالى هو العظيم، قد يعبر بلفظ نحن، كما في قوله: ((إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ))[يس:12]، فهذا التعبير تعبير العظيم المعظم لنفسه والذي يعظمه خلقه، فهنا قال: (فَقَدَرْنَا)، وفي القراءة الأخرى -وهي سبعية-: (فَقَدَّرْنَا)، وهذا معنى صحيح، والمقصود هنا ((وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا))[الفرقان:2]، يعني: قدره أنه يكون نطفةً ثم علقةً ثم مضغةً ثم.. إلى أن يصل إلى كماله الإنساني، على هذا قال: ((فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ))[المرسلات:23]، وبعضهم يقول: لو كانت (فَقَدَّرْنَا) كان يقول: (فَنِعْمَ المُقَدِّرون)، فنقول: لا حرج في ذلك؛ فإن اللغة العربية قد يُجمع فيها بين معنيين مختلفين، كما في قوله سبحانه: ((فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا))[الطارق:17]، ما قال: (فأمهل الكافرين أمهلهم رويدا) قال: ((فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا))[الطارق:17]، فلا مانع إذاً أن يكون ((فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ))[المرسلات:23].

معنى قوله تعالى (ويل يومئذ للمكذبين)

((وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ))[المرسلات:24] الذين تقوم عليهم هذه الحجة في أنفسهم، ويرون خلق الله سبحانه وتعالى، ويتذكرون طفولتهم ويتذكرون ما قبل الطفولة ثم يُكَذِّبون ويتنكرون.

إشراقات في قوله تعالى: (ألم نجعل الأرض كفاتاً أحياءً وأمواتاً ...)

ثم يقول سبحانه: ((أَلَمْ نَجْعَلِ))[المرسلات:25] هذا سؤال جديد، لاحظ الحصار، ملاحقة للإنسان بمجموعة من الموضوعات والأسئلة التي تهزه هزاً، انتهينا من الإنسان، الآن انتقل الأمر إلى الأرض التي تحتك: ((أَلَمْ نَجْعَلِ الأَرْضَ كِفَاتًا * أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا))[المرسلات:25-26]، والكفت هو: الضم والجمع، وهذا موجود عندنا في اللغة العامية، إذا كان مع الإنسان حقيبة أو شنطة وتعطيه شيئاً تقول له: اكفته، يعني: ضعه في هذه الشنطة -مثلاً- أو في هذا الوعاء، فكذلك هو في اللغة هكذا ((أَلَمْ نَجْعَلِ الأَرْضَ كِفَاتًا))[المرسلات:25] أي: مكاناً للكفت، ((أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا))[المرسلات:26] يعني: أنتم في حال حياتكم الأرض تؤويكم بيوت وغرف، وأحياناً بدروم تحت الأرض وحفريات ومدن تحت الأرض يقيمها الناس يستقرون بها من أذى الحر والقر ومن عيون الفضول إلى غير ذلك، فتكون مستقراً لهم بهذا المعنى.

(وَأَمْوَاتاً) أي: يُدفنون فيها بعد موتهم، وهذا دليل على دفن الأموات ووجوبه ، فيُدفنون فيها.

فالله تعالى جعل الأرض (كفاتاً) مكاناً يُكفت ويُدفن فيه الناس أمواتاً، ويستمتعون به ويقيمون عليه أحياءً، وهي تصبر عليهم هذه الأرض، كما يسميها بعضهم الأم:

وقالت لي الأَرض لما سألت             أيا أم هل تكرهين البشر

قالت أبارك في الناس أهل الطموح             ومن يستلذ ركوب الخطر

إذاً: هذه الأرض صبورة علينا لما سخرها الله تعالى، وإلا فكم من الناس من يظلم ومن يطغى ومن يبغي ومن يعتدي ومن يسرق ومن ينهب ومن يبني فيبالغ في البناء، ومع ذلك هذه الأرض مذللة ((هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ ذَلُولًا))[الملك:15].

((أَلَمْ نَجْعَلِ الأَرْضَ كِفَاتًا * أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا))[المرسلات:25-26]، بلى.

معنى قوله تعالى (وجعلنا فيها رواسي شامخات وأسقيناكم ماء فراتاً)

ثم قال: ((وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ شَامِخَاتٍ))[المرسلات:27]

الجبال راسية وترسو بها الأرض لأنها أوتاد: ((وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا))[النبأ:7] تثبت الأرض، وكذلك شامخة، يعني: رفيعة جداً، مثلما يقال: (شمخ فلان بأنفه) يعني: إذا ارتفع وتكبر، فالرواسي (شَامِخَاتٍ): يعني: مرتفعة.

ثم قال: ((وَأَسْقَيْنَاكُمْ مَاءً فُرَاتًا))[المرسلات:27]

الفرات هو: العذب، ((وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ))[فاطر:12]، ومنه سُمي نهر الفرات؛ لأنه عذب والأنهار عذبة.

مناسبة الامتنان بالماء الفرات بعد ذكر الرواسي

وهنا سؤال: ما علاقة (مَاءً فُرَاتاً) بالرواسي الشامخات؟

العلاقة أن الأنهار والمياه العذبة التي يستفيد منها الناس ويشربون تأتي من الجبال، الينابيع والعيون التي تراها في معظم بلاد الله سبحانه وتعالى تجدها عبارة عن مساقط المياه وعن الأمطار التي تنزل على الجبال ثم تتحول إلى ينابيع أو إلى أنهار وتجد فيها من الحلاوة والطرافة والبرودة والصفاء الشيء العظيم، حتى إنه في كثير من البلاد يختارون لها أسماء جميلة، مثلاً: نبع العسل أو اللبن أو ما أشبه ذلك من الألفاظ الجميلة المعبرة عن صفاء هذا الماء وجودته، وكذلك الأنهار، مثلاً: نهر النيل ، الفرات ، وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (سيحان و جيحان و الفرات أنها من أنهار الجنة)، والحديث في البخاري .

طبعاً: يقيناً ليس المقصود أنها تنبع من الجنة؛ لأن هذا أمر يعلم بالحس؛ لأنه ليس مقصود النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وإنما يحتمل أن يكون المقصود إما الإشارة إلى طيبها وجودتها وأنها تأتي بالري والخير والبركة والخصب والنماء، فتبعث الحياة في البلاد التي هي فيها، كما نجده في العراق و مصر وغيرها، ودائماً إخواننا المصريون أحياناً يقولون: ( مصر هبة النيل ) يعني: هي هبة من الله سبحانه وتعالى، لكن إشارة إلى أثر هذا النهر الجاري في طيب البلاد وطيب أرضها وزرعها.

وإما أن يكون المقصود أنها من أنهار الجنة باعتبار الأصل، وهذا لا يمنع أن يكون الله تعالى جعل شيئاً مما في الجنة في هذه الدنيا له أثرٌ يُحس والله تبارك وتعالى أعلم، المهم هذا مما أنعم الله تعالى به: ((وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ شَامِخَاتٍ وَأَسْقَيْنَاكُمْ مَاءً فُرَاتًا))[المرسلات:27].

معنى قوله تعالى (ويل يومئذ للمكذبين)

قال: ((وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ))[المرسلات:28] يعني: الذين يمشون على الأرض ويستمتعون بها ويُسخِّرون الجبال ويشربون المياه، ثم يكفرون نعمة الله تبارك وتعالى ولا يؤمنون به، توعدهم بالويل ((وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ))[المرسلات:28] .

إشراقات في قوله تعالى: (انطلقوا إلى ما كنتم به تكذبون ...)

يقول سبحانه وتعالى ضمن خطابه للمجرمين المكذبين: ((انطَلِقُوا إِلَى مَا كُنتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ))[المرسلات:29] في سورة المرسلات.

(انطَلِقُوا) والأمر بالانطلاق يوحي بأنهم كانوا في ضيق وشدة، ثم انطلقوا منه، فالانطلاق عادة هو الضرب في الأرض كما في قصة موسى و الخضر ، فانطلق الخضر ، ((فَانطَلَقَا))[الكهف:71] فإذا قيل للإنسان: انطلق، فكأنه أمام فسحة وخيار، بينما في هذا السياق الأمر بالانطلاق فيه سخرية وفيه تهكم مثل قوله سبحانه: ((فَبَشِّرْهُمْ))[آل عمران:21]، عندما يقول: (فَبَشِّرْهُمْ) يحس الإنسان بأن الأمر بشارة، لكن بعد ذلك يكون هناك صدمة حينما يسمع: ((فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ))[آل عمران:21].

فهنا يقول: (انطَلِقُوا) وهو أمر فيه قسر وقهر وغلبة وتسخير من الله سبحانه وتعالى، فهو أمر لا خيار لهم إلا أن ينفذوه، فينطلقون، ينطلقون إلى ماذا؟ ينطلقون إلى ظل.

والظل أيضاً بالنسبة لهم مراد؛ لأنهم كانوا في حر الشمس كما هو معروف في موقف الحساب، (تدنو الشمس من رءوس الخلائق ويلجمهم العرق، فمنهم من يكون العرق إلى حقويه، ومنهم من يكون إلى ساقيه، ومنهم من يكون إلى أنصاف أذنيه). إلى غير ذلك.

فهم يبحثون عن الظل، يبحثون عن الراحة، فيقال لهم: ((انطَلِقُوا إِلَى مَا كُنتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ))[المرسلات:29].

معنى قوله تعالى (ظل ذي ثلاث شعب)

.

((انطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ))[المرسلات:30].. هذا أيضاً تهكم آخر، إنه ظل ولكن ليس كظل المؤمنين، هو ظل خاص بهؤلاء، ظل دخان جهنم.

((ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ))[المرسلات:30]، وقد قال كثير من أئمة السلف: إن هذا الظل هو من النار، هو من سرادق النار كما في قوله سبحانه: ((إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا))[الكهف:29].

وقال بعضهم: إن هذا الظل هو النار ذاتها، فالنار قد تسمى ظلاً أو ظلة كما في قوله: ((لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ))[الزمر:16]، لكن الأقرب أن هذا الظل شيء يسبق النار، فهو كالتمهيد وكالمقدمة، ولهذا قال سبحانه في سورة الواقعة: ((هَذَا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ))[الواقعة:56]، نزل، والعادة أن العرب يسمون ما يقدم للضيف في بداية دخوله، يسمونه: (نزلاً) هذه مقدمة الضيافة كما يسمونها بلغة العصر الحاضر: مقبلات، مشهيات، هذه مقدمات، ليس هذا كل ما هنالك، لا، هنالك ما هو أشد وأنكى، هذه فقط هي المقدمات.

فهو هنا يقول: ((انطَلِقُوا إِلَى مَا كُنتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ))[المرسلات:29]، وانظر كيف طوى الله تعالى الدنيا كلها، وأصبحنا في موقف الآخرة، فالأمر يشاهد بالعيان؛ وذلك لأن طريقة القرآن في تقرير هذه المعاني، معاني العقيدة ومعاني الآخرة تنقسم إلى قسمين:

طريقة القرآن في تقرير معاني العقيدة والآخرة

القسم الأول: مخاطبة العقل بإقامة الحجج، والله تعالى حينما خلق العقل خلقه ليكون شاهداً للإنسان ومرشداً ومصباحاً يضيء له، فالنظر في ملكوت السموات والأرض والأفلاك والأملاك والنجوم وخلق الإنسان والأحوال، هذا كله خطاب للعقل ليؤمن ويعتبر، لكن هناك أيضاً خطاب آخر، خطاب للروح، خطاب للقلب، خطاب للضمير، خطاب للعاطفة؛ لأن الناس ليس كل كفرهم سببه وجود شبهات عندهم، هناك أحياناً الغفلة، هناك اللامبالاة عند بعض الناس، فهذه يمكن إزالتها من خلال صعقات توجه إلى قلب الإنسان فتهزه هزاً، فهو عندما يقول: (انطَلِقُوا) القارئ يشعر بأنه انتقل من عالم الشهادة إلى عالم الغيب، ومن الدنيا إلى الآخرة، وأنه يشاهد الأمر بعينيه، وأنه قد يكون من ضمن الذين يوجه إليهم الخطاب أيضاً، فيقال لهم: (( انطَلِقُوا إِلَى مَا كُنتُمْ )).

إذاً: الأمر كان تعبيراً عن أمر مضى، (كنتم) يعني: في الدنيا، أما الآن فنحن في الآخرة ((كُنتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ)).

لطيفة في التنصيص على العدد ثلاثة

((انطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ))[المرسلات:30]، وقد تأملت في قوله سبحانه: (ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ) وسر التنصيص على ثلاث على وجه الخصوص، فعلمت أنه لا بد أن يكون وراء ذلك حكمة، وسر في تخصيص ثلاث شعب، فوجدت أن الأقرب والله تعالى أعلم أن هذه الثلاث أولى وأقرب ما يكون لها أن تكون درجات ومنازل ورتب بحسب كفر الكافرين، كما أنك تجد في شأن المؤمنين أن الله تعالى جعل لهم درجات بعضها فوق بعض في الجنة كما في قوله: ((فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ))[فاطر:32]، كذلك بالنسبة للكافرين هم أيضاً دركات بحسب كفرهم، وهذا روي عن بعض السلف.

درجات وأجزاء ظل المجرمين

ومن جميل ما يمكن فهمه هنا أن قوله سبحانه: ((ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ))[المرسلات:30] يفسره ما بعده، فيكون الظل جزءاً منه، هو ظل غير ظليل: (لا ظليل)، وعادة العرب إذا كان الظل جيداً والهواء نقياً قالوا: هذا ظل ظليل، يعني: جميل ومناسب جداً، بخلاف ما إذا كان الظل محفوفاً بالشمس والحرارة فهو لا ينفع ولا يغني، مثل وقت الظهيرة والشمس اللافحة والرمضاء الحارة فيتركون الظل لأنه لا ينفع مع حر الشمس، فهذا ليس ظلاً ظليلا، وإنما الظل الظليل هو الظل الوارف الجميل الذي فيه هواء عليل وهو ظل أهل الجنة ((وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا))[النساء:57]، أما هذا الظل فالقسم الأول منه ظل غير ظليل لا ينفع ولا يدفع، فهذه درجة.

وأشد منه الدرجة التي بعدها، ظل آخر ينطلقون إليه أيضا أو ينطلق إليه بعضهم، وهو ((وَلا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ))[المرسلات:31] هذه شعبة أخرى، فهذا الظل الآخر يأتيهم فيه لهب النار، فلا يغنيهم -يعني: لا ينفعهم- من اللهب ولا يقيهم منه، فهم قريبون من النار بحيث اللهب يلفحهم أو يصيبهم حره على أقل تقدير.

أما القسم الثالث فهو الظل الذي يكون أقرب إلى النار، حتى إن شرر النار يغشاهم ويصل إليهم وهم في الظل؛ ولهذا قال سبحانه: ((إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ))[المرسلات:32].

معنى قوله تعالى (إنها ترمي بشرر كالقصر)

(إِنَّهَا) ما هي؟ أكيد النار، لكن هل هي مذكورة في السياق؟ ليست مذكورة، وإنما أعاد الضمير إليها في قوله (إِنَّهَا) لأنها حاضرة في الأذهان، فالسياق جهّز المؤمن ليكون كأنه في الموقف ذاته وكأنه يرى النار ويسمع زفيرها ويجد لهيبها، فلا حاجة -إذاً- إلى تسميتها ولا إلى ذكرها، يكفي الإشارة إليها بالضمير (إِنَّهَا تَرْمِي)، لاحظ هنا الشرر: (تَرْمِي بِشَرَرٍ)، الشرر جمع مفرده: شررة، والشرار جمع أيضاً مفرده: شرارة.

الشرارة الكل يعرفها، يعني: قطعة صغيرة من النار تنطلق منها وسرعان ما تحترق هذه الشرارة لأنها انفصلت عن الأم، أما هنا فهذه النار الأمر فيها مختلف، (إِنَّهَا تَرْمِي) ترمي كأنها تتعمد وتتقصد أن تدفع إليهم بشواظ من لهب ومن شرر يصل إلى هؤلاء، هذا الشرر شرر ((كَالْقَصْرِ * كَأَنَّهُ جِمَالَةٌ صُفْرٌ))[المرسلات:32-33] شرر (كَالْقَصْرِ)، القصر الأقرب -وهو قول الجمهور من المفسرين-: أن المقصود بالقصر: القصور والحصون والمباني المعروفة، فتكون الشرارة حينما تنطلق كأنها القصر العظيم من ضخامتها وهولها ثم تتفرق هذه الشرارة أيضاً؛ لأنه إذا كان الظل (ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ) فلا غرو أن تكون الشرارةُ أيضاً تتفتت وتتقسم بعدما تنطلق، فبدايتها تكون كالقصر ثم تتوزع فيكون القسم منها ((كَأَنَّهُ جِمَالَةٌ صُفْرٌ))[المرسلات:33].

معنى قوله تعالى (كأنه جمالة صفر)

والجمالة هي الجمال، هي الإبل أو النوق، والصفر: ذات اللون الأصفر وهو معروف، وذلك لأن الشرر في الغالب يكون أصفر لما فيه من اللهب، وبعض المفسرين يقولون: إن الأصفر هنا هو المائل إلى السواد، وذلك لما فيه من النار، ولا مانع أن يكون الشرر أصفر ويكون فيه سفعة من السواد لقرينة خروجه من النار.

إذاً: هذا بعض شرر النار، ولاشك أن هذا الشرر يأتيهم وهم في الظل الذي لهم، ذي الثلاث شعب، وإلا فلو كانوا داخل النار لم يكن معنى لوعيدهم بالشرر؛ لأن الشرر يخرج من النار، وإنما يتوعدون بما يكون لهم في ذاتها وفي داخلها.

فهذا يرجح -والله أعلم- أن هذا الشرر يصلهم وهم في الظل الذي أمروا أن ينطلقوا إليه.

إذاً: هذا معنى وهذا احتمال.

قول في المراد بالظل ذي الثلاث شعب

ويحتمل أن يكون قوله سبحانه: ((انطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ))[المرسلات:30] أن تكون هذه الشُعب كما نقل عن مجاهد رحمه الله -وحسبك به أيضاً في التفسير- أنه كان يقول: (ثَلاثِ شُعَبٍ) واحدة فوق رأسه وأخرى عن يمينه وثالثه عن شماله. فعلى هذا التفسير يكون المقصود بالشعب ليست شعباً لعامة المعذبين، وإنما كل واحدٍ منهم له ثلاث شعب تخصه هو من الشرر أو من الظل، وهذا يشبه قوله تعالى: ((وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلا يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ))[التوبة:34-35]، فالله تعالى يتوعدهم بهذا الظل الذي هو فقط مقدمة لما بعده من العذاب.

الأقوال في المراد بالقصر

((إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ))[المرسلات:32]، وفي موضوع القصر أيضاً الجمهور -كما ذكرت- يقولون: القصر هو البناء ، ولكن ذكر البخاري في صحيحه عن ابن عباس أنه فسر القصر بأنها أطراف الخشب التي تقطع وترمى، وتكون بالذراع والذراعين والمتر والمترين، وتُتخذ، ترمى في الصيف من أجل أن يوقد بها في الشتاء، فتسمى قصراً، وهذا أحد الاحتمالات.

وقيل: إنها أطراف النخيل.

وقيل: إنها النحاس، ولكن المعنى الأول هو الأصوب والأقرب، أن المقصود بالقصر المعنى المتبادر للذهن، وهو واحد القصور.

دلالة تشبيه شرر النار بالقصر

سبحان ربي! لماذا شبه الشرر بالقصر؟!

ربما نلتمس من المعاني أن هؤلاء الناس كانوا في الدنيا منعمين يسكنون القصور المشيدة الفخمة، ويأكلون الطيبات من الأطعمة ويستمتعون بالحياة الدنيا، فكان في ذلك تشبيه وإمعان في التهكم بهم فيما يُعذبون به في الدار الآخرة، وكذلك قوله: ((كَأَنَّهُ جِمَالَةٌ صُفْرٌ))[المرسلات:33] ؛ لأنه ربما كانوا يستمتعون أيضاً بألوان من المراكب في الدنيا مما يسكنون ومما يركبون، فكان التشبيه له علاقة بما كانوا يتمتعون به في الدنيا، وكأن المعنى: ماذا أغنت عنهم دنياهم؟!

معنى قوله تعالى (ويل يومئذ للمكذبين)

ثم عقب بقوله: ((وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ))[المرسلات:34]، و(وَيْلٌ) هنا تختلف عما قبلها وتختلف عما بعدها، يعني: هذا الموقف الذي تشاهدونه الآن هو نوع من الويل، هو نوع من العذاب للمكذبين، فيقال لهم: هذا ما كنتم به تكذبون، أصبح الأمر عياناً لا مجال للجدل ولا للتكذيب.

إشراقات في قوله تعالى: (هذا يوم لا ينطقون ...)

ثم يقول ربنا سبحانه وقد ظهر في السياق الغضب والمقت لهؤلاء المعاندين المعرضين: (هَذَا)، لاحظ، ماذا يسمي علماء اللغة كلمة (هَذَا)؟ اسم إشارة، والإشارة عادة تكون لماذا؟ لأمر مشاهد يرى بالعيان، أليس كذلك؟

نعم، الله سبحانه وتعالى يقول: (هَذَا) يعني: هذا اليوم ((هَذَا يَوْمُ لا يَنطِقُونَ * وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ))[المرسلات:35-36].

((هَذَا يَوْمُ لا يَنطِقُونَ))[المرسلات:35] فيه، وفي قراءة: ((هَذَا يَوْمَ لا يَنطِقُون)) فتكون ظرفاً، أو تكون خبراً للمبتدأ (يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ)، فقوله سبحانه: ((هَذَا يَوْمُ لا يَنطِقُونَ))[المرسلات:35] إشارة إلى يوم الفصل.

الأقوال في الجمع بين الآية وآيات إثبات كلام الكفرة يوم القيامة

وبناء عليه يأتي سؤال: أن الله تعالى ذكر في مواضع أخرى من القرآن الكريم أنهم ينطقون ويتكلمون ((وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ))[الأنعام:23]، ويعتذرون إلى ربهم ويقولون: ((فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا))[السجدة:12] .. ((أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ))[فاطر:37] إلى غير ذلك مما كانوا يقولونه في الآخرة، فكيف يجمع بين هذه الآية وبين تلك الآيات؟ وقد سأل نافع بن الأزرق ابن عباس رضي الله عنه عن هذا السؤال؟

والجواب على هذا أن يقال:

إما أن المعنى أنهم لا ينطقون أي: لا يقولون كلاماً له قيمة، فكلامهم هذر لا ينفع ولا يسمن ولا يغني من جوع ولا يدفع عنهم عذاباً؛ لأنه كلام باطل ولغو زائف، وهذا قول الحسن البصري أن معنى قوله: ((لا يَنطِقُونَ))[المرسلات:35] أي: لا يقولون قولاً نافعاً مفيداً.

المعنى الثاني: أن يكون المقصود حالاً دون حال، وهذا جواب ابن عباس رضي الله عنه، يعني أن يوم القيامة طوله كم؟ هو -وإن كان سماه الله تعالى يوماً- إلا أن طوله مقداره خمسون ألف سنة، هذا اليوم خمسون ألف سنة من سنوات الدنيا، إذاً: هذا هو يوم القيامة، هذا بحد ذاته يوم القيامة، فما بالك بما بعده من الجنة أو النار؟!

إذاً: خمسون ألف سنة ليست كلها شيئاً واحداً، وإنما فيها أحوال تختلف وتتغير، فأحياناً يتجادلون، وأحياناً ((يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ))[سبأ:31]، وأحياناً يسكتون، وأحياناً يُبلسون، وأحياناً يتكلمون.. إلى غير ذلك.

والقول الثالث -وهو متفرع عن الثاني، ولكنه أدق منه وهو أقرب-: أن يكون المقصود بقوله: ((هَذَا يَوْمُ لا يَنطِقُونَ))[المرسلات:35] حينما يقال لهم: (انْطَلِقُوا)، يعني: يكون المقصود وقتاً خاصاً، وهو حينما يقال لهم: ((انطَلِقُوا إِلَى مَا كُنتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ * انطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ))[المرسلات:29-30]، في ذلك الموقف لا ينطقون ولا يستطيعون ولا يحيرون جواباً ولا يمتنعون من شيء، فينطلقون بالقدر والأمر الإلهي الرباني من غير إرادتهم، ولا يتكلمون، بل ختم الله تعالى على أفواههم وعلى ألسنتهم فلا يتكلمون؛ ولهذا قال: ((هَذَا يَوْمُ لا يَنطِقُونَ))[المرسلات:35].

معنى قوله تعالى (ولا يؤذن لهم فيعتذرون)

ثم قال: ((وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ))[المرسلات:36] هل عندهم عذر حتى يُؤذن لهم؟

ليس عندهم عذر، لكن الله سبحانه وتعالى قال: (لا يُؤْذَنُ لَهُمْ) يعني: لا يؤذن لهم في الكلام أصلاً، إشارة إلى أن ذلك الموقف موقف فيه رعب: ((يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لا يَتَكَلَّمُونَ))[النبأ:38]، فإذا كان جبريل والملائكة والرسل لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن بإذنه؛ فكيف بمثل هؤلاء المجرمين المكذبين؟

هم أيضاً لا يتكلمون أصلاً ولا يؤذن لهم في الكلام، ولا أحد يتكلم إلا بإذن الله تعالى، فلا يؤذن لهم ((وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ))[المرسلات:36]، وهنا لم يقل: (فيعتذروا) كما قال: ((لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا))[فاطر:36] لا، قال: (فَيَعْتَذِرُونَ) لأن المقصود في السياق (ولا يعتذرون): هذا يوم لا ينطقون ولا يعتذرون، وإنما جاء الإذن اطراداً واتباعاً للإشارة إلى أنه لا يتكلم أحد إلا بإذن الله، ولو تكلموا واعتذروا فكيف كانوا يعتذرون؟!

ربما كان أكثر ما يعتذرون به ما كانوا يرددونه في الدنيا، مثلاً: سيعتذرون بالقضاء والقدر، ويقولون: يا رب! عصينا بعلمك وبإذنك، ولو شئت ما أشركنا.

وهذا ليس بعذر، هذا كلام لا طائل تحته؛ لأنهم كانوا يعرفون ويدركون في الدنيا كما يدري كل أحد من عقلاء الناس -حتى لو لم يكن عنده فهم أو علم- يدري أن له إرادة خاصة هي التي يحاسب عليها، فالإنسان حينما ينطلق إلى طاعة ينطلق بإرادته ورغبته، وحينما ينطلق إلى معصية ينطلق بإرادته ورغبته، وتُسيره في الدنيا هذه الإرادة فيما يأكل ويشرب ويتزوج ويسافر ويتوظف ويركب ويقول ويعمل، فهو يشعر بإرادة ضرورية هي جزء من كينونة الإنسان في هذه الدنيا، فبعيداً عن الجدل الفلسفي والكلام والقيل والقال في موضوع القضاء والقدر، إلا أن هذه الإرادة الضرورية التي يحس بها كل إنسان هذه هي التي بموجبها يُحاسب ويُعاقب ويُثاب الطائع أيضاً.

إذاً: هذا من الحجج التي ربما كان بعضهم يحتجون بها في الدنيا، فيوم القيامة لا يؤذن لهم فيعتذرون، وفي مواقف أخرى الله سبحانه وتعالى يمنعهم من الكلام، ويسمح لأعضائهم أن تنطق فتتكلم بما كانوا يعملون في الدنيا من خير أو شر: ((الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ))[يس:65] فالأيدي والأرجل بل وحتى الألسن، الألسن تتكلم ليس الكلام المعتاد الذي يخرج من الحلق ويُعبر عن البدن، وإنما يتكلم اللسان كقطعة أو مضغة، فيُعبر عما قال من باطل أو لغو أو غير ذلك.

فهم في ذلك الموقف لا ينطقون ولا يؤذن لهم فيعتذرون.

معنى قوله تعالى (ويل يومئذ للمكذبين)

((وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ))[المرسلات:37] إذاً: هذا هو اليوم، والويل هنا كأنه محدد -والله تبارك وتعالى أعلم- بشدة ما يعانونه من هول الموقف ومن عجزهم حتى عن النطق وعن الاعتذار، يعني: الإنسان في الدنيا ممكن أن يعتذر عن خطأ، ليس بمعنى أن يُبين لنفسه عذراً، ولكن أن يقول: أنا أخطأت وزللت، وهذا جعل الله تعالى للعبد مجالاً فيه، فالإنسان في الدنيا عنده باب التوبة، والله سبحانه وتعالى (يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل) ، (وإن للتوبة باباً قبل المغرب مسيرة سبعين عاماً لا يغلق حتى تطلع الشمس من مغربها)، (والله تعالى يقبل توبة العبد ما لم يغرغر) ما لم تبلغ الروح الحلقوم.

فهذه أيام الدنيا كلها فيها مجال للنطق وفيها مجال للاعتذار، ولو أن الواحد منهم قبل أن يموت بدقيقة واحدة ندم وقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وهو في زمن الإمهال وفي زمن الإمكان ينفعه ذلك أو لا ينفعه؟

ينفعه؛ (يقبل توبة العبد ما لم يغرغر)، وقد دخل الجنة رجل لم يسجد لله تعالى سجدة، وسحرة فرعون ((قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى))[طه:70]، فقضى عليهم، ومع ذلك الله تعالى قبل منهم، أما في ذلك الموقف فالأمر قد انتهى؛ ولهذا قال: ((هَذَا يَوْمُ لا يَنطِقُونَ * وَلا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ))[المرسلات:35-36]، يعني: كما كان مأذوناً لهم في الدنيا أن ينطقوا وأن يتوبوا وأن يعتذروا إلى ربهم إلى آخر لحظة، فاتت الفرصة إذاً ((وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ))[المرسلات:37].

إشراقات في قوله تعالى: (هذا يوم الفصل جمعناكم والأولين ...)

(هَذَا) أيضاً نرجع إلى اسم الإشارة مرة أخرى، فأنت الآن ترى أمراً عياناً تشاهده بعينيك، ((هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْنَاكُمْ وَالأَوَّلِينَ))[المرسلات:38] الفصل بين الناس، الفصل في الخصومات، الفصل في بيان الحق من الباطل، في الدنيا يكثر الجدل والقيل والقال، الجدل بين المسلمين والمؤمنين وبين الكافرين، وهو جدل عظيم ((قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ * أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ))[ص:67-68]، هناك خصام كبير في الدنيا وهناك جدل بين الناس حتى من الطائفة الواحدة، هناك جدل بين المؤمنين وجدل بين العلماء وجدل بين الطلبة وجدل بين الأزواج وجدل في أمور الدين وجدل في أمور العلم وجدل في أمور الدنيا، فالله سبحانه وتعالى يقول: ((هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ))[المرسلات:38] إزالة اللبس والوهم عن كل قضية ووضوح الأمر.

دلالة الآية على التحريض على الصدق في الدنيا

حقيقة لما يقول: ((هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ))[المرسلات:38] هذا فيه تحريض للإنسان أن يكون صادقاً في الدنيا؛ لماذا؟ لأن ربنا سبحانه ((قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ))[المائدة:119]، الصادقون ينتفعون بيوم الفصل، ينفعهم الصدق، لكن الإنسان الذي يجادل بالباطل ((وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ))[غافر:5] يوم الفصل يكون داحض الحجة عند ربه سبحانه؛ لأنه طالما جادل بالكلام الفارغ والسفسطة كما يسمونها وتصفيف الكلام الذي لا يسمن ولا يغني من جوع؛ ولهذا يقول ربنا سبحانه: ((بَلِ الإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ* وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ))[القيامة:14-15]، لو أن الإنسان كان مع الناس كما يكون مع نفسه في الوضوح والصدق ومواجهة النفس مباشرة، لما يكون الإنسان -مثلاً- في موقف معين -مناظرة- لا يحب أن يفشل ويُخفق أمام الناس فيقال: فلان غُلب، ولذلك ربما يُصر على الباطل وربما يصمم على قول وقد تبيّن له خطأ هذا القول أو عيبه، بينما كان الأئمة السابقون لا يجد الواحد منهم حرجاً، كما كان الشافعي رضي الله عنه يقول: [والله ما ناظرت أحداً إلا تمنيت أن يُظهر الله الحق على لسانه].

ويقول: [ما ناظرت أحداً فباليت أن يظهر الحق عنده أو عندي أو أن يكون الحق معه أو معي].

لم تكن القضية قضية انتفاش ولا غلبة ولا تسلط ولا ترفع أو تكبر، لا، كانت القضية دينونة للبحث عن الحجة والصواب.

ما أندر وأقل هذا! الناس دائماً مولعون بالجدل والقيل والقال، والنبي صلى الله عليه وسلم -كما في الصحيح- (نهى عن قيل وقال)، الأغلوطات.

((هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ))[المرسلات:38]، لما تقرأ كلمة (يوم الفصل) هنا تشعر بأن الأمر يتعلق بالديانة ويتعلق بالإيمان، فلا يجدر بمن يؤمن بأن ثمت يوماً للفصل أن يقف مع قضية ظالمة أو كاذبة أو خاسرة، بل أن يكون دائماً في جانب الحق والصواب وإن كلّفه ذلك، وليس المهم إلا أن يكون ما بينك وبين الله سالكاً وقائماً:

فليت الذي بيني وبينك عامر                         وبيني وبين العالمين خراب

إذا صح منك الود فالكل هين                         وكل الذي فوق التراب تراب

جهة الخطاب بقوله تعالى (جمعناكم والأولين)

((هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْنَاكُمْ وَالأَوَّلِينَ))[المرسلات:38] لاحظ أن الخطاب هنا ((جَمَعْنَاكُمْ وَالأَوَّلِينَ))[المرسلات:38]، إذاً: الخطاب هنا ليس للأولين، وإنما خطاب لمن؟ للآخرين ((أَلَمْ نُهْلِكِ الأَوَّلِينَ * ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الآخِرِينَ))[المرسلات:16-17] الآخرون هلكوا الآن وجمعوا ((قُلْ إِنَّ الأَوَّلِينَ وَالآخِرِينَ * لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ))[الواقعة:49-50]، فالله تعالى يُخاطب كفار قريش ومن بلغه هذا الخطاب أيضاً فيقول: هذا يوم الفصل جمعناكم أنتم وجمعنا معكم الأولين قوم نوح، وقوم إبراهيم و هود و شعيب و صالح وغيرهم.

طيب! والأولون لا يُخاطبون؟!

بلى يُخاطب الأولون أيضاً بأنهم جمعوا وجُمعت معهم أمم الأرض كلها، ولكن في ذلك إشارة إلى أن الحجة على الإنسان تقوم بالأولين أكثر مما تقوم بالآخرين، يعني: الإنسان يعتبر بما سلف وما مضى وما رأى وما سمع، سواء رآه بعينه أو سمعه بأذنه مما قامت به الحجة، أما الأشياء التي لم تقع بعد بالنسبة له فقد يعتذر بأنه لم يطلع عليها ولم يعلم بها.

إذاً: قوله سبحانه: ((جَمَعْنَاكُمْ وَالأَوَّلِينَ))[المرسلات:38] هذا خطاب لمن نزل عليهم هذا الكتاب، ولكن هذا لا يمنع أبداً من أن يكون الخطاب في عمومه للأولين والآخرين.

معنى قوله تعالى (فإن كان لكم كيد فكيدون)

((فَإِنْ كَانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ))[المرسلات:39] سبحان الله! خطاب مرعب؛ لأن الله سبحانه وتعالى القدير الذي بيده كل شيء، وفي ذلك الموقف، يعني: في الدنيا قد يقول قائل مثلما قال فرعون : ((مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي))[القصص:38]، وقد يقول آخر: ((نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ))[الجاثية:24]، وقد يقول ثالث: ((مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ))[المائدة:19]، والله تعالى يُمهلهم ويُعطيهم ويصبر عليهم، لكن في الدار الآخرة الأمر مختلف، فقد أصبحت الأمور ترى بالعيان، فكيف تتخيل وتتصور في ذلك الموقف الذي كل واحد منهم منفصل عن الآخر ما يتعزز بالكثرة، يعني: في الدنيا ربما اجتماعهم يقويهم، مثلما كانت تقول الخنساء لما مات أخوها:

ولولا كثرة الباكين حولي                         على إخوانهم لقتلت نفسي

في ذلك الموقف لا ينفع أحد عن أحد، ولا يُغني أحد عن أحد، ولا يُخفف عنه من العذاب أن يرى من حوله أبداً، وأيضاً الواحد منهم غير قادر حتى على مجرد الكلام أن يكلم من هو إلى جواره، والسر في ذلك الموقف كالعلن، وربنا سبحانه بعدما يأمرهم بالانطلاق إلى ذلك الظل من الدخان الحارق، وبعدما يوبخهم ويعاتبهم ويُبين عن حالهم في ذلك الموقف، وبعدما يقول لهم: إذا كنتم لم تعلموا؛ لأنه ربما أحد منهم خرج من القبر وهو مذهول مصدوم، مثلما قال الله سبحانه وتعالى: ((قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا))[يس:52] ما هي القصة؟ ((هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ))[يس:52]، فهنا ربنا سبحانه يقول في ذلك الموقف: ((هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْنَاكُمْ وَالأَوَّلِينَ * فَإِنْ كَانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ))[المرسلات:38-39] أين هم من الكيد والواحد منهم عاجز حتى عن أن ينبس بكلمة وقد يبس ريقه وتقلصت شفتاه ورجف قلبه؟! ((وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ))[غافر:18] أين القلوب؟ القلوب في الأصل في الصدور ((تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ))[الحج:46]، لكن في ذلك الموقف ((إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلا شَفِيعٍ يُطَاعُ * يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ))[غافر:18-19]، فالله تعالى يقول لهم: ((فَإِنْ كَانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ))[المرسلات:39]، عندكم قدرة تستطيعون أن تتخلصوا من العذاب أو تحتالوا كما كنتم تفعلون في الدنيا؟! طبعاً: هم لا يستطيعون وهذا تعجيز لهم.

الإشارة إلى كيد المجرمين في الدنيا

لكن أيضاً السياق فيه إشارة إلى أنهم كانوا في الدنيا يكيدون؛ ولهذا قال سبحانه: ((إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا * وَأَكِيدُ كَيْدًا * فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا))[الطارق:16-17]، ففي ذلك الموقف يقال: هاتوا كيدكم. والأقرب أن هذا كلام الله تعالى لهم، وهذا أوقع في النفوس وأشد عليهم، ((فَإِنْ كَانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ))[المرسلات:39] كما كنتم تفعلون في الدنيا (فَكِيدُونِ)، وما أكثر ما كانوا يكيدون في الدنيا، حتى إني أقرأ اليوم في الجريدة يقول: إن بعض المختبرات الأمريكية تسعى إلى صناعة قنبلة شاذة، هذه القنبلة يرمونها على أعدائهم فتُثير عوامل شذوذ بيولوجي في نفس أو في جسد الذي يتعاطاها، حتى يصبح عنده ميل إلى الذكور ويتحول إلى إنسان مثلي، هكذا يحاولون، بحيث تدمر الجوانب الإنسانية والمعنوية في نفوس الجنود.

((وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ))[إبراهيم:46]، تزول منه الجبال، وربما زالت بالمكر جبال عن أماكنها.

الكيد السياسي والعسكري والاقتصادي والاجتماعي والإعلامي، الكيد هناك أجهزة مخصصة له ومؤسسات تسمى الاستخبارات أو تسمى غير ذلك من الأسماء الأمنية وحقيقتها الكيد، فالله تعالى يقول لهم في ذلك الموقف: ((فَإِنْ كَانَ لَكُمْ كَيْدٌ))[المرسلات:39] فهاتوه، هذا يوم الفصل ((فَإِنْ كَانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ))[المرسلات:39] وهيهات!

وقد يجوز -كما قال بعض المفسرين- أن يكون هذا من كلام الرسل أو كلام الرسول صلى الله عليه وسلم، كما قال هود : ((فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ))[هود:55]، ((فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلا تُنْظِرُونِ))[يونس:71]، وإنما الأقرب والأصوب أن يكون هذا من كلام الله عز وجل، يقول: ((فَإِنْ كَانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ * وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ))[المرسلات:39-40] ليسوا في مقام الكيد بل هم في مقام الويل، هم يعانون العذاب وما ينتظرهم أشد.

إشراقات في قوله تعالى: (إن المتقين في ظلال وعيون ...)

ثم بعدما وصل الأمر إلى ذروته طويت صفحة وانتقل السياق إلى صفحة أخرى: ((إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلالٍ وَعُيُونٍ))[المرسلات:41]، فذكر الله تعالى الصورة الأخرى، وهذه المقابلة في القرآن الكريم دائمة، بل قد تكون مطردة، أن الله تعالى إذا ذكر أهل النار ذكر أهل الجنة، وقد يُقدم هؤلاء أو يُقدم هؤلاء بحسب السياق، فهنا قال سبحانه: ((إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلالٍ وَعُيُونٍ))[المرسلات:41] والمقصود بالتقوى هو أول شيء أنهم اتقوا الكفر بالإيمان؛ لأن السياق كله سياق توبيخ وتقريع للمكذبين والمجرمين.

إذاً: أعظم التقوى ما هو؟ أعظم التقوى الإيمان بالله سبحانه وتعالى، هذا أعظم التقوى، ولكن الإيمان له ثمرة وهي العبادة كما سوف يأتي.

فالله تعالى هنا يقول: ((إِنَّ الْمُتَّقِينَ))[المرسلات:41] اتقوا الكفر والتكذيب بالتصديق والإيمان، واتقوا فروع المعاصي، كما كان يقول عبد الله بن المبارك :

خل الذنوب صغيرها                         وكبيرها ذاك التقى

واصنع كماش فوق أرض             الشوك يحذر ما يرى

لا تحقرن صغيرة            إن الجبال من الحصى

وقد سئل أبو هريرة رضي الله عنه عن التقوى فقال: [هل مررت بواد ذي شوك؟ قال: نعم. قال: ماذا صنعت؟ قال: رفعت ثوبي وشمرت] -يعني: أبحث وأنظر في موضع قدمي- [قال: فذلك التقوى].

((إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلالٍ))[المرسلات:41] لكنها ليست كظلال أولئك القوم ((انطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ * لا ظَلِيلٍ وَلا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ))[المرسلات:30-31]، هي ظلال حقيقية قبل الجنة في ظل عرش الله يوم القيامة، وفي الحديث المتفق عليه (سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله -يعني هذا قبل دخول الجنة- إمام عادل، وشاب نشأ في طاعة الله، ورجل قلبه معلق بالمساجد، ورجلان تحابا في الله، ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله، ورجل تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما أنفقت يمينه، ورجل ذكر الله تعالى خالياً ففاضت عيناه).

هذا نموذج، ومن وعدهم الله تعالى بالظل الظليل خلقٌ كثير، وقد أحصاهم بعض أهل العلم كما ذكر الحافظ ابن حجر وغيره، فالمتقون كلهم في ظلال وإن تفاوت ظلالهم إلا أنهم جميعاً في ظلال وظلال طيبة؛ ولهذا جمعه، إذا كان الأولون المجرمون في (ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ)، ظل واحد ولكنه ذو ثلاث شعب؛ فالمؤمنون قال الله تعالى: إنهم (فِي ظِلالٍ)، والظلال جمع ومفرده: ظل، إشارة إلى أن ظلال المؤمنين أكثر وأعظم وأوسع، فقال: (إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلالٍ) ومع الظلال عيون يشربون منها، والماء البارد قرين الظل، وهذا يكون قبل الجنة ويكون في الجنة أيضاً.

معنى قوله تعالى (وفواكه مما يشتهون)

ولهذا قال سبحانه: ((وَفَوَاكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ))[المرسلات:42]، الفواكه كل ما يُتفكه به، ربما يبدو في نظر السامع أن المقصود بالفواكه ألوان الفاكهة في الدنيا، فالناس يسمون -مثلاً- البرتقال أو الرمان أو التفاح أو الطلع والطلح أو الموز أو ما أشبهه يسمونها فواكه، وهي فواكه وهي من المقصود في الآخرة، لكن هيهات ما بين فواكه الجنة وفواكه الدنيا، فليس في الجنة مما في الدنيا إلا الأسماء كما يقول ابن عباس، وإلا فالطعم مختلف والحجم مختلف والأمر مختلفٌ جدا، ولكن قُرِّب لهم ليفهموه، ولكن السياق أيضاً لما يقول: (وَفَوَاكِهَ) ليس المقصود بهذا فقط، وإنما كل ما يتفكهون به من الأصوات الجميلة من المناظر الجميلة، وأعظم ذلك التمتع بالنظر إلى وجه الله الكريم في جنة عدن، وهذا أعظم نعيم لهم؛ لأن النظر إلى جمال الدنيا في الخضرة أو المياه شيء يبهر النفوس، فكيف بالنظر إلى وجه الله الكريم العظيم الجميل الجليل في هذه الجنة؟ هذا أعظم النعيم.

قال: ((وَفَوَاكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ))[المرسلات:42] يعني: كل ما يشتهونه وكل ما يخطر لهم على بال بل وما لا يخطر لهم على بال.

ومع ذلك مع هذه المتع كلها يسمعون من ربهم الرضوان: (أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعده أبداً)، وهذا أيضاً من أطيب النعيم.

معنى قوله تعالى (كلوا واشربوا هنيئاً بما كنتم تعملون)

ولهذا قال: ((كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ))[المرسلات:43]، ولم يقل لهم هذا إلا لرضاه عنهم، وما أعطاهم الذي أعطاهم إلا لرضاه عنهم سبحانه، فيقول لهم: ((كُلُوا وَاشْرَبُوا))[المرسلات:43]، كما يقال لأولئك القوم: ((انطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ))[المرسلات:30] يقال لهؤلاء القوم: ((كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا))[المرسلات:43]، لاحظ مع الأكل والشرب الأمر بذلك إشارة بأنه هنيء، يعني: لا يخالطه تخمة ولا مرض ولا مغص ولا عجز ولا ضعف ولا فتور ولا عيب من العيوب التي تلحق متع الدنيا، فإن متع الدنيا محفوفة بأشياء كثيرة تنقصها وتنغصها وتفضح نعيم الدنيا، ومن ذلك أن هذا النعيم قد يتحول إلى مرض إلى تخمة، وحاجة الإنسان الضرورية التي لابد له من قضائها، أما في الجنة فالجنة منزّهة عن ذلك كله، فهي دارٌ طيبة ((هَنِيئًا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ))[المرسلات:43]، وهذا من أعظم المتعة أيضا لما يستمتعون بهذا كله: ظل ظليل وماء بارد وشراب طيب ويسمعون قولاً من ربٍ رحيم، والله تعالى يثني عليهم ويقول لهم: إن هذا بما كنتم تعملون، ليس هذا عوضاً عن عملهم، هو فضل الله تعالى، ولكن بسبب أعمالهم تأهلوا لرحمة الله، فالباء هنا ليست باء المعاوضة المحضة، وإنما هي للإشارة إلى أن ذلك كان بسبب ما عملوه ((بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ))[المرسلات:43].

معنى قوله تعالى (إنا كذلك نجزي المحسنين)

((إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنينَ))[المرسلات:44]، الله سبحانه وتعالى كذلك يجزي المحسنين، هنا تلاحظ قوله سبحانه: (كَذَلِكَ) يعني: مثل هذا الجزاء، إذاً: هناك جزاء آخر يعني (كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ)، رأينا الآن الظلال والعيون والفواكه والكلام الطيب يقال لهم من فوقهم: ((كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ))[المرسلات:43]، ثم ربنا سبحانه وتعالى يقول: ((إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنينَ))[المرسلات:44] يعني: مثل هذا الجزاء نجزيه المحسنين، طبعاً يجوز أن يكون المعنى هذا جزاء المحسنين. ولكن فيه زيادة الكاف ((إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنينَ))[المرسلات:44]، لم يقل: إن ذلك نجزي المحسنين، لا، فيه كاف، كاف التشبيه ((إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنينَ))[المرسلات:44]، يعني: نجزيهم هذا ونجزيهم غيره مما هو مثله، فإن نعيم الجنة لا يتناهى، ولهم فيها الخلد أبداً، ولهم فيها كما قال ربنا سبحانه: ((فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ))[السجدة:17] يعني: مهما وُصف نعيم الجنة لا تحيط به العقول ولا تدركه النفوس: ((فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ))[السجدة:17]، يقول الله تعالى: (أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر)، وأيضاً فيه إشارة -والله أعلم- إلى ما جوزوا به في الدنيا، يعني: هذا نهاية الجزاء، وفيه إشارة إلى ما جوزوا به في الدنيا، فالله تعالى عجّل لهم في الدنيا بعض جزائهم من النعيم وقرة العين والراحة والسرور الذي وجدوه في عاجل هذه الحياة واستمتعوا به، فهم استمتعوا بالطعام والشراب والنساء والملابس والمساكن، واستمتعوا فوق ذلك كله بشعورهم بأنه حلال بَلال من الله سبحانه وتعالى، واستمتعوا أيضاً بعبادة الله وطاعته وذكره والأنس به سبحانه، حتى قال قائلهم: (إنهم في عيشة لو علم بها الملوك لجالدوهم عليها بالسيوف)

وقال الإمام ابن تيمية رحمه الله: (إنه لتمر بالقلب ساعات يرقص القلب فيها طرباً، حتى إني أقول: إن كان أهل الجنة في مثل ما أنا فيه الآن فهم في عيش طيب، عيش القلوب، سعادة القلب، المتعة بالمعرفة، المتعة بالعلم، المتعة بالشعور بالقرب من الله سبحانه وتعالى، المتعة بمناجاته ومخاطبته وسؤاله، المتعة بالصبر، المتعة بالانتصار، المتعة بالإنجاز والعمل الذي يحققه الإنسان في الدنيا، هذا كله من النعيم.

((وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ))[يوسف:22] قد ذكر الله تعالى هذه الآية في قصة يوسف عليه الصلاة والسلام: ((وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ))[يوسف:22].

إذاً: يجزي الله المحسنين في الجنة ويجزي الله المحسنين في الدنيا.

معنى قوله تعالى (ويل يومئذ للمكذبين)

وبالمقابل ((وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ))[المرسلات:45] يعني: الذين يكذبون بهذا النعيم لهم الويل، والويل هنا هو حرمانهم من هذا النعيم الذي تلقاه المؤمنون، وأن يكون بدله ليس الفناء عندهم والزوال، وإنما العذاب الأبدي السرمدي.

إشراقات في قوله تعالى: (كلوا وتمتعوا قليلاً إنكم مجرمون)

ثم قال سبحانه: ((كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلًا إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ))[المرسلات:46] رجع الخطاب الآن للمكذبين، الله تعالى يقول لهم: ((كُلُوا وَتَمَتَّعُوا))[المرسلات:46] لاحظ المتقين في جنات وظلال وعيون وفواكه ويقال لهم: ((كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا))[المرسلات:43]، المشركون يقال لهم: ((كُلُوا وَتَمَتَّعُوا))[المرسلات:46] أين؟ في الدنيا، إذاً: هذا فيه إشارة إلى أن من أسباب تكذيبهم وإجرامهم تعلقهم المفرط بالدنيا، وإيثارهم الدنيا على الآخرة؛ ولهذا قال سبحانه: ((بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا* وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى))[الأعلى:16-17]، وقال: ((الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ))[إبراهيم:3]، فلما قال: ((كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلًا))[المرسلات:46] أشار إلى أن هذا الأكل والشرب والتمتع الدنيوي كان من أسباب تكذيبهم وكفرهم، وفي ذلك إشارة أيضاً إلى أنهم ربما وجدوا في الدنيا بعض المتعة وبعض الراحة، وهذا ليس مستغرباً، فالكافر قد يتمتع في الدنيا بطيب الطعام والشراب، وقد يجد بعض السعادة في قلبه، لا يمنع هذا فرحمة أرحم الراحمين وسعت عباده؛ ولهذا قال سبحانه هنا: ((كُلُوا وَتَمَتَّعُوا))[المرسلات:46] فأثبت لهم نوعاً من التمتع، والتمتع ليس فقط بعمل الأكل أو عمل الشرب، وإنما التمتع بالتلذذ بهذه الأشياء، فهم تلذذوا في الدنيا لكنها لذات قليلة لأنها تفنى ويعقبها ما هو شر وأطول وأهون؛ ولهذا قال: (قَلِيلاً)، ومما يدل على أنه يتمتعون بالدنيا قوله سبحانه: ((إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا))[الانشقاق:13] يعني: في الدنيا، فكان عندهم سرور.

بعض الإخوة يستغرب أنه كيف الكفار نراهم في مناسباتهم وسياحاتهم وأعيادهم وحفلاتهم يركضون ويتضاحكون ويأكلون ويستمتعون ويملئون أشداقهم بالضحك ويقهقهون، وربما يبدو عليهم آثار السعادة، فنقول: وإن كان ذلك كذلك هو قليل ((كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلًا))[المرسلات:46]، وهو أيضاً بالنسبة لهم جنة؛ لأنهم بعدها منقولون إلى العذاب، فالدنيا سجن المؤمن لأنها تحول بينه وبين رضوان الله تعالى والجنة، فإذا مات انتقل إلى الدار الآخرة وإلى الجنة، وهي جنة الكافر بالقياس إلى ما ينتظره عند الله تعالى من النكال والعذاب، فينبغي أن يُفهم هذا الإطار فهماً معتدلاً وتجمع نصوصه، لا يفهم الإنسان آية وينسى الآيات الأخرى التي توضح وتبيّن هذا المعنى؛ ولهذا قال سبحانه: ((كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلًا))[المرسلات:46] والدنيا كلها متاع قليل، ((لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ * مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ))[آل عمران:196-197]، وقال سبحانه: ((قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا))[النساء:77]، ثم قال: ((كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلًا إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ))[المرسلات:46]

الكلام هنا قيل لهم بعدما ذكر الله تعالى مصيرهم في الآخرة والنار والظلل، إذاً: هؤلاء الذين يقال لهم في الدنيا ((كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلًا إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ))[المرسلات:46] هم الذين كتب الله عليهم أن يموتوا كافرين، كتب الله عليهم أن يختم لهم بالكفر، فيقال لهم وهم في الدنيا: ((كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلًا إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ))[المرسلات:46]، مثلما قال الله سبحانه وتعالى: ((تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ))[المسد:1] وهو حي؛ لماذا؟ ((سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ))[المسد:3]، علم الله أنه يموت على الكفر؛ ولهذا لم يخصص منهم في هذا السياق أحد، وترك الله تعالى الباب مفتوحاً لهم، باب التوبة: ((قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ))[الأنفال:38]، ((عُذْرًا أَوْ نُذْرًا))[المرسلات:6] كما قال في أول السورة، الله تعالى قد أعذرهم وأنذرهم ((كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلًا إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ * وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ))[المرسلات:46-47]

إشراقات في قوله تعالى: (وإذا قيل لهم اركعوا لا يركعون)

ثم قال سبحانه: ((وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ))[المرسلات:48] هذه الآية القول الأقرب للصواب فيها -وهو الذي عليه جمهور المفسرين- أن المقصود الكفار في الدنيا إذا قيل لهم اركعوا يأبون الركوع، والمقصود بالركوع عند الجمهور -أيضاً- الصلاة كلها فقد يُعبر عن الصلاة ببعض أجزائها كما هو معروف، وهذا دليل على أن الإيمان الذي ذكرناه قبل قليل والتقوى التي ذكرناها قبل قليل: ((إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ))[الحجر:45]، وإن كان يُقصد بها تقوى التكذيب والكفر بالإيمان والتصديق إلا أن هذا لابد أن يكون معه عمل، الركوع ما هو؟ عمل، فلابد من تصديق دعوى الإيمان بوجود العمل الصالح، ومنه -بل من أعظمه- الركوع، فهؤلاء القوم وصفهم بالمكذبين -والتكذيب عمل قلبي- ثم قال: ((وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ))[المرسلات:48] أي: عندهم رفضٌ أيضاً للانصياع والعبادة لله سبحانه وتعالى، طبعاً الركوع يُعبّر به عن السجود أيضاً، وهذه فائدة، يعني: قد يقول في القرآن: (اركعوا) ويقصد به: اركعوا واسجدوا، فإذا لم يخص السجود فهو يدخل في الركوع، فهنا ((وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا))[المرسلات:48] يعني: اركعوا واسجدوا، وكان بعض قبائل العرب قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: إنه غير لائق أننا نركع ونسجد، الواحد منا يضع جبهته في الأرض وعجيزته تعلو على رأسه! فهذا ما يليق بنا. كأنهم لم يتذوقوا هذا المعنى، لماذا؟ لجفاف قلوبهم وجهالتهم وكبريائهم العمياء، وإلا لو أن الإنسان عرف معنى الركوع والسجود، وأنه ذل لله سبحانه وتعالى، وأنه هو الذي يحفظ للإنسان إنسانيته فيكون عبداً لله؛ فبذلك يعظم الإنسان:

ومما زادني شرفاً وتيهاً             وكدت بأخمصي أطأ الثريا

دخولي تحت قولك يا عبادي             وأن صيرت أحمد لي نبياً

فيفخر الإنسان ويتعاظم بالسجود والركوع لله سبحانه وتعالى؛ ولهذا لا يركع لغيره ولا يسجد لغيره أبداً، والسبابة التي تشهد أن لا إله إلا الله لا يمكن أن تشهد بالباطل، فهذا يحفظ إنسانية الإنسان وكرامته، وفي الوقت ذاته يحقق له تواضعه لله سبحانه وتعالى وذُلّه بين يديه، فجعل الله تعالى المتقين الراكعين الساجدين يتميزون بذلك، أما أولئك القوم فإنهم إذا قيل لهم في الدنيا: اركعوا لا يركعون؛ ولذلك كبرت نفوسهم وتضخمت وآذتهم، كما تجده اليوم عند كثير ممن رفضوا العبادة والسجود لله فذلوا لغيره، ذلوا لشهواتهم أو لأهوائهم أو لمصالحهم أو للدرهم والدينار أو لفلان وفلان.

فإذا انفلت الإنسان من العبودية الحقة لله أصبح عبداً للدنيا، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (تعس عبد الدرهم، تعس عبد الدينار، تعس عبد القطيفة، تعس عبد الخميصة، تعس وانتكس وإذا شيك فلا انتقش).

((وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ))[المرسلات:48] ويجوز أن يكون المعنى: في الآخرة، أن الناس يؤمرون بالسجود فيسجد المؤمنون، وأما الكافر والمنافق فيريد أن يسجد فيكون ظهره طبقاً واحداً ولا يستطيع أن يسجد، فيكون هذا هو المعنى، وقد نُقل هذا عن ابن عباس .

معنى قوله تعالى (ويل يومئذ للمكذبين)

قال سبحانه: ((وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ))[المرسلات:49] يعني: الذين ((إِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ))[المرسلات:48].

إشراقات في قوله تعالى: (فبأي حديث بعده يؤمنون)

ثم ختم الله تعالى السورة بقوله -وهو قول يهز القلوب-: ((فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ))[المرسلات:50]؟

والفاء هذه يعبر عنها العلماء بأنها الفاء الفصيحة، يعني: أنها طوت كلاماً، والمعنى: فإذا لم يؤمنوا بهذا القرآن ((فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ))[المرسلات:50]، هم مكذبون ومجرمون كما حكى عنهم، فالله تعالى هنا يقول: أُقيمت عليهم الحجج في السماوات والأرض والنفس والدنيا والآخرة، وخوطبت عقولهم وخوطبت قلوبهم وهُز وجدانهم وأقيمت عليهم الحجج، ومع ذلك لم ينتفعوا ((فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ))[المرسلات:50] أي: بعد القرآن ((يُؤْمِنُونَ))[المرسلات:50]، أي: لا يؤمنون بحديثٍ بعده. وهذا في الواقع حجة علينا كلنا جميعاً، أن الإنسان إذا لم ينتفع بالقرآن وبمواعظ القرآن وبعبر القرآن وبعلم القرآن؛ فبأي علمٍ أو كتابٍ بعده يعتبر وينتفع؟!

علينا -ونحن نقرأ القرآن- أن نتذكر هذه الآية الكريمة العظيمة دائماً ((فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ))[المرسلات:50]، وأن هذه الآية تُلزمنا جميعاً أن نحرص على أن نُقبل على القرآن بعقولنا وقلوبنا وأفهامنا، وأن نتدبره ونبحث عن حقائقه ومعانيه، ونعرض قلوبنا وأعمالنا على هذا الكتاب العظيم.