سقوط الخونة من السماء
وائل قنديل
ليس أكثر مدعاةً للسعادة من مشاهدة الامبراطورية الأميركية المتغطرسة تنكسر، وخصوصًا في واحدةٍ من المناطق التي مارست فيها أبشع أنواع الظلم والإرهاب والإهانة للشعوب والأوطان.
كما لا يمكن بحال من الأحوال المصادرة على حق جمهور "طالبان" في المنطقة العربية وخارجها من نصب المهرجانات وإقامة الاحتفالات بالانتصار على "الشيطان الأكبر"، وشفاء صدور القوم المؤمنين بأن "طالبان" انتصرت على أميركا وطردتها شر طردة من الأراضي الأفغانية، في عملية عسكرية خاطفة وسلسة للغاية، وسريعة جدًا، فرّ من أمامها الرئيس المدعوم، والمصنوع أميركيًا ونظامه، وانتهت بقوات التحرير الطالبانية في صالة الألعاب الرياضية بقصر الرئاسة، من دون مقاومةٍ تذكر.
ولن يقلل من قيمة ذلك الحدث التاريخي المزلزل وأهميته أن الخطوة الأولى فيه بدأت باتفاق وصف بالتاريخي قبل 18 شهرًا بالتمام والكمال، بين قوات التحرير (طالبان) وقوات الغزو والاحتلال (واشنطن) تم بموجبه تنظيم عملية انسحاب القوات الأميركية من الأراضي الأفغانية، والدخول في مفاوضاتٍ مباشرة بين الطرفين.
صحيحٌ لم نشاهد اشتباكًا عسكريًا أو كرًا وفرًا بين قوات طالبان والقوات الأميركية، إلا أن ذلك لا يقلل من قيمة الانتصار الذي حقّقته الحركة، والذي تجلّى في فرار قوات النظام الحاكم، المصنوع والمفروض من واشنطن، أمام تقدّمها السهل في المدن والمناطق الأفغانية، تطويها وتلتهمها واحدًة وراء الأخرى، وتمضغها وكأنها أطباقٌ من البطاطا الساخنة، على نحو أكّد المؤكد وأثبت المثبت من تمتع قوات "طالبان" بقدرات ومهارات، وقبل ذلك عزيمة قتالية مثيرة للإعجاب والإشادة.
لن يغير من الأمر هنا أن مشروع "طالبان" الجهادي، أو التحرّري، إن شئت أن تعتبره كذلك، هو أيضًا تشكل وتكون وتمدد برعاية أميركية في القرن الماضي، عندما كان المطلوب تصنيع قوة تحارب الاحتلال السوفييتي الأحمر، وأن العلاقة بقيت جيدة حتى وقع زلزال الحادي عشر من سبتمبر/ أيلول 2001، ووجد السيد فرانكشتاين الأميركي نفسه يكتوي بنار ذلك الكائن الخرافي العجيب الذي أوجده وتعهده بالرعاية، فقرّر أن يشن حربًا شاملة عليه انتهت باحتلال الأراضي الأفغانية، وتصنيع نظام حكم لها، وفقًا للمعايير والمواصفات الأميركية.
ذلك كله لا يطعن في جدارة ما أنجزته حركة طالبان (الجديدة) وأهميته، ولا يخدش من روعة اللحظة التاريخية الفريدة التي لم يشأ الرئيس الأميركي (الجديد أيضًا) أن يفوّتها من دون إضفاء مزيد من الإثارة عليها، بقوله إن أفغانستان مقبرة الغزاة، و"طالبان" لا قبل لأحد بتفوقها القتالي.
لا بأس، كذلك، من استدعاء اندحار أميركا في فيتنام في القرن الماضي، ووضع سايغون أمام كابول، ولا مفرّ من إظهار البهجة بسقوط النظرية الأميركية القائمة على إمكانية استيلاد أنظمة حكم، وفقًا لهندستها الخاصة، وإرضاعها صناعيًا، والاطمئنان على أنها قادرة على الحياة والنمو، مشكلةً النموذج الذي لا يصلح غيره لإدارة العالم الثالث.
هذا أمرٌ مفروغٌ منه، ولا يجادل فيه اثنان، غير أنه لا يمنع من طرح الأسئلة والتفكير في مفردات المشهد الحالي بشكل كامل، وخصوصًا عندما يكون أول إجراءٍ يتخذه الطرف المفترض أنه انهزم وطرد من البلاد، أعني الاحتلال الأميركي، هو إرسال مزيد من قواته المسلحة إلى الأراضي الأفغانية التي دانت لطالبان.
لا يمكن، كذلك، لصاحب عقل أو ضمير أن يتجاهل ردة الفعل الأولى لآلاف من جماهير الشعب الأفغاني، الذي من المفترض في هذه اللحظة أنه شعبٌ تحرّر وانتصر على الاحتلال، إذ كان أول ما بادرت إليه هذه الجموع هو التدفق على المطار، أملًا في إمكانية النجاة من الوطن المحرّر.
هذه الصورة لا يكفي أمامها أن يوصف أصحابها بأنهم عملاء وخونة للوطن، ولا يطيقون الحرية، ففي ذلك منتهى الامتهان لمعنى الوطن، والإساءة لمفهوم الحرية، إذ أن المقطوع به في تاريخ حركات التحرّر الوطني أنه عندما يتحرّر الوطن لا يكون أول ما يفكر فيه المواطن هو البحث عن مهربٍ وملجأ خارجي، بل يحدُث العكس بعودة المهجّرين قسرًا والمهاجرين طوعًا إليه.
الوطن المحرّر، في ميزان العقل والروح، ليس المكان الذي يخيفنا فنندفع في هستيريا للتعلق بأجنحة ومحرّكات طائرة أجنبية تنطلق تمهيدًا للإقلاع، فنسقط من ارتفاع شاهق فوق أرضه، كما أن حرية الوطن ليست ذلك الشيء الذي يحدُث فيكون أول ما يفكر فيه بعضنا هو الفرار إلى المجهول.
من هنا يصبح باعثًا على الأسى أن يوصف الأفغان الذين هرعوا إلى مطار كابول بحثًا عن ملجأ في الخارج بأنهم خونة لوطنهم، ويكتسي هذا الأسى بشيءٍ من التقزّز عندما لا يأتي هذا الوصف، أو الاتهام بالخيانة، من قيادات "طالبان" الأفغانية المنتصرة، بل يتقافز بسهولة عجيبة على ألسنة من يمكن تسميتهم الطالبانيين العرب، الذين يتعاطون مع المشهد الراهن بعقلية جماهير كرة القدم المتعصبة لفرقها، إلى الحد الذي ترمي فيه كل مختلف في قراءاته واستنتاجاته للمشهد بأنه ضد التحرر وضد الاستقلال، فيما يصل بعضهم إلى اتهامه بالأمركة ومعاداة المشروع الإسلامي.
يصدمك أكثر عندما تتردّد أوصاف العمالة والخيانة بحق الجماهير الأفغانية الباحثة عن مهرب وملجأ، من أفراد ومجموعاتٍ ذاقوا مرارة لحظة مماثلة في أوطانهم التي سيطر عليها من يمتلكون القوة الباطشة، فمارسوا إقصاءً وتطهيرًا واجتثاثًا لمن يعارضهم، ويتصدّى لانقلاباتهم واستيلائهم على السلطة بقوة السلاح، ثم وصفوا كل من نجا من توحشهم بأنه خائن وعميل، هرب من وطنه وباع نفسه للخارج.
بالطبع، ثمّة فوارق كثيرة بين اللحظة الطالبانية الراهنة في أفغانستان ولحظات انهزام الربيع العربي أمام الثورات المضادّة والانقلابات، إلا أن هناك ما يجمعهما، ففي الحالين هناك طرفان امتلكا القوة المادية لفرض إرادته وبسط سيطرته على كل شيء، حتى وإن كانت "طالبان" تجد فيما قامت به غطاء من القوة الأخلاقية، كونها تحارب نظامًا مفروضًا بقوة الغزو الاستعماري، كما أن جوهر الشعور الإنساني في اللحظتين واحد، وهو الخوف من الخطر، سواء كان هذا الخطر حقيقيًا أم متوهمًا، والبحث عن مهربٍ منه حال التأكد من عدم القدرة على مواجهته أو التعايش معه.
ولعل ذلك ما دفع قيادات "طالبان" إلى التحوّل سريعًا إلى خطاب طمأنةٍ يهدئ مخاوف الجماهير، ويبعث رسائل تحمل وعودًا بوطن يتشارك فيه الكل، يديره نظام جديد لا تهيمن عليه روح الانتقام، ولا نزعات الارتداد عن الحلم بدولةٍ عصرية، لا تضع نفسها في عداء مع العالم.
ليت السادة المنهزمين العرب يتواضعوا قليلًا، وينصتوا لجوهر رسائل المنتصر الطالباني، ولا يكونوا أكثر طالبانية منه.
ارحموا من في الأرض، ومن فرّوا إلى السماء عبورًا إلى ما يظنونه الأمان، كما فعل كثيرون غيرهم.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق