الأربعاء، 25 أغسطس 2021

رجال من التاريخ

 رجال من التاريخ



تاريخ النشر 1958

بقلم:علي الطنطاوي

كل ما في هذا الكتاب بقية من أحاديث كانت تذاع لي في دمشق قبل أكثر من خمس وثلاثين سنة.

استمرت اذاعتها أعواما تعبت في إعدادها كثيرا، واستمتع بها واستفاد منها من السامعين كثيرا، بلغت الثلاثمئة أو تزيد ضاعت فيما ضاع مما كتبت وأرجو ألا يضيع عند الله ثوابها.

كنت إذا اردت الحديث عن رجل، قرأت كل ما تصل إليه يدي مما كتب عنه وقيدت في ورقة ما أختار من أخباره وبرما بلغ ما أقرؤه عنه عشرات أو مئات الصفحات، ثم أعمد إلى خبر منها أجعله مدخلا غليها واحاول ما استطعت أن أتبع فيها أسلوبا ينأى عن جفاف السرد التاريخي ويخلص من تخيل الكاتب في القصة التاريخية، لعلي أصل على الجمع بين صدق التاريخ وجمال الأدبفأوفق حينا ويجانبيني التوفيق حينا.

وكنت كلما أعددت حديثا عن رجل من الرجال، فتح لي الباب عن الحديث على أقرانع وأمثاله، فديث صلاح الدين يجر إلى آخر عن نور الدين، وحيث عن أبي حنيفة يدفعني إلى آخر عن مالك، ولو أني اسمررت أحدث عن أبطالنا وعظمائنا خمسين سنة، في كل أسبوع حديثا وجاء مئة غيري يصنعون مثل صنعيلما نفدت احاديث هؤلاء العظماء.

إن في كتب التاريخ والأدب والرحلات والمحاضرات آلافا من سير العظماء ليست في كتب التراجم على كثرتها.

من ذلك أني كنت أتسلى بالنظر في رحلة ابن بطوطة فاستخلصت منها تراجم كثيرين منهم السلطان المسلم العادل طرمشيرين من حفدة جنكيز خان المسلمين، وكان يحكم مملكة واسعة المدى مترامية الأطراف كثيرة الجيوش واسعة الخيرات فهل سمعتم باسم طرمشيرين، وهل سمعتم بمن حكم روسية من ملوك المسلمين، وكان لهم فيها حكومة عظيمة القدر عاشت حينا من الدهر كانت تسمى دولة البلغار وكانت عاصمتها بقرب ستالينجراد.....

ولما كتب لي أن أزور الهند وأندونيسا رأيت للمسلمين فيها تاريخا ما كنت أعرفه، ولا كان مما يدرس في المدارس ولا يوجد في الكتب التي اطلعنا عليها، تاريخا ينتظر الباحث المخلص الذي يحيط به، والقلم البليغ الذي يكتبه وفي هذا الكتاب مثال صغير عليه في سيرة أورنك زيب والملك الصالح وسلطانة الهند ومن نظر في كتابي عن أندونيبسيا وقرأ قصة دخول الاسلام اليها الرأى فيها شاهاج آخر على ما أقول

الشخصيات التي وردت هي:

سيد رجال التاريخ

معلمة الرجال _السيدة عائشة

سيدة جليلة من سيدات المجتمع المسلم _أسماء بنت أبي بكر

أعظم قواد التاريخ _خالد بن الوليد

قاهر كسرى _سعد بن أبي وقاص

مأساة عالم _عروة بن الزبير العالم العامل-الحسن البصري

الخليفة الكامل –عمر بن عبد العزيز

فاتح المشرق-قتيبة بن مسلم الباهلي

من ورثة الأنبياء –سعيد بن السيب

الامام الأعظم- ابو حنيفة

أكبر ملوك الارض –هارون الرشيد

جمع الدنيا والدين-الليث بن سعد

ناصر السنة –أحمد بن حنبل

العالم النبيل –أحمد بن ابي دؤاد

الفقيه الأدميرال (قائد الأسطول وأصلها امير الماء) -أسد بن الفرات

شاعر يرثي نفسه-مالك بن الريب

سيد شعراء الحب العذري

السلطان الشهيد _نور الدين زنكي

فاتح القدس –صلاح الدين

الظاهر بيبرس

القاضي المتأنق-محمد بن بشير قاضي الأندلس

خطيب الزهراء –أبو علي القالي مؤلف الأمالي

حجة الاسلام –الامام الغزالي

بقية الخلفاء الراشدين-عالمكير أورانك زيب

الملك الصالح-مظفر بن محمود من ملوك أحمد آباد

شيخ من دمشق- العز بن عبد السلام

سلطانة الهند

مفتي السلطان سليم

الملك المظفر _أول من احتفل بالمولد

باني مراكش –يوسف بن تاشفين

شارح القاموس-الزبيدي

موسى بن نصير

الصقر الاموي

قراقوش المفترى عليه

الوزير الشاعر_محمد بن عمار وزير المعتمد بن عباد

ابو عبد الله الصغير

البرامكة

معن بن زائدة

أبو دلامة

عائشة التيموريةالشيخ طاهر الجزائري

الشيخ بدر الدين الحسيني

على الدقر

الشيخمحمود ياسين

الشيخ عزيز الخاني

الشيخ كمال الخطيب

الشيخ كامل القصاب والشيخ بهجة البيطار

الشيخ الكافي الشيخ عبد المحسن الاسطواني

حسن الحكيم

امجد الزهاوي

أنور العطار

بقية الخلفاء الراشدين

من العظماء رجال، لم يكن لهم في غير الخط مجال، صرفوا إليه هممهم كلها حتى برعوا فيه ومرنت أيديهم على صنع المعجب من آثاره وخلفوا لنا لوحات لا تقل جمالا عن أخلد الصور الفنية

ومنهم رجال ضربوا في أودية البلاغة، وسلكوا طرق البيان وصاروا أئمة القول وأعلام الكلام وتركوا لنا رسائل هي العسل المصفى وهي السحر الحلال ومنهم رجال صرموا حيواتهم في النظر في الأدلة وتخريج المسائ لحتى صاروا سادة الفقهاء وصدور العلماء ومنهم رجال كانوا ملوكا عباقرة مصلحين بنوا ممالك ووطدو دولا وفتحوا في الأرض شرعة السماء (شرعة=طريق) وكان حكمهم خيرا على الناس وبركات ومنهم رجال كانوا قوادا مظفرين كانوا جن الحروب ومردة المعامع لا يخرجون من معركة إلا إلى معركة أشد منها, ينتزعون النصر من يد الهلاك ويبنون الحياة على أشلاء الموت لايحاربون للقتل ولا للتخريب ولا للأذى ولكن ليدافعوا عن الحق والحضارة , شر من يأبى أن يقوم في الأرض صرح الحضارة وأن يرتفع فيها لواء الحق ومنهم رجال كانت عظمتهم أن كرهوا العظمة واجتووها وزهدوا في الدنيا واستصغروها وهانت عليهم بمتعها ولذاتها لما طمعوا بمتع الآخرة ولذاتها فأقبلوا على العبادة وأنسوا بالله وتجافت جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفا وطمعا يرجون رحمته ويخافون عدابه......

وهدا عظيم جمع هدا كله فكان خطاطا وكان كاتبا شاعرا وكان فقيها وكان قائدا مظفرا وكان زاهدا متعبدا..

حكم الهند كلها خمسين سنة أقام فيها العدل ونشر الأمن وقهر الطغاة الجبارين وترك آثارا على الأرض وآثارا في الحكم وآثارا في العقول...ملأ الهند مساجد ومشافي ومارستانات وملاجئ للعاجزين ومدارس للمتعلمين وسن في أساليب الحكم سنن الخير فنظم القضاء وأصلح قوانين الضرائب وترك للعلماء كتابا من أجل كتب الفقه الإسلامي...

هو السلطان عالمكير أورانك زيب ابن شاهجان بن جهانكير ابن الامبراطور أكبر حفيد تيمور لنك....

نحن الآن في الهند في القارة التي حكمناها ألف سنة، في الدنيا التي كانت لنا وحدنا وكنا نحن سادتهاولئن كانت لنا في أسبانيا أندلس فيها عشرون مليونا فلقد كان لنا ها هنا أندلس أكبر فيها اليوم أربعمئة مليون (لما نشر هدا الكلام أول مرة....انظر اليوم كم صاروا) ولئن تركنا في الأندلس من بقايا شهدائنا ودماء أبطالنا ولئن خلفنا فيها مسجد قرطبة والحمراء فإن لنا في كل شبر من هده القارة دما زكيا أرقناه وحضارة قيمة وشيت جنباتها وطرزت حواشيها بالعلم والعدل والمكرمات والبطولات، وإن لنا فيها آثارا تفوق بجمالها وجلالها الحمراء وحسبكم (تاج محل) أحمل بناء علا ظهرَ الأرض..

ولو كنتم تعرفون من تاريخ المسلمين في الهند ولو مثل القليل الدي تعرفون من تاريخهم في مصر والشام لدخلت الآن في الحديث عن أورانك زيب ولكنكم لا تعرفون مع الأسف تاريخ الهند ولا أجد بدا من أن أمهد لهدا الحديث بشيء من التاريخ...

لقد مرت بالهند أربع عهود إسلامية...عهد الفتح الإسلامي وعهد ثم عهد الفتح الأفغاني ثم عهد المماليك ثم عهد المغول

كان أول من حمل إلى الهند لواء الإسلام هو محمد بن القاسم...............

وعاد إليها لواء الإسلام مرة ثانية في القرن الرابع على يد السلطان محمود الغزنوي................

وجاء في هدا الطريق بعد أكثر من قرن السلطان شهاب الدين الغوريفوصل ما كان منقطعا وأكمل ما كان ناقصا وبلغت جيوشه دهلي.............

وقامت في الهند حكومة إسلامية قرارتها دهلي..

وبينما كان قطب الدين أيبك قائد السلطان الغوري بفتح المدن بسيفه كان السيخ معين الدين الجشتي يفتح

القلوب بدعوته فدخل الناس في الإسلام أفواجا وكان هدا الفتح أبقى وأخلد.....

وولي الملك بعد السلطان الغوري قائده قطب الدين أيبك وبدأ به عهد المماليك وكان منهم ملوك عظام

حقا منهم قطب الدين هدا بانني قطب مينار التي يقف اليوم أمام عظمتها كل سائح.............

ثم في عهد السلطان إبراهيم اللودهي سنة 933هـ جاء بابر حفيد تيمور لنك من كابل وكسر جيوش اللودهي وكانت مئة ألف باثني عشر ألفا من الجنود المغول المسلمين....وقامت بهم دولة المغول.....التي منها الملك أورانك الدي أحدثكم عنه اليوم..

زلما مات بابر وولي ابنه همايون.............................ثم ابن همايون هدا، وهو الامبراطور أكبر وكان من اعظم الملوك حكم الهند كلها إلا قليلا وطال حكمه فكفر بالله واكره الناس على الكفر وشرع لهم دينا جديدا وابطل شعائر الإسلام.

وكان معه الجيش ومعه الأمراء وكانت البلاد كلها بيده فمن يقوم في وجهه ومن ينصر الإسلام ومن يدافع عن الدين؟؟؟؟؟؟

لقد قام بهذا شيخ ضعيف الجسم قليل المال والجته والأعوان لكنه قوي الإيمان بالله كبير النفس والقلب،،هو الشيخ أحمد السرهندي....ولم يكن يطمع باصلاح الأمير ولا يجد فيه أملا فجعل يتصل بالأمراء الصغار

وبالحاشية ويعد لانقلام شامل، لا ليس انقلابا عسكريا بل لانقلاب روحي فكري وكان يرسل الرسائل تلتهب بالحماسة الدينية والعاطفة والإيمان...ولما مات أكبر وولي بعده ابنه جهان كير أي قائد الدنيا استطاع الشيخ محمد معصوم ابن الشيخ السرهندي أن يشرف على تربية طفل صغير هو أحد حفدة جهانكير....

ولم يكن هدا الطفل كبير اخوته ولا كان ولي العهد ولم يكن يؤملل له أن يلي الملك لكن الشيخ وضع في تربيته جهده وبدل له رعايته فنشأ نشأة طالب في مدرسة دينية داخلية بين المشايخ والمدرسين فقرأ القرآن وجوده والفقه الحنبلي وبرع فيه والخط واتقنه وألم بعلوم عصره وربي مع دلك على الفروسية ودروب القتال ولما مات جهانكير وولي ابه شاه جهان ولي كل من ابنائه قطرا من أقطار الهند وكان نصيب هـ>االطفل وهو (أورانك زيب) ولاية الدكن

وكان لشاه جهان زوجة لا نظير لحسنها في الحسن هي ممتاز محل فماتت فرثاها ولكن لا بقصيدة من الشعر وخلدها لكن لا بصورة ولا تمثال لقد رثاها فخلدها بقطعة فنية من الرخام.

هي تاج محل.......وتحول حبه إياها حبا لهدا القبر فجن به جنونه.................فأقصاه ابنه الأكبر

وولي مكانه فنازعه اخوته..........واستطاع أورانك زيب أن يغلبهم جميعا

كان جلوسه على سرير الملك سنة 1068هـ، وكأني بكم تظنون أن هدا الملك الدي ربي بين كتب الفقه وأوراد النقشبندية سيدخل خلوته ويعمل من قصره تكية أو مدرسة وييسيب أمور الناس، كلا يا ساده ما هده خلائق الإسلام ولا هده طريقته، انه العمل لإسعاد الناس وإقامة العدل ورفع الظلم وجهاد الكافرين المفسدين في الأرض.....

لدلك ترونه قد لبس لأمة الحرب من أول يوم وكان يومئد في الأربعين ونهض بنفسه يقضي على الخارجين ويقمع المتمردين ويفتح البلاد ويقرر العدالة والأمن في الأرض، وما زال ينتقل من معركة يخوضها إلى معركة ومن بلد يصلحه إلى بلد حتى امتد سلطانه من سفوح الهيملايا إلى سيف البحر في جنوب الهند وكان يملك الهند كلها حتى قضى شهيدا في سبيل الله في أقصى الجنوب بعيدا عن عاصمته بأكثر من 1500كيل

ومن خاض هده المعارك استنفدت وقته ولم تدع له وقتا للاصلاح في الداخل أو النظر في أمور الناس ولكن أورانك زيب حقق مع دلك من الاصلح الداخلي مالم يحققه مثله إلا قليلا من الملوك.

كان ينظر في شؤن الرعية من أدنى بلاده إلى أقصاها بمثل عين العقاب كما كان يبطش بالمفسدين بمثل كف الأسد فأسكن كل نأمة وقضى على كل بادرة اضطراب، ثم أخد بالإصلاح فأزال ما كان باقيا من الزندقة التي جاء بها أكبر أبو جده وكانت الضرائب الظالمة ترهق الناس ولا ينال أمراء المجوس لفح نارها، فأبطل منها ثمانين نوعا، وسن للضرائب سنة عادلة وأوجبها على الجميع فكان هو أول من اخدها من هؤلاء الأمراء وأصلح الطرق القديمة وشق طرقا جديدا ويكفي لتعرفوا طول الطرق في الهند أن تعرفوا أن طريقا واحدا مما كان فتحه شيرشاه السوري كان يمشي فيه المسافر ثلاثة اشهر وكانت تحفه الأشجار من الجانبين على طوله وتتعاقب فيه المساجد والخانات..

وأقام العدل للناس جميعا فلا يكبر احد ان ينفد فيه حكم القضاء وكان أول من جعل للقضاء قانونا وكان يحكم في القضاء بنفسه لا حكما كيفيا بل حكما بالمدهب الحنفي معللا ومدللا وكان للامبراطور امتيازات فألغاها وجعل نفسه تابعا للمحاكم العادية.....

ووفق إلى أمرين لم يسبقه إليهما احد:

أنه لم يكن يعطي عالما عطية إلا كلفه بعمل من تأليف او تدريس لئلا يأخد مالاا ويتكاسل فيجمع كونه أخد مالا بغير حق وكتم عما.

أنه أول من عمل على تدوين الأحكام الشرعية في كتاب واحد يتخد قانونا فوضعت له وبأمره وإشرافه وتحت نظره الفتاوى التي نسبت له فسميت الفتاوى العالمكيرية واشتهرت بالفتاوى الهندية

ألف كتابا في الحديث وشرحه وترجمه إلى الفارسية

ويكتب بخطه المصاحف ويبيعها ليعيش بثمنها، وكان شاعرا موسيقيا لكنه كره دلك بعد أن ولي الملك وابطل ما كان للشعراء والموسيقين

وكان يصلي الفرائض في أول وقتها لا يترك الجماعة بحال، ويصلي الجمعة في الجامع الكبير ولو كان غائبا عن المصر لمر من ألامور عاد للجمعة ثم يدهب حيث شاء

وكان مع دلك أية في الحزم والعزم والبراعة في فنون الحرب

كيف قدر أن يتعبد هده العبادة ويقضي بين الناس ويؤلف في العلم ويكتب المصاحف ويدبر هده القارة الهائلة ويخوض هده المعارك الهائلة

لقد كان يعيش حياة مرتبة يقسم بين دلك أوقاته

كانت بيده مفاتيح كنوز الهندوكان يأكل من كسب يمينه من كتابة المصاحف..

هذا هو الملك الذي قلت إنه بقية الخلفاء الراشدين توفي سنة 1118هـ هيدا في إحدى معاركه ,وعمره تسعون سنة بعد أن حكم الهند خمسين سنة وما رأى الناس بعده وٌلما رأو قبله مثل

رحمه الله رحمة واسعة

شاعر يرثي نفسه

لقد وعدتكم أن أضرب لكم في هذه الأحاديث بكل سهل، وأسلك كل واد، وأتحدث عن رجال الفن كما أتحدث عن رجال العلم، وأن أجيئكم مرة مع شاعر أو موسيقي، كما أجيئكم مرات مع الأئمة والقواد.

وهاأنذا آتي اليوم ومعي شاعر.

شاعر لم يغن مع الحمائم في الروض الأغنّ، ولم يَهِم مع السواقي في الوادي الضائع، ولم يدلج مع النجم في الأسحار الندية بعطر الفجر، ولم يتبع الشمس في العشايا السكرى بخمر الغروب، ولم يرقب طيف الحبيب في الليالي التي تكتم أسرار الهوى.

ولأن سابقت شاعرية الشعراء الزمان فسبقت الشباب، وظهرت بوادرها في مدارج الصبا، وملاعب الفتوة، فإن هذا الشاعر لم تنبثق شاعريته إلا على سرير الموت، وشفا المردى، على عتبة الدنيا خارجاً منها، وعتبة الآخرة داخلاً إليها.

في الساعة التي يَعيا فيها الشاعر، ويؤمن فيها الكافر، ويضعف فيها القوي، ويفتقر فيها الغني، ولم تنبثق إلا بقصيدة واحدة، ولكنها كانت نفحة من عالم الخلود فخلد فيها.

قصيدة وهبها للموت، إن تغنى له فيها، فوهب له الموت بها الحياة.

لم يتفلسف فيها تفلسف المعري، ولا تجبر تجبر المتنبي، ولا أغرب إغراب الدريدي، ولكنه جاء بأقرب الأفكار، في أسهل الألفاظ، فجاءت من هذه السهولة عظمة القصيدة.

والفنون كلها تموت يا سادة إن أكرهتها على الحياة في جو التكلف، التكلف في التفكير أو التعبير.

إن الفنون لا تحيا إلا في الانطلاق والحرية.

كل الفنون: الكتابة والشعر والتصوير والموسيقى، حتى الإلقاء، فليفهم ذلك من يظن أن الإلقاء الجيد هو التشدق والتقعر، وإمالة اللسان، وقلب الحناجر، وضخامة الأصوات... وما نسمعه كل يوم في الإذاعات.

شاعر لم يعش شاعراً، ولكنه مات شاعراً.

عاش عمره كله يغني بسنانه للحرب، لا يغني بلسانه للحب، لا يعمل لوصال الأحبة، وسلب القلوب، ولكن يعمل لقطع الطرق، وسلب القوافل.

كان لصاً من أشهر لصوص العصر، ثم تاب ومشى إلى الجهاد في جيش ابن عفان، حتى أدركته الوفاة وهو على أبواب خراسان، فرثى نفسه بهذه القصيدة، التي لا أعرف في موضوعها ((أي رثاء الشاعر نفسه)) إلا قصائد معدودة في آداب الأمم كلها.

وإنها لتختلف الألسنة والألوان، وتتبدل المذاهب والأديان، وتتباعد المنازل والبلدان، ولكن شيئاً واحداً لا يختلف بين نفس ونفس، ولا يتبدل بتبدل الأعصار والأمصار، هو العواطف البشرية، إن أناشيد المجنون لليلى أناشيد كل عاشق أينما كان، وقصة (بول وفرجيني) قصة كل شاب مغرم في كل زمان، وخطب (فيخته) هي خطب كل أمة قد هبت تبني المجد، وتعمل للحياة.

ومن هنا جاءت عظمة الأدب، وجاء خلوده، إنه ليس كالعلوم.

إن قرأ طالب الطب في كتاب ألّف قبل أربعين سنة فقط سقط في الامتحان، أما طالب الأدب فيقرأ شعراً قيل من ألف وخمسمائة سنة ولا يزال جديداً كأنه قيل اليوم، لا، لا تقولوا إن العلوم تترقى وتتقدم وتسعى إلى الكمال، لأن الجواب حاضر، إن الأدب قد بلغ سن الرشد، وحدّ الكمال، من قبل أن يولد العلم، وقد عاش البشر دهوراً بلا علم، ولكنهم لم يعيشوا يوماً بلا أدب.

إن آدم قال لحواء كلمة الحب، لم يحدثها في الكيمياء، ولا حل معها مسائل الجبر في رياض الجنة ((هذا كلام الأدباء)) .

الشعر أخلد من الكيمياء، وأبقى من الرياضيات.

كم مرة تبدلت نظريات العالم، منذ نظم هوميروس قصيدته، إلى اليوم.

وأشعار هوميروس لا يزال لها رونقها ومنزلتها.

لا أعني الشعر الذي هو الرنات والأوزان، ولا الألفاظ المنمقة التي تحمل معنى، ولكن أعني بالشعر، حديث النفس، ولغة القلوب، وكل ما يهز ويشجي ويبعث الذكريات، وينشئ الآمال، ويقيم النهضات، ويحيي الأمم.

الشعر الذي يشعرك أنه يحملك

إلى عالم غير هذا العالم.

وسواء بعد ذلك أكان منظوماً أم كان نثراً.

إن عقد اللؤلؤ لا ينزل قيمته أن ينتثر، لأن ثمن الخيط نصف قرش!

وإليكم الآن مقاطع من هذه القصيدة، ولو اتسع المجال لشرحتها شرحا ينسي الناس الأصل، ولكن أين المجال، والوقت ربع ساعة؟

عربي عاش عمره كله في جزيرته، ما استمتع بحياته، ولا ناجى طيف ذكرياته، ولا انتشى برحيق آماله، لأنه لم يجد يوم راحة، يخلو نفسه إلى نفيه فيحس لذة الأحلام، وجمال التذكر، وسحر الأمل، لينبثق في نفسه الشعر المخبوء فيها، كما يختبئ الماء في بطن الجبل، يرقب معولاً يفتح له الطريق.

وهاهو ذا الآن ملقى على صعيد غريب عنه، في بلاد لا يعرفها ولا تعرفه، ولا يألفها ولا تألفه، فهو يتذكر الآن (الآن فقط) بلده وأرضه، ويدرك قيمة تلك النعم الجسام، ولا يدرك المرء قيمة النعم إلا بعد زوالها، وتثور في نفسه الأماني، فلا يتمنى إلا أن يبيت ليلة أخرى بجنب الغضى، وأن يسوق كرة أخرى إبله إلى المرعى، ويذكر كيف كان يزدري هذه النعمة التي يراها الآن عظيمة، ويتمنى (وليس ينفع التمني) لو أنه لم يسر من تلك الديار، أو لو أنه طال الطريق حتى يستمتع بها.

واسمعوه الآن يقول بألفاظه ورنّته، وقافيته الباكية التي تذكركم بقصيدة أخرى من وزنها وروّيها، لشاعر يماني غريب هو عبد يغوث:

ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة * * * * * بجنب الغضى أزجي القلاص النواجيا 1

فليت الغضى لم يقطع الركب عرضه * * * * * وليت الغضى ماشى الركاب لياليا

لقد كان في أهل الغضى (لو دنا الغضا) * * * * * مرار ولكن الغضى ليس دانيا

ويلوم نفسه ويعجب منها كيف سوّغت له أن يقبل بهذا النفي راضياً مختاراً، ويعجب من أبويه كيف لم ينهياه، وما الذي جاء به إلى باب خراسان وقد كان نائياً عنه:

ألم تراني بعت الضلالة بالهدى * * * * * وأصبحت في جيش ابن عفان غازيا 2

لعمري لئن غالت خراسان هامتي * * * * * لقد كنت عن بابي خراسان نائيا

فلله درّي يوم أترك طائعاً * * * * * بنيّ بأعلى الرقمتين وماليا 3

ودرّ الظباء السانحات عشية * * * * * يخبِّرن أني هالك من ورائيا

ودرّ كبيريّ اللذين كلاهما * * * * * عليّ شفيق ناصح لو نهانيا

واسمعوه كيف يفتش عمن يبكي عليه فلا يجد أحداً، لا يجد من يبكيه إلا سيفه وفرسه، وليس ينفع الميت أن يذكره ذاكر إلا ذاكراً بدعاء أو صدقه، ولا يضره أن ينساه الناس، وما حفلات التأبين للميت ولكن للأحياء يصعدون على قبر الميت ليقولوا للناس انظروا إلينا، واسمعوا بياننا، وصفقوا لنا، ولقد صدق سبنسر إذ قال: كلنا يبكي في المآتم وكل يبكي على ميته.

ليس ينفع بكاء ولا نواح ولكنها غريزة التمسك بالحياة والاستكثار منها.

تذكرت من يبكي عليّ فلم أجد * * * * * سوى السيف والرمح الردينيّ باكيا 4

وأشقر خنذيذ يجرَّ عنانه * * * * * إلى الماء لم يترك له الدهر ساقيا 5

وأرجو أن تتجاوزوا عن كلمة (خنذيذ) التي ترونها غريبة ولم تكن غريبة أيامه.

وانظروا إلى جمال الصورة وروعتها.

هذا الحصان يتلفت يمنة ويسرة ويدور وينعطف ويفتش عن صاحبه فلا يلقاه، فينسى الطعام والشراب، حتى يبرّح به العطش ولا يجد من يسقيه، فيجر عنانه (انتبهوا إلى دقة الوصف في جر العنان أي الرسن) إلى الماء.

لو أن مصوراً صور معنى هذا البيت لكان لوحة من لوحات العبقرية، وما أكثر ما في هذه القصيدة من صور.

وهاكم هذه اللوحة التي بلغت من الروعة أبعد الغايات، والتي تذيب القلوب، فتسيلها دموعاً.

هذه اللوحة التي أعرضها كما هي، لا أحب أن أفسدها بشرح أو تعليق:

ولما تراءت عند مرو منيّتي * * * * * وخلَّ بها جسمي وحانت وفاتيا

أقول لأصحابي: ارفعوني فإنني * * * * * يقرّ لعيني أن سُهيلٌ بدا ليا 6

فيا صاحبي رحلي دنا الموتُ فانزلا * * * * * برابية؛ إني مقيم لياليا

أقيما علي اليوم أو بعض ليلة * * * * * ولا تعجلاني؛ وقد تبيّن ما بيا

وقوما إذا ما استُلّ روحي وهيئا * * * * * لي السَّدر والاكفان ثم ابكيا ليا 7

وخطّا بأطراف الأسنّة مَضْجَعي * * * * * ورُدّا على عيني فضْلَ ردائيا

ولا تحسداني – بارك الله فيكما - * * * * * من الأرض ذات العرض أن توسعا ليا

خذاني فجراني ببُردي إليكما * * * * * فقد كنت قبل اليوم صعباً قياديا

ويعلم أنه لن يجد من يقوم على قبره، ويشيد بذكره، فيرثي نفسه، ويكشف عن فعاله بمقاله:

وقد كنت عطّافاً إذا الخيل أدبرت * * * * * سريعاً إلى الهَيْجا إلى من دعانيا

وقد كنت محموداً لدى الزاد والقرى * * * * * وعن شتمي ابن العم والجار وانيا

وقد كنت صبّاراً على القرن في الوغى * * * * * ثقيلاً على الأعداء عَضْباً لسانيا

ويعود إلى إتمام هذه اللوحة الرائعة، فيتصور مسيرة أصحابه وبقاءه، وحيداً في هذه الفلاة:

غذاة غد يالَهْف نفسي على غد * * * * * إذا أدلجوا عني وخُلّفت ثاويا

وأصبح مالي من طريف وتالد * * * * * لغيري وكان المال بالأمس ماليا

ويسأل رفيقيه حاجة له هي آخر حاجاته من دنياه، أن يحملوا نعيه إلى أهله، إلى بئر الشبيك، حيث يزدحم بنات الحيّ، يملأن الجرار، ويستقين، فيصرخ، فيدعن ما هنّ فيه، ويلتفتن إليه، وتسمع زوجته، فيلقي إليها بوصاته، وما وصاته إلا أن تقف على القبور.

علَّها تذكرها بقبره الضائع، حيث لا زائر ولا ذاكر:

وقوما على بئر الشُّبَيك فأسمعا * * * * * بها الوحش والبيض الحسان الروانيا

بأنكما خَلّفتُماني بِقَفْرَةٍ * * * * * تهيل عليّ الريحُ فيها السوافيا

ولا تنسيا عهدي خليليّ إنني * * * * * تَقَطّعُ أوصالي وتبلى عظاميا

فلن يعدم الوالون بيتاً يُجنُّني * * * * * ولن يعدم الميراث مني المواليا

ويا ليت شعري هل تغيرت الرحى * * * * * رحى المثل أو أضحت بفلج كما هيا 8

إذا مت فاعتادي القبور فسلمي * * * * * على الرّيم أسقيتِ الغمام الغواديا 9

ويعود إلى حاضره، ويشتغل بنفسه، ويرجع إلى ذكر بلده وأهله، ويختم القصيدة بهذا المقطع:

قلِّب طرْفي فوق رحلي فلا أرى * * * * * به من عيون المؤنسات مراعيا

وبالرمل منا نسوة شَهِدنني * * * * * بكَين فَدينَ الطبيب المداويا

فمنهن أمي وابنتاها وخالتي * * * * * وباكية أخرى تهيج البواكيا 10

وما كان عهد الرّمل مني وأهله * * * * * ذميما ولا بالرمل ودّعتُ قاليا

يا سادة.

لقد مات مع مالك في تلك السفرة آلاف وآلاف، ولا يزال الناس قبله وبعده يموتون، فينساهم ذووهم، ويسلوهم أهلوهم، وهذا الشاعر جعلكم تذكرونه، وتبكونه بعد ألف وثلاثمئة سنة، وأنتم لا تعرفونه.

وهذه هي عظمة الشعر، وهذا هو خلود الشاعر.

الغضى: نبت من نبت البادية.

أزجي: أسوق سوقا رفيقاً.

القلاص: الأبل.

النواجي: السريعة.

هو سعيد بن عفان، وباع الظلالة بالهدى، أي اهتدى بعد الضلال، لأن ما تدخل عليه الباء يكون هو ثمن المبيع

هما موضعان في بداية البصرة

الرمح الرديني: منسوب إلى ردينة، وهي امرأة كانت تثقف الرماح، أي تقومها

خنذيذ: الفرس الطويل الصلب

سهيل نجم يطلع من نحو بلده

السدر: شجر كالأشنان يغسل بمائه الميت مواضع في ديار قومهالقبر

باكية: زوجته وكانوا يكنون عن الزوجة

حجة الإسلام

نحن اليوم في نيسابور، في معسكر الوزير العظيم نظالم الملك الذي كان يدير من هذا المعسكر في ضاحية نيسابو اكثر من نصف بلاد الإسلام وكان قصره حافلا أبدا بالعلماء ولكنه اليوم أحفل منه كل يوم، لأنه يوم المباراة العامة، وانتم تعرفون المباريات الرياضية لكم لا تعرفون المباريات العلمية والتي تسمى مناظرات ويجتمع لها الناس ويشرف عليها الأمراء، وقد يكون منها ما هو قاصر على فن من الفنون كالمناظرات النحوية والكلامية والفقهية، ومنها ما يجتمع على أكثر من فن، أما مباراة البوم فعجيبة حقا، لأنها مباراة في كل علم، والمتبارون العلماء جميعا ضد رجل واحد يقدم المعسكر للمرة الأولى........

شاب عمره ثلاث وثلاثون سنة ولكن اسمه قد ملأ الأسماع وتآليفه سارت كل مسير...

وكان اليوم الأول في فقه الشافعية.

اصوله وفروعه واجتمع كبار الفقهاء وازدحم الناس يسمون وحضر نظالم الملك فأوردوا على هذا الشاب إرائب المسائل فأجاب عنها كلها بنظر دقيق واستخراج عجيب وأورد عليهم ما لم يستطيعوا له جوابا فأقروا له بالإمامة في المذهب وبايعوه على رئاسة المذهب في تلك الديار..

ثم كان اليوم الثاني فناظر المتكلمين وأنت تعلمون أن هاتيك الحقبة كانت العصر الذهبي للكلام وأن علم الكلام كان يومئذ خلاصة الفلسفة والشريعة وكان المطلب الأعلى للعلماء وإن كان على أن أقرر هنا أن اسلوب القرآن في تقرير مسائل التوحيد هو الأسلوب الكامل الذي لا نحتاج معه إلى فلسفة أو كلام..وكانت مناظرة هائلة استمرت ساعات وانتهت بالاقرار له بامامة المتكلمين.

وكان اليوم الثالث موعد المناظرة في الفلسفة اليونانية، وجاء الفلاسفة الذين قرؤوا كتب أفلاطون وأرسطومتعالين شامخين بأنوفهم كأنهم يعافون مناظرة هذا الشيخ الفقيه الذي لم يقرأ (كما ظنوا) كتب فلاسفة اليونان ولا شروح فلاسفة الإسلام فما زالوا يتضاءلون ويصغرون حتى رأو ان هذا الفقيه أعرف منهم بمذاهب الفلسفة وأشد إدراكا لها ولم يخرجوا حتى أقروا له بالتقدم فيها...

واستمرت المناظرة أياما قهر فيها الشاب الخصوم وغلب المناظرين وأعجب به نظام الملك، الذي أسس المدارس الجامعة في بلخ ونيسابور وهرات وأصبهان والبصرة والموصل ولم يغادر مجلسه حتى كتب له مرسوم تعينه أستاذا في الجتمعة النظامية الكبرى.........

ورحل إلى بغدا وبغداد حاضرة الأراض ودار الخلافة فناظر علماءها فأقروا له بالغلبة والتقدم.

تسألونني الآن من هذا العالم وهل كانت له هذه المزايا كلها أم أن تبالغ وتتخيل وم نأين جاء وكيف حصل هذا كله..

ثقوا يا سادة أني لا أبلغ ولا أتخيل، وأنه كان أكبر مما وصفت وأنه أحد العشرة الكبار جدا في الفكر الإسلامي، وأحد العشرة الكبار جدا من أرباب القلم وهو أقدر من لخص الفلسفة اليونانية وأقدر من رد علها، أيدها وقوها ثم ضربها ضربة لم تقم لها بعده قائمة وما قرأها على أستاذ ولكن نظر في كتبها بنفسه لأنه كان يرى من المهانة لنفسه وللفكر أن يرد على مذهب أو رأي لم يفهمه فلما فهمها ألفم (مقاصد الفلاسفة) فأقبل الفلاسفة أنفسهم عليه لأنهم رأو فيه تلخيصا وفهما لم يروه في كتبهم، ثم ألف كتابه (تهافت الفلاسفة) فكان كاضربة القاضية في الملاكمة لا يقوم بعدها الخصم وكانت له ميزة عجيبة هي القدرة على هضم كل فكرة وعرضها عرضا واضحا مفهوما يجمع بين البيان السهل والتسلسل المنطقي......

وقد انفرد بأمر لم يكن لسواه هو أن حياته قسمان قسم للعقل وقسم للقلب وكان إماما في الحالين درس في الجامعة النظامية في بغداد وألف الكتب العجيبة التي ولا تزال مطمح أنظار المفكرين والفقهاء ثم تجرد للعبادة والتأمل فأف الإحياء الذي كان ولا يزال غاية ما يطلبه المتصوفة وأرباب القلوب....

هل عرفتم الآن من هو؟؟

هو حجة الاسلام الإمام أبو حامد محمد بن محمد بن محمد الغزالي...

أما قصة تحصيله ودراسته فقصة عجيبة اسمعوا طرفا منها لتدركوا كيف تكون الرجل العظيم عوامل ترونها ضعيفة، ولتعلموا أنه ربما كان في أبناء العوام والفقراء من لو كتب له التعلم لكان منه عالم كالغزالي أو شاعر كالمتنبي أو وزير كنظام الملك أو ملك كالظاهر بيبرس....

أعود بكم إلى نيسابور لأقف على دكان صغير لرجل عالمي صالح يشتغل بالغزل رجل لم يكتب له أن يتعلم القراءة ولم يكن من العلماء لكنه أهدى إلى الأمة الاسلامية هذا العالم الفذ ولولاه لم يكن قط عالما..

هذا هذا هو محمد بن محمد والد الغزالي...

كان ينتهي من عمله فيدخل المسجد فيقف على حلقات الفقهاء مستمعا فيأسى على حاله ويبكي على جهله ويتمنى لو أن الله جعله فقيها ولكن ولى الشباب ومضى العمر ولم يبق له في نفسه أمل فهو يأمل بولده فيسأل الله من قلب مخلص أن يزقه ولدا فقيها ثم يقعد في مجالس الوعظ فيسأل الله أن يرزقه ولدا واعظا.....

واستجاب الله دعاءه فرزقه ولدا صار من أعظم الفقهاء هو أبو حامد الذي أحدثكم عنه وولدا آخر كان من أكبر الوعاظ ولولا أن غطت عليه شهرة أخيه هذا لمأ اسمه صحف التاريخ....

وأدرك الوالد الموت والولدان صغيران فتقطع قلبه حسرة على ألا يكون قد علمهما ما فاته من العلم وكان له صديق صوفي فعهد بهما إليه وأوصاه أينفق على تعليمهما ولو أتى ذلك على كل ما خلفه من مال.

فكان هذا الوالد هو أول عامل في تكوين الغزالي العظيم..

والعامل الثاني هو هذا الصوفي لقد كا يسعه وقد علمهما كل ما عنده وأنفق عليهما كل ما عندهما، أن يقول لهما اكتفيا بما علمتكما وكونا عاملين كأبيكما أو صوفيين مثلي وإذن لا يكون الغزالي إلا رجلا عاديا مغمورا...................

لكنه قال لهما: لقد انفقت عليكما ما كان لكما من مال وانا رجل فقير ليس عندي ما اعينكما به وحرام ان تدعا العلم فعليكما بمدرسة من هذه المدارس وكانت هذه المدارس هي العامل الثالث في تكوين الغزالي

كانت هذه المدارس هي العامل الثالث في تكوين الغزالي.

هذه المدارس التي أدركتم بقاياها في دمشق، في العمرية، في الصالحية التي جامعة حقيقية ذات فروع وأقسام وفي المرادية وفي البادرائية وغيرها....................

والعامل الرابع الرحلات فقد رحل في طلب العلم كما كان يرحل العلماء يقطعون الأيام والليالي مسافرين لياخذوا مسألة ويتلقو حديثا..............وفي أحدى هذه الرحلات تلقى درسا كان له في نفسه ومستقبله أبلغ الأثر درسا لم يتلقه من عالم ولا محدث ولكن من قاطع طريق.....

قاطع طريق خرج على القافلة التي كان فيها فجردها من كل شيء وكان مع الغزالي دفاتره التي يدون فيها ما يسمعه فجعل يبكي عليها ويتوسل إلى قاطع الطريق ويقول له أنا لا أبالي بالمال ولا الثياب ولكن تعليقتي هي ثمرة كل ما حصلته.

فقال له متعجبا وما تعليقتك.

قال: دفتر فيه علمي كله.

فضحك قاطع الطريق وقال كيف تقول علمي وأنت لا تعلم وإن ضاعت تعليقتك لم يبق لك منه شيء...ورماها إليه.

قال الغزالي: هذا رجل أنطقه الله ليبصرني في أمري.

ولما وصل إلى البلد حفظ كل ما فيها وصار لا يبالي أضاعت أو سرقت أة احترقت.

والعامل الخامس في تكوينه صحبة العالم العظيم إمام الحرمين فقد لازمه مدة طويلة وأخذ منه وسار أولا على طريقتهُم استقل وشق لنفسه طريقة جديدة وفاق في المعقولات إمام الحرمين وهو لايزال إلى اليوم أكبر أئمة الفكر الإسلامي..ونحن نقرأ كتبه مستفيدين منها معجبين بها كما استفاد منها وأعجب بها رجال عصره ولقد سما العقل خلال هذه القرون الثمانية واتسع العلم ولكن الغزالي لا يزال في القرن الرابع عشر كما كان في القرن الخامس إماما يقتدى به وعبقريا لا نظير له.

حياة الغزالي يا سادة لها صفحتان هذه الصفحة العلمية والصفحة الصوفية.

لقد بقي في نفسه أثر من أستاذه الأول الرجل الصوفي الذي أوصى إليه به أبوه.

وكان يتنازع قلبه التفكير العلمي الذي هو أثر من إمام الحرمين، وهذا التأمل الصوفي...ثم غلب عليه التصوف فاستقال فجأة من أستاذية الجامعة ورحل منقطعا للعبادة آخذا نفسه بالزهد والسهر وقلة الطعام.....وكانت أكثر إقامته في دمشق في الأموي في الغرفة التي يصعد فيها للمنارة الغريبة والزاوية التي عرفت فيما بعد بزاوية الغزالي وفيها ألف كتابه إحياء علوم الدين....

وقعت له في دمشق وقائع عجيبة، جاءها متنكرا فنزل السميساطية، وكان يقهر نفسه على تنظيف المراحيض إذلالا لها ويدخل المسجد بزي العواموكان مرة في المسجد وجاء رجل يسأل عن مسألة فدلوه على دكة العلماء والمفتين فلم يعرفوا جوابها فدعاه الغزالي وقال ما مسألتك قال: إن المفتين لم يعرفوها أتعرفها أنت قال: هاتها فأجابه الغزالي فعاد الرجل للمفتين وقال لهم أنتم لم تعرفوا جوابها وعرفه هذا الرجل العامي وخبرهم بما أجابه به فشدهوا وقاموا إليه وقالوا من أنت إن لك لشأنا واستحلفوه فخبرهم فاحتفلوا به وسألوه أن يجعل لهم من الغد مجلسا، وبحثوا عليه في الغد فلم يعثروا عليه....

ثم عاد إلى بلده وأكره على العودة للتدريس فعاد يدرس في الجامعة النظامية في نيسابور...ثم استقال وانشأ في بيته مدرسة وانقطع للعبادة والذكر والتعليم...

إلى أن ملت ميتة تدل على حسن الخاتمة وهو ابن خمس وخمسين سنة فقط

هذا هو الإمام الغزالي أحد أفذاذ المفكرين في العلم كله وأحد الكبار من اعلام الإسلام...وكان عيبه ضعفه في الحديث وقد اقبل على دراسته آخر عمره لكن الأجل لم يمهله وكتابه الإحياء على جلالة قدره مملوء بالأحاديث الموضوعة ومن أراد أن يقرأه فليرجع معه إلى من خرج أحاديثه كالعراقي أو ليقرأ مختصره للشيخ جمال الدين القاسمي.......

وشيء آخر هو أن الروح السائدة في الكتاب روح الانصراف عن الدنيا، والميل إلى الفقر ليست هي الروح الإسلامية إن الروح الإسلامية تتجلى في سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابه والعجيب أنه ألفه في العصر الذي توالت فيه الهجمات على الإسلام من مغول الشرق وصايبي الغرب فلو أخذ المسلمون بما يدعوا إليه لما وجدت قودة ترد التتار ولا المغول..

هذا هو الغزالي والفكر الإسلامي من خمسين سنة إلى اليوم مطبوع بطابع شيخ الإسلام ابن تيمية ولكنه بدأ يعود إلى الطابع الغزالي كما كان من قبل وكلاهما عظيم لكن الغزالي أعظم في الفكر والبيان وابن تيمية أقرب إلى الكتاب والسنة وإلى ما كان عليه السلف...

رحمة الله عليهما وعلى كل من وضع لبنة في هذا الصرح العظيم صرح الفكر الإسلامي....

سيد شعراء الحب العذري.....

هذا فصل في الحب، فلا تقولوا يا عجبا!! شيخ وقاض ويتكلم في الحب..وما الأدب كله وما الشعر إن لم يكن كلاما في الحب..ومن حرم على المشايخ القول في الحب، وهم كانوا الأئمة في كل شيء وكان من كبارهم ثلاثة ألفوا فيه كتبا لم يؤلف مثلها، علموا فيه الناس أفانين الهوى، ولقنوا أصول العشق كبار العاشقين وهم ابن القيم وابن حزم وابن داود ثلاثة من جبال العلم وأعلام الإسلام...

ومن كبار الفقهاء من كان من شعراء الغزل الكبار، ولقد جمعت مرة في الرسالة طرائف من غزل الفقهاء (العدد 644 في 25 مارس 1946 والذي بعده وهو في كتابي فكر ومباحث) طرائف من غزل الفقهاء يؤمن من يؤمها أن التزمت والتوقر لم يكن دائما سمت العلماء، وأن من علمائنا من كانو هم أرباب الظرف وكانوا هم أصحاب القلوب...

ومالي أذهب في الاحتجاج بعيد المذاهب وهذا الشاعر الذي جئت احدثكم حديثه كان من أئمة الدين وكتن من قضاة المظالم وكان نقيب الأشراف وكان إمام الحج وكان مع ذلك شاعرا بل اعظم الحب العذري في أدب العرب بل سأقولها ولا أبالي...كان أعظم شاعر في الدنيا..هتف للجمال وغنى للحب وصور نوازع النفس وصبوات العقل ولعات الهوى ولذات الوصال ولقد قرأت أكثر اشعار لامارتين وموسه وبيرون وغوته فما وجدت فيهم من قال في هذه المعاني أدق ولا أرق ولا احلى ولا أشرف مما قال شاعرنا....

وما أنكر عليه أهل زمانه ما تنكرونه اليوم، ما أنكروا عليه أن جعل من الموسم الأكبر (هذا كلام قلته وأنا أنكره اليوم ولا أقر الشريف ولا ابن ابي ربيعة من قبله ولا أقر أحدا أن يجعل من موسم للعبادة موسما للأدب ومعرضا للجمال غفر الله لي ولهم) موسما للقلوب الهائمة والأبصار الشاردة وأنه قرأ قصائد الجمال مكتوبة في وجنات العذارى بكل لغات الأرض وقال فيها أربعين قصيدة هي الحجازيات التي دان بها الأدب العربي والتي لو ترجمها إلى الفرنسية أو الإنجليزية، بليغ في ذلك اللسان لفتنت الفرنسين والانجليز أضعاف ما فتنهم شعر الخيام....وأين الخيام من الشريف....؟

وأنا أعجب والله كيف استطاع أن يصرح بما لو لمح إليه شيخ من مشايخ هذه الايام لما تركوه يستطيع المشي في الأسواق؟

لقد عرفت السبب...

غنهم وثقوا أنه كان من الشعراء الذين يقولون مالا يفعلون، وأن دينه وعفافه كان في مكان لا ترقى إليه الشبهات وأنه لم يكن يعشق امرأة كما يفهم شباب اليوم من العشق: يراها فيرضاها ثم يتبعها فيهواها ثم يتخذها زوجا بلا زواج، كلا، ولقد كان الشريف شريفا حقا، وكان زوجا اخلص زوج، وكان أبا خير أب وكان سيد مرموقا ولو علم الناس أنه واقع بعض ما يقول لأوقعوا به، ولكنهم علموا انه ما كان عاشقا شاعرا بل كان شاعرا عاشقا وما اتخذ الشعر حرفة يستجدي بها الأكف ولكن كان عند نفسه وعند الناس أكبر من ذلك....

ومالي يا لمياء بالشعر طائل... سوى أن أشعاري عليك نسيب

ولكنه كان يعشق العشق ويحب الحب إن كان هذا التعبير مني صحيحا ومفهوما، وما هذه المواطن التي يرددها الشريف إلا حجب يخفي وراءها نوازع قلبه الهائم ومطارح حبه التائه وإن كانت كحجاب النساء هذه الأيام يخفي المعايب ويجمل بالوهم غير ذات الجمال..

لم تكن هذه المواطن أكثر من صحاري مقفرات، ولكن لمسة من يد الشاعر العبقري تجعل الصحاري جنات وارفات الظل فاتنات المسارب هادرات السواقي وتحيلها عالما مسحورا كأنه جنة عبقر التي يتحدث عنها العرب.

وأتن تسمع اليوم أسماء بلودان وفالوغا ونبع الصفا والقناطر الخيرية وراوندوز وكشمير وماشئت من مرابع الخيال ومواقع الأحلام فلا تحس لهذه الأسماء برجفة في قلبك ولا بوثبة في خيالك كالذي تحسه وأنت تسمه أسماء تلك الفلوات: البان والعلم، والخيف ومن وسلع والمصلى حيث يهتف بها الشريف...

وهذه عظمة الشعر يمر بسحره على القفار فيجعلها تزري بجنان المصايف وراوائع الأودية ذات العيون والسواقي....

من معيد أيا سلع على ما كان منها؟؟ وأين أيام سلع!!!

أيها الرائح المجد تحمل... حاجة للمتيم المشتاق

أقر عني السلام أهل المصلى... فبلاغ السلام بعض التلاقي

وإذا ما مررت بالخيف فاشهد... أن قلبي غليه بالأشواق

لا لن أتحدث عن الرجل ماذا أكل وماذا شرب ومتى سافر وأين أقام، مالي وللرجل والرجل فانٍ إنما أتحدث عن الشاعر والشعراء خالدون (خلود الذكر في الدنيا والخلود الحق إنما يكون في نعيم الجنة أو عذاب النار) وسأعود بكم ما استطعت إلى جوه وأدخل بكم إلى عالمه فإن للشعراء عوالم لا يحيط بها الناس عالم لا تعرفون عنه إلا هذه الومضات التي تلمحونها عندما تسمعون الأغنية الحالمة في الليل السكران أو تطالعون القصة العبقرية تطرق باب المجهول أو تفتحون في سجف الذكريات كوة على الماضي المنسي أو تستغرقون في ذكر الله في هدءات الاسحار وتلك وحدها أنس النفس المؤمنة وراح الروح..

عالم كل ما فيه غريب لا يشبه دنيا الناس.....هذا هو عالم الشريف الرضي....

إن كنتم تسمعون بآذانكم فأهل هذا العالم يسمعون بأفواههم فإن ناجاها لم يضع فمه على أذنها....بل فاه على فيها..

عندي رسائل شوق لست أذكرها........لولا الرقيب لقد بلغتها فاك

وإذا أبصرتم بالعيون أبصروا هم بالآذان....

فاتني أن أرى الديار بطرفي..........فلعلي أرى الديار بسمعي

وإذا كان الناس عندكم هم وحدهم الذين يروون الأحاديث بالكلمات والحروف فإن كل شيء في عالم الشاعر يحدث بلا حروف ولا كلمات...

النفس يتحدث فهل تفهمون لغة الأنفاس...

خذي حديثك عن نفْسي من النَفَسِ...وجْد المشوق المعنيّ غير ملتبس

فماذا قال النفس؟

قال:الماء في ناظري والنار في كبدي.....إن شئت فاغترفي أو شئت فاقتبسي

والعين والقلب عندكم أعضاء في الجسم هكذا يقرر أساتذة كلية الطب لا يعرف المساكين من العين إلا أنها (فوتوجراف) ولا من القلب إلا أنه مضخة!!! أما نحن..نحن الأدباء فإن عندنا في العيون علما مستقلا أُلفت فيه كتب كبار، أما قرأتم كتابي (سحر الفتون في سر العيون) الذي أنوي أن أؤلفه يوما وسأدرسه لطلاب التخصص في أمراض العيون في كلية الطب...

وإذا كانت قلوب الأطباء ما فيها إلا دم احمر كدم الخروف فإن قلوب الشعراء العشاق فيها الماضي والحاضر وفيها الزمان والمكان وفيها الذكر والآمال وفيها من العجائب والأسرار مالا يستطيع الأطباء أن يصلوا إلى علمه وهي بعد أحياء مستقلة لا أعضاء، العين لها وحدها حياة والقلب له وحده حياة وقد تفرح العين والقلب متألم:

تلذ عيني وقلبي منك في ألم....فالقلب في مأتم والعين في عُرُسُ

وللعين دائرة استعلامات تتجسس لها على القلب فتهتك ستره وتذيع سره والشاعر حائر بينهما، متعجب منهما:

هامت بك الهين لم تتبع سواك هوى.... من علم العين أن القلب يهواك؟

صحيح والله من علم العين....؟!

والعين تبصر من الحجاز من في العراق وترمي بسهام فتونها من ذي سلم فتصيب من في بغداد..لا تمنعها شوامخ الجبال ولا شواسع البيد...

سهم أصاب وراميه بذي سلم....من في العراق لقد أبعدت مرماك!

والعين تحصي عدد شهدائها وتسجل أسماء من تصيبهم سهامها وتقرأه على الشاعر من وراء صاحبتها، فيشهد جناية العين ويقرر براءة الحبيبة لأنها لا تدري ما جنت عيناها..

كأن طرفك يوم الجزع يخبرنا....بما طوى عنك من أسماء قتلاك.

ولا تعجبوا من نطق العين فإن العين تحدث الأحاديث الطوال فهي تأمر وتنهى، وتعد وتؤمل، لكنها لا تفي ولا تصدق منها المواعيد

وعد لعينيك عندي ما وفيت به.....يا طول ما كذبت عيني عيناك

والقلب يتلفت، نعن يتلفت فلا تصدقوا أخبار العواذل من الأطباء الذين يرجفون بأنه ليس إلا عضلة ملساء....

ولقد مررت على ديارهم......وطلولها بيد البلى نهب

فوقفت حتى لج من لغب....نضوى ولج بعذلي الركب

وتلفتت عيني فمذ خفيت...عني الطلول تلفت القلب..

يتلفت ليرى المنازل وأهلها ثم يبعد الركب فلا يرى إلا هياكلها ثم يبعد الركب أكثر فلا يرى إلا دخانها ثم ترمي بالركب المرامي فلا يرى شيئا.........عندئذ يبصرها القلب بعينه التي لا يحجبها النأي ولا الليل ولا المنام...

تلفتُّ حتى لم يبد من بلادكم...دخان ولا من نارهن وقود

وإن التفات القلب من بعد طرفه....طوال الليالي نحوكم ليزيد

والهوى يتجسم له إنسانا فينصحه ألا يفارق أحبابه...

ولما تدانى البين قال لي الهوى.....رويدا، وقال القلب: أين تريد؟

أتطمع أن تسلو على البعد والنوى....وأنت على قرب المزار عميد؟

والدموع في عالم الشاعر ليسم ماء تسفحه العين، بل رسائل إلى الحبية والموزع لها هو الزفير...

ولقد بعثت من الدموع إليكم......برسائل ومن الزفير بحادي

وكتن تهب نسائم الصبا، فتخاط أنفاسه فيستروح بها روح الأحبة، فماذا يصنع وقد انقطع فلم تهب رياح؟؟

خذي نَفَسي يا ريح من جانب الحمى...فلاقي بها ليلا نسيم ربى نجد

فإن بذك الحي إلفا عهدته......والرغم مني أن يطول به عهدي

ولكن الريح....ويح الريح ليست دائما معه، إنها عليه مع العذال تغار إن رأت به نعمة الوصال حتى تحاول أن تفرق بينه وبينها، فهي تشد الفضول من أطراف ثيابها والشوارد من خصلات شعرها..

تقولون ومت علمت الريح بساعات الوصال؟؟؟

إن لها يا سادتي جاسوسا من بني عمها هو الطيب الذي يفوح من اعطاف الحبيبة

وأمست الريح كالغيرى تجاذبنا.......على الكثيب فضول الريط واللمم

يشي بنا الطيب أحيانا وآونة...........يضيؤنا البرق مجتازا على إضم

ويطلع الصبح وهما غافلان عن الدنيا وما فيها وهل يرى المحبون في الوجود شيئا، حتى يتكلم العصفور....

وأكتم الصبح عنها وهي غافلة........ حتى تكلم عصفور على عَلَم

وبعد فهذا مجلس الشاعر الذي كان إماما في العلم وفي المنصب، وإماما في الحب والغرام....

شرب الكأس وترك للشعراء الثمالة..

وورد الصافي وخلى لهم العكر.......

الفقيه الأميرال

(الأميرال أصلها عربي يعني أمير الماء وهو قائد الأسطول عند الأندلسين والمغاربة.)

نحن اليوم في تونس..في تونس الخضراء قبل ألف ومئتي سنة بالضبط (لأن هذا الحديث أذيع سنة 1372هـ

نحن في يوم من أيام سنة 172 هـ في يوم مشهود يوم سفر طالب من طلبة العلم إلى المشرق للدرس والتحصيل.

هذا الشاب الذي اجتمع أهل تونس لوداعه عمره ثلاثون سنة، غريب عن تونس أصله من نيسابور وولد في ديار بكر وذهب ابوه إلى المغرب في الحملة التي جردها المنصور للقضاء على ثورة البرابرة، فنشأ في تونس واخذ العلم عن علمائها حتى إذا استوفى ما عندهم، عزم على الرحلة..

هكذا رحل هذا الشاب: أسد بن الفرات فارق تونس سنة 172 هوتنقل في البلدان حتى وصل المدينة وكان للعلم مركزان..جامعتان: جامعة محافظة إن صح التعبير تعنى بالنقل وبدراسة النصوص ومكانها المدينة وأستاذها الاكبر الإمام مالك وجامفة مجددة تكيل إلى النظر العقلي والبحث الحقوقي ومقرها العراق وأستاذها الأكبر الإمام أبو حنيفة..

فقصد جامعة المدينة وكانت الجامعات هي الجوامع ففيها حلقات العلم كله....ولزم الإمام مالكا..

وكان لماك رهبة في الصدور فلا يجرؤ أجد عليه وكانت طريقة تلاميذه معه الاستماع والاقلال من المناقشات فلا يفرضون الفروض ولا يقدرون الوقائع التي لم تقع ويضعون لها الاحكام كما يصنع علماء العراق.. بل يسألون عما وقع من أحداث ولم تعجب هذه الطريقة الشاب التونسي فجعل يفرع من كل مسألة مسألة ويلح في طرح الأسئلة عليه..حتى ضجر مالك وقال إن كان كذا كان كذا؟ سلسلة بنت سلسلة، إن أردت هذا فعليك بالعراق..

صحب مالك سنتسن ثم أزمع الانتقال إلى العراق فدخل على الإمام مودعا شاكرا وقال أوصني فقال له (أوصيك بتقوى الله والقرآن والنصيحة للناس)

ثلاث كلمات جمعت الفضائل كلها، أما تقوى الله فرأس الأمر وملاكه ومن لم يكن في قلبه تقوى لم ينفعه علم..وأما القرآن فعماد الدين وجماع العلم وطريق الخير...

وأما النصيحة فهي الخلق كله...

ورحل إلى العراق، وكان الإمام أبو حنيفة قد مضى إلى رحمة ربه وولي أستاذية مدرسته تلاميذه يقدمهم أبو يوسف ومحمد....

أما الإمام أبو يوسف فقد شغل بالقضاء وأما الإمام محمد فقد تصدر للتدريس والبحث وانتهت إليه رئاسة العلماء..وكان من تلاميذه الإمام الشافعي أستاذ الإمام أحمد...فلزمه هذا الشاب المغربي فكان يحضر دروسه العامة...ثم أحب أن يكون له درس خاص يغرف فيه ما استطاعى من علم الإمام محمد ليحمله إلى بلاده....

فأخذه إلى بيته وأعطاه غرفة بجوار غرفته وكان يسهر معه الليل يضع امامه قدح الماء فإذا نعس نضح وجهه ليصحو....

وما طلب منه اجرا ولا سأله مالا بل كان هو الذي يطعمه ويسقيه، لأن العلم كان في رأي أسلافنا الأولين عبادة.

وكان قربة إلى الله..فالطالب يطلب العلم لله لا للشهادة والدنيا..والأستاذ يعلم العلم لله لا للمرتب ولا للمنصب...

ولبث اسد بن الفرات أمدا مع الإمام محمد....

وكان أسد اول من نعرفه جمع بين مذهب مالك وأبو حنيفة..وبين مدرسة العراق العقلية...

ثم أزمع الرحلة إلى مصر....

وكان يتصر التدريس في مصر عالمان من تلاميذ الإمام مالك، أشهب وابن القاسم، ولم يكن قد نشأ الشافعي، وكان كلاهما مجتهدا يخالف إمامه في بعض المسائل، ولكن أشهب فيه حده وفي لسانه طول، وفي ابن القاسم أناة ولين...

لزم أشهب حتى سمعه يوما يرد في مسألة على الإمام مالك وابو حنيفة بلفظة خشنة، فغضب اسد وكان كما عهدناه صريحا جريئا، فصرخ به على ملء من الناس وكان له قولا فظيعا....إن سمحتم رويته لكم:

قال...ما مثلك ومثلهما غلا كمثل رجل أتى بحرين زاخرين فبال بينهما فرغى بوله، فقال هذا بحر ثالث، وفارقه إلى ابن القاسم فلزمه مدة....

وجمع ما اخذه عن ابن القاسم من مسائل وأفاض عليها من ذهنه الذي اختمرت فيه علوم تونس والمدينة والعراق وجعلها في رسالة سماها الأسدية....

واراد الطلاب نسخها فرفض وقال عملتها لنفسي....فرفعوا عليه دعوى....

دعوى طريفة جدا، حار فيه القاضي ثم حكم بأن الكتاب يجمع مسائل ابن القاسم وابن القاسم حي يستطيع المدعون أن يأخذوا منه مثل ما أخذ أسد...وحكم برد الدعوى....

رد الدعوى قضاء لأنه لم يجد نصا ملزما ولكنه توسط شخصيا فرجا أسدا ان يعطيهم الكتاب ففعل وتناقلوه عنه..

وقد الله لهذا الكتاب أن يكون أساس الفقه المالكي كله..

ورجع على القروان عاصمة المغرب، المدينة العربية التي أنشأها عقبة بن نافع وكان في المغرب حكومة مستقلة استقلالا داخليا هي حكومة بني الأغلب..

رجع بعد عشرين سنة صرم نهارها وأحيا ليلها بالعلم والدرس...ما صحب ذا لهو ولا ذات جمال...

وكان عمره قد قارب الخمسين فجلس للتدريس والإقراء يوفي دينه...يعطي التلاميذ مما أعطاه الاساتذه: لله لا لأجر ولا لمنصب وصارت مدونته الكتاب الرسمي لكل مدرسة مالكية وأخذها عنه سحنون...ومضى سحنون في رحلة إلى المشرق فقرأها على ابن القاسم نفسه وكان رأي ابن القاسم قد تبدل في بعض المسائل...فكتب إلى أسد ليعدل المدونة فأبى...فأخذ الناس مدونة سحنون وصارت مرجع المذهب المالكي...وبنيت عليها الشروح والحواشي واتهرت باسم مدونة سحنون وان كان اصلها لأسد.

امضى عشرين سنة في العلم ثم جاءه المنصب...فقلد القضاء مع أبي محرز، وكان للمدعي الخيار في مراجعة أحد القاضيين، وإن كانت نظرية الإمام محمد (صاحب أبي حنيفة) نابغة التشريع الإسلامي أن المحكمة هي محكمة المدعى عليه..كما هو الرأي الآن...

وكان القاضيان من قضاة الجنة إن شاء الله ولكن ابا محرز فيه لين... وأسد أسدٌ في الحق..................

هذا خبر أسد طالب العلم، وأسد الفقيه واسد القاضي فاسمعوا الآن خبر أسد القائد الأميرال..

حكم المسلمون أطراف البحر الأبيض المتوسط من نصف الساحل الشرقي إلى نصف الساحل الغربي وكان الساحل الجنوبي كله لهم والشمالي تحت حمايتهم، وفي ظلال رايتهم...تربطهم عهود بإيطالية وصقلية فجاء زعيم من صقلية لاجئا على أمير المغرب الأمير زيادة الله وخبره أن حكومة صقلية نقضت العهد وحبست أسرى المسلمين وأساءت إلى الجالية الإسلامية...

وتردد الحاكم في قبول الخبر، وأحب ان يقف على حكم الشرع فيه...هل يكفي هذا الإخبار لاعتبار المعاهدة منتهية وإعلان الحرب..

ودعا القاضيين يستفتيهما...أما أبو محرز فلم ير ذلك كافيا، وأما أسد فقال: إن المعاهدة إنما أبرمت على ايدي الرسل...وإخبار الرسل كاف لنقضها....

فلما أفتاه أسد شرع يجهز الأسطول...

وطلب القاضي أسد ان يكون مع المجاهدين فأبى الأمير خوفا عليه وضنا به فألح وألح وقال وجدتم من يسير لكم المركب من النوتية وما أحوجكم إلى من يسيرها لكم بالكتاب والسنة......

فلما رأى منه الجد ولاه إمارة الحملة...

وكان يريد أن يكون جنديا متطوعا، لا يريد الإمارة فلما أعطيها تألم وقال للأمير: أبعد القضاء والنظر في الحلال والحرام تعزلني وتوليني الإمارة....

ذلك لأن القضاء كان في عرفهم أعلى من الإمارة...

فقال: ما عزلتك عن القضاء، ولكن أضفت لك الإمارة فأنت قاض وأمير...وكان أول من جمع بين المنصبين..

جهز الأسطول وكان مكونا من ثمان وتسعين قطعة حربية فيه جيش من عشرة آلاف راجل وتسعمئة فارس...

وخرج الناس للوداع في ميناء سوسة..وكان يوم لم ير المغرب مثله وتكلم الحاكم والخطباء وقام القضي الأمير ليتكلم....

احزروا ماذا قال.....

لا لم يزه ولم يتكبر ولم يملء الجو تهديدا للعدو وإبراقا وإرعادا وفخرا عارما ولكنه جعل من هذا الموقف مدرسة فقال:

والله يا معشر الناس ما ولي لي اب ولا جد ولاية قط وما رأى أحد من اسلافي مثل هذا قط وما بلغته إلا بالعلم...فعليكم بالعلم أتعبوا فيه أذهانكم وكدوا به أجسامكم تبلغوا به الدنيا والآخرة..

كأنكم تسألون، وماذا يصنع هذا الشيخ بقيادة الأسطول؟

ومن أين له العلم بالحرب والبحر وما درس في مدينة بحرية ولا مارس أمور الحرب والقتال...

لقد نجح يا سادة نجاحا منقطع النظير وهاكم قصة تدلكم على شدة مراسه وقوة بأسه وانه كاسمه أسد غاب....

لما طالت أيام المعركة، وقلت الأقوات وتململ بعض الجند، تحركت عناصر الشغب والفساد وأحكموا أمرهم وعزموا على العصيان وحفوا بالقاضي الأمير وأقبل زعيمهم أسد بن قادم يعلن رغبة الجند في العودة إلى ديارهم.....وهي رغبة ظاهرها الطاعة وباطنها الثورة......فقابلها اسد بالحكمة أولا، وراح يبين لهم قرب النصر وعظم الأجر فما ازدادوا إلا عتوا.........وتقابل الأسدان وتجرأ الثائر فقال: على أقل من هذا قتل عثمان بن عفان!

ومعنى هذا إعلان الثورة! فماذا يصنع هذا الفقيه القاضي؟

أيستخذي ويخضع؟ ويضيع المعركة ويخسر النصر المرتقب من أجل ثورة عاصفة يقوم بها جند مشاغبون، أم يشتد ويحزم؟ وماذا يصنع إن هو اختار الشدة والحزم؟؟؟؟

لقد صنع أيه السادة ما لا يصنعه مثله أبطال الروايات الخيالية....تناول السوط من يد احد الحرس...وانتصب امام الثائر وضربه على وجهه أولا وثانيا....ولبسته قوة سماوية خارقة هي قوة الإيمان...وصرخ بالجند على الأمام......

وتقدمهم وكان الظفر وكان الفتح وكان ابتداء الدولة الإسلامية في صقلية التي امتدت قرونا...ولكن الثمن كان غاليا....

لقد استشهد القائد البطل الفقيه القاضي أسد بن الفرات...

هوى وهو يحمل راية النصر ولم يعرف له قبر....

مفتي السلطان سليم

نحن الآن في بلاط الملك العظيم الجبار، فاتح الشام ومصر وناقل الخلافة إلى الترك الذي هدم دولا صغيرة وأقام مكانها دولة كبيرة، دولة قامت على السيف وحده فلما صدء السيف والتوى هوت وتصدعت ولكنها أعزت الإسلام دهرا طويلا وفتحت فتوحات عظيمة وكان منها ملوك كبار منهم الملك العظيم الصالح العبقري محمد الفاتح............

أما نحن الآن ففي بلاط الملك الذي لقب بياوز وكان ياوزا حقا.. (صاعقة) منقضة لا يقف في وجهها شيء السلطان سليم...ياوز سليم تاسع ملوك آل عثمان الملك القاهر البطاش سفاح الدماء وسلاب الأرواح والذي أمن أهل حلب ثم فرض عليهم ضريبة سماها ضريبة الأمان كادت تستغرق أموالهم كلها................

وكان أهون شيء عنده القتل خنق اخوته لما خشي أن يزاحموه..وقتل سبعة عشر من آل بيته وسبعة من وزرائه...رد عليه الصدر الأعظم يونس باشا رئيس الوزراء كلمة كان الحق فيها مع الوزير فأمر بضرب عنقه قبل أن يتم جملته ودفن في موضع مصرعه في خان يونس بالقرب من غزة........

ولما ترك للشراكسة في مصر أوقافهم قال له رئيس وزرائه بري باشا يا مولانا فنيت أموالنا وعساكرنا في حربهم وتبقي لهم أوقافهم يستعينون بها علينا...وكانت رجل السلطان في الركاب...فأشار إلى الجلاد فقطع عنق الوزير...فصار رأسه على الأرض قبل أن يصير السلطان على ظهر الفرس...حتى سار المثل من أراد الموت فليصر وزيرا للسلطان سليم...

وكان الرجل إذا سمي للوزارة كتب وصيته وأعد كفنه وودع أهله...فلا يدري كلما ذهب ليقابل السلطان أيعود ماشيا على رجله أم محمولا على قفاه..

نحن الآن أيها السادة في بلاط السلطان سليم وأهل الديوان الملكي في أماكنهم وقوبهم من خوف السلطان في وجل.......

فلم يرع الوزراء وأهل الديوان إلا دخول الشيخ المفتي عليهم وما كان من عادة المفتي أن يدخل الديوان وليس له فيه حاجة فوثبوا إليه يستقبلونه حتى أقعدوه في صدر المجلس وقالوا له أي شيء دعا المولى إلى المجيء إلى الديوان العالي؟؟

قال: أريد أن أدخل على السلطان....ولي معه كلام فاستأذنوا له على السلطان فأذن له....وحده.

فدخل وسلم عليه وجلس.

والسلطان ينظر إليه وقد بدت بوادر الغضب على محياه وسكت محنقا يرقب ما يأتي به الشيخ....حتى قال الشيخ:

وظيفة أرباب الفتوى أن يحافظوا على آخرة السلطان، وقد أمرت بقتل مئة وخمسين من العمال لا يجوز قتلهم شرعا فعليك بالعفو عنهم....

فطار الغضب بعقل السلطان من هذه الجرأة ولم يعد يبصر من أمامه وكاد يأمر بضرب عنق الشيخ والأمر بالقتل دائما على طرف لسانه ثم ضبط نفسه وأراد ردعه من غير قتله وقال له: إنك تتعرض لأمر السلطنة وليس ذلك من وظيفتك..وأعرض عنه وارتقب أن يكف الشيخ وينصرف.....ولكن الشيخ قال: بل أتعرض لأمر آخرتك وإنه من وظيفتي...ومهما عشت فإنك ميت ومعروض على الله وواقف بين يديه للحساب فإن عفوت فلك النجاة وإلا فأمامك جهنم لا يعصمك منها ملكك ولا ينجيك سلطانك...

أتدرون ماذا كان...لقد ذل السلطان العظيم أمام الشيخ الضعيف وهانت القوة أمام الحق وخضع ملك الزمان أمام سطوة الشرع ولم يعد الشيخ هو الذي يتكلم بل أعظم موجود عرفته الدنيا: الإسلام....

فعفا السلطان عنه جميعا وجالس المفتي ساعة يحدثه ويكرمه فلما قام ليخرج قال الشيخ....تكلمت في أمر آخرتك..وبقي لي كلام متعلق بالمروءة قال السلطان ماهو؟

قال: هؤلاء من خدم السلطان فهل يليق بعرض السلطنة أن يتكففوا الناس؟

قال: لا.

قال: فإعدهم إلى مناصبهم.

قال: نعم وإني لأعاقبهم على تقصيرهم

قال: هذا جائز لأن التعذير مفوض شرعا إلى رأي السلطان....ثم سلم وانصرف...

هذا المفتي هو علاء الدين على بن أحمد الجمالي الذي تولى التدريس والفتوى ستا وعشرين سنة على عهد السلطان بايزيد والسلطان سليم وابنه سليمان القانوني...كان ‘الما عاملا يمضي وقته في التلاوة والعبادة والدرس والفتوى وكان يحب العزلة فجعل مجلسه في غرفة مطلة على الطريق وأدلى منها زنبيلا (سلة) بحبل فمن كان له سؤال واستفتاء ألقى سؤاله في الزنبيل وحرك الحبل فأخذه وأجاب عليه وأدلى بالجواب...فعرف بلقب (زنبيلي زاده علي أفندي)

وألقى الله مهابته في قلب السلطان سليم فكان يمتثل أمره ويجيب طلبه وكانت له معه مواقف كثيرة أذكر

منها:

لما خرج السلطان سليم إلى أدرنة خرج المفتي لوداعه وتشييعه فرأى في الطريق أربعمائة رجل مشدودين بالحبال يسوقهم الجند فسأل عن حالهم فقالوا إنهم خالفوا أمر السلطان فحكم عليهم بالقتل..

فذهب المفتي إلى السلطان وقال في ملء من الناس...

هؤلاء لا يحل قتلهم.

فقال السلطان أيها الشيخ إلى متى تتدخل في أمور السلطنة الزم حدك واشتغل بوظيفتك...

قال الشيخ هذا عملي وهذه وظيفتي فإن سمعت نجوت وإلا لقيت ملكا هو أقدر عليك، منك عليهم...

وأدار عنق دابته ومشى بدون تسليم...فاحمر وجه السلطان وكاد يتفجر منه الدم ووقف على فرسه صامتا مدة طويلة وهو في غضب لم يغضب مثله والناس خائفون سكوت.............

ثم مشى في طريقه وأمر بالعفو عن القوم...

هذا لتعلموا أن العظمة في تاريخنا عظمة هؤلاء الرجال هؤلاء العلماء الذين تعلموا ليعملوا، وآمنوا فظر إيمانهم في أقوالهم وأفعالهم...

ولو أن عصرا خلا من أمثال هؤلاء لكان هذا العصر الذي صورته لكم ولكنهم موجودون أبدا، معجزة حية باقية لخاتم الأنبياء والمرسلين وتصديقا لقوله: لا تزال طائفة من أمتي على الحق لا يضرها من خالفها حتى تقوم الساعة...

عائشة التيمورية

جئت اليوم أحدثكم حديث الأدب، وأخاطب فيكم العاطفة وازجي لكم الحديث عن امرأة خلدها البيان، امرأة ولدت سنة 1256 هـ وماتت سنة 1320هـ وأنتم تعرفون ما كانت عليه حال النساء في تلك الأيام، كن أسيرات الجهل وضيق الفكر واستبداد الرجل فكان من أعجب العجب أن تنشأ فيهن شاعرة مجودة وكاتبة بليغة فاقت أدباء عصرها وسبقت في مضمار الرثاء العاطفي العصور كلها وكانت واحدة جمعت عجيبتين اثنتين، أولاهما أنها شاعرة مجودة والمجودات في الشعر من النساء أقل من القليل، لا في العربية وحدها بل في كل ألسنة العالم والأدب العربي على طوله لم يعرف مئة من الشاعرات المجودات..على حين قد عرف عشرة آلاف من مجودي الشعر، والثانية أنها نشأت في عصر تلك حال المرأة فيه...

وأحب أن أنبهكم إلى أن الإسلام برئ مما أصاب المرأة وأن التاريخ الإسلامي حافل بذكر العالمات الأديبات من النساء في عصوره كلها حتى في العصر الماضي....وفي مكتبتي الآن أكثر من ثلاثة آلاف ترجمة لمن نبغ من النساء...وفي كتب الجرح والتعديل ذكر المئات من المحدثات الذين كانوا أساتذة الرجال........

وبعد، فهذه الشاعرة الأديبة الكاتبة التي شقت الطريق لأترابها والتي سبقت زمانها والتي كانت اعجوبة في بيانها هي السيد عائشة التيمورية أخت العلامة المحقق أحمد تيمور وعمة رائد القصة العربية ابنه محمد تيمور وأخيه كبير القصصيين المصرين محمود تيمور...

نشأت في اسرة تركية غنية، فتعلمت القراءة والكتابة في القصر على طريقة أبناء الأكابر فنبهت في نفسها الرغبة في المطالعة والإشراف على مجالس العلم ف بالقصر، ولكن أمها أرادتها على ما كان من شأن اترابها في الخياطة والتطريز، وأبت البنت إلا ما تميل إله فطرتها، واستمرت المعركة حتى برز الأب اسماعيل تيمور وقال لها دعي هذه البنت للعلم ودونك أختيها ربيهما كما تريدين وأحضر لها المعلمين والمعلمات فأخذت النحو والعروض عن فاطمة الأزهرية وستيتة الطبلاوية وهذا يدلكم على أنه لم يخل ذلك العصر من عالمات وأزهريات.

والصرف والفارسية عن علي خليل رجائي والقرآن والخط والفقه على إبراهيم التونسي وحفظت عشرات الدواوين وطالعت كتب الأدب حتى صارت تنظم بالعربية والفارسية والتركية ولم يكن يفوقها من شعراء عصرها إلا البارودي (ذاك أمة وحده) والساعاتي ولها كتابة منها المسجع والمرسل والبليغ وهي أول من دعا إلى تعليم المرأة ولها في ذلك مقالات واشعار وكانت تحبذ الحجاب وترى أنه لا يمنع العلم والأدب ولها القصيدة المشهورة:

بيد العفاف أصون عز حجابي

وبعصمتي أسمو على أترابي

وبفكرة زقّادة وقريحة

نقادة قد كُمِّلت آدابي

ما ضرني أدبي وحسن تعلمي

إلا بكوني زهرة الألباب

ما ساءني خدري وعقد عصابتي

وطراز ثوبي واعتزاز رحابي

ما عاقني خجلي عن العليا ولا

سدْل الخمار بلمتي ونقابي

عن طي مضمار الرهان إذا اشتكت

صعب السباق مطامح الركاب

عاشت في سعة من العيش وإقبال وربيت في العز والدلال لكن الدهر الذي لا يدوم على حال رماها بالنكبة التي تصدع قلوب الأبطال من الرجال فكيف بشاعرة من ربات الحجال....مرهفة الحس رقيقة القلب تعيش بالعاطفة والحب؟؟

أصابها ما لم تطق له احتمالا كانت لها بنت اسمها توحيدة جمع الله لها جمال الخلْق وسمو الخُلق، فياضة الأنوثة ساحرة الطرف بليغة النطق مهذبة الحواشي ما رآها أحد إلا أحبها...وبلغت الثامنة عشرة وتزوجت فما مر على عرسها شهر حتى اصابها مرض مفاجئ فماتت....

وروعت الصدمة عائشة وشدهتها ولم تستطع التصبر ونسيت كل شيء إلا ابنتها وتركت كل شيء إلا الانقطاع لرثائها ولبثت على ذلك سبع سنين كوامل،،،قالت فيها قصائد تُبكي الصخر وتحرك الجاد، وأثر طول البكاء في عينيها فما عادت تبصر....ثم ألهمها الله الصبر بعد سبع سنين وشفي بصرها لكنها لم تنس النكبة ابد وهاكم أبياتا من قصيدة واحدة لا أعرف في الشعر العربي أحد منها حسا ولا أظهر عاطفة ولا أبلغ في إثارة الأسى..وهي في هذا (لا في جودة السبك وروعة البيان) تفوق الخنساء وابن الرومي وتفوق قصيد التهامي المشهورة في ولده...

بدأت القصيدة تصف روعة الخطب ولوعة الحزن فقالت....

إن سال من غرب العيون بحور..........فالدهر باغ والزمان غدور

فلكل عين حقُ مدرار الدِّما..........ولكل قلب لوعة وثبور

ستر السنا وتحجبت شمس الضحى..........وتغيبت بعد الشروق بدور

ومضى الذي أهوى وجرعني الأسى..........وغدت بقلبي جذوة وسعير

ياليته لما نوى عهد النوى..........وافى العيون من الظلام نذير

ثم أخذت تصف كيف بدأ المرض في رمضان سحرا

طافت بشهر الصوم كاسات الردى.......... سحرا وأكواب الدموع تدور

فتناولت منها ابنتي فتغيرت...........وجنات خد شانها التغير

فذوت أزاهير الحياة بروضها.......... وانقد منها مائس ونضير

لبست ثياب السقم في صغر وقد...........ذاقت شراب الموت وهو مرير

جاء الطبيب ضحى وبشر بالشفا..........إن الطبيب بطبه مغرور

وصف التجرع وهو يزعم أنه...........بالبرء من كل السقام بشير

واسمعوا كيف استبشرت الفتاة بدواء الطبيب

فتنفست للحزن قائلة له..........عجل ببرئي حيث أنت خبير

وارحم شبابي إن والدتي غدت..........ثكلى يشير لهى الجوى وتشير

وارأف بعين حرمت طيب الكرى..........تشكو السهاد وفي العيون فتور

لما رأت يأس الطبيب وعجزه..........قالت ودمع المقلتين غزير

أماه قد كل الطبيب وفاتني..........مما أؤمل في الحياة نصير

لو جاء عراف اليمامة يرتجي..........برئي لرد الطرف وهو حسير

يا روع روحي حله نزع الضنى..........عما قليل ورقها وتطير

أماه قد عز اللقاء وفي غد..........سترين نعشي كالعروس يسير

وسينتهي المسعى إلى اللحد الذي..........هو منزلي وله الجموع تسير

قولي لرب اللحد رفقا بابنتي..........جاءت عروسا ساقها التقدير

وتجلدي بإزاء لحدي برهة............فتراك روح راعها المقدور

أماه قد سلفت لنا أمنية.........يا حسنها لو ساقها التيسير

كانت كأحلام مضت وتخلفت..........مذ بان يوم البين وهو عسير

وتصوروا الأم وهي تعود فلا تلقى ابنتها ونرى جهاز العرس مازال باقيا.....

عودي إلى ربع خلا ومآثر........قد خلفت عني لها تأثير

صوني جهاز العرس تذكارا فلي.........قد كان منه إبى الزفاف سرور

جرت مصائب فرقتي لك بعد ذا..........لبس السواد ونفّذ المسطور

والقبر صار لغصن قدي روضة.............ريحانها عند المزار زهور

أماه لا تنسي بحق بنوتي........قبري فيحزن المقبور

وهاكم جواب الأم:

فأجبتها والدمع يحبس منطقي............والدهر من بعد الجوار يجور

بنتاه ياكبدي ولوعة مهجتي..........قد زال صفو شانه التكدير

لا توصي ثكلى قد أذاب فؤادها.........حزن عليك وحسرة وزفير

قسما بغض نواظري وتلهفي.....مذ غاب إنسان وفارق نور

وبقبلتي ثغرا تقضى نحبه.........فحرمت طيب شذاه وهو عطير

والله لا أسلو التلاوة والدعا.......ما غردت فوق الغصون طيور

كلا ولا أنسى زفير توجعي..........والقد منك لدى الثرى مدثور

إني ألفت الحزن حتى أنني...........لو غاب عني ساءني التأخير

قد كنت لا أرضى التباعد برهة..........كيف التصبر والبعاد دهور

أبكيك حتى نلتقي في جنة..........برياض خلد زيًّنتها الحور..

أرأيتم أيها السامعون كي نسيتم مصائبكم وبكيتم لمصاب هذه الفتاة التي ماتت من ثمانين سنة (يوم أذيع هذا الحديث)

هذه عظمة الشعر..............رحمة الله على الشاعرة التي لم يظهر بعدها مثلها...........

أبو دلامة

هو الشاعر المشهور أبو دلامة ولا تقولو أقصد لا يقل بعض المتنطعين منكم وما أبو دلامة والحديث عن أعلام الإسلام (كان اسم البرنامج الذي أذيعت فيه هذه الحلقة اعلام الإسلام) فإن الأعلام كل رجل كان له في التاريخ ذكر وكل امرأة كان لها في الحياة أثر..اتحدث عن الأخيار لتقتدوا بهم وعن الأشرار لتعتبروا منهم...............

كان أبو دلامة كما يقول الخطيب البغدادي شاعرا مطبوعا كثير النوادر في العشعر وكان صاحب بديهة يداخل الشعراء ويزاحمهم في جميع فنونهم وينفرد في وصف الشراب والرياض.

وزاد ابو الفرج...كان فاسد الدين رديء المذهب وكان الذي روج له عند الخلفاء السفاح والمنصور والمهدي وجعله يتمكن عنده ولا سيما المنصور ويأخذ منه على بخله جزيل العطايا هو صراحته وخفة روحه وحضور بديهته وسرعة جوابه على بلاغته ومتانة شعره.

وكان يضحك الخلفاء حتى في المواطن التي لا يسوغ في مثلها الضحك..

ماتت حمادة بنت عيسى زوجة المنصور وخرج الخليفة ووجوه القواد وكبار الرجال في جنازتها فما وقفوا على القبر قال المنصور لأبي دلامة يعظه ويذكره:

ماذا أعددت لهذه الحفرة يا أبا دلامة؟ وأشار إلى القبر...

قال: حمادة بنت عيسى زوجة أمير المؤمنين.

فضحك اللمنصور وكل من حضر وقال: فضحتنا قبحك الله.

وخرج مع المهدي وعلي بن سليمان مرة إلى الصيد فرمى المهدي غزالا فأصابه ورمى علي فأخطأ وأصاب سهمه كلبا من كلاب الصيد...فقال أبو دلامة على البديهة

قد رمى المهدي ظبيا

شك بالسهم فؤاده

وعلي بن سليمان

رمى كلبا فصاده

فهنيئا لهما

كل امرئ يأكل زاده

فضحك المهدي وأجازه..

وكان ينطلق لاستدرار عطايا الخلفاء، دخل مرة على السفاح فقال:

سلني حاجتك......

قال: كلب صيد

قال: ويلك أهذه حاجتك..كلب؟ قال: نعم.

قال: أعطوه إياه.

قال: يا أمير المؤمنين كيف ألحق به، أأعدوا على رجلي؟

قال: أعطوه فرساً....قال: فمن يخدم الفرس؟

فأمر له بغلام..

قال: فإن صدت صيدا فمن يطبخه؟

فأمر له بجارية.....

فقال: يا أمير المؤمنين هؤلاء يبيتون على الطريق..

فأمر له بدار...قال يا أمير المؤمنين: قد صيرت في رقبتي جملة من العيال...فمن ينفق عليهم...؟ فأعطاه مالا وقال هل بقيت لك حاجة.

قال: نعم...تدعني أقبل يديك.

قال: أما هذه فلا.....

قال: ما منعتني حاجة أهون علي منها

قال الجاحظ فانظر إلى حذقه في المسألة ولطفه فيها..بدأ بكلب صيد وجعل يأتي بما يليه على ترتيب وفكاهة حتى نال ما لو سأله ابتداءا ما وصل إليه

وولدت له بنت فغدا إلى المنصور وقال....: يا أمير المؤمنين إنه ولد لي الليلة بنت...قال وما تريد؟

قال أريد أن يعينني عليها أمير المؤمنين وأنشده

ولو كان يقعد فوق الشمس من كرم

قوم لقيل اقعدوا يا آل عباس

ثم ارتقوا في شعاع الشمس إن لكم

مجدا تليدا وأنتم أفضل الناس

قال: فهل قلت في ابنتك شيئا..فأنشد على الفور

فما ولدتك مريم بنت عيسى

ولا رباك لقمان الحكيم

ولكن قد تضمك أم سوء

إلى لباتها وأب لئيم

قال: فماذا تحب أن أعينك؟

قال: بملء هذه.. وأخرج خرقة بين أصابعه

قال المنصور املؤها له...فلما فتحوها إذا هي كيس من القماش الرقيق وسعت أربعة آلاف درهم ولما رجع المهدي من الري دخل عليه أبو دلامة وأنشده:

إني نذرت لئن رأيتك سالما

بقرى العراق وأنت ذو وفر

لتصلين على النبي محمد

ولتملأن دراهما حجري

فقال: صلى الله على النبي محمد....أما الدراهم فلا..

قال: أنمت أكرم من أن تفرق بينهما ثم تختار أسهلهما...

فأمر أن يملأ حضنه دراهم....

ومن حسن تخلصه أنه دخل مرة على المهدي وعنده جلة القوم ووجوه بني هاشم.

فقال له المهدي ليضحك منه: أحلف لئن لم تهج أحدا من المجلس لأضربنك ضربا مبرحا..فجعل ينظر في وجوه القوم فكلما نظر إلى واحد غمزه أن يعطيه فما كان منه إلا أن هجت نفسه فقال:

ألا أبلغ لديك أبا دلامة

فليس من الكرام ولا كرامة

إذا نزع العمامة كان قردا

وخنزيرا إذا لبس العمامة

فإن تك قد أصبت نعيم دنيا

فلا تفرح فقد دنت القيامة

فضحك القوم ولم يبق احد إلا اجازه...

ومن طرائفه أنه دخل على المهدي وهو يبكي....

قال: مالك: قال: ماتت اليوم أم دلامة... وأنشده يقول:

وكنا كزوج من القطا في مفازة

لدى خفض عيش ناعم مونق رغد

فأفردني ربيب الزمان بفقده

ولم أر شيءا قط أقبح من فرد

فأمر له بثياب وطيب وأموال...وخرج فدخلت أم دلامة على الخيزران تبكي وأعلمتها أن أبا دلامة قد مات فحزنت وأعطتها مالا..

فلما دخل المهدي على الخيزران قالت...قد مات أبو دلامة...قال: بل أم دلامة التي ماتت..

قالت وكيف وقد كانت عندي..قال بل هو الذي كان عندي.

وعرفا الحيلة وضحكا..

وكان جبانا يفر من القتال ويحتال لذلك شتى الحيل واضطر مرة للخروج مع روح بن حاتم المهلبي لقتال الخوارج... فكانت القصة من أعجب القصص..... فيها حل لهذه المشكلة التي استعصت على الحلول..... مشكلة الحرب.

كان قريبا من الأمير في المعركة، فغلب عليه ما ركب في نفسه من الطمع

فقال للأمير: أما والله لو تحتي فرسك وفي يدي سلاحك لفعلت في العدو الأفاعيل...فضحك الأمير وقال: والله لأدفعن إليك ذلك ولآخذنك بالوفاء بشرطك ونزل عن فرسه وأعطاه سلاحه.

ودفعهما إله دفعا، فلما زالت عنه حلاوة الطمع قال يا أيها الأمير:

هذا مقام العائذ بك وقد قلت بيتين فاسمعهما:

قال: هات.

قال:إني استجرتك أن أقدم في الوغى

لتطاعن وتنازل وضراب

فهب السيوف رأيتها مشهورة

فتركتها ومضيت في الهراب.

قال الأمير: لتيرن ما أصنع بك إن هربت..... وبرز فارس من الخوارج وطلب بطلا يبارزه... فأخرج له أبا دلامة...... قال أبو دلامة: فلما رايت منه الجد.

قلت: أيها الأمير

فإنه أول يوم من أيام الآخرة وآخر يوم من أيام الدنيا فأمر لي برغيفين ودجاجة محمرة فأنا والله جائع ما شبعت من الجوع، فأمر له به وقال: وبشيء من الحلوى وفاكهة. . . فأخذته وبرزت عن الصف، فلما رآني الخارجي، أقبل علي وسيفه في يده وعيناه تقدان وعليه فرو قد أصابه المطر فابتل وأصابته الشمس فانفتل فكان كأنه الوحش....

فقلت: على مهلك يا هذا، قف نتكلم، فتوقف

ثم أكمل: هل تقاتل من لا يقاتلك...؟

قال: لا...قلت: أتقتل رجلا على دينك؟ . . .

قال: لا

قلت: فلماذا تقاتل؟ . . .

قال: اذهب إلى لعنة الله.

قلت: لا أفعل حتى تسمع مني..... قال: قل

قلت: هل بيني وبينك عداوة قط. أو ثأر أو تعرفني بحال تغضبك علي أو تعلم بين أهلي وأهلك ثأرا؟

قال: لا والله. . .

قلت: ولا أنا والله.. وانا أدين بدينك وأريد السوء لمن أراده لك. . .

قال: يا هذا.

جزاك الله خيرا.

فانصرف.

قلت. . . إن معي زادا أحب أن آكله معك. . وأريد مؤاكلتك لتتأكد المودة بيننا ويرى اهل العسكر هوانهم علينا. .

قال: فافعل.

فنزلنا عن افراسنا وقعدنا على الأرض ناكل والعسكران قد ماتا من الضحك. . .

فلما استوفينا ودعني... فقلت إن هذا الجاهل يعني الأمير إن قمت على طلب المبارزة ندبني إليك فتتعبني فانصرف راشدا. . . فانصرف

الملك الصالح

وهذه سيرة عظيم آخر لا تعرفونه، وما أكثر من لا تعرفون من عظماء الإسلام، ملك آخر كان في سيرته وأعماله مثلا مضروبا لما ينبغي أن يكون عليه الملك المسلم، حلقة من هذه السلسلة الذهبية التي ضمت حلقاتها سير أبي بكر وعمر وعثمان وعلي، وعمر بن عبد العزيز ونور الدين وصاح الدين وأورنك زيب.....هو الملك الحليم مظفر بن محمود من ملوك أحمد آباد في الهند.

وكانت أحمد آباد حاضرة الهند ومدينة المدائن فاقت البلدان ببساتينها وحدائقها وحسن نظامها وعظيم عمرانها وفاقتها بأمنها وسلامها وإقامة العدل فيها وفاقتها بكثرة علمائها ومحدثيها والصالحين من أهلها.

ولد يوم الخميس 20شوال سنة 785 هـ في الكجرات ونشأ نشأة عالم عابد في أسرة أكثر ملوكها صالحون متعبدون وقرأ ما كان معروفا من كتب العلم وبرع في الحديث وكان قد تلقاه عن جمال الدين المبارك الحميري الحضرمي ومجد الدين الإيجي وشارك في العلوم والفنون كلها حتى الموسيقى وكان خطاطا جيد الخط، يتقن النسخ والثلث والرقعة وكان يمتب المصحب بيده ويبعث به إلى الحرمين..وحفظ القرآن في شبابه..

ومارس السيف والرمح والرمي والفروسية والمصارعة وأتقن الفنون الحربية وكانت صورة نشأته صورة عن نشاة أورنك زيب....أو على الأصح تلك نسخة عن هذي لأن أورنك زيب أتى بعده بقرن ونصف...

وكذلك ترون أن في الهند المسلمة التي تجهلون تاريخها _كما كنت أجهله قبل أن ارحل إليها _ملوكا في ثياب فقهاء وعلماء ومحدثين، رجالا جمعوا الدنيا والدين والعلم والعمل......

وكان أسلافه كلهم على هذا الطريق لكنه فاق أسلافه

ولي الملك 3 رمضان 917 هـ وهو في الثانية والأربعين وحكم إلى أن توفي في 2 جمادى الأولى 932....فكانت مدة سلطانه خمس عشرة سنة مرت على الناس مما رأو فيها من عدله وسخائه وحزمه وتقواه كأنها خمسة عشة يوما....

وكان يتبع السنة ويعمل بما يحفظ من الأحاديث الصحيحة في كل صغيرة وكبيرة من أمور نفسه وأهله والرعية...ويدني العلماء ويصحبهم ويكرمهم ويرجه إليهم...

وكان في الحرب قائدا عبقريا وإن لم يكن يميل إلى خوض الحروب، ولما استنجد به السلطان محمود الخلجي وجاءه مستجيرا به وقد غلبه المجوس على دياره واحتلوا عاصمته وفيها أهله وماله، وخرج ينجده بجيش ضخم فخدعه العدو وعرض عليه تسليم القلعة وماطله حتى جاءه القائد الهندي الأشهر (رانكا سانكا) ع بين حجري الرحا ويحيط به العدو من الجانبين فإذا هو بحيلة بارعة وشجاعة نادرة يفتح القلعة ويحر الجيشين المعاديين ويكون له النصر الأبلج....

ولما وصل إلى بابها، لم يدخلها بل التفت إلى السلطان الخلجي وهنأه بالفتح وقال باسم الله...ادخلوها بسلام آمنين وعطف عنان فرسه راجعا ولكن الخلجي لم يدعه حتى أدخله قبله وقدم إليه أولاده الذين استنقذوا من الأسر وأراه آثار آبائه ومعالم بلاده ثم دعا وجوه مملكته وقواد جيشه وقال للسلطان المظفر على ملأ منهم جميعا: الحمد لله الذي أراني بهمتك ما كنت أتمناه، ولم يكن لي الىن أرب بالملك وانت أحق بالملك مني...

قال المظفر: إن أول خطوة خطوتها إلى هذه الجهة كانت لله ولم تكن للملك والله يبارك لك في ملكك على أن تقيم شرع الله وحكمه وأن نكون يدا واحدة في كل أمر...

قال الخلجي: لقد خلا ملكي من الرجال وليس لدي جيش يحميه ولا آمن عودة العدو. . . قال المظفر: ام هذا فنعم وترك معه قائده آصف خان باثني عشر ألفا... وقال لهم إن جرايتكم على حالها. . . ورواتبكم ونفقاتكم كلها علي كما كانت وما أعطاكم الخلجي من شيء فهو توسة لكم. . . وأمر للخلجي بخزانة مال.

ولما هم بالرحيل سأله أركان دولته أن يستأثر بالقلعة. .

ويضمها إلى ملكه فالتفت إلى الخلجي وقال له: احفظ باب القلعة برجالك ولا تدع أحدا يدخلها بعد نزولي ولو كان من أصحابي وأولادي.

وأخذه الخلجي قبل الوداع إلى دار مغلقة ففتحها فرز له منها نساء ما رأت العين مثلهن فنثرن الزهر والجوهر على قدميه. . . فغض بصره وأشار إليهن أن يحتجبن لأن النظر إلى الأجنبية حرام. . .

قال الخلجي: كلهن ملكي.

وأنا مالُك والعبد وما ملك لسيده. . .فدعا له وخرج ولم ينظر إلى واحدة منهن.

والعجيب حقا في القصة المملوءة بالعجائب أن الخلجي هذا وآباؤه كانوا أعداء دولة الكجرات وألد خصومها وأعجب منه أن والد الخلجي هذا، المسمى غياث الدين الخلجي كان قد خرج إلى الكجرات لنصرة كفار الهند على ملوكها المسلمين.

وكان من دأب الملوك المسلمين يا سادة إذا عنوا ببلادهم وأصلحوا أمرها أن يعنوا بالبلد الذي هو بلد كل مسلم، بالحرمين..فيقفوا عليهما الأوقاف ويرسلوا إليهما المدد وكانت إمدادات المظفر لأهل الحرمين متصلة وقد صنع مركبا شحنه بأثمن القماش وأرسله هدية هو وما فيه إلى جدة وبنى بمكة رباطا فيه مدرسة وسبيل ومساكن ووقف عله وقفا كبيرا وكانت له في كل موسم صلات ضخمة يبعث بها إليهم.

وكان خبر موته خبرا عجيبا يدل على حسن الخاتمة...وعلى أنه إن شاء الله من أهل الحنة.

وأنا أروي الخبر كما جاء في كتاب نزهة الخواطر للعلامة الطبيب الحاذق مؤرخ الهند المسلة عبد الحي الحسني والد الصديق الجليل أبو الحسن الندوي نقلا عن الآصفي قال:

وفي سنة إحدى وثلاثين وتسعمائة خرج السلطان إلى مصلى العيد للاستسقاء وتصدق وتفقد ذوي الحاجة على طبقاتهم وسأله الدعاء...

ثم تقدم للصلاة وكان آخر ما دعا به:

اللهم إن يعبدك ولا أملك لنفسي شيئا فإن تك ذنوبي حبست القطر فها ناصيتي بيدك فأغثنا يا أرحم الراحمين قال هذا ووضع جبهته على الأرض يكرر يا ارحم الراحمين فما رفع رأسه إلا وقد هاجت الريح ونشأت سحابة ببرق ورعد ومطر.... ثم سجد لله شكرا.

وعاد بدعاء الناس له وهو يتصدق وينفح بيده المال يمينا وشمالا.

وبعد الاستسقاء بقليل اعتراه كسل. . .ثم ضعف في المعدة. .

وفي خلال ذلك عقد مجلسا حافلا بسادة الأمة ومشايخ الدين وتذاكروا فيما يصلح للآخرة.............

قال..................وفي أواخر أيامه وكان يوم الجمعة قام إلى القصر واضطجع إلى أن زالت الشمس فاستدعى بالماء وتوضأ وصلى ركعتي الوضوء.........ثم خرج وجلس ساعة واستدنى منه راجه محمد حسين المخاطب (أي المدعو) بأشجع الملك.. وقال له أريدك أن تحضر وفات وتغسلني بيديك وتقرأ علي سورة ياسين.....وسمع أذانا فقال أهو في الوقت....قالوا هو أذان الاستدعاء للجمعة (الأذان الأول يكون قبل الوقت بقليل) قال أما الظهر فأصليه معكم...وأما العصر فعند ربي في الجنة إن شاء الله....ثم أذن للحاضرين في صلاة الجمعة وطلب مصلاه وصلى ودعا الله سبحانه بوجه مقبل وقلب منيب.............وكان آخر دعائه...رب قد آتيتني من الملك وعلمتني من تأويل الأحاديث فاطر السماوات والأرض أنت وليي في الدنيا والآخرة توفني مسلما وألحقني بالصالحين........وقام من مصلاه وهو يقول استودعكم الله...واضطجع على سريره ووجه للقبلة وقال: لا إله إلا الله محمد رسول الله....وفاضت روحه إلى بارئها.......والخطيب على المنبر يدعو...حنأ؛

شارح القاموس

لو سئلت ما هو أشهر كتاب عربي لقلت إنه القاموس للفيروزآبادي فقد بلغ من شهرته أن سمي كل معجم قاموسا مع أن القاموس اسم لهذا الكتاب وحده، وإلى جنب القاموس في كل خزانة كتاب شرخ القاموس، الكتاب الجليل الذي يزيد في احاطته وشموله على المعجم العظيم لسان العرب...

وحديثي اليوم عن الزبيدي شارح القاموس عن الرجل الذي كان طرازا نادرا من العلماء والذي كان نموذجا للشيخ الذي جعل المشيخة تجارة، وصورة للعالم المترف الثري والذي بلغ من قدره أنه كان أعظم علماء الأرض في زمانه............والذي كان مشاركا في كل علم ملما بكل فن إماما في اللغة والحديث والتاريخ وكان أديبا شاعرا وكان مع ذلك وقورا مهيبا بشوشا بساما وكان مع هيبته ووقاره خفيف الروح عذب النكته مستحضرا للنوادر العجيبة متحدثا قليل النظير..

ولد في الهند سنة 1145 هـ ونشأ بها ثم رحل في طلب العلم وحج مرارا ونزل الطائف سنة 1166هـ وورد مصر سنة 1167

وفي مصر لمع نجمه وسار اسمه ونال النزلة التي وصفت لكم وقد اتصل أو أمره بالأمير اسماعيل كتخدا وألقى الله محبته وإكباره في قلبه فولاه جانبا من دنياه ونبه إكرام الأمير الناس إليه، فأقبلوا عليه وتسابقوا إلى سماع درسه وحضور مجلسه وأهدوا إليه الهدايا الفاخرة فحسنت حاله ولبس الملابس الفاخرة واشترى الخيل المسومة، وكان نحيفا ربعة، مورد الوجه، متناسب الأعضاء يتخذ الزي الحجازي خلافا لزي علماء الأزهر ويلبس العمامة الحجازية على القلنسوة المزركشة، ويترك لها عذبة، فكانت غرابة زيه من أسباب إقبال الناس عليه، فانتقل إلى سويقة اللالا وكانت يومئذ حي الأعيان والكبراء وفتح بيته للناس وكان يقيم الولائم ويهدي إلى من يهدي إليه وجعل ينقل درسه من مسجد إلى مسجد، ومن حي إلى حي، وزار بلاد الصعيد ثلاث مرات، وكان حيثما حل احتشد له الناس وازدحم عليه طلبة العلم والعلماء، وتسابق إلى إكرامه ودعوته الأمراء والكبراء وعني به شيخ العرب همام وهو كبير أعيان تلك البلاد، ورحل إلى مدن الوجه البحري كدمياط ورشيد والمنصورة وغيرها مرارا، ثم تزوج وأحب زوجته حبا ما أحب مثله قيس ليلاه ولا العباس فوزه، وعاش معها في مثل نعيم الجنات، وشرع بشرح القاموس، وكان كلما أكمل كراريس أرسل بها إلى علماء الأقطار الإسلامية فاشتهر قبل إكماله، فلما أكمله أولم الولائم العظيمة وجمع العلماء والعظماء، وكان احتفالا ضخما لبث عمرا وهو حديث الناس..

ولما أنشأ محمد بك ابو الدهب جامعه المعروف بالقرب من الأزهر وأقام به خزانة كتب اشترى أول نسخة من شرح القاموس بمئة ألف درهم فضة..!!!

ولم يمنع الزبيدي ما نال من دنيا عريضة من الإنشغال بالعلم والعكوف على التصنيف والولع بإقراء الطلبة، وإحياء العلوم التي اندثرت كعلم الأسانيد والأنساب وتخريج الأحاديث، وألف في ذلك كتبا جليلة..

وكانت مجالس الأمالي قد مضت زانقطعت من عهد السيوطي...والأمالي من مفاخر تاريخ العلم الإسلامي، فأعادها ووصلها، وجعل يملي من حفظه على طريقة السلف مجالس في الحديث مبتدئا بذكر الأسانيد والرواة والمخرجين.

وكان كلما قدم عليه قادم أملى عليه الحديث المسلسل بالأولوية، وهو حديث الرحمة برواته وخرجيه ويكتب له سندا بذلك ويخبره به، ويكتب سماع الحاضرين...فكان الناس يعجبون منذلك..

وطلب منه بعض شيوخ الأزهر إجازة.

فقال: لابد من قراءة أوائل الكتب، واتفقوا على الاجتماع في مسجد شيخون وحضر الاجتماع أهل تلك الناحية وطابة العلم فيها فالتمسوا منه بيان المعاني فانتقل من الرواية إلى الدراية وكان درس عظيم استمر مدة طويلة، وكان يمزج الحديث بالفقه بالعربية بالرواية ولم يكن ذلك معروفا من مشايخ الأزهر في تلك الأيام

وانتقلت شهرته إلى تركيا فطلب إلى اسطنبول فامتنع فرتبت له المرتبات الكبيرة وكاتبه أمراء المسلمين من الترك والحجاز واليمن والهند والشام والعراق والهند والسودان والجزائر وكثرت عنده الهدايا العجيبة منها أغنام فزان وهي عجيبة الخلقة يشبه رأسها رأس العجل فأرسلها إلى أولاد السلطان فكان لها وقع عظيم، وكذلك الببغاء والجواري والعبيد فكان يرسل ذلك إلى الجهات المستغرب فيها، ويأتيه في مقابلها أضعافها وأتاه من طرائف الهند واليمن أشياء نفيسة منها العود والعنبر بالأرطال..

وصارت له شهرة عظيمة عند اهل المغرب حتى إن من يحج ولا يزوره لا يرون حجه كاملا وكلما ورد عليه وارد سألأه عن اسمه ونسبه وبلده وأصحابه وجيرانه ويكنب ذلك كله فإذا جاءه بعد أحد هؤلاء الأشخاص يقول له: جارك فلان حي؟ وأخوك فلان هل ربحت تجارته؟ وأين عمك.

هل أكمل بناء بيته؟

فيقوم المغربي ويقبل يديه ويظن ذلك من الكشف..

وكان يعرف كيغ يحمل الكبراء على احترامه.. ولما جاء حسن باشا مصر وذهب إليه كل كبير فيها مسلما، لم يذهب الشيخ وأرسل من حمل الباشا على زيارته فزاره في داره وخلع الشيخ عليه فروة عظيمة لا تقدر بمال وقدم له حصانا سابقا على سرج مذهب وعباءة ثمنها ألف دينار، فكان ذلك سببا في علو مكانته عنده حتى أصبحت شفاعته عنده لا ترد..

ووقع له حادث عظيم قلب حياته وحوله من حياته الاجتماعية إلتي كان مضرب المثل فيها إلى عزلة وانطواء على نفسه ذلك هو وفاة زوجته التي أحبها حبا عظيما....

وأغلق عيه بابه واحتجب على الناس وأبى أن يدخل عليه احد ورد الهدايا التي كانت تجيئع ومنه هدية أيةب بك الدفتردار وهدية عظيمة بالغة القيمة من سلطان النغرب.

وقال فيها روائع الشعر... ومنها القصيدة البائية الرائعة ومطلعها:

أعاذل من يرزأ كرزئي لم يزل

كئيبا ويزهد بعده في العواقب

وقوله:

ما خلفت من بعدها في أهلها

غير البكا والحزن والأيتام

وقوله:

مضت فمضت عني بها كل لذة

تقر بها عيناي فانقطعا معا

وقوله:

زبيدة شدت للرحيل مطيها

غداة الثلاثا في غلائها الخضر

تميس كما ماست عروس بدلها

وتخطر تيها في البرانس والأزر

سأبكي عليها ما حييت وإن أمت

ستبكي عظامي والأضالع في القبر

ولست بها مستبقيا فيض عبرة

ولا طالبا بالصبر عاقبة الصبر

ولما جاء الطاعون سنة 1250 هـ وكان خارجا من صلاة الجمعة، طعن فحمل إلى داره...

مضى ولكنه خلف أكثر من خمسين مصنف حسبه أن يكون منها:

شرح إحياء علوم الدين..

وتاج العروس في شرح القاموس.....

قراوش المفترى عليه

حدثتكم من شهور حديثا صححت فيه خطا شائعا وبرأت فيه متهما مظلوما حين رددت باطل المتنبي وبينت حق المؤرخين في كافور الملك العادل الذي صغره المتنبي وهو عظيم وسيف الدولة الذي جعله المتنبي أعدل الملوك وكان على براعته في الحرب من ظلمة الحكام.

ولقد جئت أحدثكم اليوم عن رجل راح ضحية الأدب المفترى عليه، كما راح كافور بعده ضحية الشعر الظالم.

هو قراقوش.

وقراقوش المسكين الذي صار على ألسنة الناس في كل زمان وكل بلد المثل المضروب لكل حاكم فاسد الحكم، فكلما أراد الناس أن يصفوا حكما بالجور والفساد قالو: هذا حكم قراقوش.

وهم يحرفون اسمه فوق تحريف تاريخه..فيقولون قلااقاش بدل قراقوش، وقراقوش بالتركية -النسر الأسود- (قوش = نسر، قرا: أسود) / إن قراقوش له صورتان صورة تاريخية صادقة وصورة روائية صورها عدو له من منافسيه.

والعجيب أن الصورة التاريخية الحقيقية طمست ونسيت والصورة الخيالية بقيت وخلدت فلا يذكر قراقوش إلا ذكر الناس هذه الحكايات العجيبة وهذه الأحكام الغريبة التي نسبت إليه وافتريت عليه..

فمن هو قراقوش؟

هو أحد قواد بطل الإسلام صلاح الدين الأيوبي كان من أخلص أعوانه وأقربهم إليه وكتن قائدا مظفرا وكان جنديا أمينا وكان مهندسا حربيا منقطع النظير.

وكان مثالا كاملا للرجل العسكر إذا تلقى أمرا اطاع بلا معارضة ولا نظر ولا تأخير، وغن أمر أمرا لم يرض من جنوده بغير الطاعة الكاملة لا اعتراض أو تأخير أو نظر.

وكان أعجوبة في أمانته، لما احس الفاطميون بقرب زوال ملكهم شرعوا يعبثون بنفائس القصر ويحملون منها ما يخف حمله، ويغلو ثمنه وكان القصر مدينة صغيرة كدس فيها الخلفاء الفاطميون (كذا يعوهم الناس وليسوا على التحقيق من الفاطمين) خلال قرون من التحف والكنوز والنفائس مالا يحصيه العد ولو ان عشرة لصو اخذو منه ما تخفيه الثياب لخرج كل منهم بغنى الدهر ولم يحس به أحد.

فوكل صلاح الدين قراقوش بحفظ القصر فنظر فإذا أمامه من عقود الجواهر والحلي النادرة والكؤوس والثؤيات والبسط المنسوجة بخيوط الذهب ما لامثيل له في الدنيا هذا فضلا عن العرش الفاطمي الذي كان من أرطال الذهب لاومن نوادر اليواقيت والجواهر ومن الصنعة العجيبة ما لا بقوم بثمن ((ومثله عرش الطاوس الذي تعتز به غيران وما هو لها إنما هو عرش شاهجهان باني تاج محل)

وكان في القصر فوق ذلك من ألوان الجمال في المئات والمئات من الجواري المتحدرات منكل أمم الأرض، ما يفتن العابد

فلا فتنه الجمال ولا أغواه المال وفى الأمانة حقها ولم يأخذ لنفسه شيئا ولم يدع أحدا يأخذ منها شيئا وهو الذي اقام اعظم المنشئات الحربية التي تمت في عهد صلاح الدين وإذا ذهبتم إلى مصر وزرتم القلعة المتربعة على المقطم المطلة على المدينة فاعلموا ان هذه القلعة بل المدينة العسكرية اثر من آثار قراقوش.

وإذا رأيتم سور القاهرة الذي بقي من آثاره إلى اليوم ما يدهش العين فاعلموا أن الذي بنى السور وأقام فيه الجامع وحفر البئر العجيبة في القلعة هو قراقوش.

ولما وقع الخلاف بين ورثة صلاح الدين وكادت تقع بينهم الحرب ما كفهم ولا ردهم إلا قراقوش.

ولما مات العزيز الأيوبي وأوصى بالملك لابنه المنصور وكان صبيا في التاسعة جعل الوصي عليه قراقوش فكان الحاكم العادل والأمير الحازم أصلح البلاد وأرضى العباد.

هذا قراقوش فمن أين جاءت تلك الوصمة التي وصم بها؟ ومن الذي شوه ذهه الصورة السوية؟

إنها جريمة الأدب يا سادة.

لقد أساء المتنبي إلى كافور فألبسه وجها غير وجهه الحقيقي وأساء ابن مماتي إلى قراقوش فألبسه وجها غير وجهه الحقيقي.

ولم يعرف الناس من الاثنين غلا هذا الوجه المعار كوجه الورق الذي يلبسه الصبيان في العيد.

ابن مماتي هذا كاتب بارع وأديب طويل اللسان، كان موظفا في ديوان صلاح الدين وكان الرؤساء يخشونه ويتحامونه ويتملقونه بالود والعطاء ولكن قراقوش وهو الرجل العسكر الذي لا يعرف الملق ولا المداراة لم يعبأ به ولم يخش شره ولم يدر أن سن القلم أقوى من سنان الرمح، وأن طعنة الرمح تجرح الجرح فيشفى أو تقتل المجروح فيموت أما طعنة القلم فتجرح جرحا لا يشفى ولا يريح من ألمه الموت

فألف ابن مماتي رسالة صغيرة سماها " الفافوش في أحكام قراقوش " ووضع هذه الحكايات ونسبها إليه... .. وصدقها الناس.

ونسو التاريخ

ومات قراقوش الحقيقي وبقي قراقوش الفافوش كما مات كافور التاريخ وبقي كافور المتنبي وكما نسي عنترة الواقع وبقي عنترة القصة

هذا يا سادة سلطان الأدب... .فيا أيها الأدباء اتقوا الله في هذا السلطان..وياأيها الناس لا تنخدعوا بتزيف الأدباء..

خطيب الزهراء

أحدثكم اليوم عن قاض كبير، كان قاضي الجماعة في الأندلس، وهو مثل منصب قاضي القضاة في بغداد، وكان خطيبها الأول، وكان عالمها الأكبر، وكان يهزل حتى ليأتي بالعجائب من النكات والغرائب من المضحكات، ولكنه إذا جد الجد، وجاء الواجب وقف مواقف لا تثبت في مثلها الجبال الرواسي.

أما نكته فقد جهدت أن أعرض لبعضها وحاولت أن أعبر عنها بالكناية والإيماء والإشارة فوجدتها أفظع من أن يعرض لها في حديث يسمعه من أريد ومن لا أريد فمن أراد الوصول إليها فإن بعضها في (مطمح الأنفس) للفتح بن خاقان الوزير.

وأما مواقفه فهاكم صورا سريعة لطائفة منها، لا أستقصي في الرواية ولا أستوفي التصوير لأن ذلك كثير والوقت قصير.

نحن الآن في الأندلس جنة الأرض، في قرطبة عاصمة الدنيا، في العصر الذي لم تعرف الأندلس في جاهليتها الأولى ثم في إسلامها أمس ثم في نصرانيتها اليوم عصرا أزهى منه ولا أبهى، ولا أكرم ولا أعظم، عصر أمير المؤمنين عبد الرحمن الناصر باني الزهراء.

لقد جمعت الدنيا بعظمتها وبهائها في الأندلس، وجمعت الأندلس في قرطبة، وجمعت قرطبة ذلك اليوم في القصر، الذي ألبس من روعة البناء وجلال الفرش وعظمة السلطان ما لا يصفه قلم، وأعد لاستقبال وفد قيصر الذي قدم من القسطنطينية يريق على عتبة الناصر ولاءه وتلتمس تأييده.

وتطلعت نفوس الخطباء إلى الكلام في هذا المقام وتمنى كل عالم وخطيب، أن يشير إليه الخليفة بالرد على خطبة رئيس الوفد، فلم ينل ذلك واحد منهم، ونالهه الإمام أبو علي القالي البغدادي ضيف الأندلس ومؤلف الأمالي.

وقام ابو علي ليتكلم فأرتج عليه، وانقطع فما قدر على كلمة، وكاد يضطرب الأمر، وإذا بشاب يقوم من بين العلماء فيقف على المنبر، دون القالي بدرجة فيرتجل خطبة لم يسمع الناس مثلها هز فيها القلوب ولعب بالعواطف، وملك المشاعر، وجاء بشيء عجب، نبه الخليفة إلى مكانه فسأل ابنه الحكم عنه، فقال: هذا منذر بن سعيد البلوطي، قال: لأرفعن منه فإنه لذلك أهل، فولاه القضاء، وخطابة المسجد الجامع، ثم لما بنى مدينة الزهراء، أعجوبة الفن المعماري التي لم يبن مثلها ملك ولا أمير، والتي لو بقيت لكانت الحمراء إلى جانبها كوخا من الأكواخ، ولما أكمل مسجدها ولاه خطابته.

وكان الخليفة قد استغرق في الإشراف على بنائها، حتى قالوا إنه أضاع الجمعة مرة، وبنى فيها قاعة جعل قرامدها من الذهب والفضة وغرم فيها ما لا يوصف وحشد الناس لافتتاحها وجعل أول حفلات الافتتاح صلاة الجمعة، وكان الخطيب منذر بن سعيد، فصعد المنبر فبدأ الخطبة بداية عجيبة، بقوله تعالى (أتبنون بكل ريع آية تعبثون وتتخذون مصانع لعلكم تخلدون، وإذا بطشتم بطشتم جبارين، فاتقوا الله وأطيعون، واتقوا الذي أمدكم بما تعلمون، أمدكم بأنعام وبنين، وجنات وعيون، إني أخاف عليكم عذاب يوم عظيم)

ووصل ذلك بكلام جذل وقول فصل ذم فيه السرف والترف وإضاعة أموال الأمة في زخرفة القصور ووصله بقوله ودموعه تنحدر من لحيته:

والله يا أمير المؤمنين، ماظننت أن الشيطان أخزاه الله يتمكن منك هذا التمكن، حتى أنزلك منازل الكافرين، فجعلت قراميد بيتك من الذهب والفضة، والله تعالى يقول (ولولا أن يكون الناس أمة واحدة لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفا من فضة ومعارج عليها يظهرون)

ووصله بقواه تعالى (أفمن أسس بنيانه على تقوى من الله ورضوان خير أم من أسس بنيانه على شفا جرفٍ هارٍ فانهار به في نار جهنم والله لا يهدي القوم الظالمين، لا يزال بنيانهم الذي بنو ريبة في قلوبهم إلا أن تقطع قلوبهم والله حكيم عليم)

وما زال في مثل هذا حتى نسي الناس الخليفة والاحتفال وصغت القلوب إلى الله وصفت النفوس لله وارتج المسجد بالبكاء...

فلما قضيت الصلاة انصرف الخليفة مغضبا وقال لابنه: أرأيت جرأته علينا.

والله....

ماذا ترونه يا سادة فاعلا معه، إنه لم يفعل إلا أن قال: والله لا صليت الجمعة خلفه أبدا...

قال الحكم: وما يمنعك من عزله؟ فرجع الخليفة إلى نفسه وقال، ويحك أمثل منذر بن سعيد في فضله وورعه

وعلمه لا أم لك يعزل في إرضاء نفس ناكبة عن الرشد، إني لأستحي من الله أن أجعل بيني وبينه إماما غيره.

وأمر بنقض الذهب والفضة من القصر.

وهاكم موقفا آخر من مواقفه مع الناصر.

أراد الناصر أن يبني قصرا لإحدى نسائه وكان بجوار المكان دار صغيرة وحمام لأيتام تحت ولاية القاضي، فطلب شراءه فقالوا له لا يباع إلا بإذن القاضي، فسأله بيعه فقال: لا إلا بإحدى ثلاث، حاجة الأيتام أو وهن البناء أو غبطة الثمن.

فأرسل الخليفة خبراء قدروهما بثمن لم يعجب القاضي، فأباه وأظهر الخليفة العدول عنهما والزهد فيهما وخاف القاضي أن يأخذهما جبرا، فأمر بهدم الدار والحمام وباع الأنقاض بأكثر مما قدر الخبراء وعز ذلك على الخليفة، فقال له: ما حملك على ما صنعت؟

قال: أخذت بقول الله تعالى: أما السفينة فكانت لمساكين يعملون في البحر فأردت أن أعيبها وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة غصبا)

لقد بعت الأنقاض بأكثر مما قدرت الدار والحمام، وبقيت للأيتام الأرض فالآن اشترها بما تراه من الثمن.

قال الخليفة: أنا أولى أن أنقاد إلى الحق.

فجزاك الله عنا وعن أمتك خيرا.

يا أيها السادة إذا أردتم أن تعرفوا من أين جاءته هذه الهيبة في الصدور وهذه الجلالة في النفوس وهذه المنزلة عند الخليفة والناس فاعلموا أنها ما جاءت إلا من إخلاصه لله وخوفه منه وعبادته له واتصاله به، إن من خاف الله خافه كل شيء ومن كان مع الله جعل الخلق كلهم معه.

قحط الناس في أواخر مدة الناصر، فأمر القاضي منذر بن سعيد للخروج للاستسقاء، فتأهب لذلك واستعد وصام بين يديه (أي قبله) ثلاثة أيام واستغفر الله من ذنبه وأحصى حقوق الناس عليه فردها وسألهم السماح منها وخرج وخرج معه الناس جميعا، رجالا ونساء وولدانا.

وقال لصديق له من خواص الخليفة وهو خارج، اذهب فانظر ما يصنع أمير المؤمنين؟.

فعاد يقول: ما رأيناه قط أخشع منه في يومنا هذا، إنه لمنتبذ (وحيد) ،حائر، لابس أخشن الثياب، مفترش التراب قد رمى منه على رأسه وعلى لحيته يبكي ويستغفر ويقول يا رب هذه ناصيتي بين يديك فإن أذنبت أتراك تعذب الرعية بذنبي وأنت أحكم الحاكمين وأنت قادر علي لن يفوتك شيء مني...

فتهلل وجه القاضي وقال لغلامه: اذهب فاحمل المِمطَر (المشمع) فقد أذن الله بالسقيا، إذا خشع جبار الأرض فقد رحم جبار السماء...

وقام يدعو والناس يضجون بالدعاء والتوبة والاستغفار فما انصرف حتى امتلأت السماء بالغيوم وبلل الناس المطر.

رحم الله منذر بن سعيد وكل من اتخذ الحق شعارا وأقام للدين منارا.

العالم النبيل

وحديث اليوم عن عالم يختلف عن كل من كنت حدثتكم عنه من العلماء، فليس في التقى والصلاح كأحمد بن حنبل، ولا في الاجتهاد والفقه كأبي حنيفة، ولا في الزهد والورع كسعيد بن المسيب ولا في الجرأة والصراحة كالحسن البصري، ولا في الرواية والحفظ كالبخاري، ولكنه يمتاز بشئ غير هذا كله، بالنبل والسيادة، والشخصية الاجتماعية القوية، وأنه رجل بلاط ورجل دين في وقت معا، سيطر على أقوى الخلفاء العباسين عقلا: المأمون وأقواهم جسما: المعتصم، وكان له عليه سلطان عجيب، وكانت كلمته لديه هي القانون ولطالما سخر هذه المنزلة لرد المظالم ورفع الأذى وإقامة الحق ولطالما استنقذ بها أناسا من تحت سيف الجلاد، ولكن على هذا كله كان يعمل على نصر مذهب المعتزلة وإيذاء أهل السنة..

هو أحمد بن أبي دؤاد.

وهاكم بعضا من مواقفه أسردها على سبيل التمثيل، لا على قصد الاستقصاء، كانت الدولة قسمين، عربية وتركية، والجيش جيشين أتراكا وعربا، وكان زعيم الأتراك على عهد المعتصم وهو الذي فتح هذا الباب وزرع هذا السم..كان زعيم الأتراك الأفشين، فاعتد على أبي دلف (وكان أكبر زعماء العرب) ذنوبا حكم عليه فيها بالقتل، وبلغ الخبر ابن أبي دؤاد فذهب إليه وما كان من عادته أن يزوره فأرادوا إدخاله البهو الكبير حتى يفرغ الأفشين ويستقبله فأبى ودخل مجلسه، وأبو دلف مقيد في وسطه والسياف على رأسه، والأفشين يقرعه ويشتمه، وأبو دلف إن كنتم لا تعرفون هو بطل العرب الفارس الجواد الذي قال فيه العكوك الشاعر:

إنما الدنيا أبو دلف

بين بادية ومحتضرة

فإذا ولى أبو دلف

ولّت الدنيا على أثره

فراح ابن أبي دؤاد يستعطف الأفشين ويلين قلبه ليعفو عن أبي دلف وهو لا يزداد إلا عتوا فلما رأى الجد منه وعلم أن إن خرج قتل أبو دلف أقدم على أمر عظيم لا يقدم عله أحد غيره فقال له: إلى متى أستعطفك وأسألك وأنت تأبى؟!

إني رسول المعتصم إليك يأمرك أن لا تحدث بأبي دلف حدثا، وإن مسه سوء أو قتل فإنه قاتلك به.

وقال للحاضرين اشهدوا علي أني بلغته رسالة أمير المؤمنين والقاسم (أبو دلف) حي معافى.

وتركه وقد صار وجهه بلون الزعفران وذهب من فوره إلى المعتصم فقال له لقد بلغت عنك رسالة ما أرسلتني بها وأخبره الخبر فقال المعتصم: نعم ما فعلت وكف يد الأفشين عن أبي دلف ((ومن كتب له أن يزور اليوم آثار سر من رأى وهي أعظم الآثار الإسلامية لأنها مدينة طول الباقي من أنقاضها نحو خمسين كيلا، وبها شارع عرضه مئة ذراع وطوله عشرة أكيال، رأى البلد قسمين القسم التركي وفيه المسجد الجامع ومنارته الملوية العجيبة والقسم العربي وفيه مسجد أبي دلف

غضب المعتصم مرة على خالد بن يزيد بن مزيد الشيباني، الفارس العربي البطل، الذي قال الشاعر في رثاء أبيه هذه القصيدة النادرة المثال المنسزبة لصريع الغواني ومطلعها:

أحق أنه أودى يزيد

تبين أنه الناعي المشيد

ومنها:

أحامي الملك والإسلام أودى

فما للأرض ويحك لا تميد

تأمل هل ترى الإسلام مالت

دعائمه وهل شاب الوليد

وتشفع فيه فلم يشفعه المعتصم، فجلس دون مجلسه المعتاد، فقال له المعتصم: مجلسَك يا أبا محمد!!

قال: ما ينبغي لي أن أجلس فيه، لأن الناس يظنون إن جلست فيه أن لي من أمير المؤمنين ما أشفع به فأشفع، قال: عد إلى مجلسك.

قال: مشفعا أم غير مشفع؟

قال: بل مشفعا.

قال: إن الناس لا يعلمون أنك عفوت عنه حتى تخلع عليه، فأمر فخلع عليه

قال: يا أمير المؤمنين إن له رواتب ستة أشهر فمر له به تقم مقام الجائزة، فأمر له بها، فخرج والخلع عليه والمال بين يديه، فناداه رجل مرحبا بك يا سيد العرب

قال: اسكت، سيد العرب ابن أبي دؤاد.

وغضب المعتصم مرة على رجل من أهل الجزيرة وجاء به ليقتل على ذنب أتاه، فتكلم فيه ابن أبي دؤاد، ثم غلبه البول (ولا مؤاخذة) فخاف إن خرج ولم يستوف الكلام أن يقتل الرجل، ولم يعد يطيق الصبر وكانت ثياب تلك الأيام كثيرة فجمع ثيابه تحته وبال فيها، وأنقذ الرجل فلما قام قال المعتصم: ما لثيابك مبتلة.

فسكت.

فأعاد السؤال: فاخبره الخبر فكاد يغشى عليه من الضحك.

وكان المعتصم يرد الشيء اليسير يساله، فيدخل ابن أبي دؤاد يكلمه في أهل الثغور وأهل الحرمين وأهل المشرق فيجيبه، وسأله مرة صرف الف ألف (مليون) درهم لحفر نهر في أقصى خراسان وجر الماء إلي بلاد هناك عطشى.

قال المعتصم: وما علي من هذا النهر؟ قال إن الله يسألك عن أقصى رعيتك كما يسألك عن أهلك ومن حولك.

ولم يزل يرفق به حتى أمر بصرفها.

وله مع المعتصم لما مرض واشتد عليه المرض خبر عجيب، إذ جاء يعوده ورأى الموت بين عينيه، فشكا إليه المعتصم ما يلقى من الألم، فقال: يا أمير المؤمنين إن في السجون آلافا من الأبرياء وهم وأهلوهم يدعون عليك، ودعوة المظلوم سهم صائب فلو أطلقتهم، لانقلبت هذه الألسنة بالدعاء لك، فأمر بإطلاقهم، فقال: يا أمير المؤمنين إنهم يعودون إلى أهلهم صفر الأيدي، ما معهم شيء فإن أمرت أن ترد عليهم أموالهم ويعطوا العطايا.

فأمر بذلك.

وله أخبار كثيرة لا يتسع المجال لها، ولو أن كل عالم يتصل بحاكم يسير معه هذه السيرة ويتخذ منزلته وسيلة لرفع الظلم ورد الحق وإقرار العدل لصلح الحاكم وصلح أمر الناس...

ولم يبلغ هذه المنزلة بوساطة أو شفاعة أو نسب، ما بلغها إلا بنبوغه وعلمه.

كان من أصحاب القاضي يحيى بن أكثم، فأمره المأمون مرة أن يأتيه هو ومن في مجلسه فدخل ابن أبي دؤاد على المأمون ذلك اليوم فرأى علمه وبيانه وعقله فما زال يقربه حتى ولاه قضاء القضاة ووصى به أخاه المعتصم.

وكان عالما من أكبر علماء المعتزلة (والمعتزلة طائفة ربما تكون مظلومة قد دون التاريخ أخبارها بعد انقراضها بأيدي أعدائها فكذب عليها ونسب إليها ما لم يكن منها. . . (ولكنها ليست مبرأة من ظلم وقع منها وبدع جاءت بها)

وكان بليغا من أبلغ بلغاء عصره وكان راوية، دخل على المأمون مرة وهو يسال عمن أسلم نم الأنصار ليلة العقبة فعدهم باسمائهم وأنسابهم.

وكان شاعرا بليغا ولكنه مقل، وقد عده دعبل في كتابه من الشعراء وروى له ومن نبله وعلو منزلته أن الخلفاء لم يكونوا يبدؤون بالكلام وإنما يتكلمون فيجيبهم الناس، وهو أول من افتتح الكلام معهم، وكان معهم بين الأدب والعزة ويكلمهم كلام الكفء قال له المأمون مرة إذا جالس الخليفة عالما فمثلك.

قال: وإذا جالس العالم خليفة فمثل أمير المؤمنين، فانظروا إلى هذا الجوا بالعظيم وما فيه من الاعتزاز بكرامة العلم وما فيه من الأدب مع الخلفاء وكان يحسن التصرف ويجيد مخاطبة الملوك ومن قوله: ثلاثة ينبغي أن يبجلوا وتعرف أقدارهم: العلماء وولاة العدل والإخوان، فمن استخف بالعلماء أضاع دينه، ومن استخف بالأمراء أضاع دنياه ومن استخف بالإخوان أضاع مروؤته.

وكان يقرب الشعراء والأدباء ويحميهم وقد انقطع إليه اثنان:

أحدهما أعظم شعراء العصر العباسي وهو أبو تمام والثاني أعظم كتابه وهو الجاحظ.

وعادى رجلين كبيرين، عادى الأول للدين والثاني للدنيا، أما الذي للدين فهو الإمام أحمد بن حنبل (وكان الحق مع الإمام أحمد وهو أفضل منه وأجل قدرا وأقوم سبيلا) .

وأما الذي عاداه للدنيا فهو الوزير الأديب الشاعر ابن الزيات وكان بينهما خصام ظاهر وهجاء طويل وكان العلو أولا والظفر لابن الزيات ولما صدر المرسوم بأن يقوم له كل من في المجلس إذا دخل، كان ابن أي دؤاد إذا رآه داخلا، وقف للصلا ة، ولكنه ما زال يسلط عليه عقله حتى نكب ابن الزيات وزال من الطريق.

وعاش إلى أيام المتوكل فأصابه الفالج وعزل لكنه بقي نبيلا في مرضه كما كان في صحته، ولما مات رثي بمراث ندر أن يرثى بها أحد.

كما مدح بمدائح لم يمدح بها أحد قال أبو تمام

لقد أنست مساوئ كل دهر

محاسنُ أحمد بن أبي دؤاد

وما سافرت في الآفاق إلا

ومن جدواك راحلتي وزادي

وقال مروان بن أب يالجنوب

لقد حازت نزار كل مجد

ومكرمة على رغم الأعادي

فقل للفاخرين على نزار

ومنهم خندف وبنو اياد

رسول الله والخلفاء منا

ومن أحمد بن أبي دؤاد

ولما مات قام على قبره ثلاثة من الشعراء فقال الأول:

اليوم مات نظام الملك واللسن

ومات من كان يستعدى على الزمن

واظلمت سبل الآداب واحتجبت

شمس المكارم في غيم من الكفن

وقال الثاني:

ترك المنابر والسرير تواضعا

وله المنابر لو يشا وسرير

ولغيره يجبى الخراج وإنما

تجبى إليه محامد واجور

وقال الثالث:

وليس فتيق المسك ريح حنوطه

ولكنه هذا الثناء المخلف

وليس صرير النعش ما تسمعونه

ولكنه أصلاب قوم تقصف..

موسى بن نصير

هذه صفحة من تاريخ الفتح الذي كان أعجوبة التاريخ في سرعته ومضائه، كما كان أعجوبة التاريخ في استمراره وبقائه، وفي طهر أسلوبه ونقائه

، وفي سمو مقصده وعلائه، رأى التاريخ فتوحا لا تعد من كثرتها ولا تحصى، فما رأى فتحا أسرع منه ولا انفع، لم يكن فيه شعب غالب وآخر مغلوب، بل كان فيه أتقياء بررة وفساق فجرة وملحدون كفرة فكان أكرم الناس أتقاهم سواء فيه أكان في الأصل من الغالبين أو المغلوبين، لأن الإسلام لا ينظر إلى الأنساب بل إلى الأعمال ولا يميز الناس بآبائهم بل بأنفسهم وليست العظمة فيه بعلو الجاه وكثرة المال بل بصدق الإيمان وحسن الفعال. . .

ولئن هدى الله مصر بعمر، فكان إسلامها حسنة من حسناته فالمغرب حسنة من حسنات عقبة بن نافع أولا، وحسان بن النعمان ثانيا وموسى بن نصير أخيرا، ولولا موسى ما استقر فيها الفتح ولا خلصت للإسلام، ولولا موسى لما كان لنا في الأندلس هذا الفردوس المفقود.

وموسى بطل مظلوم، ظلم في حياته فكانت مكافأته شر مكافأة على أحسن عمل، حمل وزرها سليمان بن عبد الملك إذ أساء لكل من أدركه من الفاتحين الذين أحسنوا للعروبة والإسلام ولم يكن له من أعمال الخير إلا أنه سمع رأي روح بن زنباع فجعل ولي عهده الخليفة الصالح المصلح عمر بن عبد العزيز،

وظلم بعد موته فخلد اسم طارق هذا الجبل، والجبل الآخر الذي أقامه في التاريخ من المكرمات، وكاد ينسى اسم (جبل موسى) وهو الذي بعث طارقا وهو الذي مكن له وهو الذي أرسى أساس ذلك الصرح الذي شاد طارق شرفة من عالي شرفاته. . . على أني لا أظلم طارقا، وسيأتي عنه من الحديث ما فيه النصفة والحق إن شاء الله.

هذه قصة موسى بن نصير أعرضها عرضا مسلسلا لا أقف لأعلق وأعلل وأدلل بل أترك فصولها وحوادثها تنطق بلسان حالها

لم يكن موسى قائدا عسكريا فقط بل كان حاكما إداريا وكان خطيبا بليغا وكان دينا مراقبا ربه عاملا لآخرته وكان نموذجا كاملا لطلبة الدورة الثانية في مدرسة محمد صلى الله عليه وسلم وهم التابعون...

وكان أبوه نصير مولى عبد العزيز بن مروان من حرس معاوية فلما أعلن معاوية ثورته على أمير المؤمنين علي بن أبي طالب وقام بهذا الإنقلاب العسكري قعد نصير هذا عن نصرته، ولما سأله معاوية: ما منعك من الخروج معي ولي عنك يد لم تكافئني عليها؟

قال: لم أستطع أن أشكرك بكفر من هو أولى بشكري فقال معاوية: من ويحك؟

قال: الله...فاطرق معاوية مليا وقال: لقد قلت حقا وأستغفر الله.

ولو كان معاوية ملكا كما يعرف التاريخ من الملوك لغضب عليه، ولكنه كان من صحابة رسول الله ومن كتبة الوحي فلما رأى الحق رجع له.

ولزم موسى عبد العزيز بن مروان وكان أمير مصر وكان خير بني مروان، لا يفضله فيهم إلا ابنه العظيم، فكان موسى مع المجاهدين لنشر الإسلام في أفريقية، سلك معهم الصحراء وركب معهم البحر وقاد حملات وسفن إلى أن ولي الخلافة عبد الملك، فأراد أن يشرف أخاه الأصغر بشر بولاية العراق ولكنه كان يعلم ضعفه عنها وكان يعلم أن من ولّى رجلا ولاية وفي المسلمين من هو أقدر عليها منه فقد خان الله ورسوله والمسلمين.

فكتب إلى أخيه عبد العزيز ان أرسل غلي بشرا وأرسل معه موسى وأخبره أنه الأمير الحقيقي وليس لذاك إلا الاسم وأنه المسؤول عن أي خلل أو تقصير، فاستلم بش الإمارة ظاهرا وكان موسى الأمير حقيقة فأدار الأمور خير إدارة وساس الناس أعدل سياسة وبقي على ذلك حتى مات بشر وولي الرجل الحازم الصارم الظالم الحجاج، وكان يكرهه ويتهمه بما ليس فيه فستأذن عبد الملك في عقابه، وكان في دمشق صديق لموسى هو خالد بن أبان فكتب إله: ((إنك معزول وقد وجه إليك الحجاج بن يوسف وقد امر فيك بأغلظ أمر، فالنجاة النجاة، فإما أن تلحق بالفرس فتأمن أو تلحق بعبد العزيز مستجيرا به , ولا تمكن ملعون ثقيف من نفسك فيحكم فيك))

فلما أتاه الكتاب ركب ولحق بعبد العزيز وكان في الشام قد وفد يحمل أموال مصر إلى أمير المؤمنين..

وغضب الحجاج لما رآه أفلت منه وكتب إلى عبد الملك ((إن موسى بن نصير قد اقتطع من أموال العراق ما لا يقدر وفر فابعث به إلي))

ولكن عبد العزيز أدخله على أخيه وعمل حتى رضاه عنه وسيره معه إلى مصر حتى خلا مكان القائد العام لجيوش العرب بموت حسان فولي موسى القيادة العامة.

وكانت راية الإسلام قد رفرفت من قبل على أفريقية كلها على يد عقبة بن نافع الذي اخترق بجيشه الشمال الأفريقي كله ماضيا وسط القبائل البربرية كالسهم، لكنها كانت حركة لم تطهر البلاد من قوى الأعداء.

فلما تسلم موسى، رأى الجيوش الإسلامية التي قد بلغت البحر قد عادت إلى القيروان التي بناها عقبة بناء مؤقتا لتكون مركزا ثابتا للقيادة، قد أصابها الجزر بعد ذلك المد فاضطرت إلى الإنسحاب والتوقف بعد ذلك الهجوم.

والقيروان نفسها لم تكن إلا مجموعة من الأكواخ والخصاص، حتى أن المسجد لم يكن أكثر من جدران من الطين قد سقفت ببعض الخشب وكانت الجبال المحيطة بها كلها بيد البربر وكانوا يهددون المدينة دائما فكان أهلها يصبحون على ترقب ويمسون على حذر.

ولم يجد الفاتحون المسلمون في كل من قابلوا من الأمم من هو أقوى ساعدا وأجرأ قلبا وأكثر بالحرب تمرسا من الترك في الشرق، والبربر في الغرب، فرمى الله أولئك بقتيبة وهولاء بعقبة ثم بموسى.

ولما وصل موسى إلى مقر القيادة في ذات الجماجم، جمع القواد والضباط، وخطبهم خطبة عرفهم فيها بنفسه وبخطته، وأعلن فيهم اسلوبه في الحكم، فكان الأسلوب العمري: شدة في غير عنف، ولينا في غير ضعف وتواضعا في غير مذلة، لا استئثار فيه ولا استبداد، وليس فيه حمل على باطل

وكان مما قال:

((وإنما أنا رجل كاحدكم، فمن رأى مني حسنة فليحمد الله وليحض على مثلها ومن رأى مني سيئة فلينكرها فإني أخطأ كما تخطئون، واصيب كما تصيبون، ومن كانت له حاجة فليرفعها إلينا، وله عندنا قضاؤها على ما عز وهان إن شاء الله، ولا حول ولا قوة إلا بالله))

ثم نقل القيادة إلى المركز الأمامي، إلى القيروان وهناك خطب خطبة ثانية أعلن فيها عن طريقته العسكرية كما بين في الأولى طريقته المدنية، فقال: ((ليس أخو الحرب إلا من اكتحل السهر، وأحسن النظر، وخاض الغمر، وسمت به همته ولم يرض بالدون من المغنم لينجو ويسلم من غير أن يكلم أو يكلم متوكلا في حزمه، جازما في عزمه، مستزيدا في علمه، مستشيرا لأهل الرأي في غحكام رأيه، إن ظفر لم يزده الظفر إلا حذرا، وغن نكب أظهر جلادة وصبرا، راجيا من الله حسن العاقبة، وغن من كان قبلي كان يعمد إلى العدو الأقصى وويترك العدو الأدنى ينتهز منه الفرصة ويدل منه على العورة ويكون عونا عليه عند النكبة، وأيم الله لا أريم هذه القلاع والجبال الممتنعة حتى يضع الله أرفعها ويذل أمنعها ويفتحها على المسلمين بعضها أو جميعها، أو يحكم الله فيها وهو خير الحاكمين.))

وفي هذه الخطبة الموجزة المعجزة أصدق صورة للقائد الكامل ولقد أمضى كل ما قاله فيها فجرد حملة من خمسمئة فارس وصلت إلى زعوان وعادت بشيء من الأسرى والغنائم.

ووجه حملة أخرى بقيادة ابنه عبد الرحمن، وثالثة بقيادة ابنه مروان فطهر بذلك منطقة القيروان كلها من الأعداء وأمن على مركز القيادة، وأحصيت الغنائم فبلغ الخمس ستين الفا، أعده ليبعث به إلى عبد العزيز فأخطأ الكاتب وكتبه ثلاثين ألفا، فلما وصل الكتاب إلى عبد العزيز أكبر الرقم وكتب إليه يسأله هل هذا الرقم صحيح، فأجابه بل خطأ، لكنه خطأ نقص لا خطأ زيادة وأن الصحيح ستين الفا.

ووجه همته على الفتح.

وكان ادنى القبائل غليه هواره وزناته وكتامة، تسرح في موضع حكومة الجزائر اليوم، وهي قبائل بربرية مقاتلة لا تحصى كثرة وعددا، وكان في المغرب الأقصى قبائل صنهاجة القوية الشديدة، وكانوا جميعا محاربين صحراويين، ولكن العرب كانوا صحراويين محاربين، وكانوا مسلحين بالإيمان الذي يجعلهم يطلبون الموت في سبيل الله كما يطلب غيرهم الحياة.

وجرد الحملات اولا على القبائل القريبة منه وكانت قد جربت قتال العرب والمسلمين وعرفت ماهم في الحروب، فدافعت دفاعا قويا ثم استسلمت...فصالحهم موسى وأخذ منهم رهائن لئلا يغدروا على عادة تلك القبائل...*

وتوجه بعد ذلك إلى صنهاجة، بقوى ضخمة من أهل الديوان (أي الجند النظامي) والمتطوعة من العرب وممن أسلم من البربر فوجد النهر في طريقه في فيضانه وزيادته فأحدث فيه مخاضة غير التي أحدثها عقبة ومضى قدما فوجدهم مستعدين للحرب وكانت المعركة في دارة واسعة بين جبال منيعة اختاروها لا يوصل غليها إلا من مضايق قليلة بين الصخور ودارت المعركة يوم الخميس والجمعة والسبت إلى العصر وكانت من أعنف المعارك.

وخرج خلالها فارس من فرسان البربر فدعا إلى المبارزة فلم يخرج إليه أحد لما راو من شكلهه وهوله فأمر موسى ابنه مروان للخروج له، فضحك منه البربري لما رآه شابا حدثا وقال له ارجع فإني لا أريد ان أعدم أباك منك، فحمل عليه مروان حتى ألجأه إلى طرف الجبل فكر البربري ورماه ابالمزراق (وهو كالرمح القصير) فتلقاه مروان بيده في الهواء ولحقه فرماه به فخرق جنبه وسقط.

وكان الظفر للمسلمين وبسطوا سلطان الإسلام على الشمال الإفريقي كله ولم يبق إلا منطقة طنجة والريف وبعث بالأخماس على الخليفة.

وهاكم خبرا يدل على نبله وتقاه.

لما قدم كتاب موسى على عبد الملك بن مروان بالفتح أمر له بمئة ألف عطية له يلأخذها من الأخماس، وله أن يأخذها شرعا لأن السنة أن من جاءه شيء من هذا المال بغير طلب أو استشراف نفس كان له أن يأخذه ثم يتموله أو يتصدق به، فجمع الجند وأشهدهم أنه جعله كله معونة للمسلمين وفي الرقاب.

وكان إذا أفاء الله عليه بشيء من الأسرى نظر فيهم ومحص عقولهم وجرب فطنتهم فمن وجده ذا عقل وفطنة عرض عله الإسلام فإن أسلم أعتقه وتولاه حتى ينجب فنشأ بذلك طبقة من البربر كان منهم القواد والعلماء ولعل طارق كان من هؤلاء، لأن أصح الأقوال أنه كان من مسلمة البربر.

فلما أخضع البر كله وأتم ما بدأه عقبة وولى وجهه شطر البحر فأشأ دارا للصناعة وهي بركة عظيمة جدا حفرها في موضع أمين قريب من موضع تونس اليوم وحفر قناة أجرى فيها الماء من البحر إلى هذه البركة وأمر بصناعة مئة مركب...

وقدم عطاء بن أبي نافع الهذلي في اسطول مصر، وكان قد بعثه عبد العزيز لجزيرة سردانية، فأرسى بسوسة، فأمر له موسى بما يحتاج إليه وكتب إليه أن ركوب البحر قد مضى في هذا العام وقته وقد جاء تشرين الآخر فلا تغرر بنفسك وبالمسلمين فلم يلق عطاء بالا لكتاب موسى ولم يبال به، وشحن مراكبه وأبحر فافتتح جزيرة صغيرة وأصاب منها مغنما وعاد فأصابته الرياح العصفة وهاج عليه البحر فغرق عطاء ومن كان معه وألقت الأمواج بمن نجا على شواطئ افريقية فلما علم موسى أرسل لهم من ينقذهم وأمر ببقية السفن فدخلت دار الصناعة وأعيد بناؤه ولما تم له اسطوله احتفل بنزول السفن إلى البحر احتفلا عظيما فأعلن أنه راكب بنفسه فركب الناس كلهم ولما اكتملوا في السفن عقد لواءه لولده عبد الله وولاه عليهم وامره بالإقلاع من ساعته فوصل إلى صقلية وفتح مدينة فيها ورجع بالنصر المؤزر والغنائم الوافرة وتعاقبت الغزوات في البحر إلى سردانية وصقلية وافتتحت الجزائر الشرقية (ميورقة ومنورقة وغيرهما)

ثم وجه ابنه مروان ففتح السوس الأقصى ومدينتها طنجة ولم يبق بقعة في أفريقية خارجة عن الإسلام إلا سبته وكانت من أملاك اسبانية.

وكان موسى عازما على فتحها بل كان يطمح لفتح اسبانيا نفسها لكنه احب أن يمهد لذلك بمعارك فرعية خوفا من المغامرة بجمهور الجيش الإسلامي وعملا بتوجيه أمير المؤمنين الوليد بن عبد الملك وأعد حملة بحرية بقيادة طريف بن عامر البربري فوصلت إلى الجزيرة التي سميت بعد ذلك جزيرة طريف وعاد سالما غانما.

فجهز حملة كبيرة من سبعة آلاف أكثرهم من البربر وكان البربر قد اسلمو وحسن إسلامهم، فكان منها جند موسى وأعوانه في هذا الجهاد فنجحت ذلك النجاح العجيب وفتح مدنا عظاما وكاد يكتسح الأندلس كلها لولا أن موسى أمره أن يتوقف حتى يلحقه، وكان موسى وهو القائد العام لم يرد من بعث طارق فتح البلاد بل إثارة معارك محلية للاختبار ودراسة حالة العدو وحدد لهم أمدا لا يتجاوزنه والحياة العسكرية تقوم على الطاعة فلما جاوز المدى وأوغل بجيشه الصغير حتى صار عرضة للتطويق كان مستحقا للعقوبة على ما أتى لكنه كان مستحقا ايضا للشكر على ما اصاب من نجاح..

دخل موسى الأندلس بجيش كبير فيه ثمانية عشر ألفا نصفهم من البربر يحمي به جيش طارق ويشد أزره وكان شيخا كبيرا قد جاوز السبعين ولكنه كان كالأسد الكاسر فعبر أسبانيا ودوخها، لم يقف امامه عدو ولم يثبت أمامه خصم.

ولم يستعص عليه حصن.

ترك الجبل الذي دخل منه طارق ودخل من الموضع الذي كان معروفا إلى أيام المقري مؤلف نفح الطيب (من ثلاثمئة سنة فقط) بجبل موسى ولا يزال يعرف بذلك على الآن في الدنيا كلها..

ثم سلك غربي الطريق الذي سلك طارق، فأتى أولا على شذونة فافتتحها عنوة، ثم سار إلى قرمونة (كارامونا) ولم يكن في الاندلس (كما في نفح الطيب) أحصن منها ولا أبعد على من يرومها بحصار او قتال فدخلها ثم مضى إلى إشبيلية وكانت أعظم المدن شأنا واعجبها بنيانا وكانت دار الملك قبل القوط فلما غلب القوطيون على ملك الأندلس حولوا السلطان إلى طليطلة وبقي رجال الدين في اشبيلية فامتنعت على موسى مدة ثم فتحها الله عليه واعتصم فلول جيش الأسبان في قلعة لقنت (آليكانت) ففتح الحصن وتوجه إلى مدينة ماردة فحاصرها ودافع عنها أهلها فعمل موسى (دبابة (عربة مغطاة بالخشب والجلود يهجمون بها على الأسوار ومنها ماله راس من حديد لنقب السور ودب المسلمون تحتها من برج على برج يهدمونه بمعاولهم فصالحه أهلها وفتحت وانتفضت اشبيلية وثار أهلها فبعث إليهم ابنه عبد العزيز فأعاد فتحها ثم توجه إلى طليطلة، ولما لقي طارقا ووقعت عليه عينه ترجل طارق فوبخه على المخالفة...وهم بمعاقبته ثم عفا عنه وغفر له مخافته وأقره على تقدمه وسيره لفتح شرق الجزيرة وسار هو غربا وكانا قد انتهيا من فتح مقاطعة الأندلس وقشتالة وتوجه موسى إلى الأراجون فاجتمعا أمام أسوار سرقسطة فافتتحت بقيادة موسى وسار طارق شرقا فافتتح بلنسية وبرشلونة ثم اخترق موسى جبال البرنس (البرنه) وفتح جنوبي فرنسا ووجه طارق إلى جليقية وهي الزازية الشمالية الغربية من أسبانيا...وكان موسى عازما على أن يفته أوروبا كلها من الغرب لكن الله لم يرد ولا راد لإرادته فأقام دونه حاجزا من أمر الخليفة في دمشق باستدعاء موسى غليه....وأنتم تعرفون بقية المأساة التي انتهت بها سيرته.

رحم الله عقبة وموسى وطارق وبعث منا أنفسا كأنفسهم وقلوبا كقلوبهم...

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق