السبت، 14 أغسطس 2021

صيارفة الثورة المضادة.. شركاء متشاكسون

 صيارفة الثورة المضادة.. شركاء متشاكسون

نور الدين قدور رافع


ربما التفكير في مآلات الثورات العربية، وما أفضت إليه من تفكك في البنى الاجتماعية والسياسية الموروثة عن الاستعمار، كان "حتمية تاريخية"

يكتمل مشهد الثورة المضادة في وطننا العربي بانقلاب أبيض تونسي، يقوده رئيس دأب بخطاباته التقعيرية أن ينثر الوهم على أديم البوعزيزيين، انقلاب أطاح بتجربة ديمقراطية عربية وليدة لحظة تاريخية شاءت أن تكون قدر المنطقة كلها.

غير أنّ ما تجسد، طيلة عقد من انتفاضات شعبية وحروب أهلية سببها تمسّك الأنظمة البرجوازية بالسّلطة، كان يبعث على مخاوف تحيط بأيّ "ديمقراطية عربية" من شأنها أن تكون أيقونة حضارية ضمن عالم يتكالب على وأد طموحات شعوبنا في الحرية والعدالة والعيش الكريم.

على خطى السيساوية.. أعداء مخلصون

بعد أيام من انقلابه أعلن الرئيس التونسي قيس سعيد عن حزمة مساعدات مالية لمجابهة الوضع الحرج الذي تعيشه البلاد، ووسم من قال إنّهم الداعمون لتونس بـ "الشُرَكاء الحقيقيين" لوقوفهم إلى جانب إرادة الشعب في ترسيخ الديمقراطية ومكافحة الفساد.

لكن على ما يبدو لا تنجح فكرة الأصدقاء الحقيقيين تلك إلا بوطننا العربي خاصة في الأراضي الملتهبة والمتأججة بالحروب، فثمة شركاء كثر على تشاكسهم واختلاف توجهاتهم تداعوا حينما انتفضت الشعوب العربية نهاية عام 2010 معلنين استعداد عواصمهم لاستقبال الملتقيات والمجالس الوطنية الممثلة للثورة.

في 23 أغسطس/آب 2011 شهد مطار العاصمة الليبية طرابلس، بعد سقوطها بيد الثوار، وصول الرئيس الفرنسي السابق نيكولا ساركوزي ورئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون، وكان في استقبالهما مصطفى عبد الجليل رئيس المجلس الوطني الانتقالي الليبي، وقد أعلن ساركوزي في مؤتمر صحفي دعمه الكامل لثورة الليبيين معتبرا أنّ بقاء معمر القذافي فارا بمثابة خطر يجب إزالته في أقرب وقت.

وهذه التصريحات لم تختلف عما كانت تبحث عنه بريطانيا بالأراضي الليبية، فلولاهما ما انطلقت طائرات حلف شمال الأطلسي تقتنص أسراب القذافي المتهالكة.

قدّم الغرب مع بداية الربيع العربي دعمه لما سُمّي حينها المجالس الانتقالية، وكان الدعم يصل لدرجة التدخلات العسكرية المباشرة كما حدث في ليبيا، وفي بعض الدول عبر ضغوط سياسية مباشرة لإجبار حلفاء الأمس بالتنحي كما حصل في مصر.

أما الوضع في سوريا فلم يكن ثمة حاجة للتدخل الغربي المباشر بها، فقد أوعز للحركات والفصائل "الثورية" دور المقاومة عن طريق تسليحها لتتقدم نحو العاصمة دمشق للإطاحة بنظام الأسد، لتنقلب الثورة السّورية من عفويتها وشعبيتها إلى حالة مستعصية من العنف ما زالت تداعيته بمنطقة الشرق الأوسط مستمرة.

وقد رسم الغرب خطوطا حمراء سرعان ما تلاشت أمام التدخل الرّوسي في المنطقة مما أزّم الوضع أكثر، واستبيحت الثورة من "الأنظمة الاستخباراتية الدولية" مجرّدة كيانات الثورة السياسية ونخبها الوطنية، كممثل الشرعية، من قوّتها ومطالبها السّلمية في استعادة الدولة ومؤسساتها المتهاوية، لتغدو طموحات التغيير العربية حروبا أهلية تتدفق نحوها ترسانة هائلة من السّلاح المؤدلج والطائفي والممول من صيارفة بائسين، دون تحقيق مكسب حقيقي يمكن من خلاله استعادة الجغرافيا المنتفضة، وفق مصالحة وطنية شاملة مختلفة كليا عن رزنامة المبعوث الدولي الذي عزز من قوة البؤر الاستيطانية للكيانات الموازية.

ولعل "كوفي أنان" أو "دي ميستورا" لم يكونا سوى "بريمر بثوب مدني" سطّر بهما الغرب فصلا آخر من سياساته العبثية في المنطقة، لينتهي "مارتن غريفيت" في مساءلة له أمام مجلس الأمن أنّ الوضع في اليمن لم يكن يحمل تطلعات لإنهاء الحرب من طرفي الصراع، مما أودى بفشل كل محاولاته لاستعادة السّلام في اليمن.

ربما التفكير في مآلات الثورات العربية، وما أفضت إليه من تفكك في البنى الاجتماعية والسياسية الموروثة عن الاستعمار، كان "حتمية تاريخية" لما ترتب من رفض التحولات الحضارية المتسارعة وفق تدافع اجتماعي يخلف تنوعا في البيئة العربية، وقد استعانت الشعوب العربية بعدة تجارب ديمقراطية كبديل حضاري عن نظام استعماري شمولي، سعى من خلال أدواته في المنطقة لاختلاق أزمات اجتماعية واقتصادية لترويض ما تبقى من شعوب ترفض الانصياع المطلق للحاكم.

وكان الثمن مع كل جولة انتخابية مكلفا لدرجة أنّ التفكير في استحالة إيجاد فضاء ديمقراطي عربي باتت تعززه الرغبة في الركون نحو رفض الحلول السّلمية الداخلية، والرّهان على الصيارفة الممولين لمشاريع الفوضى الخلاقة والداعمين الرئيسيين لكيانات موازية لا تطال قذائفها قصور المستبد.

الاحتباس الثوري.. التآكل الذاتي

تعيش الشعوب العربية مرحلة مهمة من تاريخ نضالها المستمر ضد الطغيان، ولعلها اللحظة التاريخية الأهم في تجريد المستبدين وأشياعهم من لباس الوطنية والممانعة الذي تلحفت به مع المهازل الانتخابية المتكررة، إذ تكمن أهمية ما تمر به أمتنا من احتقان شعبي أقرب إلى "احتباس ثوري" يكاد ينفجر في وجه الطاغية الدامي، هو التفكير في صوت يمنحهم الخلاص من سجن التبعية والإذلال.

لكن هذه المرّة ليس الكادحون وحدهم من سيكملون الثورة ويقودونها نحو قصور السيساويين، بل ستتقدمهم الطبقة المتوسطة من ذوي الامتيازات الاجتماعية والاقتصادية، والتي اشترت البورجوازية بها أمنها السياسي والاجتماعي للحفاظ على تسيّدها، تلك الطبقة لم يعد لها وجود حقيقي مع ما كانت تفرضه من توازنات في بنية النظام الاجتماعي، ولولاها لما استطاعت الأنظمة العربية المتشظية أن تستمر سنينا تسوم شعبها سوء تسيير مقدراته وثرواته.

ومع التراكمات الاجتماعية والأزمات الاقتصادية الخطيرة التي تبعت نهب الطغم الحاكمة خزائن قارون، فإنها بالكاد يشار إليها كطبقة متوسطة سلبها النظام قوّتها وفعاليتها، والرّهان عليها في استتباب السّلم الاجتماعي أصبح وهما كبيرا نتيجة جنوح النظام إلى سياسات التفقير التي استهدفتها، لتتحول الطبقة الوسطى إلى قنبلة اجتماعية ستطال ارتداداتها ليس النظام فحسب، بل كيان الدولة بمؤسساتها وأجهزتها الأمنية إن استمر العبث بمصير الشعوب يأخذ مناحي خطيرة.

تراجيدية الوضع العربي لا تحتاج إلى دعم إنساني من العالم الحرّ، فقد أثبت الغرب ضلوعه في استحالة إيجاد حلول نهائية للأزمات الدولية، بدءا من تركته الاستعمارية وصولا إلى التسويات السياسية والاقتصادية المعززة لهيمنته، لهذا كان من الواجب البحث عن سُبُل أخرى لتكوين جبهة ثورية بإمكانها الوقوف في وجه التهديدات المتزايدة، رافضة الأوهام التي واكبت الانطلاقة الأولى للربيع العربي كزوال الدولة وخرائط حدود الدم.

والحقيقة أنّ ما أنتجته موجة الانتفاضة الشعبية كان بمثابة صدمة ثورية تساقطت على إثرها الطغم كأنها أعجاز نخل خاوية، ورسّخت افتقاد شعوبنا منذ استقلالها للدولة بمفهومها السياسي والمؤسساتي لصالح عُصب مافياوية لم تتوان في استخدام سياسة الأرض المحروقة لإبادة شعوبها في سبيل بقائها.

ومهما كان أثر الانقلابات على الحياة السياسة والاجتماعية والاقتصادية لمجتمعاتنا العربية، فثمة تغييرات جذرية في بنية المجتمعات العربية كانت سببا كافيا لتتحول إلى شعوب لها قابلية الانعتاق والتحرر وفق طموحاتها العادلة والإنسانية، ولعل كسر قابليتنا للاستبداد حرّكت معها أقاليم الجحيم نحو مستقبل مجهول لم يحجر على تفكيرنا في رفض الارتباطات الوظيفية للتدخلات الغربية، بقدر ما أسلمنا إلى مصير "تجاوز العجز المطبق" على اختيارنا لإرادة تمكننا في التوجه نحو مستقبل يليق بإنسانيتنا.

فأن يهجّر الملايين ويقتلوا في حلٍ لكونهم استعادوا ذواتهم وهويتهم، بدل الرضوخ للمشاريع التطعيمية للمؤسسة الاستعمارية وكلاب حراستها بالمنطقة، لن يزيد المعذبون في الأرض إلا إصرارا على التمسك بحلمهم واستعادة حقوقهم المسلوبة، وإن بدا الأمر أشبه بتيه سيقت له الأمة كي يعاد صقلها، وهذه الجغرافيا الملتهبة وأفرانها المتأججة ما هي إلا امتحان كي يتمايز "صوت المهمشين المنتفض" عن أولئك الذين رضوا بالخنوع والهوان، وعلى قدر احتمال السيل زبده الرابي فإنه لا يبقى منه حينما تشتد المحن إلا النافع لتورده مواضع الثبات، والحق أبلغ أن يدركه أهله فلا يذهب جفاء.

هم شركاء تشاكسوا لاستنساخ صورة للزعيم والقائد المتسلط، حيث تكلفة الاستبداد لا يدفعها إلا صيارفة ساديون قد اُستأمنوا على أموال شعوبهم وهم يصرفونها في استعداء الحقيقة، وبدل أن يحملوا مخاوفهم من الثورة إلى تعزيز العدالة الاجتماعية بين مواطنيهم، فقد استحبوا أن يقفوا موطئ سوء يتنكرون لشعوب غاية أملها الحق في الحياة.

فمن الغرب الذي دعم وسلّح وغض الطرف عن الجرائم المرتكبة باسم مكافحة الإرهاب، إلى الجماعات الإرهابية بمسمياتها الاستخباراتية كيف لها أن تؤسس كيانا يحتمي بمضادات الطائرات، وصولا إلى الصيارفة العرب الذين لا يتضاربون إلا على المواقف المخزية واللاأخلاقية، لا تملك شعوبنا العربية إلا إعادة التفكير في بناء ثورة متكاملة الأركان من شأنها أن تمنع رعاة الثورة المضادة استكمال إنتاج مستبدين جدد.

فالثورة انتقال مبدئي من استبدال التفكير الضيق والأحادي وفق رؤية شمولية، إلى فضاء رحب يسع الجميع دون إقصاء.

وحالما يتكمل المشهد الثوري في خرق ثوب الطاغية كان لزاما أن يتآكل نظام الاستبداد من داخل بنيته، معلنا إفلاسه الأخلاقي والسياسي في الاستجابة لطموحات شعبه، حينها تتهاوى أبراجه العاجية كخواء ليس له قرار.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق