لماذا تنجح طالبان “المنغلقة” ويفشل الإسلاميون “المنفتحون”؟ جزء 1
تفكيك الدولة العميقة
كرم الحفيان
الوحدة الثقافية- مركز المجدد للبحوث والدراسات
“طالبان في أقوى حالاتها العسكرية منذ 2001″، “وجودنا سينتهي بأفغانستان في 31 أغسطس 2021″، “الأمر متروك للأفغان لاتخاذ قرارات بشأن بلدهم”.
هذه التصريحات أطلقها الرئيس الأمريكي الحالي جو بايدن من داخل الغرفة الشرقية بالبيت الأبيض بواشنطن في الثامن من يوليو من هذا العام 2021. وذلك في أثناء زحف طالبان السريع وسيطرتها على بقاع شاسعة من حكومة كابل التابعة أمريكياً، ليصل مجموع ما تديره طالبان إلى 85% من كامل الأراضي الأفغانية، وما زال التقدم مستمراً.
وكانت أمريكا قد عقدت اتفاقية ثنائية مباشرة مع طالبان في 29 فبراير 2020تقضي بانسحاب جميع القوات الأجنبية وعدم التدخل في الشؤون الأفغانية الداخلية بما فيها شكل الدولة المستقبلية. الاتفاقية عقدت بين أمريكا وطالبان في غياب تام لأي جهة أفغانية أخرى سواءً الحكومة الحالية أو الأحزاب الأفغانية بمختلف أيديولوجياتها الإسلامية وغير الإسلامية.
ولكن قبل الإجابة عن سؤال: لماذا تنجح طالبان الموسومة بالانغلاق والتشدد والتخلف، وتنفتح عليها مؤخراً القوى العظمى والدول الإقليمية دون أن تغير اتجاهها وأجندته، ويفشل الإسلاميون “المنفتحون المعتدلون العصريون” في أفغانستان وجل العالم الإسلامي رغم محاولاتهم العديدة للتكيف مع الواقع المحلي والإقليمي والعالمي.
قبل الشروع في الإجابة عن هذا السؤال في هذا المقال وما يليه، لعله من الضروري الإشارة لأهم ما حققته طالبان فقد رأيت الكثير من الدراسات والتحليلات تحصره في مقاومة الاحتلال. وعلى الرغم من الأهمية الكبرى لهذا الأمر فإنه اختزال مخل للمشهد الأفغاني وتجاهل للسردية التي تستمد منها طالبان شرعيتها قبل موضوع مقاومة الاحتلال الأمريكي.
البعد الأول في هذه السردية مرتبط بانطلاقة طالبان في التسعينيات حين استطاعت إيقاف الحرب الأهلية واستعادة الأمن الاجتماعي في جل أفغانستان. والبعد الثاني يتعلق بإنقاذ البلاد من مشروع التقسيم السياسي (على أسس إثنية) الذي وصل طور النضوج وقتها، وكان رائجاً في ذلك العقد في دول المعسكر السوفييتي المتهالك. أما البعد الثالث فذو صلة بالنموذج الأخلاقي لحكومة طالبان المختلف عن جميع ما سبقها داخلياً، وعن النمط العام السائد للحكومات، والمتمثل في ممارسة نمط حياة روحاني زاهد والترويج له في الفضاءات العامة، وغياب الطبقية بين السلطة والشعب.
نأتي إلى السبب الأول في نجاح طالبان وفشل الإسلاميين المنفتحين من وجهة نظر الكاتب، وهو طريقة التعامل مع النخب العسكرية والسياسية والإدارية لدول ما بعد الاستعمار. فمع بوادر الانسحاب السوفييتي من أفغانستان وسقوط الحكومة الشيوعية الأفغانية، كان هناك سبعة أحزاب أفغانية سياسية مسلحة (وطالبان لم تكن قد تشكلت كجهة سياسية إنما كانت تياراً دينياً لديه مجموعات محلية مقاتلة للسوفييت والشيوعيين)، أربعة منها كانت من التيار الحركي(مدرسة الإخوان المسلمين) وثلاثة من التيار المشيخي المحافظ. وكان هناك مساران مطروحان للحل السياسي في البلاد.
المسار الأول: العودة إلى ما قبل الحكم الشيوعي والاحتلال السوفييتي عبر رجوع رجل الغرب الملك ظاهر شاه لسدة الحكم، وهو حاكم أفغانستان من 1933 إلى 1973، قبل أن ينقلب عليه رئيس وزرائه وابن عمه داوود خان صاحب التوجه الشيوعي، ويحول أفغانستان من ملكية إلى جمهورية. عُرفت مرحلة ظاهر شاه بالسلم الأهلي، وبالتبعية للغرب وبالترويج لثقافته وتمدد أنموذجه العلماني الليبرالي في الحياة العامة، غير أنه لم يكن يستهدف التيارات المتدينة والمحافظة. وقد قبلت الأحزاب المشيخية المحافظة هذا المسار. وقتها، كان جل قادة وكوادر طالبان ضمن الأحزاب المشيخية وخاصة حزب الانقلاب الإسلامي. في المقابل رفضت الأحزاب الحركية الإخوانية هذا الاقتراح بشكل قاطع وأصرت على تأسيس حكومة إسلامية جديدة.
المسار الثاني: تأسيس حكومة إسلامية من الزعماء البارزين للأحزاب الأفغانية التي قاتلت السوفييت، وهو ما حدث حقاً بعد سقوط الحكومة الأفغانية الشيوعية، وهنا وصلت الأحزاب الحركية لرأس السلطة، وتحديداً الحزب الإسلامي بزعامة رئيس الوزراء حكمتيار والجمعية الإسلامية بقيادة رئيس الجمهورية برهان الدين رباني ووزير الدفاع أحمد شاه مسعود. بيد أن الطرفين لم يتفقا ونشب نزاعٌ كبير بينهما، وتبادل الطرفان التحالف مع بقايا الدولة العميقة كبعض قادة الجيش البارزين في مقدمتهم الجنرال الشيوعي عبد الرشيد دستم، كما حافظ جهاز المخابرات (الخاد) على بنيته، واستمر الهيكل الوظيفي والإداري لمؤسسات الدولة. ومن ناحية أخرى، انضم حزبان شيوعيان قديمان للحرب، أحدهما مع الجمعية الإسلامية والآخر مع الحزب الإسلامي، مما أدى لاشتعال حرب أهلية، وحدوث شرخ اجتماعي عرقي عميق، وظهور أمراء الحرب، وشيوع الانفلات الأمني والجرائم غير المسبوقة، وبدأ يلوح شبح التقسيم والتدخل الأممي في الأفق.
في ذلك الوقت، لم تكن طالبان قد تشكلت جسماً سياسياً مستقلاً كما ذكرنا، إنما كانت تياراً دينياً له مجالاته الاجتماعية والثقافية الخاصة بعيداً عن مؤسسات الدولة والمجال السياسي العام والصراع الدائر فيه. ولكن انهيار الأمن الاجتماعي بهذا الشكل دفع طالبان لتنظيم أنفسهم والبدء في التعاطي مع الشأن العام. حركة طالبان كانت عفوية من حيث التخطيط، ثورية من حيث الأداء الميداني، غامضة من حيث الأجندة السياسية.
ففي ما يخص الجانب العفوي لحراك طالبان، فقد كان ثورةً شعبيةً بقيادة دينية على الحال العام المتردي أمنياً وأخلاقياً، انطلاقاً من شعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر دون ترتيب تنظيمي سابق. أعداد الحركة تزايدت ككرة ثلج مع كل نصر وسيطرة على منطقة جديدة عبر انضمام مزيد من طلاب العلم الديني والتحاق مجاميع وقادة ميدانيين منشقين من القوى الأخرى. والأداء الميداني كان ثورياً للغاية عازماً على تفكيك الدولة العميقة حتى لو احتمت بمؤسسات النظام العالمي الجديد، فبعد نجاح طالبان في السيطرة على غالب أفغانستان ودخولها العاصمة كابول، أخرجت بالقوة الرئيس الشيوعي السابق نجيب الله اللاجئ بمبنى الأمم المتحدة رمز الهيمنة الغربية، هو وأخوه شهبور مدير جهازه الأمني، وأعدمتهما ميدانياً على مرأى الشعب والعالم، ثم قامت بمطاردة واستئصال كوادر النظام السابق.
أما عن غموض الهدف السياسي في تحرك طالبان، فإن طالبان لم تصرح برفض الخيار الأمريكي في عودة ظاهر شاه ملكاً على البلاد إلا بعد تقدمها العريض عسكرياً وأخذها شرعية اجتماعية أساسها إيقاف الحرب الأهلية والفوضى الأمنية عن جل أفغانستان، إضافةً إلى قصاصها من رؤوس النظام السابق وتفكيكها لجهازه البيروقراطي. كما حازت شرعية دينية بمبايعة قائدها الملا محمد عمر حاكماً على البلاد من حشد كبير من العلماء على وفق الطريقة الكلاسيكية في الفقه الإسلامي.
إذن فأحد أهم أسباب نجاح طالبان “المنغلقة” وفشل الإسلاميين “المنفتحين” سواءً كانوا حركيين أو مشيخيين، هو انغلاقها عن طبقة النخب العسكرية والسياسية لدولة ما بعد الاستعمار، ورفضها لأي صيغة توافقية معها، واستثمارها اللحظة الاجتماعية الثورية التاريخية المفصلية في الحشد لتفكيك وتدمير بنية وشبكات الدولة العميقة. ولكن يبرز سؤال هام هنا، من أين استمدت هذه الحركة “الناشئة” القوة والحشد الكافيين للقضاء على الدولة العميقة وهزيمة خصومها الآخرين في آن واحد والسيطرة على ما يربو على تسعين بالمئة من البلد؟ ثم بعد إسقاطها بغزو من تحالف دولي عام 2001، قامت الحركة من جديد وقادت مقاومة شعبية مسلحة لعقدين كاملين، أسفرت في النهاية عن إعادة سيطرتها على جل الجغرافية الأفغانية، كيف نجحت سابقاً وكيف تنجح حالياً في هذا وهي حركة “منغلقة” اجتماعياً وفكرياً؟ الجواب السوسيولوجي في المقال القادم بحول الله وقوته.
ومع كتابة السطور الأخيرة في هذا المقال، وفي سياق متصل بموضوعه، أطيح بالاستثناء التونسي التوافقي الديمقراطي الناجح في الربيع العربي كما صورته وروجت له الكثير من الأدبيات الغربية وبعض المفكرين العرب، ولم تجد تحولات وسياسات حزب النهضة التونسي المتماشية إلى أقصى حد مع توجهات الدولة العميقة في منع انقلابها عليه وإن تأخر قليلاً!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق