على خوف من فرعون .. التربية الإيمانية
مقدمة
أفاض القرآن الكريم في الحديث عن قصة موسى، عليه السلام، مع فرعون مصر لما فيها من الدروس الوافرة والعظات البالغة، التي لا ينبغي إهمالها ولا الحيدة عنها.
وفي سورة يونس الكريمة تحدثت الآيات عن مرحلة حساسة في عمر الدعوة، وهي مرحلة الاستضعاف والخوف اللذَين لحقا بالقِلة المؤمنة من الشباب الذين لم يؤمن غيرهم، وذلك بعد اللقاء الكبير بين فرعون وسحرته من جانب، وموسى عليه السلام من جانب، والذي انهزم فيه فرعون وسحَرته؛ قال الله تعالى:
﴿وَقَالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ * فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالَ لَهُم مُّوسَى أَلْقُوا مَا أَنتُم مُّلْقُونَ * فَلَمَّا أَلْقَوْا قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُم بِهِ السِّحْرُ إنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْـمُفْسِدِينَ * وَيُحِقُّ اللَّهُ الْـحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْـمُجْرِمُونَ * فَمَا آمَنَ لِـمُوسَى إلَّا ذُرِّيَّةٌ مِّن قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِّن فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَن يَفْتِنَهُمْ وَإنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الأَرْضِ وَإنَّهُ لَـمِنَ الْـمُسْرِفِينَ﴾ (يونس:79- 83).
قال ابن عاشور رحمه الله:
“وفي هذا زيادة ثناء على قوة إيمانهم إذ آمنوا في حال خوفهم من الملك مع قدرته على أذاهم، ومن ملئهم ـ أي قومهم ـ وهو خوف شديد، لأن آثاره تطرق المرء في جميع أحواله حتى في خلوته وخويصته لشدة ملابسة قومه إياه في جميع تقلباته بحيث لا يجد مفراً منهم”. (1)
إجراءات الشدائد والخطوب
مما جاء القرآن به هدايةً للمؤمنين به توجيهُهم في زمن الخوف والاستضعاف، وتنبيهُهم إلى إجراءات الشدائد والخطوب. من ذلك ما ورد في سورة “يونس” الكريمة المكّية التي لامسَت الواقع الدعوي في مكة وعالجت الظروف، فلكل مرحلة دعوية إجراءاتها، ولكل حدثٍ واجباته.
وعلى أهل الدعوة أن يكونوا قادرين على فهْم واقعهم وتشخيصه بموضوعية، ثم عليهم أن يهتدوا بالتوجيهات الربانية المطابقة لهذا الواقع أو المشابهة له؛ قال الله تعالى في سياق مرحلة الاستضعاف والخوف في دعوة موسى عليه السلام:
﴿وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آَمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ * فَقَالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ * وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ * وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّآَ لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ﴾ (يونس:84 -87).
تتلخص هذه التوجيهات الكريمة الرحيمة في عنصرين مهّمين للغاية في تربية أهل الدعوة، ودفع غربتهم من خلالهما، وهما عنصر التربية الإيمانية وعنصر التربية الحركية.. على البسط الآتي:
التربية الإيمانية
اعتنت الآيات الكريمة بالتربية الروحية في زمن الاستضعاف، لأن «العقيدة هي السلاح الأول في المعركة، وأن الأداة الحربية في يد الجندي “الخائر العقيدة” لا تساوي شيئاً كثيراً في ساعة الشدَّة». (2)
وتكون هذه التربية ـ بحسب الآيات ـ بما يلي:
أولاً: عبادات القلب والتعلق بالله
العناية بعبادات القلب وتعلقه بالله تعالى، وتوجهه إليه، وتفويض الأمر إليه، والتوكل على الله، والاعتماد عليه بالكلية، واليقين بوعده، والثقة بنصره، فإن”
“التوكل على الله دلالة الإيمان ومقتضاه، وعنصر القوة الذي يضاف إلى رصيد القِلة الضعيفة أمام الجبروت الطاغي فإذا هي أقوى وأثبت”. (3)
قال ابن جرير رحمه الله:
“فبه ثقوا، ولأمره فسلِّموا، فإنه لن يخذل وليَّه ويُسْلِم من توكل عليه”. (4)
إن أهل الدعوة بحاجة إلى جرعة إيمانية عالية تقوّي توكّلَهم على الله تعالى، وتزيد من ثقتهم بوعده ونصره؛ وهذا الأمر تكرر في القرآن الكريم كثيراً لأهميته، كقوله تعالى:﴿فَاصْبِرْ إنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ﴾
(الروم: 60).
و”التوكل” و”اليقين” مستلزمان “للصبر” و”التأنّي” وعدم الاستعجال وعدم الاستجابة للاستفزازات وعدم الرضوخ لردّات الفعل، ولهذا حين أخبر الله تعالى “موسى” و”هارون” بإجابة دعوتهما أمرهما بالاستقامة، والتي تعني في وجه منها:
“ترك الاستعجال ولزوم السكينة والرضا والتسليم لما يقضي به الله سبحانه”. (5)
ثانياً: دعاء الله تعالى وسؤاله الثبات والنصر والتمكين
وهو أمر لازِم للتوكل على الله تعالى، فمَن توكّل على الله حق التوكل لجأ إليه واستنصره وطلبه؛ ولذلك سارع المؤمنون من قوم موسى بالدعاء حين أمرهم بالتوكل: ﴿فَقَالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ * وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ﴾ (يونس: 85-86).
والدعاء الوارد في هذه الآيات على شقين:
دعاء أهل الدعوة لأنفسهم، كما سبق.
ودعاء أهل الدعوة على أعداء الله وأعدائهم، كما أخبرنا الله تعالى في الآيات: ﴿وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آَتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الأليم﴾ (يونس:88).
أهل الدعوة لا غنى لهم عن اللجوء إلى الله وطلب النصرة منه والتثبيت على دينه وتمكينهم من أعدائه. وهذا مقتضى الإيمان والتوكل على الله. وهذا دأب الأنبياء والمرسلين. وسوف يجعل الله لهم مخرجاً مما هم فيه. والآيات المتكاثرة تصرّح بأنه لا أحد يستطيع أن يتفوق على قدرة الله وإرادته في إدارة الصراع بين أهل الحق وأهل الباطل:
﴿إن يَنصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غَالِبَ لَكُمْ وَإن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا الَّذِي يَنصُرُكُم مِّنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْـمُؤْمِنُونَ﴾ (آل عمران: 160)،﴿وَمَا النَّصْرُ إلَّا مِنْ عِندِ اللَّهِ إنَّ اللَّهَ عَزِيزٌحَكِيمٌ﴾
(الأنفال: 10).
لذلك فإن الدعاء واحدٌ من أسباب النصر المهمة ورفع الاستضعاف، وطريقٌ نحو التمكين ودفع البلاء والفتنة، والذين يبتكرون الأساليب والطرق النافعة لإيجاد مخارج من أزمات الظروف التي يعيشونها، ثم هم يغفلون عن أثر الدعاء؛ إنما يركضون خلف السراب، لأن هذه الأسباب مهما قويت كلها أضعف من الدعاء.
والدعاء عبادة تنم عن عبودية في القلب لله عز وجل، وإخبات وذل وخضوع له، والذين يغفلون عن الدعاء إنما يتنكبون باب العبودية مستكبرين، معتمدين على ذكائهم وقوتهم وأساليبهم لا على الله عز وجل، وهو القائل: ﴿وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ﴾ (غافر: 60).
فعن أي تمكين يبحثون وعن أي نصرٍ يطلبون وهم في الحقيقة عن الصراط ناكبون!
ثالثاً: الإقبال على الصلوات برغم الخوف والاستضعاف.
والمقصود إقامتها وعدم تركها البتة.
وقد جاء ذلك صريحاً في قوله تعالى: ﴿وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ﴾ (يونس: 87) أي بجميع حدودها وأركانها مستخفين ممن يؤذيكم. (6)
وإشارة في قوله تعالى: ﴿وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً﴾ (يونس: 87) أي اتخِذوها مساجد، وصلّوا فيها مستخْفين في حال خوفكم من فرعون وقومه؛ فلا تتركوا الصلاة والإقبال عليها بأي حال. قال ابن كثير رحمه الله:“وكأن هذا ـ والله أعلم ـ لمّا اشتدّ بهم البلاء من قِبَل فرعون وقومه، وضيّقوا عليهم، أُمروا بكثرة الصلاة؛ كما قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ﴾
لا شكَّ أن الحال عسيرة وأن الخطب مُدْلهمّ، والإقبال على الصلوات يرفع العسر ويفرّج الهَم ويكشف الضوائق.
وقد كان بنو إسرائيل في تلك الحال على درجة من الخوف والاضطراب لا يقْدر على تسكينهم وتثبيتهم إلا الله، فأمرهم الله أن يتخذوا مساجد في دورهم متوجهة نحو القبلة، على رأي جمع من المفسرين.
أو أمرهم أن يصلّوا في بيوتهم لئلا يقعوا تحت طائلة التعذيب والإرهاب، على رأي جمع آخر من المفسرين. (8)
وفي الحالتين أُمروا بالعناية بالصلاة في هذا الظرف القاتم، لكونها معِينة لهم على الثبات والفلاح، ولكونها القلعة الأخيرة في مقامات الإيمان وأركان الإسلام، فيجب المحافظة عليها وإلا سقطت مدينة الإيمان في القلوب.
وإذا جاز للمسلمين ترك بعض الشعائر للحال التي يعيشونها في دار الحرب؛ فإن عمود الدين ـ أعني الصلاة ـ لا ينبغي بحال تركه أو التفريط به.
قال ابن عباس: كانوا خائفين فأمروا أن يصلوا في بيوتهم. (9)
مشهد جليل للصلاة، للخائفين بين الشعاب
ويتملّكك العجَب حين تتخيَّل أولئك الثلَّة المؤمنة من الصحابة رضي الله عنهم وقد حضرتهم الصلاة، وهم في خوف وسرِّية، فيتسللون إلى الشعاب والأودية عبر مجموعات صغيرة، يتلفّتون يمنة ويسرة، فيقوم أحدهم يرقُب الأوضاع من مسافة؛ ليصفَّ الباقون أقدامهم لله تعالى، خاشعين ذاكرين، ثم يصلي هو نوبته!
إنها مشاهد يخفق لها القلب وترتجف لها الجوارح إجلالاً ومهابة؛ قال سعيد بن زيد رضي الله عنه: «استخفينا بالإسلام سَنَة، ما نصلي إلا في بيتٍ مغلق أو شعب خالٍ، ينظر بعضنا لبعض».
وفي رواية للبلاذري «أن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه كانوا إذا جاء وقت العصر تفرقوا في الشعاب فصلوا، فرادى ومثنى، فبينما رجلان من المسلمين يصليان في إحدى شعاب مكة إذ هجم عليهم رجلان من المشركين كانا فاحشين فناقشوهما ورموهما بالحجارة ساعة، حتى خرجا فانصرفا». (10)
فلمَّا اتخذ النبي صلى الله عليه وسلم دارَ الأرقم مقراً لدعوته، أصبحت الصلاة أحد الأعمال المقامة فيها.
هذا الجهد والترقب والتخوف والتسلل والتحري.. كله لأجل إقامة الصلاة التي كتبها الله عليهم فرضاً لازماً.
لقد كانت تلك الصلاة تبني قيمهم وإيمانهم وتُشربهم الفضائل والمعالي: ﴿اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ﴾ (العنكبوت:45).
وحين واجهت المسلمين موجةٌ قوية تريد صدَّهم عن هذا الدين الجديد الذي غيَّرهم كانت التربية على إقامة الصلاة هي ذلك السدَّ المنيع من الانجراف في هذه الموجة: ﴿كَلَّا لا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ﴾ (العلق: 19).
وحين كان المسلمون مأمورين بالعفو عن أذى قريش وعدم الاصطدام بهم أو الانتقام منهم ﴿كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ﴾ (النساء: 77)، كانت التربية على إقامة الصلاة تسهم بشكل كبير في تخفيف تلك المعاناة والضيم، من خلال ترشيد انفعالات المسلمين وتسكين نفوسهم وتهدئة ثائرتهم.
لقد كانت إقامة الصلاة ولا تزال تخفف من الضغوطات وتعيد النفس إلى خطها الانفعالي المعتاد: ﴿إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا * إِلَّا الْمُصَلِّينَ﴾ (المعارج:19 ـ 22)
ذلك أن الاستقرار النفسي له تأثيره الإيجابي في رفع مستوى التدين والارتقاء في سلَّم الإيمان؛ الأمر الذي كانت الصلاة تصنعه في نفوس أهلها.
إن الصلاة ـ باختصار ـ تقوم بالأدوار المهمة التي تقوم بها المحاضن التربوية، وهي التربية الذاتية في زمن انعدام “الجماعية”؛ لذلك أمر الله تعالى بني إسرائيل بالإقبال على الصلاة لتقوم بهذه الأدوار المهمة.
والآية لا تشير إلى إقامة الصلاة المفروضة فحسْب، بل تشير إلى الإكثار من الصلاة في أزمنة الخوف والاستضعاف.
خاتمة
كما مضى يتبين أن لهذا المنهج طريقته الخاصة في العمل؛ فالتعلق بالله وإكثار الضراعة والدعاء والصلاة؛ هي إجراءات ما قبل الحركة ومع الحركة، وليست الحركة في الاسلام منفصلة عن العقيدة والشعائر؛ فهي ليست كفاحا مجردا بل كفاح عمل وقلوب، وتعلق بالله وتوكل عليه.
وفي الجز الثاني نطلع على الحركة اللائقة بهذه المرحلة إن شاء الله.
الهوامش:
- تفسير التحرير والتنوير 11 /260.
- في ظلال القرآن 3 /1816.
- في ظلال القرآن 3 /1815.
- تفسير الطبري 11 /151.
- فتح القدير 2 /598، وانظر تفسير القرطبي 8 /240.
- نظم الدرر 3 /474.
- تفسير الطبري 11 /151.
- السيرة النبوية لابن هشام 1 /283.
- السيرة النبوية لابن هشام 1 /300.
- انظر: دراسة في السيرة لعماد الدين خليل ص63.
راجع:
- فايز بن سعيد الزهراني، مجلة البيان العدد 350 شــوال 1437هـ، يـولـيـو 2016م.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق