الجمعة، 27 أغسطس 2021

التفكر في سِيَر الأنبياء .. والنظر في أيام الله

 التفكر في سِيَر الأنبياء .. والنظر في أيام الله



سُنة الله في خلقه عدل وصدق وحق، وهي سنة لا تتبدل ولا تحابي أحدا، ولم يقص تعالى علينا قصص الأولين إلا لتشابه المقدمات من خير وشر مع النتائج أيضا من خير وشر

مقدمة

من الكنوز التي فتح الله تعالى لعباده ما أوضح لهم من العبرة فيما سلك الأولون من طرق ومناهج، وأوضح تعالى لهم عاقبة كل طريق قد سلكوه. واختُصرت قصص الإنسانية في عبرة يتلقاها المؤمن عن ربه تعالى فيعتبر ويتجنب المخاطر ويصمد على الطريق.

لقد عرّف تعالى عباده نهاية الطريق لكل منهج ومأخذ؛ ما بين الكفر والإيمان، والفساد والصلاح. وهذه من نعم رب العالمين؛ فلم يُبق تعالى لأحد عذرا. وبقي على الخلق أن ينظروا فيما أخبرهم ربهم وما قصه تعالى عليهم.

وجوب الاعتبار

قال الله عز وجل: ﴿لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾ [يوسف:111].

ولما قص الله عز وجل علينا قصص الأنبياء في سورة هود عقَّبَ سبحانه على هذه القصص بقوله: ﴿وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ * إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِّمَنْ خَافَ عَذَابَ الْآخِرَةِ ذَلِكَ يَوْمٌ مَّجْمُوعٌ لَّهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَّشْهُودٌ﴾ [هود:102-103].

وفي سورة الشعراء قص الله عز وجل علينا قصص أنبيائه عليهم الصلاة والسلام “نوح وإبراهيم وموسى وهود وصالح ولوط وشعيب” مع أقوامهم، وختم كل قصة بخاتمة واحدة متكررة وهي قوله سبحانه: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ﴾ [الشعراء:67-68].

ولما قص الله عز وجل علينا قصة لوط مع قومه في سورة العنكبوت قال سبحانه: ﴿وَلَقَد تَّرَكْنَا مِنْهَا آيَةً بَيِّنَةً لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾ [العنكبوت:35]، والآيات في ذلك كثيرة جدًّا.

والمقصود أن الله عز وجل أمرنا بالنظر والتعقل والتفكر في قصص الأنبياء مع أقوامهم، وكيف أن العاقبة والنجاة والنصر والتمكين للأنبياء ومَن آمن معهم، والهلاك والبوار للمكذبين الكافرين.

قال الله تعالى: ﴿قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ﴾ [آل عمران:137].

وقال سبحانه عن قرى قوم لوط التي خسف بها: ﴿وإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِم مُّصْبِحِينَ * وَبِاللَّيْلِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾ [الصافات:137- 138].

النظر في أيام الله

وأمر الله عز وجل نبيَّه موسى عليه السلام أن يذكّر قومه بأيام الله الماضية، وسنته سبحانه في إنجاء المؤمنين، وإهلاك الكافرين.

قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُم بِأَيَّامِ اللَّهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ﴾ [إبراهيم:5].

يقول ابن القيم رحمه الله تعالى عند هذه الآية:

“وقد فسرت «أيّام الله» بنعمه، وفسرت بنقمه من أهل الكفر والمعاصي؛ فالأول تفسير ابن عباس وأبي بن كعب ومجاهد، والثاني: تفسير مقاتل.

والصواب: أن أيامه تعم النوعين؛ وهي وقائعه التي أوقعها بأعدائه، ونعَمه التي ساقها إلى أوليائه، وسُميت هذه النعم والنقم الكبار المتحدَّث بها «أيامًا» لأنها ظرف لها؛ تقول العرب: فلان عالم بأيام العرب وأيام الناس؛ أي: بالوقائع التي كانت في تلك الأيام، فمعرفة هذه الأيام توجب للعبد استبصار العبر، وبحسب معرفته بها تكون عبرته وعظته؛ قال الله تعالى: ﴿لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ﴾ [يوسف: 111].

ولا يتم ذلك إلا بالسلامة من الأغراض؛ وهي متابَعة الهوى والانقياد لداعي النفس الأمارة بالسوء؛ فإن اتباع الهوى يطمس نور العقل، ويعمي بصيرة القلب، ويصد عن اتباع الحق، ويُضل عن الطريق المستقيم؛ فلا تحْصُل بصيرة العبرة معه ألبتة.

والعبد إذا اتبع هواه فسدَ رأيه ونظره؛ فأرَتْهُ نفسه الحسَنَ في صورة القبيح، والقبيح في صورة الحسن؛ فالْتبس عليه الحق بالباطل، فأنَّى له الانتفاع بالتذكر، أو بالتفكر، أو بالعظة؟”. (1)

سنن لا تتبدل ولا تحابِي

ويتحدث سيد قطب رحمه الله تعالى عند قول الله عز وجل: ﴿أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً﴾ [الروم:9]؛ فيقول:

“وهي دعوة إلى التأمل في مصائر الغابرين؛ وهم ناس من الناس، وخلق من خلق الله، تكشف مصائرهم الماضية عن مصائر خلفائهم الآتية، فسنة الله هي سنة الله في الجميع، وسنة الله حق ثابت يقوم عليه هذا الوجود، بلا محاباة لجيل من الناس، ولا هوى ينقلب، فتنقلب معه العواقب. حاشى لله رب العالمين!

وهي دعوة إلى إدراك حقيقة هذه الحياة وروابطها على مدار الزمان، وحقيقة هذه الإنسانية الموحدة المنشأ والمصير على مدار القرون كي لا ينعزل جيل من الناس بنفسه وحياته، وقيمه وتصوراته، ويغفل عن الصلة الوثيقة بين أجيال البشر جميعًا، وعن وحدة السُنة التي تحكم هذه الأجيال جميعًا؛ ووحدة القيم الثابتة في حياة الأجيال جميعًا”. (2)

ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى متحدثًا عن كثرة ورود قصص الأنبياء في القرآن الكريم:

“ولهذا قص الله علينا أخبار الأمم المكذبة للرسل، وما صارت إليه عاقبتهم، وأبقى آثارهم وديارهم عبرة لمن بعدهم وموعظة.

وكذلك مسخ مَن مسخ قردة وخنازير لمخالفتهم لأنبيائهم، وكذلك مَن خسف به، وأرسل عليه الحجارة من السماء، وأغرقه في اليم، وأرسل عليه الصيحة، وأخذه بأنواع العقوبات؛ وإنما ذلكم بسبب مخالفتهم للرسل وإعراضهم عما جاءوا به، واتخاذهم أولياء من دونه.

وهذه سنته سبحانه فيمن خالف رسله وأعرض عما جاءوا به واتبع غير سبيلهم؛ ولهذا أبقى الله سبحانه آثار المكذبين لنعتبر بها ونتعظ، لئلا نفعل كما فعلوا فيصيبنا ما أصابهم، كما قال تعالى: ﴿إِنَّا مُنزِلُونَ عَلَى أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزًا مِّنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ * وَلَقَد تَّرَكْنَا مِنْهَا آيَةً بَيِّنَةً لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾ [العنكبوت:34-35].

وقال تعالى: ﴿ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ * وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِم مُّصْبِحِينَ * وَبِاللَّيْلِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾ [الصافات:136-138]، أي: تمرون عليهم نهارًا بالصباح وبالليل، ثم قال: ﴿أَفَلَا تَعْقِلُونَ﴾.

وقال تعالى في مدائن قوم لوط: ﴿وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ * إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّلْمُتَوَسِّمِينَ * وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُّقِيمٍ﴾ [الحجر:74-76]؛ يعني: مدائنهم بطريق مقيم يراها المارُّ بها.

وقال تعالى: ﴿أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ﴾ [فاطر: 44].

وهذا كثير في الكتاب العزيز؛ يخبر سبحانه عن إهلاك المخالفين للرسل ونجاة أتباع المرسَلين؛ ولهذا يذكر سبحانه في سورة الشعراء قصة موسى وإبراهيم، ونوح وعاد وثمود، ولوط وشعيب، ويذكر لكل نبي إهلاكه لمكذبيهم والنجاة لهم ولأتباعهم، ثم يختم القصة بقوله: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ﴾ [الشعراء:8-9]؛ فختم القصة باسمين من أسمائه تقتضيها تلك الصفة، هو: ﴿الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ﴾ فانتقم من أعدائه بعزته، وأنجى رسله وأتباعهم برحمته”. (3)

خاتمة

يقول شيخ الاسلام ابن تيمية في موطن آخر:

“وفي قَصص هذه الأمور عبرة للمؤمنين بهم؛ فإنهم لا بدَّ أن يُبْتَلَوْا بما هو أكثر من ذلك، ولا ييئسوا إذا ابتُلوا بذلك، ويعلمون أنه قد ابتُلي به مَن هو خير منهم، وكانت العاقبة إلى خير، فليتيقن المرتاب، ويتوب المذنب، ويقوى إيمان المؤمنين فبها يصح الاتّساء بالأنبياء”. (4)

إنه لما نفى تعالى المحاباة في السنن والتبدل في جريانها؛ أصبح المأخذ مستقيما؛ فيستطيع العبد أن يعقل لماذا شغل القصص مساحة في كتاب الله، ولماذا يكرره العبد مع قراءته.

كما يستقيم المأخذ للعبد في أن يعقل نتائج المناهج ومغبة الطرق التي يسلكها الناس اليوم، وكل يوم يتلقى فيه متلقٍ عن ربه تعالى هذا الكتاب.

عندئذ لا ينبهر مؤمن بزينة الدنيا للكافرين، ولا يتضعضع أمام انتفاشة الظلم؛ فمن العبرة الماضية يعلم أنها “فقاعة” وأنها الى زوال؛ هنا يبدو المؤمن واثقا مطمئنا الى ربه والى منهجه والى العاقبة التي ينتظرها وهو سالك الطريق؛ فلا يتردد ولا يرتاب. بل كما يقول شيخ الإسلام ” فليتيقن المرتاب، ويتوب المذنب، ويقوى إيمان المؤمنين فبها يصح الاتّساء بالأنبياء”، والله الموفق للخير، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.


الهوامش:

  1. مدارج السالكين، (1/ 449).
  2. في ظلال القرآن، (6/ 2760).
  3. مجموع الفتاوى، (19/ 97-98).
  4. مجموع الفتاوى (15/ 178).

اقرأ أيضا:

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق