الخميس، 12 أغسطس 2021

النيل من هرمس حتى "حكاية الخرم"

 النيل من هرمس حتى "حكاية الخرم"

عبد الحكيم حيدر

كان الملك البودشير، أحد ملوك مصر القدماء، قد ملك وتجبّر، وكان أول من تكهّن وتعاطى عمل السحر واحتجب عن العيون، ويقال إنّه أرسل هرمس، الكاهن المصري، إلى جبل القمر الذي يخرج النيل من تحته، حتى عمل تماثيل من النحاس وعدّل البطيحة (البحيرة) التي ينصبّ فيها ماء النيل، ويقال إنّه عدّل أيضا جانبي النيل، وقد كان يفيض في مواضع، وربما انقطع في مواضع، وهذا القصر الذي فيه تماثيل النحاس يشتمل على خمس وثمانين صورة، جعلها هرمس جامعةً لما يخرج من ماء النيل بمعاقد ومصابّ مدورة وقنوات يجري فيها الماء، وينصبّ إليها إذا خرج من تحت جبل القمر، حتى يدخل من تلك الصور، ويخرج من حلوقها.

وجعل لها قياساً معلوماً، بمقاطع وأذرع مقدّرة، وجعل ما يخرج من هذه الصور من الماء، ينصبّ إلى الأنهار ثم يصير منها إلى بطّيحتين، ويخرج منها حتى ينتهي إلى البطيحة الجامعة للماء الذي يخرج من تحت الجبل، وعمل لتك الصور مقادير من الماء الذي يكون معه الصلاح بأرض مصر، وينتفع به أهلها من دون الفساد، وذلك الانتهاء المصلح، ثمانية عشر ذراعاً، بالذراع الذي مقداره اثنان وثلاثون إصبعاً؛ وما فضل من ذلك عدل عن يمين تلك الصور وشمالها، إلى مسارب يخرج منها ويصبّ في رمال وغياض، لا ينتفع بها من خلف خط الاستواء، ولولا ذلك لغرّق ماء النيل البلدان التي يمر عليها.

لاحظ أنّ النص السابق كلّه منقولٌ بأمانة من كتاب محمود رزق سليم "النيل في عصر المماليك" (المكتبة الثقافية، الثقافة والإرشاد القومي، الدار المصرية للتأليف والنشر ص 36، ص 37). 

وأنّ هرمس كما هو في النص، كان يعمل مستشاراً علمياً وعسكرياً لدى فرعون مصر في ذلك الزمان، على الرغم من أنّ الشيخ علي جمعة، بعلمه الغزير الذي ملأ به عمائمه الخضراء والحمراء والروز والبنفسجي والتركواز، استطاع، في لمح البصر، أن يحوله إلى "النبي إدريس"، فهل لا قدّر الله يأتمر إدريس بفرعون ناسياً رسالته إلى الناس؟

أما الأقوال الأخرى التي خاضت في شخصية هرمس قبل علي جمعة فهي عديدة ومتضاربة، ومنها أنّ هرمس ليس سوى "أخنوخ"، إلّا أنّ الشيخ علي جمعة "قلوظ" ثانية العمامة التركواز، وأكد بخمسين عرق من عروقه التي انتفخت أنّه "النبي إدريس" على الرغم من أنّه لم يقل بذلك في جمهرة المؤرّخين سوى المسعودي، إلّا أنّ الصابئة أيضاً تزعم أنّ هرمس معناه عطارد، وكان يوجد "هرمس" ببابل أيضاً. وبذلك لا مكان في جسد هرمس من دماء غريبة، لا من اليونان ولا الرومان، ولا حتى نبهاء علماء الإسكندرية، أصحاب الألسنة المتعدّدة والحضارات. 

وضاع هرمس ما بين علي جمعة، وجمهرة ثقات العالم من العلماء، فهل بعد ذلك يجدي "خرم المعتز بالله عبد الفتاح" في جدار السدّ، في زحزحة كلّ هذه اليقينيات المتضاربة، خصوصاً بعدما أكّد من أيام، أنّه على علم ويقين أن القيادة حزمت أمرها أخيراً، كما وصل إليه، أنّ القوة باتت هي الخيار الأخير أمامنا، فماذا سوف يفعل هو "بالخرم وحكايته" وهو أستاذ العلوم السياسية، في لمّ جراح نظريته السابقة في هدم سدّ النهضة "بإحداث خرم في جدار السدّ". وبعد ذلك، ينتهي كلّ شيء. 

واضح أنّ المعتز بالله عبد الفتاح، حينما صرّح بحكاية الخرم، كان غريراً بعد، ولم يكن على علاقةٍ وثيقةٍ بقدرات القوات المسلحة ولا قدرات جيشه العظيم، وكان حينذاك "يفتّ من دماغه" في أمرٍ ليس له سابق معرفة به. وكان لا بدّ للقيادة أن تُطلعه على بعض أساليبها، لا نقول، والعياذ بالله، أن يقرأ في هرمس، أو أخنوخ، أو حتى يجلس بجوار الشيخ علي جمعة مساء، ويعرف منه حكايات النبي إدريس، ولم نقل أن يطلع على تاريخ الحروب، وحتى ضرب القلاع بالمنجنيق. 

وعلّها فرصة كي يطلع صاحب "حكاية الخرم" على هذا النص التراثي جداً، والمكتوب في كتب التوجيه المعنوي لعبد الناصر قبل أن يكون الأول على الثانوية، وفي سنة 1965 أول مايو/ أيار، وكان ثمن الكتاب: "قرشين".


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق