الأحد، 12 مارس 2023

كيف نكون ربانيين في رمضان

كيف نكون ربانيين في رمضان


 د. ليلى حمدان

 أقبل الشهر الفضيل وأقبلت معه الفرص العظيمة، في وقت باتت فيه القلوب بأمس الحاجة للاستعلاء بإيمانها عن ماديات الأرض وأهواء النفوس وانتشال أصحابها من مستنقعات الكلل والملل، فإما إقبال فائز وإما حرمان مغبون.

وتأمل معي هذا الحديث المهيب وتدبر معانيه التي تبعث الوجل في القلوب، فعن أبي هريرة رضي الله عنه:(أن النبي صلى الله عليه وسلم صعد المنبر فقال: آمين، آمين، آمين، قيل: يا رسول الله إنك صعدت المنبر فقلت آمين، آمين، آمين، فقال: إن جبريل عليه السلام أتاني فقال من أدرك شهر رمضان فلم يغفر له فدخل النار فأبعده الله قل آمين، فقلت آمين)(الحديث رواه ابن خزيمة وابن حبان في صحيحه واللفظ له).

لتدرك أن الأمر جد وليس بهزل!

مفاهيم عظيمة وحكم مبهرة

وإن في شهر رمضان مفاهيم عظيمة وحكم مبهرة تستوجب التدبر، فقد شرع الله الصيام لتسمو به النفوس وتتزكى به القلوب وتتطهر به الأجساد والأرواح، فما أن يقبل شهر رمضان يقبل معه الانشراح وتحلّ السكينة والسعادة لمن أقبل عليه بقلبه وجوارحه، معظمًا لشعائر ربه، معلنًا العبودية لله وحده لا شريك له سبحانه، مستقيمًا على سبيله القويم مرددًا (اهدنا الصراط المستقيم * صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين) (الفاتحة: 6-7). 

وَتَغْتَسِلُ النُّفُوسُ بِرُوحِ شَهْرٍ هِيَ التَّقْوَى الَّتِي مِنْهَا الوِقَاءُ!

لقد أقبل شهر الجد والعمل شهر يقود فيه المؤمن نفسه أفضل قيادة لأفضل ارتقاء فيستحق بذلك وصف القائد الذكي الذي يحسن استغلال الفرص. كيف لا وهو شهر تعظم فيه الطاعات وتضاعف فيه الحسنات وتكفّر فيه السيئات وتفتح فيه أبواب السماوات وتصفد فيه مردة الشياطين، ويتراحم فيه المسلمون، شهر جعله الله للقرآن قال تعالى (شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان) (البقرة: 185).

شهر يزدان بليلة القدر قال رسول الله عليه وسلم (من قام ليلة القدر إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه) متفق عليه. 

ومن يتأمل الأحاديث والآيات التي ذكر فيها الصيام وفضائله لا يتعجب لحرص المسلمين على العبادة بتفاني في هذا الشهر العظيم منذ فرض الله الركن الرابع من أركان الإسلام، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(كل عمل ابن آدم يضاعف الحسنة عشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، قال الله عز وجل؛ إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به، يدع شهوته، وطعامه من أجلي، للصائم فرحتان: فرحة عند فطره، وفرحة عند لقاء ربه، ولخُلوف فيه أطيب عند الله من ريح المسك)(متفق عليه).

لا يسعنا المقام أن نعرض جميع النصوص التي ذكرت فضائل رمضان، ولكننا نرى واجب التذكير بأهمية استقبال الشهر في هذا العام، بنية الربانيين، وهمة القرآنيين الذين خالطت حلاوة الإيمان بشاشة قلوبهم فتطلعوا إلى ما عند الله من الدرجات العلا والنعيم المقيم.

معسكر تدريب وصناعة للهمة

إنه لحري بكل مسلم أن يتهيأ ويشحذ همته للمسابقة في شهر رمضان الكريم، فنحن نتحدث عن معسكر تدريب للنفس يدخله المسلم ليصلح من حاله وحال عباداته ومن علاقته مع خالقه، معسكر يبدأ فيه بإتقان العبادات وتنويع الطاعات وتأديب النفس والتجمل بالأخلاق وآداب الربانيين، وينتهي تمامًا عن كل ظلم للنفس وذنب وإثم، ورذائل الأخلاق، وفاحش الكلام، وسفاسف الأمور، واقتحام المعاصي، وتعدي حدود الله، ومجالس اللغط، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه) (رواه البخاري). 

إِذَا لَمْ يَكُنْ فِي السَّمْعِ مِنِّي تَصَامُمٌ
وَفِي مُقْلَتِي غَضٌّ، وَفِي مَنْطِقِي صَمْتُ

فَحَظِّي إِذًا مِنْ صَوْمِيَ الجُوعُ وَالظَّمَا
وَإِنْ قُلْتُ: إِنِّي صُمْتُ يَوْمًا فَمَا صُمْتُ

إنه امتحان صدق مع نفسك، لتستحق بذلك فضل القبول بعد أيام معدودات، وتثبت قدرتك على تجاوز العقبات وتفادي شراك الشيطان وقهر نزعات الشر والاستدراك، يكفي فقط أن تقبل بهمة المثابر إلى رياض التبتل والصلاح.

ومع توالي النوازل والنكبات، وكثرة الأوبئة والأمراض، حري بكل مسلم أن يقبل في شهر رمضان المبارك إقبال مودّع، متأسيًا بسيرة قائده ونبيّه محمد صلى الله عليه وسلم، مسارعًا في الخيرات وأنواع الذكر والاستغفار، لا يحتقرنَّ من المعروف شيئًا ولا يستهين بالذنب وإن صغر في عينه أو أعين الناس.

وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر من الصدقات في شهر رمضان ويكثر من الصلاة وتلاوة القرآن، وكان يوصي بإفطار الصائمين والإحسان للفقراء والمساكين في مجتمع متماسك تماسك البنيان المرصوص.

ولاشك أن إقبال المؤمن في هذا الشهر على الفضائل والطاعات والعبادات لابد له أن يبتدأ بالإخلاص لله سبحانه والترفع عن الرياء والعجب بالنفس وتزكيتها، ذلك أنه عبد منيب ينشد مغفرة ما تقدم من ذنبه.

ومن رحمة الله بعباده وحكمته أن جعل في آخر رمضان عشر ليالٍ هي خير ليالي السنة، فيها ليلة هي خير من ألف شهر ألا وهي ليلة القدر، ولا يفوت نجيبًا أن يضاعف جهده خلالها ويبلي البلاء الحسن وقد امتلك فرصة الإعداد لها منذ بداية رمضان، فعن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت:(كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل العشر الأواخر أحيى الليل وأيقظ أهله وشد المئزر) (متفق عليه). 

محطات فاصلة عبر التاريخ كانت في رمضان

لقد تميز شهر رمضان الكريم منذ صدر الإسلام الأول بمكانة مرموقة في حياة المسلمين، تعظيمًا لفرائض الله وإدراكًا لعظم أجر المسابقة فيه وانتهاز الفرص للارتقاء والتقرب من الرحمن، ونجد أنه شهر شهد محطات مصيرية في مسيرة هذه الأمة، فقد شهد غزوة بدر أول معركة في الإسلام وأول نصر مؤزر، وشهد كذلك فتح مكة أهم فتح للإسلام، وكان فتحًا مبينًا، وتوالت بعد ذلك المواقع والمعارك الفاصلة، فكانت وقعة البويب في العراق وقائدها المثنى بن حارثة الشيباني رضي الله عنه، وفتح الأندلس على يد طارق بن زياد رحمه الله، ومعركة بلاط الشهداء في فرنسا وقائدها عبد الرحمن الغافقي رحمه الله، وفتح عمورية في عهد االمعتصم بالله العباسي رحمه الله، ومعركة عين جالوت بقيادة السلطان المظفر قطز رحمه الله الذي كسر ظهر المغول وهزمهم شر هزيمة، ومعركة شقحب التي كانت ضد المغول في زمن ابن تيمية رحمه الله، وفتح جزيرة قبرص في عهد المماليك وفتوحات أخرى كبيرة وإنجازات لا تعد ولا تحصى لندرك أن شهر رمضان كان دائما شهر العمل والجد والسعي لبناء هذه الأمة ونهضتها لا شهر الكسل والتواكل والنوم.

الدعاء في رمضان فرصة المؤمن

فأيها المسلم أنت مقبل على شهر تصقل فيه مهاراتك صقلًا، تعيد إدارة نفسك وأدائك إداراة رائعة تستعيد معها سلطانك عليها وتمضي بها لمراتب السموق قاهرا لشهواتك متمكنا منها. معركتك فيها جهاد نفس، وهدفك مراتب الربانيين ممن انتصر على ضعفه وهوى نفسه وكل ظلم.

ولا يمكن أن تحقق مثل هذا النصر إن لم تدعو الله بحرقة المؤمن الموقن بالإجابة، قال تعالى (وإذا سألك عبادي عني فإني قريب إجيب دعوة الداعي إذا دعان فليستجيبوا لي وليؤمنوا به لعلهم يرشدون) (البقرة: 186). 

فتأمل كم من الدعوات تدخرها لترددها مخلصًا لله مبتهلا، وكم هي حاجتك ملحة وحرجة، فكيف ستطلبها من ربك، لابد أن يكون ذلك بمنتهى الأدب والصدق.

وإن شكوت الظلم فشهر رمضان فرصتك الذهبية للدعاء فيه واغتنام فضائله فعن أبي هريرة قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم:(ثلاثة لا ترد دعوتهم: الإمام العادل،والصائم حتى يفطر،ودعوة المظلوم) (رواه أحمد والترمذي والنسائي وابن ماجة).

ولا أخال عاقلا يتورع عن الدعاء والتضرع إلى الله، واغتنام ساعات الإجابة ليكشف الله عنا مصائب جلل ألمّت بالأمة الإسلامية ونكبات كبرى توالت علينا.

فاسأل الله سؤال مضطر قد مسه الضر، وارجوه رجاء فقير ضعيف محتاج.

وكم من لاجئ مشرد، وكم من خائف لم يأمن وكم من أسير مظلوم وكم من يائس من الحياة مقهور، وكم من مستضعف بات مهموم، وكم من يتيم وثكلى، وكم من عامل بحاجة لدعاء صالح، وكم من مجاهد في الثغور يقاوم العدوان الجائر وكم وكم، كل هؤلاء من حقهم عليك أن تذكرهم في دعائك، كما تدعو لنفسك ولأهلك ولمن تحب، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من دعا لأخيه بظهر الغيب قال الملك الموكل به: آمين ولك بمثل)، وفي رواية: (دعوة المرء المسلم لأخيه بظهر الغيب مستجابة عند رأسه ملك موكل كلما دعا لأخيه بخير قال الملك الموكل به: آمين ولك بمثل) رواه مسلم.

أولى أولوياتك أن تكون ربانيًا

إن أولى أولوياتك في هذا الشهر الفضيل أن تكون ربانيًا، تتوجه بكلك لا ببعضك لله، تخشع جوارحك وتدمع مقلك، ويتصدع قلبك للآيات وعند السجدات ولحظات التفكر والدعاء.

فليس رمضان للجوع والعطش، بل للتوبة والتقوى عن أبي هريرة أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: “رب صائم ليس له من صيامه إلا الجوع والعطش، ورب قائم ليس له من قيامه إلا السهر” ( رواه النسائي وابن ماجه الحاكم، وقال صحيح على شرط البخاري).

وهدف الرباني تحقيق قول الله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ) (البقرة: 183).

وهنا الفرق بين من يقبل على رمضان معتقدًا أنه مجرد انقطاع عن الطعام والشراب لساعات النهار، وبين من يلازم القرآن تدبرًا وتلاوة، ويدرك أن التقوى غاية ووسيلة في نفس الوقت.

فأيها الرباني السر الأول في التمسك بكتاب الله ليكون القرآن هو المحرك لك لتغيير واقعك وواقع أمتك، تتجاوب مع أوامره ونواهيه، وتدرك مقاصده العظيمة فتخفق بين جوانحك المحبة لله وللمؤمنين وتتوقد في داخلك الهمة والعزيمة وتنطلق عاملا لله مبصرًا.

فعبادة الله في رمضان ليست مجرد شعارات وعبارات رنانة، ولا عادات طعام ومتابعة برامج الشاشات والسمر، بل هي زلزال يصيب القلب فينفض عنه كل غبار تراكم فيه طويلا، هجرة لله خالصة، تهجر بها الشر وتنغمس في الخيرات. تهجر معها سفاسف الأمور وتسمو إلى معاليها.

عبادة تحلق بك في ملكوت السموات والأرض تحقق معها معنى التوحيد ومعنى الصدق والفرار إلى الله مولاك وتنطلق انطلاقة جديدة تعوّض خساراتك وترمم جراحاتك وتدفعك للأمام متزودًا وخير الزاد التقوى.

عبادة تخرج بها أكثر قوة وانضباطًا وقدرة على الأدء والإنجاز وصناعة الخير والتخلّص من كل شر أو شبهات شر.

الربانيون في الكتاب والسنة

ويجدر بنا الوقوف عند وصف الربانيين في القرآن الكريم والذي كان بأوصاف عديدة متكاملة. 

قال تعالى (وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ) (آل عمران:146) فكانت صفتهم الثبات في الجهاد والصبر على البلاء.

وقال تعالى (إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدىً وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ)، (المائدة: من الآية44). فكانت صفتهم الحرص على تحكيم الشريعة وإقامة الدين.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق