التَّمَرُّد النِّسْوِيّد. عطية عدلان مدير مركز «محكمات» للبحوث والدراسات – اسطنبول
مَنْ المعتوه الذي يقول إنّ المرأة كالرجل في كل شيء؟! وينادي مِنْ ثَمَّ بمساواة المرأة بالرجل في كل شيء! من ذا الذي يملك الجرأة والقدرة على أن يثبت باستقراء الظواهر التاريخية والاجتماعية والأنثروبيولوجية والسيكولوجية -بل والبيولوجية- أنّ المرأة كالرجل سواء بسواء؟!
أروني فقرة في التاريخ الإنساني أقامت فيها المرأةُ حضارة وأدالت بها على أخرى، أو أسست فيها دولةً على أنقاض دولة، أو أنشأت فيها علما أو فنّا من الفنون فصار يحمل اسمها ويرفع وَسْمها، أروني في التاريخ الإنسانيّ كله امرأة واحدة اصطفاها الله للنبوة أو الرسالة وأنزل عليها من السماء كتابا تتلوه على الناس أو شريعة تقيمها في حياة الخلق!
كم نسبة حظوظ المرأة قياسا على الرجل في رئاسة الدول وحكم الممالك وقيادة الجيوش وتأسيس المذاهب الكبرى التي كانت فاصلة في حياة البشرية، وإنتاج النظريات العلمية والأدبية والتكنولوجية، كم نسبة المرأة فيمن يعزى إليه التأثير في الواقع الإنسانيّ بالإصلاح أو الإفساد، بالعدل أو الظلم، بالتنمية والرخاء أو بالإفقار والإفناء، بمنح الحرية أو بكبحها ولجمها، بتوجيه الخلق للخير أو للشر؟! لا وجه للمقارنة بين حظوظ المرأة والرجل في كل ما يتعلق بالشأن الإنسانيّ العام.
سيقول قائِلُهُمْ -ويا لَخَيْبَةِ قائِلِهِمْ- إنّها مؤامرة على النساء! فالْقُمْ يا غرّ (المصاصة) في فمك وانشغل بها، ولا تهلك نفسك بالدخول فيما لا مدخل لك فيه، أيّ مؤامرة تتحدث عنها؟ أهي داخلية أم خارجية؟ فإن كانت خارجية فقد باء كل من يعتقدها بالكفر المبين والحرب على رب العالمين؛ لأنّها لا تكون هكذا خارجية عن الحياة الإنسانية إلا إذا كانت مؤامرة الأديان كما تعتقد الآن قطعان من بني الإنسان، وإن كانت داخلية فهل تآمر جميع الرجال في كافَّة الأزمان على جميع النساء وتوارثوا المؤامرة جيلا عن جيل بلا انقطاع ولا انصرام؟! لا مناص من التسليم بالواقع؛ فإنّ الفرار من الواقع خبل يورث التخبط والاختلال، ويكرس الارتجال في دروب الخيال.
ها هي الأحداث الكبرى تجتاح البشرية شرقا وغربا؛ مبشرة بتحول كبير في النظام العالمي، ومنذرة بفواجع أشدّ مما هبّت على الإنسانية في الحربين الكبيرتين، فأين أثر المرأة في هذه الأحداث بالخير أو بالشر، كم امرأة تسهم في اتخاذ القرار الروسي بالغزو وبارتكاب الجرائم في أوكرانيا، وكم امرأة تقود المقاتلات الجبارة في الأرض أو البحر أو الجو؛ فَتُدَكُّ المدن وتُنْشَرُ الدماء والأشلاء، وكم امرأة على الجانب الآخر تتحمل عبء الدفاع عن الأوطان وحماية الحمى ببذل الأنفس والأرواح والدماء، وكم امرأة تسهم في مراكز اتخاذ القرار الأمريكي في حبك اللعبة بما ينهي الأمر لصالح أمريكا المتآمرة على سكان هذا الكوكب، وكم امرأة تبذل دورا مؤثرا في إيجاد حلول للأزمة بصدق وإخلاص أو بكذب وخداع؟!
لا مناص من التسليم بأنّ الرجل متفوق على المرأة في كل ما يتعلق بالشأن الإنسانيّ العام، إدارةً وتحملًا للمسئولية وقدرةً على المواجهة وجلَدًا أمام التحديات وكياسةً في تصريف الأمور، وغير ذلك مما فضل الله به الرجال على النساء، ولا مناص قبل ذلك من التسليم – الذي لم يكن ليفتقر إلى كل هذه المقدمات – بالحقيقة القرآنية: (الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ) (النساء: 34)، فالرجال فضلوا على النساء بخصائص تؤهلهم للقوامة العامّة والخاصة، القوامة العامة التي تتحكم في حركة المجتمع السياسي، والقوامة الخاصة التي تتحكم في سير الأسرة، وبهما يكون للرجل ولاية على المرأة.
وهذا لا يعني أنّ الرجل مفضل على المرأة في الإنسانية أو الكرامة أو في الحقوق الفطرية، فالأصل أنّ الرجل والمرأة مستويان في كل ما هو من صفات الإنسانية والكرامة الفطرية الأصلية؛ لذلك وجدنا الآيات التي تحدثت عن آدم وحواء في سياق التكليف والمسئولية وما يدور حولهما من معان ملصقة بالذات الإنسانية لم تخاطب آدم وحده وإنّما خاطبتهما بضمير المثنى الذي يعطي كلا منهما حقه المتميز، فقال تعالى: (وَيا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلا مِنْ حَيْثُ شِئْتُما وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ (19) فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطانُ لِيُبْدِيَ لَهُما ما وُورِيَ عَنْهُما مِنْ سَوْآتِهِما وَقالَ مَا نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ إِلاَّ أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونا مِنَ الْخالِدِينَ (20) وَقاسَمَهُما إِنِّي لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ (21) فَدَلاَّهُما بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَناداهُما رَبُّهُما أَلَمْ أَنْهَكُما عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُما إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُما عَدُوٌّ مُبِينٌ (22) قَالا رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ (23)) (الأعراف: 19-23).
فالمرأة كالرجل في كل ما يتعلق بالإنسان كإنسان، من حرية وكرامة ومسئولية وتكليف وحساب وجزاء وحقوق وغير ذلك، لكن مع ذلك فجنس الرجال يتميز – في الجملة والعموم – عن جنس النساء بصفات لها تعلق بالوظيفة لا بأصل الإنسانية ولا بالكرامة، فالرجال – كما هو معلوم من التجربة الإنسانية كلها على اختلاف الأجناس البشرية – يتميزون بصفات تجعل لهم دون النساء القوامة، مثل الحزم والعزم والجلد والصبر وتغليب العقل على العاطفة وغير ذلك، لأجل ذلك لم نجد في السلف من خالف الإجماع على عدم صحة تولية المرأة الخلافة، قال الزمخشري في تفسيره لهذا التفضيل: “وقد ذكروا في فضل الرجال: العقل، والحزم، والعزم، والقوّة، والكتابة- في الغالب، والفروسية، والرمي، وأنّ منهم الأنبياء والعلماء، وفيهم الإمامة الكبرى والصغرى، والجهاد، والأذان، والخطبة، والاعتكاف، وتكبيرات التشريق عند أبى حنيفة، والشهادة في الحدود، والقصاص، وزيادة السهم، والتعصيب في الميراث، والحمالة، والقسامة، والولاية في النكاح والطلاق والرجعة، وعدد الأزواج، وإليهم الانتساب، وهم أصحاب اللحى والعمائم وَبِما أَنْفَقُوا وبسبب ما أخرجوا في نكاحهنّ من أموالهم في المهور([1]).
ونعود للآية الكريمة: (الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ بِما فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَبِما أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوالِهِمْ فَالصَّالِحاتُ قانِتاتٌ حافِظاتٌ لِلْغَيْبِ بِما حَفِظَ اللَّهُ وَاللاَّتِي تَخافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيًّا كَبِيراً) (النساء: 34)، فقد بدأت الآية الكريمة بتقرير الجهة التي تسند إليها القوامة، ثم تحدثت عن الأسباب والخلفيات والمسوغات، ثم ختمت بالحديث عمّا يترتب على هذه القوامة من إجراءات تتخذ لدى المواقف المخالفة لمقتضى هذه القوامة؛ حفاظا على بنيان الأسرة من الاختلال.
فأمّا عن القوامة فقد نصّ القرآن نصًّا على إسنادها للرجال دون النساء؛ حتى لا يثور جدل في هذا الأمر المحكم، فقال تعالى: (الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ) فهذا نصّ ليس فيه غموض ولا التباس، لكن ما شكل هذه القوامة وما جوهرها وكيف يقوم بها الرجال، ينقل الإمام الطبريّ رحمه الله عن السلف من الصحابة والتابعين أقوالا متقاربة؛ ليؤكد على أنّ (الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ) معناها: “الرجال أهل قيام على نسائهم، في تأديبهن والأخذ على أيديهن فيما يجب عليهن لله ولأنفسهم”([2])، ويزيد الزمخشريّ المعنى وضوحا – لكونه لغويّ غائص في معاني الألفاظ ومغازيها – فيقول: “يقومون عليهن آمرين ناهين، كما يقوم الولاة على الرعايا”([3]).
وليس صحيحا ما يقال من أنّ القوامة هي فقط قوامة الإنفاق والرعاية والإصلاح والنصح، فكل هذا من مقتضيات القوامة، ونحن إن عدنا إلى اللغة العربية نجد أنّ القوامة تشمل المعنيين([4])، الأول: الإمارة والسياسة والإدارة والمسئولية، الثاني: القيام بالإصلاح والرعاية والإنفاق والمؤنة، والشرع والعقل يقضيان بعدم استبعاد أحد المعنيين الداخلين في اللفظ إلا إذا عزّ الجمع بينهما في سياق معنوي متسق، أوكان أحد المعنيين مستبعدا بالسياق أو لسبب آخر، والفظ هنا اتسع لمعان متضامنة وحقائق ليس بينها تنافر، فإذا أمكن حمل اللفظ على جميع معانيه لما أسلفنا من الأسباب جاز([5])، ولا سيما عند ثبوت تضامن المعاني، والحقيقة أنّ المعنيين متضمنان متكاملان؛ لأنّ القَيِّمَ الذي يسوس رعيته مسئول بمقتضى قوامته عن الرعاية والعناية والمؤنة وغير ذلك، وبالمقابل القائم على الناس بما يصلحهم هو أولى من غيره بالقوامة والولاية والسلطان، ومن ثمّ فالرجال قوامون على النساء بالمعنيين معًا، والله تعالى أعلم.
وسياق الآية يمنع استبعاد المعنى الأول؛ لأكثر من سبب،
الأول: أنّ القوامة التي هي بمعنى الإنفاق والمؤنة مسببة بسببين أحدهما أنّ الرجال ينفقون على النساء من أموالهم: (وَبِما أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوالِهِمْ)؛ فكيف يتحد السبب والمسبب، فنقول إنّ الرجال يجب أن يقوموا بالإنفاق على النساء لكونهم ينفقون عليهن؟!
والثاني: أنّ الآية ذاتها رتبت في سياق واحد على قوامة الرجال أدوات شرعية للقيام بمقتضى هذه القوامة، هذه الأدوات لا تستعمل إلا من قيم له نوع من السلطان: (وَاللاَّتِي تَخافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيًّا كَبِيراً)، الثالث: أنّ السياق أيضا رتب على القوامة طاعة المرأة لزوجها، فقال: (فَالصَّالِحاتُ قانِتاتٌ)، فالقانتات هن المطيعات لأزواجهن، وقد جعل هذه الصفة في مقابل صفة النشوز، مما يعني أنّ هناك طاعة واجبة على المرأة لزوجها، وأنّ هناك نشوز لا يجوز، وهل هذا التقابل الذي يأتي في سياق القوامة إلا من قبيل التأكيد على المعنى الذي لا يصح استبعاده؟
وبالطبع لا يمكن أن يكون المقصود بالقوامة ذلك المعنى الخشن الاستبدادي الذي يفهمه البعض على وجه الخطأ والعجلة، فهي قوامةٌ نَعَمْ، وهي إدارة وسلطان أَجَلْ، ولكنّها بروح التراحم والإشفاق والمسئولية، مع استصحاب واجب الشورى، وكل هذه المعاني – وإن لم ترد في الآية الكريمة صراحة – موجودة ومبثوثة في أقطار القرآن الكريم وفي أنحاء السنة المطهرة، والنصوص في هذا الصدد أكثر من أن تحصى أو تحصر، والشريعة كلٌّ لا يتجزأ؛ فلا مجال لاجتزاء المعاني ولا لإساءة فهمها.
فما الذي يراد الآن من المرأة وما الذي يراد لها؟ ما هذه الحملة المريبة على قوانين الأحوال الشخصية؟ ولماذا هذه المحاولات المتكررة للخروج عن الشرع فيما يتعلق بالأسرة وعلاقة الزوجة بالزوج؟ لقد ازدحمت حياة الناس بالمشكلات التي تستدعي النفير لحلها؛ فلماذا يطوحون بكل هذه الملفات الْمُلِحَّةِ ويقبلون بقضهم وقضيضهم وحدانا وزرافات على الأسرة وعلاقة الزوجة بالزوج، هذا يقترح قانون “حق الكد والسعاية!” لتتحول الأسرة إلى حانوت، ولتعطى المراة أسلحة جديدة تخرب بهها الأسرة وترتكب بها الحماقات والسفاهات باسم الحقوق المالية، وذاك يقترح قانونا يقضي بتعليق حق الزوج في التعدد على موافقة الزوجة؛ ليتحول الرجال إلى سوق النخاسة الجنسية، وتنتشر في بلادنا طوابير اللقطاء الذين سرعان ما يتحولون إلى أدوات تخريبية في أيدي أحفاد قارون؟! ما لذي يجري؟!
وما بالنا نلحظ في هذه الأيام كثرة التمرد النِّسوي على قوامة الرجال، بصورة أزعجت المصلحين مع المفتين على حد سواء؟! لقد زاد بشكل مخيف أعداد النساء اللاتي يطلبن الطلاق بلا مبرر معقول ولا سبب مقبول، وعندهن من الأولاد ما تقر به عيون الخلق عدا عينها الحيرى الشاردة، فهل وقعت المرأة عندنا أسيرة الدعوات النسوية، التي تصور لها الرجل عدوا، والزوج قيدا، والأسرة أَسْرًا، والأمومة والزوجية رِقًّا واستعبادا والقوامة تسلطا ونقصا وسفولا؟! أهو التمرد النّسوي الذي سيحول مجتمعاتنا إلى مُزَعٍ متناثرة لا رابط بينها ولا حاكم عليها؟ فيا أيها العلماء والفقهاء ويا أيها الكتاب والأدباء ويا أيها الكبار في كل ركن من أركان أمتنا؛ أدركوا الأمة قبل الغرق الذي لا نجاة منه، وخذوا بيد المرأة وأرشدوها السبيل، وأقصوا عنها أولئك المناكيد الذين لا يريدون من الدعوة إلى حريتها إلا حرية الوصول إليها، والسلام.
([1]) الكشاف للزمخشري 1/505
([2]) تفسير الطبري = جامع البيان ت شاكر (8/ 290) – وراجع: الوجيز للواحدي (ص: 262) – تفسير الماوردي = النكت والعيون (1/ 480)
([3]) تفسير الزمخشري = الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل (1/ 505)
([4]) ر:العين (5/ 232) – لسان العرب (12/ 503) – لسان العرب (12/ 497) – المحكم والمحيط الأعظم (6/ 592) – المعجم الوسيط (2/ 768)
([5]) ر: البرهان في أصول الفقه للجويني 1/121
مَنْ المعتوه الذي يقول إنّ المرأة كالرجل في كل شيء؟! وينادي مِنْ ثَمَّ بمساواة المرأة بالرجل في كل شيء! من ذا الذي يملك الجرأة والقدرة على أن يثبت باستقراء الظواهر التاريخية والاجتماعية والأنثروبيولوجية والسيكولوجية -بل والبيولوجية- أنّ المرأة كالرجل سواء بسواء؟!
أروني فقرة في التاريخ الإنساني أقامت فيها المرأةُ حضارة وأدالت بها على أخرى، أو أسست فيها دولةً على أنقاض دولة، أو أنشأت فيها علما أو فنّا من الفنون فصار يحمل اسمها ويرفع وَسْمها، أروني في التاريخ الإنسانيّ كله امرأة واحدة اصطفاها الله للنبوة أو الرسالة وأنزل عليها من السماء كتابا تتلوه على الناس أو شريعة تقيمها في حياة الخلق!
كم نسبة حظوظ المرأة قياسا على الرجل في رئاسة الدول وحكم الممالك وقيادة الجيوش وتأسيس المذاهب الكبرى التي كانت فاصلة في حياة البشرية، وإنتاج النظريات العلمية والأدبية والتكنولوجية، كم نسبة المرأة فيمن يعزى إليه التأثير في الواقع الإنسانيّ بالإصلاح أو الإفساد، بالعدل أو الظلم، بالتنمية والرخاء أو بالإفقار والإفناء، بمنح الحرية أو بكبحها ولجمها، بتوجيه الخلق للخير أو للشر؟! لا وجه للمقارنة بين حظوظ المرأة والرجل في كل ما يتعلق بالشأن الإنسانيّ العام.
سيقول قائِلُهُمْ -ويا لَخَيْبَةِ قائِلِهِمْ- إنّها مؤامرة على النساء! فالْقُمْ يا غرّ (المصاصة) في فمك وانشغل بها، ولا تهلك نفسك بالدخول فيما لا مدخل لك فيه، أيّ مؤامرة تتحدث عنها؟ أهي داخلية أم خارجية؟ فإن كانت خارجية فقد باء كل من يعتقدها بالكفر المبين والحرب على رب العالمين؛ لأنّها لا تكون هكذا خارجية عن الحياة الإنسانية إلا إذا كانت مؤامرة الأديان كما تعتقد الآن قطعان من بني الإنسان، وإن كانت داخلية فهل تآمر جميع الرجال في كافَّة الأزمان على جميع النساء وتوارثوا المؤامرة جيلا عن جيل بلا انقطاع ولا انصرام؟! لا مناص من التسليم بالواقع؛ فإنّ الفرار من الواقع خبل يورث التخبط والاختلال، ويكرس الارتجال في دروب الخيال.
ها هي الأحداث الكبرى تجتاح البشرية شرقا وغربا؛ مبشرة بتحول كبير في النظام العالمي، ومنذرة بفواجع أشدّ مما هبّت على الإنسانية في الحربين الكبيرتين، فأين أثر المرأة في هذه الأحداث بالخير أو بالشر، كم امرأة تسهم في اتخاذ القرار الروسي بالغزو وبارتكاب الجرائم في أوكرانيا، وكم امرأة تقود المقاتلات الجبارة في الأرض أو البحر أو الجو؛ فَتُدَكُّ المدن وتُنْشَرُ الدماء والأشلاء، وكم امرأة على الجانب الآخر تتحمل عبء الدفاع عن الأوطان وحماية الحمى ببذل الأنفس والأرواح والدماء، وكم امرأة تسهم في مراكز اتخاذ القرار الأمريكي في حبك اللعبة بما ينهي الأمر لصالح أمريكا المتآمرة على سكان هذا الكوكب، وكم امرأة تبذل دورا مؤثرا في إيجاد حلول للأزمة بصدق وإخلاص أو بكذب وخداع؟!
لا مناص من التسليم بأنّ الرجل متفوق على المرأة في كل ما يتعلق بالشأن الإنسانيّ العام، إدارةً وتحملًا للمسئولية وقدرةً على المواجهة وجلَدًا أمام التحديات وكياسةً في تصريف الأمور، وغير ذلك مما فضل الله به الرجال على النساء، ولا مناص قبل ذلك من التسليم – الذي لم يكن ليفتقر إلى كل هذه المقدمات – بالحقيقة القرآنية: (الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ) (النساء: 34)، فالرجال فضلوا على النساء بخصائص تؤهلهم للقوامة العامّة والخاصة، القوامة العامة التي تتحكم في حركة المجتمع السياسي، والقوامة الخاصة التي تتحكم في سير الأسرة، وبهما يكون للرجل ولاية على المرأة.
وهذا لا يعني أنّ الرجل مفضل على المرأة في الإنسانية أو الكرامة أو في الحقوق الفطرية، فالأصل أنّ الرجل والمرأة مستويان في كل ما هو من صفات الإنسانية والكرامة الفطرية الأصلية؛ لذلك وجدنا الآيات التي تحدثت عن آدم وحواء في سياق التكليف والمسئولية وما يدور حولهما من معان ملصقة بالذات الإنسانية لم تخاطب آدم وحده وإنّما خاطبتهما بضمير المثنى الذي يعطي كلا منهما حقه المتميز، فقال تعالى: (وَيا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلا مِنْ حَيْثُ شِئْتُما وَلا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ (19) فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطانُ لِيُبْدِيَ لَهُما ما وُورِيَ عَنْهُما مِنْ سَوْآتِهِما وَقالَ مَا نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ إِلاَّ أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونا مِنَ الْخالِدِينَ (20) وَقاسَمَهُما إِنِّي لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ (21) فَدَلاَّهُما بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما وَطَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَناداهُما رَبُّهُما أَلَمْ أَنْهَكُما عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُما إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُما عَدُوٌّ مُبِينٌ (22) قَالا رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَتَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ (23)) (الأعراف: 19-23).
فالمرأة كالرجل في كل ما يتعلق بالإنسان كإنسان، من حرية وكرامة ومسئولية وتكليف وحساب وجزاء وحقوق وغير ذلك، لكن مع ذلك فجنس الرجال يتميز – في الجملة والعموم – عن جنس النساء بصفات لها تعلق بالوظيفة لا بأصل الإنسانية ولا بالكرامة، فالرجال – كما هو معلوم من التجربة الإنسانية كلها على اختلاف الأجناس البشرية – يتميزون بصفات تجعل لهم دون النساء القوامة، مثل الحزم والعزم والجلد والصبر وتغليب العقل على العاطفة وغير ذلك، لأجل ذلك لم نجد في السلف من خالف الإجماع على عدم صحة تولية المرأة الخلافة، قال الزمخشري في تفسيره لهذا التفضيل: “وقد ذكروا في فضل الرجال: العقل، والحزم، والعزم، والقوّة، والكتابة- في الغالب، والفروسية، والرمي، وأنّ منهم الأنبياء والعلماء، وفيهم الإمامة الكبرى والصغرى، والجهاد، والأذان، والخطبة، والاعتكاف، وتكبيرات التشريق عند أبى حنيفة، والشهادة في الحدود، والقصاص، وزيادة السهم، والتعصيب في الميراث، والحمالة، والقسامة، والولاية في النكاح والطلاق والرجعة، وعدد الأزواج، وإليهم الانتساب، وهم أصحاب اللحى والعمائم وَبِما أَنْفَقُوا وبسبب ما أخرجوا في نكاحهنّ من أموالهم في المهور([1]).
ونعود للآية الكريمة: (الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ بِما فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَبِما أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوالِهِمْ فَالصَّالِحاتُ قانِتاتٌ حافِظاتٌ لِلْغَيْبِ بِما حَفِظَ اللَّهُ وَاللاَّتِي تَخافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيًّا كَبِيراً) (النساء: 34)، فقد بدأت الآية الكريمة بتقرير الجهة التي تسند إليها القوامة، ثم تحدثت عن الأسباب والخلفيات والمسوغات، ثم ختمت بالحديث عمّا يترتب على هذه القوامة من إجراءات تتخذ لدى المواقف المخالفة لمقتضى هذه القوامة؛ حفاظا على بنيان الأسرة من الاختلال.
فأمّا عن القوامة فقد نصّ القرآن نصًّا على إسنادها للرجال دون النساء؛ حتى لا يثور جدل في هذا الأمر المحكم، فقال تعالى: (الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ) فهذا نصّ ليس فيه غموض ولا التباس، لكن ما شكل هذه القوامة وما جوهرها وكيف يقوم بها الرجال، ينقل الإمام الطبريّ رحمه الله عن السلف من الصحابة والتابعين أقوالا متقاربة؛ ليؤكد على أنّ (الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ) معناها: “الرجال أهل قيام على نسائهم، في تأديبهن والأخذ على أيديهن فيما يجب عليهن لله ولأنفسهم”([2])، ويزيد الزمخشريّ المعنى وضوحا – لكونه لغويّ غائص في معاني الألفاظ ومغازيها – فيقول: “يقومون عليهن آمرين ناهين، كما يقوم الولاة على الرعايا”([3]).
وليس صحيحا ما يقال من أنّ القوامة هي فقط قوامة الإنفاق والرعاية والإصلاح والنصح، فكل هذا من مقتضيات القوامة، ونحن إن عدنا إلى اللغة العربية نجد أنّ القوامة تشمل المعنيين([4])، الأول: الإمارة والسياسة والإدارة والمسئولية، الثاني: القيام بالإصلاح والرعاية والإنفاق والمؤنة، والشرع والعقل يقضيان بعدم استبعاد أحد المعنيين الداخلين في اللفظ إلا إذا عزّ الجمع بينهما في سياق معنوي متسق، أوكان أحد المعنيين مستبعدا بالسياق أو لسبب آخر، والفظ هنا اتسع لمعان متضامنة وحقائق ليس بينها تنافر، فإذا أمكن حمل اللفظ على جميع معانيه لما أسلفنا من الأسباب جاز([5])، ولا سيما عند ثبوت تضامن المعاني، والحقيقة أنّ المعنيين متضمنان متكاملان؛ لأنّ القَيِّمَ الذي يسوس رعيته مسئول بمقتضى قوامته عن الرعاية والعناية والمؤنة وغير ذلك، وبالمقابل القائم على الناس بما يصلحهم هو أولى من غيره بالقوامة والولاية والسلطان، ومن ثمّ فالرجال قوامون على النساء بالمعنيين معًا، والله تعالى أعلم.
وسياق الآية يمنع استبعاد المعنى الأول؛ لأكثر من سبب،
الأول: أنّ القوامة التي هي بمعنى الإنفاق والمؤنة مسببة بسببين أحدهما أنّ الرجال ينفقون على النساء من أموالهم: (وَبِما أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوالِهِمْ)؛ فكيف يتحد السبب والمسبب، فنقول إنّ الرجال يجب أن يقوموا بالإنفاق على النساء لكونهم ينفقون عليهن؟!
والثاني: أنّ الآية ذاتها رتبت في سياق واحد على قوامة الرجال أدوات شرعية للقيام بمقتضى هذه القوامة، هذه الأدوات لا تستعمل إلا من قيم له نوع من السلطان: (وَاللاَّتِي تَخافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيًّا كَبِيراً)، الثالث: أنّ السياق أيضا رتب على القوامة طاعة المرأة لزوجها، فقال: (فَالصَّالِحاتُ قانِتاتٌ)، فالقانتات هن المطيعات لأزواجهن، وقد جعل هذه الصفة في مقابل صفة النشوز، مما يعني أنّ هناك طاعة واجبة على المرأة لزوجها، وأنّ هناك نشوز لا يجوز، وهل هذا التقابل الذي يأتي في سياق القوامة إلا من قبيل التأكيد على المعنى الذي لا يصح استبعاده؟
وبالطبع لا يمكن أن يكون المقصود بالقوامة ذلك المعنى الخشن الاستبدادي الذي يفهمه البعض على وجه الخطأ والعجلة، فهي قوامةٌ نَعَمْ، وهي إدارة وسلطان أَجَلْ، ولكنّها بروح التراحم والإشفاق والمسئولية، مع استصحاب واجب الشورى، وكل هذه المعاني – وإن لم ترد في الآية الكريمة صراحة – موجودة ومبثوثة في أقطار القرآن الكريم وفي أنحاء السنة المطهرة، والنصوص في هذا الصدد أكثر من أن تحصى أو تحصر، والشريعة كلٌّ لا يتجزأ؛ فلا مجال لاجتزاء المعاني ولا لإساءة فهمها.
فما الذي يراد الآن من المرأة وما الذي يراد لها؟ ما هذه الحملة المريبة على قوانين الأحوال الشخصية؟ ولماذا هذه المحاولات المتكررة للخروج عن الشرع فيما يتعلق بالأسرة وعلاقة الزوجة بالزوج؟ لقد ازدحمت حياة الناس بالمشكلات التي تستدعي النفير لحلها؛ فلماذا يطوحون بكل هذه الملفات الْمُلِحَّةِ ويقبلون بقضهم وقضيضهم وحدانا وزرافات على الأسرة وعلاقة الزوجة بالزوج، هذا يقترح قانون “حق الكد والسعاية!” لتتحول الأسرة إلى حانوت، ولتعطى المراة أسلحة جديدة تخرب بهها الأسرة وترتكب بها الحماقات والسفاهات باسم الحقوق المالية، وذاك يقترح قانونا يقضي بتعليق حق الزوج في التعدد على موافقة الزوجة؛ ليتحول الرجال إلى سوق النخاسة الجنسية، وتنتشر في بلادنا طوابير اللقطاء الذين سرعان ما يتحولون إلى أدوات تخريبية في أيدي أحفاد قارون؟! ما لذي يجري؟!
وما بالنا نلحظ في هذه الأيام كثرة التمرد النِّسوي على قوامة الرجال، بصورة أزعجت المصلحين مع المفتين على حد سواء؟! لقد زاد بشكل مخيف أعداد النساء اللاتي يطلبن الطلاق بلا مبرر معقول ولا سبب مقبول، وعندهن من الأولاد ما تقر به عيون الخلق عدا عينها الحيرى الشاردة، فهل وقعت المرأة عندنا أسيرة الدعوات النسوية، التي تصور لها الرجل عدوا، والزوج قيدا، والأسرة أَسْرًا، والأمومة والزوجية رِقًّا واستعبادا والقوامة تسلطا ونقصا وسفولا؟! أهو التمرد النّسوي الذي سيحول مجتمعاتنا إلى مُزَعٍ متناثرة لا رابط بينها ولا حاكم عليها؟ فيا أيها العلماء والفقهاء ويا أيها الكتاب والأدباء ويا أيها الكبار في كل ركن من أركان أمتنا؛ أدركوا الأمة قبل الغرق الذي لا نجاة منه، وخذوا بيد المرأة وأرشدوها السبيل، وأقصوا عنها أولئك المناكيد الذين لا يريدون من الدعوة إلى حريتها إلا حرية الوصول إليها، والسلام.
([1]) الكشاف للزمخشري 1/505
([2]) تفسير الطبري = جامع البيان ت شاكر (8/ 290) – وراجع: الوجيز للواحدي (ص: 262) – تفسير الماوردي = النكت والعيون (1/ 480)
([3]) تفسير الزمخشري = الكشاف عن حقائق غوامض التنزيل (1/ 505)
([4]) ر:العين (5/ 232) – لسان العرب (12/ 503) – لسان العرب (12/ 497) – المحكم والمحيط الأعظم (6/ 592) – المعجم الوسيط (2/ 768)
([5]) ر: البرهان في أصول الفقه للجويني 1/121
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق