من تشرشل إلى بايدن.. ونهاية قرن الهيمنة!
سيف الهاجري
في عام ١٩٢١ عقد تشرشل وزير المستعمرات البريطاني مؤتمر القاهرة والتقى فيه بأكثر من أربعين مقيما ووكيلا سياسيا بريطانيا يحكمون المشرق العربي (مصر والعراق والحجاز وفلسطين والأردن والخليج ونجد) بعد سقوط الخلافة العثمانية، وفي مؤتمر القاهرة هذا أراد تشرشل إعادة تشكيل المشرق العربي وإقامة نظام سياسي عربي تستطيع بريطانيا من خلاله الهيمنة على المنطقة وفق (استراتيجية تشرشل السيطرة على المنطقة دون تكلفة عالية) “سلام ما بعده سلام ص٦٣٠”.
فبريطانيا بعد حملتها الصليبية على الخلافة العثمانية في الحرب العالمية الأولى ازدادت أعباء التزامتها في مستعمراتها العربية خاصة مع مواجهتها لمقاومة وثورات شعبية كثورة ١٩١٩ في مصر وثورة العشرين في العراق، ودخلت بريطانيا في أزمة وركود اقتصادي وأصبح الرأي العام البريطاني رافضا للمغامرات الإمبريالية للنخبة الملكية الاستعمارية، وحاول تشرشل باستراتيجيته الجديدة بتشكيل نظام سياسي عربي في كل محمية من محميات بريطانيا في المشرق العربي وضع حل يقبله الشعب البريطاني وبالفعل (توصلت الحكومة البريطانية عام ١٩٢٢ إلى حل سياسي مع المجتمع البريطاني يقضي بأن تؤكد بريطانيا سيادتها على الشرق الأوسط ما دامت أنها قادرة أن تفعل ذلك بكلفة بسيطة) “سلام ما بعده سلام ص٦٣١”.
وبالفعل نجح تشرشل في بناء المنظومة السياسية العربية بمؤسساتها وجيوشها لتبقى الهيمنة البريطانية باسم الشراكة الاستراتيجية والحماية ووصل الحد بهذه الاستراتيجية البريطانية إلى إعلان دول هذا النظام العربي الاستقلال لتحقق بريطانيا هدفها الهيمنة بأقل تكلفة، والنظام العربي الوليد على أنقاض الخلافة العثمانية يحقق شرعيته بهذا الاستقلال الصوري، والذي دفع الثمن هي شعوب العالم العربي وتشرشل نفسه الذي سقطت حكومته ولم يغفر لها ما حققته من حلم صليبي باحتلال المشرق العربي وأراضيه المقدسة والذي أعلن رئيسها لويد جورج بعد دخول الجنرال اللنبي القدس عام ١٩١٧ بأن (العالم المسيحي تمكن من استرداد أماكنه المقدسة)”سلام ما بعده سلام ص٣٤٩”!
واليوم في قمة جدة ٢٠٢٢ يسير بايدن على خطى تشرشل، فأميركا تواجه ما واجهته بريطانيا من قبل من أزمة اقتصادية عميقة مع وصول الدين الأمريكي العام إلى 30.1 تريليون دولار وسجل معدل التضخم أعلى مستوى منذ ٤٠ سنة في عهد بايدن، في الوقت الذي تعرضت فيه الهيمنة الأمريكية في منطقة الشرق الأوسط إلى هزيمة عسكرية في أفغانستان وهزيمة سياسية بعد ثورة الربيع العربي التي هزت النظام العربي الوظيفي وفشل الانقلاب العسكري في تركيا لتخرج تركيا من هيمنة أمريكا على القرار السياسي التركي ، ويعدان هذا النظامان العربي والتركي حجر الزاوية في السياسة الأمريكية والغربية في الشرق الأوسط بل والعالم منذ سقوط الخلافة العثمانية.
ويسعى بايدن بدعوته لحكام المشرق العربي في قمة جدة لمواجهة آثار هذه الهزائم العسكرية والسياسية بأقل تكلفة ممكنة باستراتيجية توظيف النظام العربي على الأقل في المشرق العربي في تحمل تكاليف الوجود الأمريكي السياسي والعسكري وتوظيف ثروات النفط في السوق الدولية لمساعدة أمريكا في مواجهتها مع الصين وروسيا وتقليل تكاليف الطاقة في أمريكا نفسها مقابل ضمان الأمن ليكون التواجد الأمريكي في الشرق الوسط مقبولا عند الرأي العام الأمريكي!
فقرن الهيمنة الغربية الصليبية على العالم العربي من تشرشل إلى بايدن لا زال مستمرا بأحداثه ومؤثراته ويستخدمون نفس الأدوات الوظيفية من أنظمة وجماعات ونخب لتنفيذ سياساتهم الخارجية لتبقى هيمنتهم مستمرة وسياساتهم الداخلية لتبقى شعوبهم في رفاه وتقدم على حساب حرية شعوب الأمة وثرواتها.
لكن الأخطر من هذا كله هو ان مشروع الهيمنة الغربية الصليبية لا يكتفي بخطواته السياسية والعسكرية والاقتصادية بل هو مشروع له أبعاده الدينية والثقافية منذ أرسل النبي صلى الله عليه وسلم رسالته الشهيرة إلى هرقل قيصر الروم ومن يومها والحملات والحروب الصليبية لم تنقطع وكان آخرها الحملة الصليبية البريطانية الفرنسية على الخلافة العثمانية والتي افتخر بها الكاتب الأمريكي الشهير توماس لويل في (محاضرته الحملة الصليبية الأخيرة والتي ألقاها في نيويورك وفي أكبر القاعات في لندن في عام ١٩١٩)”سلام ما بعده سلام ص٥٦٠”.
فشروط اللورد كرزون وزير خارجية بريطانيا على تركيا لتوقيع اتفاقية لوزان عام ١٩٢٣ فرضت إلغاء الخلافة وتحكيم الشريعة ووضع دستورعلماني هي الأساس الذي أنشأ عليه النظام العربي، فبعد الحرب العالمية الأولى وسقوط الخلافة (أدرك الحلفاء بريطانيا وفرنسا بان سلطة الإسلام هي الخاصية الرئيسية للخريطة السياسية التي يتحتم عليهم مواجهتها…فنقلوا النظام السياسي الحديث الذي ابتكرته أوربا إلى المنطقة والذي من صفاته تقسيم الأرض إلى دول علمانية مستقلة أساسها مواطنة قومية)”سلام ما بعده سلام ص٦٣٣”.
فقرن الهيمنة يشارف على نهايته ولذا يسارع بايدن قبل عام ٢٠٢٣ إلى هندسة المنطقة من جديد لتبقى استراتيجية تشرشل وشروط كرزون حاكمة المنطقة برعاية أميركا وريثة بريطانيا والتي من الواضح أنها دفعت بالجميع من دول وجماعات للقيام بدورها الوظيفي ولو كان ذلك على حساب شعبيتها وشرعيتها بل ووجودها!
وما يرعب القوى الغربية هو ما تراه من صحوة لشعوب الأمة ولصعود دول إسلامية كتركيا لتكون مؤهلة سياسيا وعقائديا واقتصاديا وعسكريا لتقود المسيرة لعودة وحدة الأمة من جديد ولذا فالجميع يترقب عام ٢٠٢٣، وأصبح بايدن من بعد ما كان يهدد بإسقاط الرئيس أردوغان وإعادة تركيا للقمقم الأمريكي جاء لجدة ساعيا لإغلاق العالم العربي أمام تركيا ليعيد بناء الجدار القومي الوظيفي، والذي حطمته شعوب الأمة، بين تركيا والعالم العربي، وليغرق العالم العربي في بحر الحروب الطائفية التي تشنها مليشيات النظام الإيراني حتى لا يبقى حجر على حجر ويستمر العالم العربي تحت رحمة الصليبية والصفوية والصهيونية!
فالإمبراطورية الأمريكية تسير على خطى الإمبراطورية البريطانية في التراجع والأفول وكأن المؤرخ الأمريكي ديفيد فرومكين في خاتمة كتابه القيم “سلام ما بعده سلام: ولادة الشرق الأوسط” يحذر قومه من اتباع خطى بريطانيا في الشرق الأوسط حيث يقول (بالنسبة للمسئولين البريطانيين الذين هونوا الصعاب التي ستواجهها بريطانيا في حكم المنطقة والذين لم تكن لديهم في الواقع فكرة عن ضخامة ما هم مقدمون عليه بأن بريطانيا وجدت في الشرق الأوسط لتبقى، لكن إذا نظرنا إلى الوراء نجد أن ذلك كان مؤشرا مبكرا إلى احتمال مغادرة بريطانيا للمنطقة) ص٦٣١.
وهذا ما حدث بالفعل لكن بريطانيا وجدت أميركا وهي من نفس منظومتها الحضارية الغربية حاضرة لترثها في الشرق الأوسط، وأما أمريكا فلن تجد من منظومتها الحضارية الغربية من يرثها، فأوربا اليوم ليس أوربا القرن التاسع عشر أو العشرين فهي في مرحلة من الضعف ما جعلها عاجزة عن مواجهة روسيا على حدودها الشرقية فكيف بالشرق الأوسط والعالم العربي وهو يموج بالثورة والتحولات الكبرى بما لا قبل لأمريكا نفسها بها ناهيك عن القارة العجوز!
﴿وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاءَ﴾
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق