بوصلة التغيير
الحمد لله .. والصلاة والسلام على رسول الله .. وبعد ..
ما جدوى التجديف الكثيف إذا فُقدت البوصلة أو انحرفت؟ سؤال لا يتردد العقلاء في الإجابة عليه ولا يتلعثمون، ومع ذلك فنحن نواصل سيرنا في إصرار غريب دون الالتفات إلى أهمية الرؤية الواضحة الجلية؛ وكأننا – إذْ آمنّا بالقضاء والقدر وسلمنا لحكم الله تعالى – لا نرى ضرورة لوضع التراتيب وإحكام التدابير، أو كأننا – إذْ نلتمس الأجر على السعي وَنَكِل النتائج إلى الله عزّ وجل – نرى البحث في المشروع والاستراتيجيات دخولاً فيما لا يعنينا، وتكلفاً في تحمل ما لم نُكَلّف به!!
لقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أقوى الخلق إيمانا بالقدر وتسليما لحكم الله تعالى، وكان إلى جانب ذلك ينقل خطاه على الطريق بتوجيه السماء وعناية الوحي المعصوم، ومع ذلك لم يكن يتحرك إلا برؤية واضحة جلية، تنبثق منها خطط واستراتيجيات وتراتيب وتدابير، ففي المرحلة الثالثة من دعوته صلى الله عليه وسلم عندما تم البلاغ والبيان في مكة كانت رؤيته متجهة إلى الخروج بدعوته من المحضن البسيط إلى آفاق التمكين، وكان يدرك تمام الإدراك مكتسبات المرحلة الماضية من دعوته، والتي يتصدرها هذان المكتسبان العظيمان: الأول: بناء القاعدة الصلبة التي تحمل هم الدعوة، الثاني القضاء المبرم على النظرية الوثنية التي قامت الحياة الجاهلية عليها، ومن ثم كان جل اهتمامه الحفاظ على هذين المكتسبين والبناء عليهما والانطلاق منهما، فلم يتراجع قط عن شيء من ثوابت دعوته التماسا للتقارب مع جبهة من جبهات الجاهلية، ولم يفرط في الذخيرة البشرية التي تراكمت على متن شخصيته العملاقة، وكان قراره بنقل جزء كبير من جماعته إلى الحبشة؛ لتكون قاعدة احتياطية له، ثم كان قراره بالهجرة إلى يثرب لإقامة الدولة، ثم كانت التدابير والتراتيب المحكمة التي اشتهرت في التاريخ الإسلاميّ وعرفها الكافة.
وهكذا كانت له في المرحلة الرابعة التي انتهت بقوله عقب غزوة الأحزاب: “الآن نغزوهم ولا يغزوننا” كانت له فيها رؤية واضحة جلية، وكذلك كان الأمر في المرحلة الخامسة التي انتهت بالفتح، ثم جاءت مرحلة عالمية الرسالة التي بدأت ببعث الرسل إلى الملوك وانتهت بالفتوحات العظمى التي قام بها الخلفاء الراشدون، وكل مرحلة من هذه المراحل لها رؤيتها المنبثقة من الرؤية الإسلامية العامة.
فما بالنا نحن منذ قيام ثورة يناير ونحن نجدف تجديفا عنيفا في لجج من المتاهات التي لا يعرف لها شاطئ!! ونمضي في التجديف العبثي ذاهلين عن ثوابتنا وغافلين عن كل مكتسباتنا الحقيقية؛ فكم ضيعنا من شبابنا وأرصدتنا البشرية بسوء إدارتنا للصراع وضعف إدراكنا لأهمية هذا المخزون الاستراتيجي العظيم، وكم أهدرنا من ثوابتنا لقاء التقارب مع شراذم من الضائعين الضالعين في المؤامرة على ثورة الشعب!!
إننا بانحيازنا إلى خيارات العسكر في أول الثورة فوتنا على انفسنا فرصة انضمام الشعب لنا والتفاف الشباب حول دعوتنا، وبسوء إدارتنا للصراع فقدنا خيرة شبابنا في الشوارع والميادين بلا أدنى ثمن نجنيه، وها نحن في الغربة ننقسم ونتفرق ونتناحر ونتنازع ليقع الجيل في حيرة من أمره ويفقد ما بقي من عقله ويسلم ساقيه لرياح الفتن العاتية، كما أننا بهزيمتنا النفسية التي بلغت الأعماق صرنا نلهث وراء كل جديد من الأفكار المصنوعة دهاليز الفتنة.
إنّنا بحاجة إلى البوصلة؛ لندرك إدراكا صحيحا ما لدينا من أرصدة حقيقية، ونعرف كيف نحافظ على ما تبقى لنا منها، ولنبصر طريقنا فنتجه إلى الغاية من أقصر الطرق، وهذا لا يتم لنا إلا بالاجتماع والتشاور، وهو ما لم يحدث، وأعتقد أنه على المدى القريب والمتوسط لن يحدث؛ لذلك أتوقع أننا سوف نستمر في هذا الخبط لتجري ساعة الزمن وتتجاوزنا الأحداث ونحن ثابتون في أماكننا كأحجار في طريق السيل دفعها بقوته دفعا عبثيا فترة ثم نخر من حولها الأرض ومضى في طريقه وتركها رابضة بلا حراك ولا أثر.
إنني أتعجب من حالنا؛ إذ كيف نزعم أننا أصحاب رسالة خالدة ونحن من بين كل الخليقة التي يفترض أننا نحمل الرسالة الخالدة إليها لا نملك رؤية ولا مشروعاً، ولا نستطيع تفسير ما نصنعه إلا بما يثير الضحك والبكاء معاً، وإلا فليقل لي أحدهم: ما جدوى ما نسميه اليوم بالحراك؟! ما فائدته وهو لا يحرك ساكنا على أي مستوى من المستويات؟ أم أننا نهوى ممارسة أعمال لا نبتغي منها إلا أن نبيت وقد قنعت ضمائرنا وسكنت خواطرنا؟!
ألم تر إلينا كيف نخاف من تدوين المرحلة وتوثيق أحداثها؟ ألم تر إلينا كيف نفر من الوحدة الحقيقية ثم نسعى لمد جسور التواصل مع كل شاردة وواردة؟ حتى صار بعض رموز 30 يونية لبعضنا الذين هجروا إخوانهم إخوانا؟! ألم تر إلى بعضنا يذهب في تقييم التجربة إلى حد الاستسلام التام إلى حد لعن التجربة برمتها والدعوة إلى أن يقضى على الإسلاميين بالتنازل عن حقهم كمواطنين في الممارسة السياسية؟!
إنه التيه لا ريب، والسؤال الآن: متى سنخرج منه؟ وإلى متى سنظل نضرب في ظلماته بلا هدى؟ ألا من حاد يرشدنا وراع يهش علينا؟ من لنا برجل كيوشع بن نون يخرجنا ويخرج بنا من هذا التيه المحكم؟ فليكن كل واحد منا هذا الرجل، وليلتمس كل واحد منا المخرج لنفسه ولإخوانه، ولنعلم أننا بغير المنهاج الذي جاءنا من عند الله تعالى لن يكتب لنا الخلاص، فإلى كتاب الله ومنهجه يا أيها الصادقون المخلصون، تداعوا وتعاونوا وتشاوروا واعملوا على إنضاج رؤيتكم على هدى من شرع الله تبارك وتعالى.
ولا تستسلموا لليأس والقنوط، ولا تلتفتوا إلى دعاة الفتنة الذين يقفون على أبواب جهنم، ولا إلى المتعثرين في عقابيل العصبية الحزبية المقيتة، واعلموا أنّ النصر مع الصبر وأن مع العسر يسرا، وأن الله مع المحسنين.
المصدر : كلمة حق
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق