متى يبدأ الفلسطينيون حركة التصحيح؟
محمود عبد الهادي
شكّلت قمة الأمن والتنمية التي انعقدت في مدينة جدة بقيادة الولايات المتحدة منتصف الشهر الماضي تحدّياً دولياً جديداً للقضية الفلسطينية، أضيف إلى التحديات العديدة التي تواجهها على الصعيد الفلسطيني والعربي والإسلامي، والتي تضع القادة الفلسطينيين أمام خيارات محدودة وعاجلة للتعامل مع هذه التحديات، التي أدخلت الشعب الفلسطيني، في الداخل والشتات، في نفق مظلم معبأ بالمعاناة والمرارة والحصار والإحباط واليأس القاتل والفشل المطبق في توحيد السلطة الفلسطينية، وتوحيد مشروع التحرير الوطني للشعب الفلسطيني.
إن الفلسطينيين بحاجة إلى إعادة ترتيب أولوياتهم، والقيام بحركة تصحيح جدية لأوضاعهم الداخلية، قبل أي شيء آخر، وأي ذريعة تخالف ذلك، إنما هي هروب من الواقع المأزوم، وركون إلى المكتسبات الفصائلية على حساب جوهر القضية الفلسطينية ومسارها التاريخي وشعبها المكلوم. فالانشغال عن هذه الأولوية بأي اهتمامات أخرى، جريمة كبرى في حق القضية وشعبها.
الركائز الفلسطينية المفقودة؟
نظراً للتعقيدات الشديدة التي تمرّ بها القضية الفلسطينية، والتي تزداد سوءً عاماً بعد عام، ونظراً لتفاقم معاناة الشعب الفلسطيني، وانسداد الأفق السياسي في وجهه، فإن القيادة الفلسطينية مدعوة للتحرك بجدية بحثا عن خيارات جديدة قادرة على مواجهة هذه التحديات المتراكمة التي فرضها عليها السياق التاريخي للقضية الفلسطينية من جهة، وتعقيدات الأمر الواقع، من جهة أخرى.
غير أن ما يمنع القيادة الفلسطينية عن القيام بذلك، هو افتقادها إلى الركائز الخمس الأساسية التي ينبغي أن يقوم عليها كيانها الجيوسياسي، وهذه الركائز هي:
وحدة القيادة:
حتى يومنا هذا، تعاني القيادة الفلسطينية من انقسام عمودي وأفقي، أفقدها القدرة على إدارة الوجود الفلسطيني الشامل والموحد، في الداخل والخارج، كما أفقدها القدرة على التحرك والمناورة إسرائيليا وإقليميا ودوليا. لقد أصبحت "القيادة الفلسطينية" اسما بلا معنى محدد، ولا يمكن فهمه ما لم يتبعه ملحق يوضح المقصود منه، هل هي القيادة الفلسطينية في رام الله أم القيادة الفلسطينية في غزة؟ ورغم الجهود العديدة التي بذلت لتوحيد القيادتين، فإنها جميعا باءت بالفشل، لتبقى كل قيادة من القيادتين سعيدة بزعامتها الفصائلية، وعلاقاتها الإقليمية والدولية، ومكتسباتها الفئوية، ولتبقى القضية الفلسطينية والشعب الفلسطيني في دوامة المعاناة والتضحيات المستنزفة.
إن وحدة القيادة الفلسطينية أمر مصيري، لا ينبغي الاستمرار دونها، ويجب أن تكون على رأس الأولويات الوطنية، قبل السلاح والمقاومة والأكل والشرب والصحة والتنمية والعمل والسفر وفك الحصار. قيادة موحدة تفرزها المؤسسات الفلسطينية الدستورية التي تمثل الشعب الفلسطيني في الداخل والخارج.
بقية الركائز:
الركيزة السابقة هي الأساس التي تقوم عليها الركائز الأربع المتبقية، وهي:
- وحدة المؤسسات الوطنية: التنفيذية والتشريعية والقضائية، سواء في الحالة الثورية أو في حالة شبه الدولة.
- وحدة الصف الوطني: الذي ينتمي للدولة الفلسطينية والقضية الفلسطينية، بمكوناتها التاريخية والجغرافية والعقدية والنضالية والثقافية، التي تشكل ملامح هويته الموحدة، مهما كان انتماؤه السياسي والمناطقي.
- وحدة المشروع الوطني للتحرير: وهي التي ستخرج القضية الفلسطينية من حالة التخبط السياسي التي تمر بها، بسبب تعدد مشروعات التحرر الوطني، بتعدد القيادات الفلسطينية.
- وحدة القرار الفلسطيني: القرار المستقل الصادر عن القيادة الموحدة ومؤسساتها الوطنية التي تمثل أطياف الشعب الفلسطيني في الداخل والخارج.
إن وحدة القيادة الفلسطينية ووحدة مشروع التحرير الوطني أمران مصيريان، لا ينبغي الاستمرار دونهما، ويجب أن يكونا على رأس الأولويات الوطنية لجميع الشعب الفلسطيني، قبل السلاح والمقاومة والأكل والشرب والصحة والتنمية والعمل والسفر وفك الحصار.
أولويات التصحيح
إن غياب الركائز الخمس الأساسية السابقة عن المشهد السياسي الفلسطيني حتى اليوم، يجسّد حالة العجز والفشل التي تهيمن على المشهد الفلسطيني، رغم ما يسوقه البعض من حديث وجداني عن الانتصارات والإنجازات واستدعاءات التاريخ وتنبؤات المستقبل.
وتجنباً لإطالة الوقت وإضاعته في خيارات جزئية لا طائل من ورائها، أو معالجات ترميمية، لن تغير من واقع الأمر شيئاً، وتجنباً لتكرار حلول لم تجد نفعاً على مدى السنوات الماضية، فإنه لم يبق أمام الفلسطينيين سوى القيام بحركة تصحيح جذرية تنحصر في جانبين أساسيين:
الجانب الأول: تصحيح ازدواجية السلطة الحالية
أصبح تصحيح النموذج القائم للسلطة الحالية المزدوجة الممثلة للفلسطينيين داخلياً وخارجياً، مطلباً لا تتقدم عليه أولوية أخرى، فهو رأس الأمر، والذي من دونه ستبقى ازدواجية الأداء في السلطة السياسية، على مستوى المؤسسات التشريعية والتنفيذية وعلى مستوى الصف الوطني ومشروع التحرير الوطني والقرار الوطني. بل سيتم توريث هذه الازدواجية للأجيال القادمة، ليستمر الفشل، وتستمر معاناة الشعب الفلسطيني، ليس بسبب الاحتلال، وإنما بسبب الفلسطينيين أنفسهم.
ولكن كيف يقوم الفلسطينيون بهذا التصحيح؟
والإجابة على النحو التالي:
- الخطوة الأولى: قيام القيادة الفلسطينية الحالية، بشقيها في الضفة الغربية وقطاع غزة والشتات، بخطوات جدية لبناء مؤسساتها السياسية والنضالية في الداخل والخارج، وتوحيد صفها وهويتها وقرارها ومشروعها، واستعادة القضية الفلسطينية لمكانتها في قلب الأمة العربية والإسلامية.
- الخطوة الثانية: إذا لم تنجح القيادة الفلسطينية في ذلك، تتقدم النخب الفلسطينية بمؤسساتها المدنية وكوادرها الإدارية والأكاديمية والإعلامية والثقافية، لتقوم بواجبها للضغط على القيادة الفلسطينية، ضمن حراك وطني متواصل، حتى تتحقق مطالبها.
- الخطوة الثالثة: إذا لم تنجح النخب في إجبار القيادة الفلسطينية على تنفيذ مطالبها، فإنها تستمر في حراكها وتنحاز إلى الشعب الفلسطيني بجميع فئاته، في الداخل والخارج، لتصعيد الحراك، والخروج إلى الشوارع، ورفع مطالبهم والإصرار عليها.
الجانب الثاني: تصحيح مشروع التحرير الوطني
إحدى الكوارث التي جرها الانقسام الفلسطيني هي ازدواجية تصور حل القضية الفلسطينية، الأول تتبناه السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية وعلى رأسها حركة فتح، كنتيجة لاتفاق أوسلو مع الكيان الصهيوني سنة 1993، والثاني تتبناه السلطة الفلسطينية في قطاع غزة، وعلى رأسها حركة حماس، والقائم على أساس عدم الاعتراف بالكيان الصهيوني، والعمل على تحرير كامل فلسطين التاريخية، مع القبول بحدود عام 1967 كصيغة توافقية وطنية مشتركة.
والملاحظ في هذين المشروعين ما يأتي:
- أن أيّاً منهما لم يحظ بتأييد عموم الشعب الفلسطيني، ولا يمثل مشروعاً وطنياً مشتركاً للتحرير، وهو الشيء الجوهري الذي تفتقده القضية الفلسطينية حتى اليوم.
- أن أيّاً من المشروعين لم ينجح في تحقيق برنامجه للشعب الفلسطيني، الذي استمر في المقاومة والتضحيات وخسارة الأرض واستمرار المعاناة.
- أن كلاً منهما يسعى إلى تحقيق أهداف غير قابلة للتحقيق في المدى المنظور، حسب السياقات الإقليمية والدولية الراهنة، فلا سلطة الضفة الغربية قادرة على إقامة الدولة الفلسطينية على حدود يونيو/ حزيران 1967، ولا سلطة قطاع غزة قادرة على تحرير كامل فلسطين.
وقد جاء الوقت لتصحيح هذا الأمر والاتفاق على مشروع تحرير وطني قادر على تحقيق تطلعات الشعب الفلسطيني. وهو أمر غير قابل للتنفيذ إلا بنجاح حركة تصحيح الوضع القائم للسلطة الفلسطينية. وبعد أن فشلت سلطتا الضفة الغربية وقطاع غزة في مشروعيهما للحل، لم يبق أمام الشعب الفلسطيني سوى خيارين:
الأول: حل الدولة الواحدة للشعبين اليهودي والفلسطيني، وهو المشروع المثالي لتفكيك المشروع الصهيوني، وعودة الشعب الفلسطيني الطوعية إلى فلسطين.
الثاني: إعلان الثورة والجهاد في عموم فلسطين، والعودة بالقضية الفلسطينية إلى مربعها الأول، وإجبار الكيان الصهيوني والعالم على إعادة النظر من جديد في القضية الفلسطينية.
وهو ما سيكون على السلطة الفلسطينية الموحّدة القادمة أن تقرّر فيه، بما يحقق مصالح الشعب الفلسطيني في المدى المنظور.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق