نصيبنا من الدنيا (2)
حوارات الدين والطب و السياسة
في صباح اليوم التالي لم أمر بأحد في مدخل الكلية ولا مدخل مستشفى الباطنة، ولا طرقات القسم إلا وقال لي: إن الأستاذ يسأل عنك، دخلت عليه وهو يمر في حجرة المرضي فترك أستاذي المرضي بمجرد أن رآني وانصرفنا إلى مكتبه.
بدأ أستاذي الحديث بقوله: إنه لم ينم أمس.
قلت في ثقة: لكن مثل هذه الرواية لا تأخذ منك أكثر من ثلاث ساعات.
قال في ثقة: منك أنت.
قلت: ربما لا تأخذ مني أكثر من نصف هذا الوقت، لأني أقرأ بأسرع من ذلك كما تعرف.
قال: ليس هذا ما قصدت.
قلت: لا أفهم.
قال: ولن تفهم.
قلت: فامنحني بعض الفهم.
قال: بدأت الرواية بعد أن انتهيت من عمل العيادة وانتهيت منها قبل منتصف الليل، ومنذ ذلك الوقت لم أنم.
قلت: فأنا مذنب إذاً.
قال: جداً.
قلت: وما طبيعة ذنبي على وجه التحديد؟
قال: إنك حرمتني قراءة هذه الأعمال الخالدة في السّن التي يقدر فيها الإنسان ما فيها من معاني الخلود.
قلت: ما قصدت هذا.
قال: أعرف.. لكني أنا الذي أصبحت حساسًا من موقفي منك.
قلت: الأيام كفيلة بإصلاح كل شيء.
قال: أفلا يصلح شيء إلا بإفساد أشياء أخرى؟
قلت: ربما لا تصلح أشياء إلا بصلاح شيء واحد.
قال: أأنت واثق؟
قلت: جرب ….. يكسب كلانا.
قال أستاذي: هل أطلب منك أن تحتفظ بقصة الرواية وباسمها سرًا حتى أموت؟
قلت: أو أموت أنا.
قال أستاذي: لا تذهب بعيدًا عن الوعد.
قلت: أعدك.
قال: يا محمد لقد غيرت رأيي في كل شيء بهذه الرواية، وكأنما أرسلها الله معك حتى ينير بصيرتي.
قلت: ربما لم يلهم الله بلزاك كتابتها إلا لتكون يوما ما سببا في عودة مياهنا إلى مجاريها.
قال: أعادت؟
قلت: بأقوى مما كانت.
قال: يعجبني ذكاؤك.
قلت: ولا يعجبك أحيانا.
قال: فاعلم يا محمد أن هذه الأحيان لن تأتي أبدا بعد اليوم.
قلت: هل تعرف السبب الذي جعلني جئت بها في حقيبتي؟
قال: لا أعلم.. ولا تسألني التخمين.
قلت: كانت الرواية في طريقها لعلاج أستاذ من أساتذتي من ظنه أن الشر قادر على أن يخفي نفسه وينتصر، بينما كنت أقول إنه يعذب صاحبه ولا يجعله يهنأ بشيء مما اقترفه.
قال: لكنك وصفتها لي لسبب آخر.. ألا تذكره؟
قلت: بل أذكره.
قال: فما هو؟
قلت: كنتم سيادتكم تبحثون عن رصيد للصبر
قال: فما علاقة هذا بالوصفة الأولى؟
قلت: لأنه لا يدعو إلى الصبر شيء مثل الأمل.
قال: لكن الرواية عذبتني.
قلت: هي كذلك معذبة بما فيها من دراما.
قال: لم يكن هذا هو مصدر تعذيبي الوحيد، إنما كان مصدر التعذيب هو الشعور بالحرمان من مثل هذه الوجبات الرائعة.. هل لا تزال تواظب يا محمد على مثل هذا الغذاء الروحي والعقلي؟
قلت: حتى الآن نعم.
قال: أدام الله عليك نعمته.
قلت: ورزقني رضاك.
أشاح بوجهه وقال: وماذا يمثل رضاي في وسط النعيم الذي أنت فيه؟ ألا تكف عن تأنيبي بمناسبة وبغير مناسبة.
قلت: إن كان هذا تأنيبًا فلن أكف عنه.
قال: وأنا أطلب إليك ذلك.
قلت: فإن لم يكن تأنيبًا فماذا يكون؟
قال: هو حب غير عاقل.
قلت: وهل أفدت من الحب العاقل؟
قال: لا.
قلت: أفلا يجدر بك أن تفيد من الحب غير العاقل؟
قال: كنت أظن الحب غير العاقل لا يفيد.. لكنك غيرت رأيي اليوم.
قلت: أخشى أن يكون تغيرًا وقتياً.
قال: لا تشغل بالك.. عليك الحب وعلينا الاستفادة.
قلت: أفهم من هذا أن المطلوب مني صبر على العطاء؟
قال: بل صبر على الآخرين.
قلت: والعطاء؟
قال: ذلك ركب فيك، فلا جدوى للحديث عن صبر عليه.
قلت: والجزاء!
قال: ماذا دهاك حتى تغير طبيعتك وتسأل عن شيء لم تسأل عنه.
قلت: وماذا أفعل وأنا أخلص ذمتي.
قال: ليس إلى تخليصها من سبيل.
قلت: أفهم أن معاناتي ستستمر؟
قال: بعض الوقت.
قلت: من أجل إسعاد بعض الساديين؟
قال: بل من أجل علاجهم العلاج النهائي.
قلت: لقد أصبحت بدمي وأعصابي وابتسامتي ممولا حتى لعلاج الساديين.
قال: هذا أفضل من أن تكون أنت ساديا.
قلت: لو استمر الأمر على ما هو عليه فإني لا أضمن أن أتحول هكذا.
قال: لا تهددني.. فلربما صدقتك قبل اليوم أما بعد معرفتي بالجنة التي تعيش فيها فإني أعرف أنك تنظر إلىّ وإليهم من أعلى عليين.
قلت: ها أنا قد أصبحت أيضًا محسودًا حتى على موقع المظلوم.
قال: وربما تحسد أيضًا على حظك الكبير من الظلم.
قلت: هل تشعر بالرضا لهذا كله؟
قال: إنك تحاصرني.. ولكني أملك الجواب الكفيل بإسكاتك وإن لم يكن كفيلًا بإقناعك.
قلت: وما هو؟
قال: هذا نصيبك من الدنيا.
***
بعد قرابة خمسة عشر عامًا من هذه الواقعة دعاني أستاذي إلى مناسبة عائلية لم يدع إليها أحدًا غيري من تلاميذه ولا من زملائه، وبعدها بشهور قليلة كرر التجربة، ولم ينس أن ينهي إلىّ أني أنا المدعو الوحيد من زملائه وتلاميذه.
قلت لأستاذي: وماذا يعني هذا؟
قال: يعني أنني اعترفت بنظرية أشقائي الذين قالوا : إنك أنت وحدك نصيبي من الدنيا.
قلت: يا سيدي أنت تقول هذا الكلام هنا في المطلق، فإذا ذهبنا القسم كان لك كلام ثان.
قال: لن أدافع عن نفسي، لكني أسألك أن تذهب إلى زملائك وأن تسألهم ماذا قلت عنك بالأمس الذي هو أمس
قلت: بلغني.
قال: فما الداعي إلى الظلم؟
قلت: الرغبة في إزالة آثار ظلم قديم.
قال: أتحسُّ به؟
قلت: أصدقك القول إنه لم يبق الآن من أثره في نفسي شيء.
قال: فما يؤذيك؟
قلت: إني أجد نفسي عاجزًا عن الدفاع عن ظلمكم لي حين يتحدث الناس عن هذا الظلم.
قال: حول هؤلاء علىّ وأنا أدافع عن نفسي.
قلت: قد تصوروا أني محاميك الدائم في السراء والضراء.
قال: تقصد في الحق وفي الباطل؟
قلت: العفو.
قال: إنما تقال الجملة هكذا ولا علاقة لها بالسراء والضراء وإنما أنت مراوغ من أجل التهذيب.
قلت: فماذا أقول لهم؟
قال: قل لهم: كانت عين حسود وأصابت هدفها!
قلت: وماذا أقول للذين لا يؤمنون بالحسد؟
قال: قل لهم: صدفة سيئة وطالت.
قلت: وماذا أقول للذين يعرفون الحقيقة؟
قال: وما هي تلك الحقيقة؟
قلت: الحقيقة أنها تأثيرات الابن البكر على الأب الكبير كي يحجب نور ابن صغير نابغ.
قال: فقل هذا ولا تخف.. ولن أنكر ذلك إذا سألني أحد عن صحته.
قلت: لكن الناس لا تصدق هكذا.
قال: لا تكن حساسا إلى هذا الحد، فما المظلوم على حد تشخيصك لنفسك وحالتك بمسؤول عن الظلم الذي وقع عليه.
قلت وقد تشجعت : فإني مطالب بأن أدافع عن مَنْ كان في موقع الظالم سعيدا.
قال: قل: إنه كان ولا يزال نصيبك من الدنيا.. واصمت بعدها فلا تردف بكلمة .. ولا جملة .. ولا حتى آهة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق