نصيبنا من الدنيا (1)
حوارات الدين والطب و السياسة
في أحد الأعياد اتصلت بأستاذي للتهنئة بالعيد، وكانت علاقاتنا متوترة في ذلك الحين، فإذا به يقول لي : إن شقيقه الأكبر عنده ويريد أن يهنئني بالعيد، وإذا بشقيقه الأكبر ينهي مكالمته بأن يقول لي : إن شقيقه الأصغر هو الآخر يريد أن يهنئني بالعيد.
فهمت بالبداهة أن هذا وذاك أشارا بطلب السماعة عندما علما أني أنا المتحدث.
بعد ثلاثة أيام التقينا في الكلية فإذا بأستاذي يقول لي على مسمع من زملائي الذين كانوا يتجمعون في مكتبه لحضور مجلس القسم: هل تعرف ماذا حدث بعد أن أنهيت المكالمة؟
قلت: بالطبع لا.
قال: قال شقيقي الكبير: إنك أنت وحدك من دون هؤلاء جميعًا نصيبي من الدنيا.
قلت: ولم يقره شقيقك الصغير؟
قال: أتتهم الرجل ظلما وغيبا؟
قلت: لكني أعرف أنه يعرف أن علاقاتنا متوترة، ومن المنطقي ألا يوافق شقيقه الأكبر على مثل هذا الحكم.
قال: فإن فعل؟
قلت في شبه يأس: ربما هي محاولة لتليين قلبك.
قال: هو ألين مما تظن، لكنك لا تكف عن تقسيته.
قلت لنفسي بعد تفكير سريع: هذه هي اللحظة المناسبة لتفجير رأيي في سبب خلافي مع أستاذي.. وحدثت نفسي بسرعة أن أي رد متعجل خير من الصمت في مواجهة هذه الفرصة الثمينة، وهكذا اندفعت بكل كياني أقول لأستاذي في صوت خافت: إنما هي أذن حضرتكم ومَنْ وراءها.
قال: هذا أكبر دليل على أنك لا تكف عن تقسية قلبي عليك.. ألست حرا في أذني وفيمن يتحدث فيها حتى لو أنك تدري ماذا يقول؟
قلت: بلي.
قال: فمن نصبك وصيا على أذني من أجل أن تكون الأحكام متوافقة مع ما تراه في مصلحتك، أو مع ما تراه حقاً.. أو حتى مع الحق نفسه؟
قلت: حبي لك.
قال: أمرك كله عجب، لا تدفعني لأن أقول لك : إني لا أريد هذا الحب.. فإن مثل هذا القول صعب على نفسي، ولن أستطيع أن أتفوه به.. لكنك بعبقريتك المضادة لمصلحتك على طول الخط تدفعني لأن أدافع عن نفسي بمثل هذا العنف الشديد. إنك تدفعني لأن أثبت ذاتي في مواجهة آرائك الحادة التي قد تكون صائبة.. لكنها أقرب إلى ما يقول عنه العامة: الله الغني عن هذا الصواب.
وهنا بدأ معظم الزملاء ينصرفون حتى لا يشهدوا ما لا ينبغي أو ما لا يستحسن لهم أن يكونوا شهودا عليه.
قلت: مهما يكن من أمر آرائي فهي أفكار فحسب.. فإنك تعرف أني لا أفجر موضوعاً، ولا أجأر بشكوى، ولا أطالب بمغنم، ولا أسعى وراء حق، ولا أتمسك بنصيب، ولست أنا الذي في حاجة إلى أن أبرئ نفسي من هذا كله، فأنت تعرف عني هذا وأكثر.
قال: أعرف.. وأنت بريء من هذا كله، بل إنك لست محل شبهة، ولست أنا وحدي الذي يقدر فيك هذا الترفع.
قلت: لكني مع هذا لا أستطيع أن أوقف قلبي، ولا أن أجمد عقلي، وليس في وسعي أن أقول لقلبي ولا لعقلي أن يكفا عما يريانه صوابا.
قال: لكنك بهذا تتعدى على حرية أستاذك.
قلت: أعلم.
قال: فما مبررك؟
قلت: لأني نصيبك من الدنيا.
قال: لا أظن شقيقي هذا أو ذاك كانا يقصدان ذلك حين قالا ما قالا.
قلت: فعليك بهما فأسألهما.
قال: أيليق بي أن أنهى إليهما مدى ما وصلت إليه بتجرؤك علىّ.. لم يعد ينقص إلا أن أستأذنك في كل موقف أتخذه.
قلت: وهذا أيضًا مما يرد إلى أذنك.
قال: يا.. محمد.. لقد نفد صبري.. وهؤلاء زملاؤك قد ربأوا بأنفسهم عن أن يكونوا شهودًا لهذه المواجهة فخرج بعضهم من المكتب فما بالك بي وأنت تضعني موضع المتهم.. ألا ينفد صبري؟
قلت: الحق أقول لك: ما أحراه أن ينفد.
قال: أعندك رصيد له؟
قلت: نعم.
قال: إذًا هاته.
لم أدر بماذا أجيب لكني وجدت نفسي مندفعا إلى أن أفتح حقيبتي دون أن أكون عازمًا على شيء بعينه، ومددت نظري فيها ثم مددت يدي إلى رواية فرنسية كلاسيكية كانت موجودة في حقيبتي لسبب آخر، ودفعت بالرواية إلى أستاذي..
وقلت له في سرعة: نلتقي غدا إن شاء الله لأني سأدخل للطلبة الآن.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق