الخميس، 9 مارس 2023

معاني الرجولة .. بين الفقد والحرب

 معاني الرجولة .. بين الفقد والحرب

“معاني الرجولة” أشد ما نفتقده في زماننا، لم يكن تغييبها صدفة ولا مجرد حدث يحدث، بل كان نتاج عقود من عملية “التدجين” للرجال، تزامنا مع عملية الضخ لسموم “الاسترجال” في النساء.

فبين إهمالها إهمالا مجحفا أدى لفقدانها .. وبين محاربتها محاربة خبيثة أدت إلى إضعافها، يعاني من تبعات ذلك كله النساء قبل الرجال في أمتنا، ذلك أن حفظ المرأة يكون بالرجل وكسرها -بغض النظر عن أسبابه- لا يُجبر!

ومن يتأمل صفحات وفصول التاريخ ورجالاته الأفذاذ، سيجد صفات الرجولة أبرز معلم في كل مشاهد النصر والتمكين، وفي كل مواقف البطولة والمجد، وكل لحظة مروءة ونبل!

قال الإبراهيمي رحمه الله:”إن للرجولة ضريبة وعليها مسؤولية لأن الرجال هم القمم الشامخة والعلامات البارزة والأئمة الدعاة الذين يقودون الأمة الإسلامية إلى مواطن النصر”.

على هذه المعاني تُربى الأجيال الواعدة. ولن تنبعث الأمة من جديد حتى تُحفر معاني الرجولة في صغارنا كقادة أفذاذ مقبلين في أسرهم وفي مجتمعاتهم.

يقول المنفلوطي في خلاصة ثاقبة:”هذبوا رجالكم قبل أن تهذبوا نسائكم.. فاِن عجزتم عن الرجال .. فأنتم عن النساء أعجز”.

إن مصابنا جلل مع واقع معاني الرجولة، يبدأ من أدق تفاصيل التربية إلى التفاصيل الأكثر تقدما في عمر الرجل، ومن يقارن مقارنة سريعة بين منهجية التربية عند السلف وفي حياة الفاتحين والقادة النبلاء، ومنهجية التربية في زماننا، لا بد له أن يشعر بالأسى!

حين تفقد المعاني قيمتها

ولا أبالغ إن قلت أن أكثر ما أصابنا في زماننا، هو فقدان جوهر المعاني، فقد تجاوز اهتمامنا بالمظاهر والقشور الاهتمام بالفحوى واللب! وما فائدة الخلاصات المهيبة حين تفتقد روح الاعتقاد والعمل بها، حين تصبح مجرد حبر على ورق أو “موضة” يفرضها الظرف ثم تتلاشى، فلا نعيشها لتنتفض ولا نبذل لأجلها كي تصدق!

قال الرافعي:”الشّعب الذي لا يجدُ أعمالاً كبيرة يتمجّد بها، هُوَ الذي تُختَرَع له الألفاظ الكبيرة ليتلهّى بها؛ وأنّه متى ضَعفُ إدراك الأُمة، لم يكنِ التفاوتُ بين الرجالِ بفضائِل الرجُولة ومعانيها، بل بِموضِع الرُجولة من تِلك الألفاظ”.

ولذلك كما قال الرافعي، كان ولا يزال هلاك معاني الرجولة هلاك الأمة.

فما هي الرجولة التي تحتاجها الأمة والتي بها قام الجيل المتفرد، إنها رجولة حفرها النبي صلى الله عليه وسلم دروسا جليلة ومن بعده صحابته الكرام عقودا متتالية وورثها من كان فضل الله عليه عظيما، لأن الرجولة فضل!

يقول الرافعي:” وَعَرِفوا به ﷺ تمام الرجولة”!.

وأقول نحن بحاجة لتدريس مادة كاملة في الرجولة في مدارسنا ومناهج التربية لدينا، لأن خسائرنا فظيعة بفقد هذه المعاني! وأشدد على أمهات الأبناء أن يحرصن على صياغة جيل من الرجال المتقين، فهذا أكبر إنجاز تقدمنه للأمة في زماننا.

الرجولة ليست مجرد شعار ولا ثوبا يستعار

الرجولة هي الفعال هي الاتساق بين المعتقد والعمل، هي انعكاس المبادئ على ميدان التفاعلات والتدافعات، قال الرافعي:” وما مِن رجُلٍ قويّ الرجولةِ إلّا وأساسُه ديانتُه وكرامتُه”.

فالدين والكرامة حين تسري في جوانح الرجل تنطلق فعالا تشهد لها الأرض والسماء، هنا فقط ندرك قيمة فضل الرجل على المرأة في الإسلام، ولماذا حمّل الله الرجل كل تلك المسؤوليات المهيبة وخصه بالفضل وجعل المرأة تحت جناحه وأمرها بطاعته وبره. أما رجولة بدون جوهر وقيمة للمعاني التي تصنعها، فزبد يذهب جفاء!

الرجولة ليست أمنية وحلما يتحقق فجأة، أو ينزل على الرجل بدون سعي لها، إن لها أسبابا وعوامل تبدأ منذ أول التنشئة إلى مراحل العمر المتقدمة، وهي في الواقع مجموع خصال ومواصفات إذا اجتمعت في رجل، حق له أن يكون قائدا بطلا في هذه الحياة وحق للأمة أن تطمع بالتغيير المنشود وتحقيق الأحلام الواعدة على يد أمثاله.

فالرجولة لم تقف عند امتلاك أسباب القوة، وصفة الشجاعة، ولم تقف عند حد الصفات القيادية التي تخول الرجل إدارة المواقف والأزمات، وإدارة أسرته ودوائر مجتمعه، ولم تختزل في كرم النفس واليد، والجود من الموجود، وليست كما يعتقد البعض القدرة على الإنفاق وتحصيل أسباب المعيشة الكريمة حصرا، ولا البذل في الشدة والمروءة حين تعز المروءة قصرا، ولا مجرد ملامح هيبة وطلة رجل! إنها كل ذلك ولكن في وصف “التقوى”.

إنها معرفة الحق وتمييزه عن الباطل، والقيام بالحقوق بعدل وإنصاف، والترفع عن الظلم والغمط والبخس، وتحمل المسؤولية كاملة في كل ظرف! 

أركان الرجولة

إن للرجولة أركانا تتميز بها، فإن اجتمعت جميعها في رجل فذلك الفضل الذي يتنافس عليه الرجال. نلخصها فيما يلي مستخلصة من القرآن والسنة والتاريخ.

  1. الصدق:

قال الله تعالى (مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ)

صفتهم الأولى الصدق، صدقوا وأوفوا بعهد الله ورسوله ومستمرين عليه ومن ذلك كانت من أهم صفات الرجولة الوفاء بالوعود والعهود فهم يرونها دينا عظيما ولا يمكن أن يمضوا بإهمالها وتهميشها. ذلك أن الصدق هو قوة المبدأ وقوة الحق، وهو أهم ما يزين الرجل. ووعد الحر دين عليه ولذلك نشاهد في التاريخ كيف تقام الحروب وتقف على كلمة يفي بها الرجل وعلى وعد أقسم لينجزنه، لقد كان لكلمة الرجال قيمة عظيمة وثقلا كبير في ميزان الرجال.

جاء في التاج في أخلاق الملوك:”لا يوجد في الإنسان فضيلة أكبر ولا أعظم قدرًا ولا أنبَلُ فعلاً من الوفاء، وليس الوفاءُ شكر اللسان فقط”، والوفاء مصطلح واسع يدخل فيه الوفاء لله ورسوله صلى الله عليه وسلم والوفاء للمؤمنين ولصاحب المعروف والوفاء بالوعود والوفاء لأهل الوفاء والوفاء للمروءة والتقوى.

  •  الالتزام الحازم

قال الله تعالى (في بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ* رِجَالٌ لاَّ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصلاةِ وَإِيتَآءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ والأبصار)

إن الرجولة الحقيقية هي رجولة الالتزام بدين الله وبفروضه التزاما حازما لا يقبل المساومة، فهم في صلاتهم وذكرهم وفروض الدين سباقون بلا التفات للخلف ولا لما يشغلهم عن عظيم الفرائض كما علمنا النبي صلى الله عليه وسلم، وفي ذلك تدخل جميع فرائض الدين، فإن كانوا في العبادات والتقوى فهم الفرسان وإن كانوا في العلم والدعوة فهم الفرسان وإن كانوا في ساحات الجهاد والمبارزة فهم الفرسان، وإن كانوا في ميادين البذل والمسابقة فهم الفرسان. وتلك من أهم خصال الرجولة التي يقوم عليه البيت وتقوم عليها الأمة.

  • علو الهمة

قال الله جل جلاله (لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَىٰ مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ ۚ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُوا ۚ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ)

إنهم في مجاهدة ومسابقة بعلو همة لمرتبة المتطهرين الذين يتطهرون من الحدث ومن الذنب، فهذه صفة من يريد أن يزدان بالرجولة، تواب أواب، يسعى لمعالي الرتب، ولما فيه تطهير النفس وعلو مرتبتها في الجنة، لا يرضى بمرتبة أقل من مرتبة “يحبهم الله ويحبونه”. ومرتبة “والذين آمنوا أشد حبا لله”.

“إن الهمة العالية هي سلم الرقي إلى الكمال الممكن في كل أبواب البر، لا سيما العلم والجهاد اللذان هما سبب ارتفاع الدرجات، فمن تحلى بها لَان له كل صعب، واستطاع أن يعيد هذه الأمة إلى الحياة مهما ضمرت فيها معاني الإيمان، إذ إن “همم الرجال تزيل الجبال”.[1]

4– الشجاعة في الحق

قال الله تعالى (وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ) وقال تعالى (وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ) وقال تعالى (قَالَ رَجُلَانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ ۚ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ)

فمن صفات الرجولة الحقة، اتباع الحق ونصرته والدعوة إليه، شجاعة الرجل في مواطن الحق صفة بارزة في سير رجالات التاريخ الأفذاذ، ويكفيك من ذلك الوصف القرآني (ولا يخافون لومة لائم) وهذه سبيل دعاة التوحيد والمدافعين عن التوحيد والناشرين لمعاني التوحيد يحبون هداية الناس والخير لهم، لا يتماهون مع باطل يمس بالتوحيد ولا يقبلون بغير حفظ ميراث النبوة، مقاصدهم عالية وغاياتهم جليلة فاستحقوا أن يتصفوا بالرجولة .

ومن أبرز علامات الرجولة الثبات على المبدأ الحق والمجاهدة عليه إلى آخر رمق.

  • تحمل المسؤولية

وصفة تحمل المسؤولية من أهم أركان الرجولة، وهي دلالة كفاءة ونضوج في الرجل، ولذلك أوكلت إلى الرجل القوامة والولاية والإمامة والمهام الشاقة والخطيرة وكلّف بصيانة الدين والنفس والعرض والأرض، وإقامة خلافة الله في الأرض. فالرجل الذي لا يقدر على تحمل مسؤولياته لديه خلل في مفهوم الرجولة، وحين نتحدث عن تحمل المسؤولية فيدخل فيها تحمل المهام والواجبات وتحمل الأخطاء أيضا، فالهروب من فريضة أو واجب ليس إلا طعنا في الرجولة وكذلك التنصل من مسؤولية الأخطاء والهروب من تحمل تبعاتها وتخفيف آثارها مشكلة في مفهوم الرجولة، ولذلك وجب تربية الطفل منذ الصغر على الفهم الصحيح بتحمل مسؤولياته والاستعانة بالله في القيام بها وبمواجهة أخطائه وتصحيحها لا الهروب منها والتنصل من تبعاتها، وتحميل غيره آثارها المدمرة.

  • المروءة ومكارم الأخلاق

وقال صلى الله عليه وسلم: “أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً” رواه الترمذي وقال: حديث حسن صحيح.

تأبى المروءة أن تفارق أهلها     إن المروءة في الرجال خصال

 وهذا الركن يتطلب سفرا طويلا من السرد والتفصيل ويكفينا منه أن المروءة ومكارم الأخلاق تصنع من الرجل مشهدا عظيما من الرجولة، فهو يعفو عند المقدرة ويغفر عند الزلة ويجبر الضعف والكسر ويبذل الندى وكف الأذى وإعانة الضعيف ونصرة المظلوم وردع الظالم، يعرف بسلامة الصدر، والصبر، والشجاعة، والعفة، وغض البصر عن الحرام، يبتعد عن مواطن الفتن والنساء، بل ينأى بنفسه عن كل ما يخدش مروءته ورجولته، ولا تجده في موقف مروءة وأخلاق إلا وكانت قدوته النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام، ولو عددنا مواقف المروءة ومكارم الأخلاق التي سجلها التاريخ في السيرة النبوية وسير الصحابة والسلف الصالح رضي الله عنهم لبكينا بكاء حارا على ضياع معاني الرجولة في زماننا.

  • التواضع لله

مهما برزت ملامح وصفات الرجولة في الرجل فإنه لا يستكبر ولا يهدم بنيانه بالغرور والعجب بالنفس ولا يرى نفسه إلا مقصرة فهو يرجو رحمة الله لذلك لا تجده يتحرج من الاعتراف بذنبه وتقصيره وإعلان توبته لله فهو يعلم أن سبيل الخلاص هو التواضع لله والحق، ولو كان ثقيلا على النفس. وتلك صفة المتقين الأخيار. ولذلك كنا نرى الخليفة الراشد يطلب من رعيته أن يدلوه على أخطائه وتقصيره، ونرى السلف الصالح يسابقون للعمل الصالح ولا يجدون حرجا في الاعتذار عند الخطأ. ولم أر شرفا كشرف الاستدراك في تحقيق مقامات الكمال.

  • القوامة

إن من أبرز امتحانات الرجولة هي قيادة الأسرة والمرأة، فقيادة المرأة تظهر مكامن الرجل القيادي، وتبرز حقيقة رجولته، ولذلك لا يمكن للرجل الفاقد لصفة القوامة أن يقود أسرته ولا بيته ولا زوجته ولا يمكنه أن يعدد ولا أن يقوم بتكاليف تربية أبناء وبنات صالحين وصالحات لأنه سهل الانقياد والتأثر بأهواء النساء ويمكن أن تقوده امرأة للمهالك والظلم بكل يسر لضعفه. والقوامة مفهوم واسع من قدرات إقامة الزوجة والأسرة على الاستقامة وهي تتطلب بذلا وعناية بالتقوى، والاستعانة بالله تعالى فالمرأة خلقت من ضلع أعوج والرجل مطالب بالصبر عليها وبحفظ مصالح دينها ودنياها ولذلك كانت السلطة في يده ليصلح بها حال بيته. قال المنفلوطي في النظرات:”ولا يستطيع الرجل أن يكون رجلًا تام الرجولة حتى يجد إلى جانبه زوجة تبعث في نفسه روح الشهامة والهمة، وتغرس في قلبه كبرياء المسؤولية وعظمتها، وحسب المرء أن يعلم أنه سيدٌ، وأنَّ له رعية كبيرة أو صغيرةً تضع ثقتها فيه، وتستظل بظل حمايته ورعايته، وتعتمد في شئون حياتها عليه، حتى يشعر بحاجته إلى استكمال جميع صفات السيد ومزاياه في نفسه ..”.

لذلك يمتحن الرجل في الزواج، وقدرته على قيادة بيته وزوجه وأبنائه.

وفي زماننا أبشع ما يمكن أن تشاهد:  امرأة مسترجلة ورجل متأنث.

ولا يكتمل المجتمع إلا بعودة كل من الرجل والمرأة إلى مكانهما الفطري الصحيح.

فلتكن هذه القاعدة في ذهن كل مربي ومربية، وكل أب وأم وكل زوج وزوجة.

وما الرجولة إلا احتواء وما الأنوثة إلا اكتمال.

  • الغيرة

عيب كبير أن يفتقد الرجل الغيرة، فهذه صفة تُعرف بها جدية الرجل، وتقاس بها رجولته، فالرجل الذي لا يغار على محارمه وعلى محارم الدين بلا شك لديه مشكلة في فهم معاني الرجولة، وللأسف هذا الفقدان للغيرة لم يأت بلا سبب ودافع، فقد سبقته عقود من الحقن لكل ما يقتل الغيرة ويعود الرجال على الاستهانة وقبول الواقع المرير بانسياب لم يكن ليقبله رجال مضوا في سبيل الله. لذلك أصبح الرجل يخرج مع زوجة متبرجة في كامل زينتها للشارع ويبتسم لمن يثني على أناقتها، وقد كان السلف الصالح لا يرى أثر زوجه إلا وهو يحرسها ويغار عليها. وهنا نتحدث عن الغيرة المحمودة، غيرة الرجولة التي تحفظ المرأة درة مصونة، وتثبت محبة الرجل لها وجديته معها، وقد اشتهر الصحابة رضي الله عنهم بغيرتهم على زوجاتهم ونساء المسلمين، فالغيرة تحفظ المرأة في بيتها وتحفظ بنات المسلمين، لأن الرجل الذي يحمل غيرة لا يرضى لبنات المسلمين ما لا يرضاه لبناته وزوجه.

  • الأمانة

نجدها في قصص الأنبياء والصحابة والصالحين في كل زمان، قصص تأسرك بعظيم مكانة الأمانة، لا يضيع الرجل أمانة وضعت بين يديه، أيا كانت هذه الأمانة يحفظها ويؤديها كاملة، حتى وإن لم يُستحفظ عليها، لقد كانت صفة موسى عليه السلام القوة والأمانة، ولذلك قالت ابنة شعيب عليه السلام “إن خير من استأجرت القوي الأمين”، وكيف تكون الرجولة بلا أمانة وما أجملها بالقوة وإن كنت لا أدرج القوة في أركان الرجولة مع أنهاُ زينة في الرجل، لأن الرجل قد يكون أمينا ولا يكون قويا! وما أحوج أمتنا لأصحاب الأمانة والقوة.

وفي الحديث:”أنَّ الأمَانَةَ نَزَلَتْ مِنَ السَّمَاءِ في جَذْرِ قُلُوبِ الرِّجَالِ، وَنَزَلَ القُرْآنُ فَقَرَؤُوا القُرْآنَ، وَعَلِمُوا مِنَ السُّنَّةِ”. صحيح البخاري.

  1. العدل

عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: “إن رجلا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أي المسلمين خير؟ قال: من سلم المسلمون من لسانه ويده”، صحيح مسلم.

والحق يقترن بالعدل، ولا ينصر الحق إلا بالعدل، ومن تمام الرجولة، العدل والإنصاف وقليل فاعله لأنه يتطلب الكثير من المجاهدة والتقوى. ولا يتحراه إلا مكتمل الرجولة. ولذلك لا تزال دعوات الحق تحفظ بالعدل .. ولا يزال العدل سيمة الرجال الأفذاذ.

هذه باختصار أبرز أركان الرجولة وكل تفصيل عن الرجولة يندرج تحتها، أو يتصل بها اتصالا مباشرا.

كيف تنبعث الرجولة؟

تنبعث الرجولة من محاضن التربية، من هناك يبدأ تشكل صفات الرجولة بقوة، وللأسف حين استهانت المرأة بثغر التربية وانشغل الرجل عنه بالركض خلف لقمة العيش، ضاع الأبناء وتربوا تربية سطحية، تربية الصدفة! فكبر الابن محروما من أهم صفاته التي تصنع رجولته، ولو تأملنا كيف تربى الرجال في زمن مضى – ساد فيه الإسلام بهمة رجالاته- سنجد الفصل بين الذكور والإناث يبدأ مبكرا في سن السابعة ذلك أن الطفل يبدأ بالتمييز ومن المهم أن يبتعد عن وسط النساء ولا ينغمس فيه وإلا فإنه يأخذ تلقائيا من صفات النساء وأبرز صفة فيهن “التأنث” و”الضعف”، و”المزاجية”، وهذه الصفات كارثية في الرجل الذي يتربى في بيت لا يقيم قدرا للرجولة فيربي الذكر كالأنثى، وليس الذكر كالأنثى.

 من هنا وجب التنبيه على أن فصل الذكور عن الإناث في اللعب والنوم والتعليم مهم منذ هذه السن، لقد فصل صلاح الدين الأيوبي عن النساء في قصره وتم تحويله لقسم الرجال حيث تلقى تعليما يليق بفارس منذ سن السابعة، لذلك كان أهلا لأن يكون قائد المعارك ورجل الحروب، فكيف نطمع في أبنائنا الذكور أن يقوموا بالمهمات العظيمة التي تنتظرهم وهم يتربون بين البنات وفي حضن صفات البنات ويقلدون البنات!

وهذا ما عمل عليه الإعلام والتعليم وكل دوائر التأثير في صناعة الأجيال، هدم معاني الرجولة مبكرا في حياة الطفل، حيث يتعود الابن على رؤية أخته متبرجة ولا يحسبه أمرا عظيما، ويتعود على رؤية أمه تخالط الرجال وتعمل ولا يحرك فيه شيئا، ويتعود على مشاهدة الأفلام والقصص وكل ما يستهين بالمعصية، فتنطفئ تلك الشعلة المهمة من الغيرة التي هي سمة الرجولة!

أيضا على الأسر تعويد الذكور على تنفيذ المهام المهمة التي تصنع الجد، كإرسالهم في رحلات منذ سن الـ12، يتحملون مسؤولية السفر والترحال فهو يبني الرجل، ويعلمه الصبر على الشدة، وأنصح أن يعود الطفل على الخروج في “التخييم” و”الكشافة” وتحمل مسؤولية التعامل بالمال، وأن يمتحن في الصدق وحفظ الأمانة وحفظ الأسرار، وهذا الأمر يصنع منه تلقائيا رجلا صغيرا في سن مبكرة، فعلى الأم التي تريد أن تنعم برؤية صغيرها رجلا مهيبا، أن تعتني بصناعة كل صفات الرجولة فيه مبكرا، وتجعل احتكاكه بالرجال الأفاضل أولوية ليستلهم منهم معاني الرجولة، وتمتحنه وتكافئه وتعلمه بهدوء وصبر، وبحوار بناء، فلم أر مثل الحوار حلا لكل المشاكل سواء مع الكبار أو الصغار، ولذلك فوائد من صناعة الاحترام والتعليم برفق وحكمة.

أيضا يدخل في ذلك تعويد الابن على أن يكون رجلا في البيت، فلا يعامل معاملة الإهانة والتحقير والتسخيف والسخرية، حتى إن أخطأ، لأن هذا يصنع فيه الجبن والإحجام والهشاشة، وهو أسوأ ما نصنعه بالطفل، وهذا يعني الدراية بطرق المعاقبة النافعة والتعامل معه على أنه رجل محترم، كي يستعشر قيمته فيقدم أحسن ما فيه. كما أنصح أن يُستشار في القضايا ليسمع صوته ويشعر بقيمته.

ويدخل في ذلك تعويد الابن على العناية بأخواته ومساعدتهن والعناية بأمه وبرها، وإفهامه أن من مسؤوليته صيانتهن والحفاظ عليهن وسيتعلم الطفل تلقائيا أن خروجه للسوق لخدمة أمه وأخته خير من خروجهن. وحرصه على سترهن وغيرته عليهن إنجاز عظيم.

قال البشير الإبراهيمي:”رَبُّوا الصّغارَ على الرّجُولة، وعلى الشّجاعةِ والصّبرِ، وعلى الإنصافِ والإيثارِ، وعلى الْعِفّةِ والأمانةِ، وعلى الْمُرُوءَةِ والوفاءِ، وعلى العزّةِ والكرامةِ، وعلى التّحاببِ والتّسامحِ، وعلى حُبّ الدّينِ وَالْعِلْمِ والوطنِ والوالدينِ والمعلّمِ”.

وقال:”أخطر من سُنَنِ العربِ أنهم يجعلون الاسم سِمَةً للطفولة والكُنْيَــةَ عنوانًــا على الرُجولةِ”.

نلاحظ أن كل التركيز يبدأ من التربية ولذلك حين كان التقصير فادحا في التربية وكان الآباء والأمهات على قدر ضعيف جدا من المسؤولية – تأثرا بعادات بالية وهيمنة غربية هادمة- خرجت لنا أجيال من الرجال فيهم الهشاشة النفسية وفيهم الضعف لدرجة أن لا يقدر الرجل على الوقوف على قدميه ويستعصي عليه ذلك بعد الابتلاءات، وكان الرجل في عصر الصحابة يقود جيشا وهو لا يزال لم يبلغ العشرين! فكيف سيواجه الرجل بمثل هذا الاضطراب حملات التفسيق والتضليل والغزو الغربي الذي يستهدف بيته وحياته!  ولعل تأخير الزواج كان من أسباب هذا الضعف والهشاشة لأن الزواج يصنع شعور المسؤولية مبكرا في الرجل.

إن صناعة القوة في الابن تبدأ من التربية فإن لم توجد، فعلى الرجل أن يصنعها في نفسه، فالعلم بالتعلم والحلم بالتحلم والكثير من الطباع يكتسبها بتمرين نفسه على صناعة الهمة والقوة والنأي بالنفس عما يصنع الضعف والهشاشة كالإنصات للموسيقى والأغاني والصحبة التي لا تذكره بالله وتقصيه عن مكارم الأخلاق وتبعده عن علو الهمة وغيره فهذه مهلكة للرجل، وما من رجل ابتعد عنها إلا ارتقت نفسه وحلق بقدر إيمانه ويقينه وتقواه.

 ولم أر بعد التربية مثل بث العلم لصناعة الرجال، فالعناية بالعلم تصنع المعجزات وتحول الزجاج إلى حديد صلب، وكذلك تأثير القرآن والعلم النافع في النفوس التي حملت بذور الصلاح وتاقت للمجد ومراتب العلياء. وكل ذلك من “التمرد على جاهلية العصر” فطوبى لمن أحيا معاني الرجولة وصيانتها .. فأحيا بها أمة كادت أن تهلك!

مفاهيم مغلوطة عن الرجولة

يعتقد البعض أن تمام الرجولة هو العبوس وإلقاء الأوامر والبطش والمعاملة القاسية والجفاء، وهذا فهم مغلوط جدا، فالرجولة هي كما كان النبي صلى الله عليه وسلم هيبة من الدين والتقوى، وعشرة بالمعروف وإحسان ومعروف، وحزم وقت الحزم ورحمة وقت الرحمة، ودموع خشية في حينها وفي مواقف التأثر، كما قال علي الطنطاوي في ذكرياته:”إنَّ الدموع رحمة، فلا تخجلوا أيُّها المحزونون أن تبكوا فإنّ حُرقة القلبِ لا تُطفئها أنهار دمشق السبعة ..؟! ولكن يُطفئها سفح الدموع، ولو كان البكاء يُنقِص من الرجولة، ما بكى سيد الرجال محمد ﷺ “.

ولكنه بكاء في موضعه اللائق به وليس بكاء الرجال كالنساء في مواقف يتطلب الأمر منهم حزما ورجولة! إنه داء التأنّث الذي سرى في شبابنا اليوم ولا حول ولا قوة إلا بالله، يبكي الرجل على مغني وعلى راقص وعلى مباراة كرة قدم!

ومن المفاهيم الخاطئة العناية بالعضلات وشكل الرجل ونسيان حقيقة التقوى في نفسه، فحين تموت التقوى في نفس الرجل، يصبح كل شيء مباحا، الغدر والخيانة والكذب والحسد والافتراء والخوض في أعراض الناس، وكل سوء وخطيئة، ذلك أن هذا الرجل يصبح كهيكل فارغ من كل المعاني الجليلة، خاوٍ بلا روح!  لذلك يقال لا تحدثني عن الرجولة بل دعني أراها فيك! في أفعالك ومواقفك وقراراتك واختياراتك!

ومن المفاهيم المغلوطة عن الرجولة سرعة الغضب وعدم القدرة على إمساك مشاعر الغضب وانطلاق اللسان بفحش القول، وقال النبي صلى الله عليه وسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً: «ليس الشديد بالصُّرَعة، إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب». فليست الرجولة في سرعة الغضب ورفع الصوت وإرعاب من حولك، إنما الرجولة في إمساك نفسك عند لحظة الغضب. يضبط الرجل لسانه فلا ينطق إلا حقا وتقوى. يميز بين حق الله وحظ نفسه فيحسن إدارة المواقف، وهذا من أعظم امتحانات الصدق والإخلاص.

ومما استشرى في مجتمعاتنا بفعل الثقافة الغربية الرائجة أن يعتقد الرجل أنه رجلا بسيجارة يدخنها وبمظهر غربي يظهر به، بينما هو يتجه نحو التخنث والتميع، وانعكس ذلك على تربية الصغار بأزياء غربية وتربيتهم على بطولات وهمية من الأفلام وأصبح جل اهتمامهم بطولة كأس العالم أو الفوز بأوسكار أو المسابقة على أداء أغنية هابطة!

قال المنفلوطي يصف شباب زمانه:”أصحيح أنكم فقدتم في تلك السبيل التي تسلكونها خلق الرجولة والشهامة؛ فأصبحتم تتجملون للنساء بأخلاق النساء، وتزدلفون إليهنّ بمثل صفاتهم وشمائلهن، وأصبح الرجل منكم لا همَّ له في حياتِه إلا أن يتجمل في ملبسه ويتكسر في مشيته؟”.

ولعل أبشع ما يمكن أن تراه الرجل بسمت إسلامي ولحية ولكنه يرى المسلمة يُعتدى عليها في طريق فيمر مر الكرام كأن الأمر لا يعنيه!

فأي رجولة هذه التي لا يتحرك فيها القلب لصيانة أعراض المسلمات خاصة حين نتحدث عن المسلمة المحتشمة،  وكيف سيقوم هذا الرجل بدوره إن لم يكن قادرا على استيعاب معاني الرجولة ومعايشتها في واقعه!

وذهب صنف آخر لاعتبار الرجولة اللعب بأعراض المسلمين، والتربص بالنساء وإيقاعهن في شباك “جاذبيته” فيعتقد أنه يكتمل رجولة بصحبة أكبر عدد من بنات المسلمين وسرقة مشاعرهن وقلوبهن الهشة وهتك أستارهن، وهذا مما لا يخفى انتشاره في زماننا، ويتفاخر به الذكور دياثة.

 نصيحة للمقبلين على الزواج

إن الدعوات التي تتربص بهذه الأمة كثيرة، وأرى أخطرها هي تلك التي تعمل على اجتثاث معاني الرجولة والعزة بمكر بطيء لكنه أكيد المفعول. وإن خسائر الأمة من تضييع معاني الرجولة عظيمة جدا. ولا عجب أن أصبحت دعاوى النسوية تتصدر المشاهد، فكل صعود لها على حساب هذه المعاني! ولم يكن ذلك إلا تخطيطا ماكرا خبيثا يجب التصدي له. وأول التصدي يبدأ من الأسرة، من بناء على هدي الإسلام لا الغرب ومنظومته الفاسدة.

فليزلم كل ثغره ودوره، الرجل في قوامته وبرجولته والمرأة في وقارها وبأنوثتها، يكتملان معا ويتهاديان معا، يسندان بعضهما البعض في الضعف وفي التراجع، ويذكران بعض بعظم الأمانة والأجر، فإنما يكتمل الرجل بالمرأة والمرأة بالرجل ولا يصل الرجل لتمام رجولته إلا بأنثى تعينه على مسيرة الطريق المليئ بالفتن، فطوبى لمن وجد السكن وأحسن الصحبة فهذه نعمة تستوجب الحمد والشكر.

وكم من محروم اليوم مع تداعي الأفكار الهدامة للأسرة، يفتقد وجود المرأة الصالحة أو محرومة تفتقد الرجل الصالح، ولكنها أقدار وأرزاق وامتحانات، فلا يستعجل عاقل قدره، فهو آتيه في حينه، وليحرص على الصدق في القول والعمل، كي يبارك الله له في نيته وسعيه. ولا يزال الدعاء “يا حي يا قيوم برحمتك أستغيث أصلح لي شأني كله ولا تكلني إلى نفسي طرفة عين” ملازما للنجباء والعقلاء.

إن إحياء معاني الرجولة وترسيخها بيننا وفي الأجيال يشارك فيه كل أب وأم وكل أمرأة ورجل، وهي عملية متكاملة، تتطلب تعاونا على البر والتقوى، وأكبر إنجاز هو حفظ مقامات الرجال وإعانتهم على الوقوف على ثغورهم بإخلاص وإتقان، ومن هنا تبدأ بركات التغيير تتراءى للمجتهدين، وما كان الله ليضيع نية صادقة وبذلا ومجاهدة في سبيل الله.

ولا يعني ذلك الطرح المثالي الذي يطالب الرجال والنساء برسم مشهد مثالي من الانسجام والعطاء، إنما السعي لمرتبة عالية من الصدق والإخلاص، وما لا يدرك كله لا يترك جله، خاصة وأننا نعيش في واقع بعيد عن منظومة إسلامية محكمة تنظم معيشة الناس على هدي القرآن والسنة وتعينهم على الاستقامة، ولذلك الثبات عزيز والاجتهاد مراتب، والموفق من كان علو الهمة دليله ومنهجه.

تأبى الرجولة أن تدنس سيفها

قد يغلب المقدام ساعة يغلب

في الفجر تحتضن القفار رواحلي

والحر حين يرى الملالة يهرب

إن خسارة الرجل .. خسارة للنساء .. وخسارة أسر وخسارة أمة .. فاحفظي أيتها المرأة معاني الرجولة في بيتك .. مع زوجك ومع أبنائك .. تحفظين بها نفسك وبناتك ومن حولك من بنات المسلمين، فالمرأة أشد من يحتاج لمعاني الرجولة، وهي أول ضحية لفقد معاني الرجولة والحرب عليها .. ولا بواكي عليها.

ختاما، هذا غيض من فيض، وأرجو أن تهتم الأقلام والمنابر بهذا الباب وإحيائه وترسيخ معانيه بين الناس، وإن كان أشد ما أخشاه في كل مرة نكتب المعاني الجليلة التي تقتات على أروحنا، والتفاصيل المؤلمة التي نخطها لله ثم لصلاح حال المسلمين، أن تمر مرور الكرام بلا أثر في النفوس ولا ميادين العمل، وأخشى ما أخشاه أن نفقد قيمة الأشياء ومعاني الكلمات لكثرة انتشارها وتداولها بقلوب لاهية غافلة، فذلك “الابتذال” موت مؤكد! أسأل الله أن نكون من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه. وأن يجعلنا من خيرة عباده الصادقين المخلصين، اللهم آمين.


[1]  من كتاب علو الهمة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق