أربونة .. الشهيدة الأولى التي طواها النسيان
- كان الفتح الإسلامي لمقاطعة سبتمانيا الواقعة على الساحل الفرنسي الجنوبي، في غرة القرن الثاني الهجري -وتحديدًا في ربيع 721 / 102هـ-؛ أهم الفتوحات في الجناح الغربي للدولة الإسلامية، بعد فتح الأندلس. وكان هذا الفتح، في عهد الخليفة يزيد بن عبد الملك (101-105هـ)، على التحقيق. وكان صاحب هذا الفتح هو السمح بن مالك الخولاني، أمير الأندلس (رمضان 100- ذي الحجة 102هـ)، من تقديم الخليفة عمر بن عبد العزيز (99-101هـ).
الإسلام في أربونة بين المد والجزر
وقد اتخذ السمح بن مالك الخولاني، مدينة أربونة عاصمة هذه المقاطعة، ذات الموقع الاستراتيجي الممتاز على ساحل البحر المتوسط، والقريبة من الثغور البحرية في ساحل الأندلس الشرقي مثل برشلونة وطركونة، مركزًا دائمًا لقيادة المسلمين، وقاعدة لانطلاق الفتوحات في غالة (فرنسا). ولذلك قام السمح بتحصينها، وشحنها بالمؤن والرجال، وجعل عليها حاكمًا من قبله، قبل أن يتحرك لاستكمال الفتوح في جنوب غرب فرنسا.
وبرغم استشهاد السمح وهزيمة جيشه في ضواحي طولوشة، بعد ذلك (يوم عرفة سنة 102هـ/ 9 حزيران 721)؛ إلا أن الوجود الإسلامي بجنوب فرنسا لم يتأثر كثيرًا، بهذه الهزيمة الأليمة، التي تعد أول هزيمة للمسلمين منذ نزولهم في البر الأوروبي، وظلت مدينة أربونة الحصينة ثغرًا للأندلس وراء جبال البرت، ومحط آمال المسلمين لاستئناف الفتوح في الأرض الكبيرة (غرب أوروبا). وفي صفر 103هـ، ولي الأندلس عنبسة بن سحيم الكلبي؛ فاستقامت أمورها، ثم إن عنبسة -والذي كان مجاهدًا كبيرًا، وقائدًا باسلًا، من طراز السمح- لم يلبث أن عبر على رأس جيشه جبال البرت سنة 105هـ/ ربيع 724، وأعاد افتتاح مدينتي قرقشونة ونيمة، اللتين كانتا قد خرجتا عن طاعة المسلمين بعد هزيمتهم في طولوشة، كما افتتح عنبسة مقاطعة بروفانس الواقعة في جنوب غربي فرنسا.
ثم بعد ذلك اتجه على رأس كتائبه الخفيفة والسريعة الحركة، شمالًا بمحاذاة نهر رودنة (الرون)، فافتتح مدينة أفينيون، ثم مدينة ليون، الواقعة في النصف الجنوبي الشرقي من فرنسا، ثم تحرك غربًا فقطع نهر الساءون حتى أدرك مدينة أوتون في أعالي نهر الرون فافتتحها، وتغلغل حتى وصل إلى مدينة صانص الواقعة على بعد 70 ميلًا جنوب شرقي باريس، كما بلغت سراياه مدينة لوكسيل القريبة من سويسرا، وهما أبعد مسافة يصل إليها قائد مسلم في غرب أوروبا.
لكن عنبسة لم يلبث أن وقع في كمين، وهو طريق العودة بعد أن داهمه فصل الشتاء، وكان ذلك في شعبان سنة 107هـ/ ديسمبر 725، فخسر المسلمون تلك الفتوحات، وارتدوا إلى قواعدهم الجنوبية، وبخاصة أربونة، وظلوا متحصنين فيها حتى سنة 114هـ، وهو العام الذي كانت فيه الحملة الكبرى لفتح فرنسا، بقيادة عبد الرحمن الغافقي، أمير الأندلس (صفر 112 – رمضان 114هـ)، هذا القائد المجاهد المقدام، الذي نجح خلال أشهر قليلة، في افتتاح الشطر الأعظم من فرنسا، من نهر الرون شرقًا إلى المحيط الأطلسي غربًا، ومن جبال البرت جنوبًا، إلى نهر الراين شمالًا.
لكن مصيره في النهاية، لم يختلف عن مصير من سبقه من القادة الفاتحين في جنوب فرنسا؛ فقد استشهد وهزم جيشه على أيدي الفرنجة، بقيادة شارل مارتل، في موقعة بلاط الشهداء، في وسط فرنسا، وذلك في رمضان 114هـ/ تشرين أول 732، فارتد المسلمون، بعد ذلك، إلى قاعدتهم أربونة، هذه الأخيرة التي صمدت في وجه هجمات شارل مارتل العنيفة، سنة 119هـ/ 737. وكان هذا هو الحصار الفرنجي الأول لأربونة.
وآلت إمارة الأندلس، بعد الغافقي، إلى عقبة بن الحجاج السلولي، الذي اختار الأندلس لأنه يحب الجهاد، ولأنها أرض جهاد ورباط. وكان عقبة هذا من طراز السمح وعنبسة والغافقي، فاستطاع أن يتلافى كثيرًا من تداعيات هزيمة المسلمين في معركة البلاط. كما استطاع أن يستعيد معظم ما خسره المسلمون من قواعد في جنوب فرنسا، نتيجة لهزيمتهم تلك، ووصل بالفتح إلى ليون. واتخذ عقبة سياسة جديدة، وهي إقامة الرباطات على نهر رودنة (الرون)، لتثبيت الفتوح الإسلامية هناك، ولتكون خط دفاع عن أربونة. وعندئذٍ شعر شارل مارتل بأن الخطر قد عاد يدق أبواب مملكة الفرنجة من جديد، ولكنه لم يقم بأي جهود مضادة، بل ظل يراقب هذه التطورات بقلقٍ بالغ. إلا أن الريح، لم تلبث أن جرت لصالحه.
فتنة الخوارج بالمغرب وحصار الفرنجة الثاني لأربونة
ففي سنة 122هـ، اندلعت فتنة خوارج البربر في المغرب، خلف ظهر الجيوش الإسلامية الفاتحة، في كل من جزيرة صقلية وجنوب فرنسا، بعد سنوات من التخطيط والإعداد والتربص، واستولى خوارج البربر على طنجة في شمال المغرب الأقصى، بعد أن هزموا أميرها وقتلوه، واتخذوها قاعدة لهم ومقرًا لخليفتهم وطاغيتهم (ميسرة المطغري)، وبذلك صارت الأندلس معزولة عن المغرب.
ونتيجة لذلك فقد اضطر عبيد الله بن الحبحاب أمير الغرب الإسلامي، وبخاصة بعد هزيمة جيشه في المعركة المعروفة باسم (موقعة الأشراف)، التي قتل فيها من قتل من أشراف العرب وفرسانهم وحماتهم، إلى إصدار أوامره إلى قادة الجيوش الإسلامية في صقلية وجنوبي فرنسا، بسرعة العودة إلى قواعده في المغرب والأندلس، وذلك لأجل القضاء على تلك الفتنة المزلزلة. وهكذا عاد عقبة أمير الأندلس، بمعظم جيشه إلى قرطبة، حاضرة الأندلس، وترك كل شيء في جنوب فرنسا، على ما هو عليه.
ثم إنه حاول عبور مضيق جبل طارق، إلى المغرب للمساهمة في القضاء على ثورة الخوارج هناك. ولكن كبار عرب الأندلس من أهل الحجاز، وخشية استفزاز البربر في الأندلس والذين كانوا أكثر من العرب هناك، حالوا بين عقبة وبين العبور للمغرب، بل لم يكتفوا بذلك؛ فقد قيل إنهم انقلبوا عليه وخلعوه عن إمارة الأندلس، ونصبوا عليها أميرهم وكبيرهم عبد الملك بن قطن الفهري، بدون موافقة الخليفة.
ومهما كان من أمر، فإن عقبه لم يكد يصل إلى قرطبة على رأس جيشه، حتى زحف شارل مارتل أمير بلاط مملكة الفرنجة في ربيع سنة 739 / (122هـ)، على رأس جيوشه الجرارة على جنوب شرقي فرنسا، واستولى على كل المعاقل الإسلامية هناك مثل ليون وأفينيون وآرل، والتي كان عقبة بن الحجاج قد أعاد افتتاحها، كما استولى شارل مارتل على مقاطعة بروفانس الساحلية، وطرد أميرها الدوق مورنتوس، الذي كان حليفًا للمسلمين. وبعد ذلك انحرف شارل مارتل على رأس جيوشه غربًا، نحو أربونة، وفرض عليها حصارًا خانقًا للمرة الثانية.
وشاركت في الحصار قوات بحرية تابعة لحليفه وصهره لوتبراند ملك اللومبارد في شمال إيطاليا. بيد أن حامية أربونة المسلمة تصدت لهذا الحصار، وقاومته بضراوة، وأحبطت كل محاولات شارل مارتل لاقتحام المدينة، وأجبرته على الانسحاب والعودة إلى الشمال يجر أذيال الخيبة والفشل، وذلك بعد أن خرّب نيمة ومجلونة، وبعد أن صب جام غضبه على أهل سبتمانيا القوط، لمولاتهم للمسلمين وتعلقهم بهم، وأيضًا لموقفهم السلبي وغير الودي من الفرنجة. وقد مات شارل مارتل بعد وصوله إلى مقر حكمه بقليل، وذلك في أكتوبر 741/123هـ، وأربونة ثغرة في دولته الواسعة. ومات عقبة أمير الأندلس، أيضا، في نفس هذا العام. وكان عقبة خاتمة ولاة الأندلس، الذين قاموا بالجهاد وراء جبال البرت، وكان هو الومضة الأخيرة القوية لعصر الولاة بالأندلس (95-138هـ).
وبعد وفاته لم يهنأ ابن قطن المتغلب على حكومة الأندلس، بالولاية؛ إذ سرعان ما انتقلت إليها ثورة خوارج البربر، فقد رفع البربر في شمالها الغربي رءوسهم، وثاروا ضد العرب وقتلوهم وطردوهم من تلك المنطقة، واستولوا على طليطلة ثالثة قواعد الأندلس؛ فانحازت فلول العرب الذين كانوا في تلك النواحي، إلى قرطبة. ولما استشعر ابن قطن بالعجز عن حمايتهم ومواجهة هذا التحدي، اضطر للاستنجاد بالشاميين، المتحصنين في سبتة، بعد هزيمة خوارج البربر لهم بالمغرب قبل عام، فدخل هؤلاء الشاميون الأندلس بقيادة بلج بن بشر القشيري، وكانوا زهاء عشرة آلاف مقاتل، وقضوا على خوارج البربر بالأندلس، بعد ثلاث معارك طاحنة. ولكن سرعان ما دب الشقاق بينهم وبين ابن قطن، فقتلوه ونصبوا زعيمهم بلجا أميرًا للأندلس بدلًا عنه.
فتنة الشاميين والبلديين وحصار الفرنجة الثالث لأربونة
أدى قتل الشاميين لابن قطن، الطاعن في السن، واستيلائهم على حكومة الأندلس بقيادة بلج بن بشر القشيري، إلى موجة غضب كبيرة لدى عرب الأندلس القدماء. فعلى إثر ذلك أعلن كثير من هؤلاء العرب، وفي مقدمتهم الفهريون، وكانت أعدادهم عظيمة في الأندلس، أعلنوا الثورة على الشاميين، وأجمعوا على الثأر منهم، وطردهم من ولاية الأندلس، هذه البلاد، التي اعتبرها أولئك العرب، بلاهم، كونهم افتتحوها بأسيافهم واقتسموا أرضها وخيراتها فيما بينهم، واعتبروا الشاميين دخلاء عليهم، ومغتصبين لحقهم.
وتزعم هذه الثورة في بداية الأمر، أمية وقطن ابنا أمير الأندلس الصريع عبد الملك بن قطن الفهري. وعبرت صيحة الثأر هذه جبال البرت، ووصلت إلى جنوب فرنسا، فانضم إلى أمية وقطن وإلى أولئك الثائرين ضد الشاميين، عامل الفهري على ثغر أربونة؛ ألا وهو عبد الرحمن بن علقمة اللخمي، ذلك الفارس الكمي والبطل الصنديد، ذو البأس شديد والوجاهة العظيمة، والذي كان يلقب بـ “فارس الأندلس”، وكان أرمى الناس بسهم، وكان تحت قيادته أكثر مقاتلي الأندلس، وخيرتهم، وذلك لأجل الرباط وسداد الثغور، والذين طالما نكلوا بالفرنجة وأثخنوا فيهم تحت قيادة ابن علقمة هذا، والذي أعمى التعصب للفهري بصره وبصيرته، فأقحمهم في هذه الفتنة العمياء الحالقة، بين العرب الشاميين والعرب البلديين.
ولم يلبث ابن علقمة أن عبر جبال البرت على رأس جيشه، باتجاه الأندلس، وانضم إليه في طريقه نحو قرطبة كثير من عرب الأندلس وبربرها، وبخاصة البربر، الذين اعتبروها فرصة لإدراك ثأرهم من الشاميين، الذين قضوا على ثورتهم، وشتتوا شملهم، وأطفئوا جمرتهم في الأندلس. ولذلك فقد بلغ جيش ابن علقمة الزاحف على الشاميين في قرطبة، وبخاصة بعد أن انضم إليه أمية وقطن ابنا عبد الملك بن قطن، بمن كان معهما، حوالي أربعين ألف مقاتل. ولما اقترب هذا الجيش العرمرم من قرطبة، خرج بلج بن بشر، المتغلب على حكومة الأندلس، لملاقاته على رأس حوالي عشرة آلاف مقاتل من الشاميين وموالي الأمويين.
والتقى الجمعان في شمال قرطبة، حيث دارت بينهما معركة طاحنة، سالت فيها الدماء غزيرة، وانجلت في عشي النهار، عن هزيمة جيش ابن علقمة، ومقتل حوالي عشرة آلاف مقاتل منه، وانتصار الشاميين، ومقتل حوالي ألف مقاتل منهم، وعلى رأسهم زعيمهم بلج بن بشر، الذي توفي متأثرًا بجراحه بعد المعركة بقليل، فنصب الشاميون ثعلبة بن سلامة العاملي أميرًا للأندلس، بديلًا له، وكانت هذه المعركة المشئومة، في شوال 124هـ / آب 742.
وعاد ابن علقمة بمن معه، بعد هذه الخسارة المفجعة، إلى رباط الثغر، واستقر في أبونة من جديد، وكان شأن المسلمين بها قد ضعف بعد هذه النكبة، ولم يعد كما كان. ولذلك فقد طمع فيهم دوق أكيتانيا (أقطانية) الواقعة على حوض نهر الجارون، والمتاخمة لولاية أربونة، من الجهة الشمالية الغربية، فغزا هذا الدوق بجيشه قاعدة أربونة، يحسب أنها قد أصبحت غنيمة باردة، وفرض عليها الحصار، لكن حاميتها بقيادة ابن علقمة، دافعت عنها، بما بقي لديها من شوكة وحمية وبأس، ودحرته من تحت أسوارها، فعاد إلى قاعدة دوقيته، يجر أذيال الخيبة والهزيمة، بينما عاد ابن علقمة يتحين الفرصة للزحف على الشاميين في قرطبة مرة أخرى.
ولكن في سنة 125هـ، وبعد انتصار جيش الخلافة الساحق على خوارج البربر بالمغرب، دخل أبو الخطار الحسام بن ضرار الأندلس، أميرًا عليها للخليفة هشام بن عبد الملك، وممثلًا لابن عمه حنظلة بن صفوان الكلبي أمير المغرب. وقد وضع أبو الخطار حدًا للفتنة بين الشاميين والعرب البلديين، وفرق الشاميين في كور الأندلس، الجنوبية والشرقية والغربية، بعيدًا عن قرطبة وعن العرب البلديين، فهدأت الأحوال بالأندلس، نتيجة لذلك.
فتنة اليمانية والمضرية وحصار الفرنجة الرابع لأربونة
بيد أن فترة الهدوء في الأندلس لم تطل؛ إذ لم تلبث أن اندلعت فيها فتنة جديدة أشد وأنكى من سابقتها، وهي الفتنة بين اليمانية والمضرية، وكان سببها إظهار أبي الخطار، أمير الأندلس، تعصبه لليمانية، وازوراره عن المضرية، وإهانته للصميل بن حاتم الكلابي زعيم القيسية المضرية بالأندلس. ونتيجة لذلك فقد قامت الحروب بين اليمانية والمضرية، وانتهت تلك الحروب الدامية بهزيمة ساحقة ماحقة لليمانية ومقتل زعيمهم أبي الخطار أمير الأندلس نفسه، وذلك في وقعة قرية شقندة، الواقعة على الضفة الجنوبية لنهر الوادي الكبير، ونتج عن هذه الوقعة خضد شوكة اليمانية وكسر ظهرهم في الأندلس.
وأخيرًا، وبعد هذه الأحداث الدامية، وخوفًا من انقراض العرب في الأندلس وانتفاض النصارى ضدهم، تم التوافق بين المضرية واليمانية على تنصيب يوسف بن عبد الرحمن الفهري، حفيد عقبة بن نافع، أميرًا للأندلس في ربيع سنة 129هـ. وكان ذلك بتدبير الصميل بن حاتم الكلابي، صاحب الكلمة الحقيقة في الأندلس، آنذاك. بيد أن عبد الرحمن بن علقمة اللخمي لم يقبل بهذه التسوية، وظل مستبدًا بأمور ثغر أربونة، وناقمًا على يوسف الفهري وحليفه الصميل لاستئثارهما بحكومة الأندلس، ولإسرافهما في سفك دماء اليمانية، في يوم شقنده.
وكان يخطط للزحف عليهما في قرطبة، لكن لم يلبث أصحابه أن اغتالوه وأقبلوا برأسه إلى يوسف الفهري، أمير الأندلس. فأسرع الفهري بتعيين أحد أبنائه واليًا على سرقسطة وما ولاها حتى أربونة، بيد أن قبائل البشكنس التي كانت قد سيطرت على معابر جبال البرت خلال تلك الفتن المتلاحقة، حالت بين هذا الأمير وبين الوصول إلى أربونة. وعلى نحو مماثل، فقد عادت تلك الفتن في الأندلس بفائدة عظمى لسكان سبتمانيا الخاضعين للمسلمين، إذ أُجبر المسلمون في ثغر أربونة على أن يعيدوا لأمراء سبتماننا القوط امتيازاتهم القديمة، وتركوهم يحلون محلهم في تسيير أمور مدنهم وبلداتهم، وذلك في ظل السيادة الإسلامية.
ونتيجة لذلك، فقد صارت في مدن سبتمانيا مثل بيزييه وماجلونة ونيمة، رغم خضوعها للسيادة الإسلامية، إدارات أهلية مستقلة ذاتيًا، على رأس كل منها أمير قوطي، لإدارة أمورها، ولهذا السبب وغيره، فقد تراخت قبضة المسلمين على مدن سبتمانيا، فانتهز أحد نبلاء القوط -وهو آنزيموند، كونت نيمة- هذه الفرصة واستقل بما كان تحت يده، ثم استولى على قواعد سبتمانيا، واحدة تلو الأخرى، وذلك أثناء انشغال المسلمين في الأندلس بالفتنة فيما بينهم، وبالزلزال الذي وقع في المشرق وهو سقوط الدولة الأموية، دولة الفتوحات، وانكسار ظهر العرب، وقيام الدولة العباسية سنة 132هــ، على أكتاف الأعاجم.
ولما شعر ذلك الأمير القوطي، بالعجز عن تحقيق طموحه بالاستقلال بمقاطعة سبتمانيا، وبالعجز عن حماية ما صار تحت يده، مع وجود المسلمين في قاعدة أربونة، بجواره، بادر بالانضواء تحت لواء ببيان القصير ملك الفرنجة، واستدعائه لغزو المسلمين وإخراجهم من أربونة. وقد رحب ملك الفرنجة، بهذه المبادرة، واعتبرها فرصة، للسيطرة على سبتمانيا القوطية، ولذلك فقد زحف نحوها في سنة 755م/ (137هـ)، على رأس جيش كبير، واستولى على كل المعاقل المتبقية بأيدي المسلمين، حتى ذلك الوقت، عدا أربونة، فتقدّم نحوها، وضرب حولها الحصار الصارم، فاعتزم من بها من المسلمين، الدفاع عنها لآخر نسمة، وصمدوا صمود الرواسي، في وجه هذه الهجمة الفرنجية الشرسة. وعندئذ استبان لملك الفرنجة صعوبة اقتحام المدينة، فتركها وخلّف تابعه آنزيموند، ليمضي في حصارها، وترك تحت قيادته قوة عسكرية صغيرة، فمضى آنزيموند في ذلك الحصار، ولكن المسلمين لم يلبثوا أن قتلوه في كمين محكم نصبوه له، تحت أسوارها، فذهب ضحية لمكره وغدره، وتفرق أتباعه.
فشل آخر المحاولات لإنقاذ أربونة
ورغم أن حادثة مقتل هذا الثائر القوطي، لم تغير شيئًا من واقع المسلمين في ثغر أربونة. إلا أن المهم أن المدينة قد نجت من خطر الحصار هذه المرة أيضًا، وبقيت في أيدي المسلمين لعدة سنوات أخرى. وخلال تلك السنوات، استمرت قنابل الأعماق تنفجر في الأندلس، بل وفي العالم الإسلامي كله، وتلفح المسلمون بلهيبها ودخانها، زيادة على ذلك، فإن القحط في هذه السنوات، عم وسط الأندلس وجنوبها، وأوشك أهلها معه على الهلاك، وعبر قسم من مسلمي الأندلس مضيق جبل طارق، إلى شمال المغرب هربًا من المسغبة والجوع، وأوشك النصارى الإسبان على العودة لحكم الأندلس، إلا أن الجوع شملهم أيضًا، وحال، بالتالي، بينهم وبين ذلك.
وبعد أن انتهت تلك المجاعة التي استمرت حوالي ثلاث سنوات، شُغل أهل الأندلس بأمر الأمير الأموي الطريد، الذي نجا من سيوف أصحاب الرايات السوداء، ومذبحة يوم أبي فطرس المروعة؛ وهو عبد الرحمن بن معاوية بن هشام بن عبد الملك، المعروف بالداخل، ورغم قوة المعارضة فقد نجح الداخل في تأسيس دولة أموية ثانية في الأندلس، وذلك سنة 138هـ، بيد أن العباسيين، استمروا في تدبير الدسائس والفتن ضده في الأندلس، بينما صار المجاهدون في قاعدة أربونة في عزلة تامة عما حولهم، وانقطع المدد عنهم نهائيًا من الاندلس، وصاروا أضيع من الأيتام على مآدب اللئام.
وكان أمر عصابات البشكنس قد استفحل، في شعاب جبال البرتات الوعرة، أثناء الصراع بين يوسف بن عبد الرحمن الفهري، آخر ولاة الأندلس، والصميل بن حاتم شريكه في القيادة، من جهة، وبين مراكز القوى العربية الخارجة عليهما، من جهة أخرى. وكانت مدينة بنبلونة، والواقعة في قلب هذه الجبال، قد خرجت ذاتها عن سلطان حكومة قرطبة. ولم يستطع الجيش الذي سيره يوسف لتأديب أهلها، أن يحقق الغاية المنشودة، بل رد على أعقابه بعد أن مُني بخسارة فادحة، وقُتل قائده سليمان بن شهاب نظرًا لإحجام يوسف الفهري والصميل عن إمداده بأية قوات إضافية لرغبتها في التخلص منه. وقد كان.
وربما كانت هذه الحملة في سنة 138هـ/ 755-756م، أي في نفس العام الذي دخل فيه عبد الرحمن الداخل إلى الأندلس. وقيل إن هذا الأمير الأموي الطموح، استجاب لصرخات المجاهدين المسلمين المتحصنين في أربونة، فأرسل بعثًا قويًا لنجدتهم، سنة 140هـ/758م، رغم كثرة الأخطار والتحديات من حوله، لكن هذا البعث، لسوء الحظ، لم يصل إلى أربونة، فقد داهمته قبائل البشكنس المشاكسة، أثناء محاولته عبور ممرات جبال البرت الضيقة والخطرة، ومزقت رجاله إربًا إربًا، وأجبرته على العودة من حيث أتى، وكانت هذه المحاولة، هي آخر المحاولات لإنقاذ أربونة، آخر قواعد الإسلام في جنوب فرنسا، هذه القاعدة الصغيرة، التي كانت للأندلس كالدرع الحصين وراء جبال البرت، والتي استعصت على شارل مارتل، ثم على ابنه وخليفته ببيان القصير وعلى دوق أقطانية، وذلك بعد أن تركت وحدها تناطح إمبراطورية الفرنجة القوية الصاعدة والمترامية الأطراف، لسنوات طويلة.
وبعد ذلك انشغل عبد الرحمن الداخل ببناء دولته الصاعدة بالأندلس، والتصدي للثورات والفتن الداخلية بها، ولم يكن بمقدوره معها، أن يحافظ على أية أملاك، فيما وراء جبال البرت، ولم يؤدِّ ذلك إلى زيادة الضغوط الرهيبة على أربونة فقط، وإنما على شمال الأندلس ذاتها، فقدْ فقدَ المسلمون نتيجة لتلك الفتن التالية إقليم جليقية كله والذي يعادل خمس جزيرة الأندلس. وما كان ذلك لولا فتنة خوارج البربر في المغرب والأندلس، ولولا انشغال مسلمي الأندلس، بصراعاتهم الداخلية وتطاحنهم فيما بينهم بعد ذلك لأسباب إقليمية وقبلية.
المؤامرة والسقوط من الداخل
لكن ببيان القصير ملك الفرنجة، والذي رفع لواء حماية البابوية والكنيسة الكاثوليكية، بعد أن توجه البابا زكريا ملكًا على الفرنجة؛ لما استبان له استحالة اقتحام هذه القاعدة الإسلامية من الخارج، نظرًا لحصانتها، ولاستماتة حاميتها المسلمة في الدفاع عنها، لجأ إلى أسلوب آخر في التعامل معها، وهو أسلوب الحيلة، فتفاهم سرًا مع زعماء المدينة القوط، بغية إسقاطها من الداخل، وتعهد لهم أنهم إذا أعانوه على تنفيذ هذه الخطة، فسيترك لهم التمتع بقوانينهم وأعرافهم القوطية، وسيمنحهم امتيازات كثيرة.
وكان زعماء المدينة وأهلها، قد ملّوا، حقيقة، من الحروب المتواصلة بين المسلمين والفرنجة، وأرهقهم الحصار الطويل وحول حياتهم إلى جحيم، ولذلك فقد قبلوا هذا العرض الذي عرضه عليهم ملك الفرنجة، رغم بغضهم للفرنجة، وقد شجع زعماء المدينة على ذلك قلة أعداد من بقي من المسلمين في قاعدة أربونة، وكونها باتت وحيدة منعزلة، بعد أن أحكمت قبائل البشكنس السيطرة على ممرات جبال البرت، وبالتالي، لم يعد هناك أي أمل في نجدتها من قبل المسلمين في الأندلس.
ومع ذلك فإن انضمام أهالي المدينة إلى جانب الفرنجة في العمل ضد المسلمين، ليس مستغربًا، بل كان نتيجة طبيعية، لتلك الظروف، ولأن الفرنجة نصارى مثلهم مهما كانت نظرتهم الاجتماعية لهم، أما المسلمون فيخالفونهم في العقيدة والدين. وقد أبان شاعر عربي حكيم عن هذا المعنى أحسن إبانة، فقال:
كل العداوات قد تُرجى مودتها ** إلا عداوة من عاداك في الدينِ
وأيًا كان الأمر، فإن زعماء المدينة قبلوا عرض ببين، وقرروا إضرام الثورة داخل المدينة. وهكذا، وفي ساعة الصفر، المتفق عليها بينهم وبين الفرنجة، باغتت جموع من أهالي المدينة، الحراس المسلمين من الداخل وقتلتهم، وسارعت بفتح أبواب المدينة للفرنجة، الذين كانوا متأهبين لذلك غاية التأهب في الخارج، فدخل هؤلاء الفرنجة المدينة مهرولين وشاهرين سيوفهم، وتقدح عيونهم بالشر والحقد والضغينة، ففتكوا بحاميتها المسلمة لكثرة ما أدمتهم وقهرتهم ونالت منهم، هذه الحامية، ولكثرة ما أجبرتهم على الانسحاب من تحت أسوارها، مهزومين خائبين المرة تلو المرة، كما أن أولئك الفرنجة، أضرموا النيران في مسجد أربونة الجامع، وخربوا كل أثر للمسلمين فيها. وكان ذلك سنة 759م/142هـ، بعد أربع سنوات من قيام الدولة الأموية في الأندلس.
صحيح أن الحملات العسكرية على غالة استعادت زخمها مرة أخرى في عهد الأمير هشام الرضا بن عبد الرحمن الداخل (172- 180هـ)، فعاد المسلمون إلى أربونة، وإلى نواحي جنوبي فرنسا، أكثر من مرة، ولكن عهد الفتوحات العظيمة، كان قد ولى، وهذه الحملات لم تكن سوى حملات صيفية تأديبية، ردًا على تحرشات الفرنجة، بثغور الأندلس، ومدهم يد العون والمساعدة للخارجين على سلطان حكومة قرطبة من الشخصيات ومراكز القوى العربية ذات الميول الاستقلالية؛ أو كانت جزءًا من الصراع، الذي اشتعل بين المسلمين وبينهم بعد سقوط أربونة.
لذلك لم يترتب على هذه الحملات أية فتوحات مُستدامة في نواحي غالة، ولم يستقروا فيها مجددًا، وذلك لنقص العامل البشري لديهم، ولذلك فقد اكتفوا بتهديم أسوار أربونة وأبراجها ونقل حلق بابها المصنوع من النحاس ووضعه في أحد أبواب قرطبة. والمهم أنه سقطت بذلك آخر المعاقل الإسلامية، في جنوب فرنسا، بعد سنوات من الدفاع المستميت، الذي لم يعرف التاريخ له مثيلًا، وكانت هي أولى قواعد الإسلام الذاهبة في الأندلس، والشهيدة الأولى التي تجاهلتها أقلام المؤرخين المسلمين، ولم يأتِ على ذكرها أحد، حتى طوى حكايتها النسيان، وصار أمرها مثل خبر كان. ولله الأمر من قبل ومن بعد.
نتائج سقوط المدنية وعوامل سقوطها
وكان سقوط أربونة، إيذانًا بانهيار سيادة الإسلام، فيما وراء جبال البرتات، وبانتهاء مرحلة الفتوحات الإسلامية، في جنوب فرنسا، بعد أن استمرت هناك، زهاء نصف قرن، وعادت قوى النصرانية، فاحتشدت وراء تلك الآكام تتربص بالإسلام في الأندلس، وانتقل الفرنج من الدفاع إلى الهجوم، وصارت حاميتهم في جرندة في شمال شرقي الأندلس. بل إن برشلونة نفسها لم تلبث أن سقطت بيد الفرنج، وأنشأ شارلمان بن ببين، فيها ولاية ثغرية تسمى لاماركا هسبانيكا حتى أصبحت من ذلك الحين شوكة في جنب المسلمين لأنها تطورت مع الزمن حتى أصبحت كونتيسة قطلونية التي ستخدم مملكة أرغون، في التهام الجانب الشرقي من الاندلس، فيما بعد.
وتقلصت حدود الدولة الإسلامية، بالتالي، إلى طرطوشة: وبقيت، هذه الأخيرة، مدة طويلة هي الحد الفاصل بين المسلمين والنصارى، وكان يقيم بها أيام الخلافة الأموية موظف ينظر في أمور الداخلين من بلاد الإفرنج إلى المملكة الإسلامية، فعلى يده يكون التصريح بالدخول والخروج. وممن تولوا هذه الخطة القاضي منذر بن سعيد البلوطي، الشهير لعهد الخليفة الناصر. وبنى فيها الناصر سنة 333 دار صناعة للسفن لا يزال تاريخ إنشائها منقوشًا على الحجر. هذا وقد كان البعد السحيق عن مركز الدولة الأموية، وثورة خوارج البربر في المغرب والأندلس، والفتن الداخلية بين العرب التي تلتها، وقلة أعداد المسلمين الفاتحين، إلى جانب اجتماع كلمة الفرنج، واستعادتهم لوحدتهم، تحت راية الأسرة الكارولنجية، وتحريضات البابوية؛ كل هذه العوامل، قد أدت مجتمعةً إلى تحول موازين القوى لصالح الفرنج، ومن ثم، زوال معاقل الإسلام في سبتمانيا وغالة.
وقد جاء سقوط الخلافة الأموية في المشرق، وانفصال الأندلس عن الخلافة العباسية، ليزيد الطين بلة، فمنذ ذلك الحين: انفردت الأندلس بنفسها ولم يبق لها معول في الجهاد إلا على مسلمي الأندلس وحدهم، وهؤلاء دائرتهم محدودة ومادتهم منحصرة، وليسوا أكفاء بأنفسهم لأمم النصرانية التي هي أمامهم كلجج البحر الأخضر. فمن بعد افتراق الأندلس عن الخلافة العباسية انقطع ما بينها وبين سائر بلاد الإسلام، وأصبحت يتيمة غريبة مقطوعة الظهر، إلا ما كان يرد عليها في الأحايين من مجاهدين ومهاجرين من المغرب الأقصى، دون سواه.
ويرى الدكتور حسين مؤنس أن عدم استقرار مقام العرب في جنوب فرنسا يرجع، إلى الظروف العامة، التي تمت فتوح المسلمين في غالة خلالها، فقد كان المسلمون يتوغلون في قلب أوروبا الغربية نفسها، وكانت الشعوب الجرمانية متراصة يلي بعضها بعضا، ثم إن الفرنجة أصحاب هذه المنطقة كانوا يمرون في فترة نهوض سياسي تولاه آل “كارل مارتل”، الذين عرفوا بالكارولنجيين ليحلوا محل الميروفنجيين.. وكان لابد من حملات ضخمة أكثر نظامًا ليتم فتح هذه النواحي.. ولكن ظروف المسلمين في المغرب والأندلس، لم تكن تسمح لهم بمواصلة الفتوح التي عهدناها فيهم.
لكن هذا لا يعني التقليل من دور الفتن الداخلية بين العرب، التي شهدتها الأندلس وانعكاسها سلبًا على هذه الفتوحات. يقول ابن خلدون: وربما كان بين جنود الأندلس من العرب اختلاف وتنازع أوجد للعدو بعض الكرّة، فرجع الإفرنج ما كانوا غلبوهم عليه من بلاد برشلونة لعهد ثمانين سنة من لدن فتحها، واستمر الأمر على ذلك. “وسوف نلاحظ على امتداد التاريخ أن الضربات القاصمة التي وجهت إلى المسلمين لم تأتِهم من الخارج، إنما تجيء من داخلهم، كانت الضربات الخارجية لا توجع المسلمين، وكانوا يصدونها عادة حين يرفعون علم الجهاد، أما قنابل الأعماق التي تجيء من الداخل، فهذه هي التي تؤثر على المسلمين وتمزقهم شيعًا وفرقًا متناحرة”. كما قال المؤرخ شاكر مصطفى.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق