السبت، 11 مارس 2023

مفهوم الوَسَطِيَّة بين المنهجية والشعبوية

مفهوم الوَسَطِيَّة بين المنهجية والشعبوية

د. عطية عدلان
مدير مركز (محكمات) للبحوث والدراسات – اسطنبول

 ماذا يُقْصَدُ بالإسلام الوسطيّ في الخطاب الشعبويّ؟ هل يستطيع أرباب هذا الخطاب أن يحددوا لنا بدقة ما الذي يقصدونه من مصطلح (الإسلام الوسطيّ)؟ وعندما يستثمر بعضهم وفاةَ عَلَمٍ من الأعلام؛ ليطلقوا في الفضاء أوصافاً من مثل: “إمام الوسطية”، “منبر الوسطية”، “الفقيه الوسطي”، إلى غير ذلك من الإطلاقات التي تشبه قنابل الصوت، والتي لا نسمع أمثالها إلا في الدعايات الانتخابية؛ هل يمكن أن يحددوا للجماهير معنى هذه الإطلاقات؟ أم إنّها الشَّعْبوية في زيّ المنهج العلميّ والتفكير النهضويّ؟!

المخاتلة المصطلحية

لا يخفى على من له حظٌّ من النظر أنّ كثيراً من المصطلحات التي تطلَق دون تَأَنٍ أو تدقيق تكون سبباً في الخلط والتلبيس، وذريعة للإيقاع بين الناس وإساءة الظنّ بفريق منهم، فهذا وسطيّ وذاك متشدد، وهذا فكر معتدل وتلك أفكار متطرفة، وهؤلاء معتدلون وأولئك إرهابيون، لقد أصبح وصف الوسطية والاعتدال أحد المفردات التي يستخدمها الذين يمارسون الإرهاب الفكريّ، تماما كأوصاف: التطرف والإرهاب والدوغمائية وغيرها، وغَدَا الآخرون الذين لا يَرُوقُ فكرُهم ولا طرحُهم لأولئك “الوسطيين!” في مرمى السهام التي تنطلق من أقواس قُدَّتْ أوتارها من مصطلحات هلامية لا يُعْرَف لها ضابط ولا رابط.

    إنّ من أشد المصطلحات مراوغة ومخاتلة ذلك المصطلح الذي لا يفتأ أصحاب الخطاب الشعبويّ أن يرددوه ويتخذوه معياراً لقياس المذاهب والمشارب والأقوال والرجال، ومن العجيب أنّ مصطلح “الوسطية” هذا ينقبض وينبعج، وينكمش ويتمدد، ويتحور ويتحول، وتتغير ألوانه بحسب الزمان والمكان، بل وبحسب اليد التي تستخدمه، ولا يشبهه في هذه الخاصّية إلا مصطلح “الإرهاب” الذي حار الخَلق في وضع تعريف محدد له، حتى صار من أكبر الإشكاليات القانونية والحقوقية فيما يتعلق بكثير من القضايا.

هل هناك إسلام وسطي وإسلام غير وسطيّ؟

ومن المؤكد أنّ السبب في ذلك الخلط الذي يحدث بقصد وبغير قصد، هو الفصل بين حقيقة الوسطية وحقيقة الإسلام، فالواقع أنّ الإسلام ذاتَهُ هو الوسطية، الإسلام بجميع ما اشتمل عليه من عقائد وأحكام، الإسلام بكل ما فيه من رخص وعزائم، الإسلام الذي يجب على المسلمين أن يأخذوه من جميع أطرافه وكافّة جوانبه، سواء منها ما غلبت عليها سمة الرأفة والرحمة، وما طغت عليها مسحة الجد والحزم والعزم، الإسلام الذي لا تنفصل فيه صبغة الحنيفية السمحة عن طبيعة الجد الصارم، ولا تفترق فيه أخلاق اللين والرحمة عن أخلاق العزّة والقوة؛ ويكون فيه المسلمُ متناغماً في خفضه ورفعه على هذا النحو المتين: (أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ) (المائدة: 54) (أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ) (الفتح: 29)، ذلكم هو الدين الوسط، وتلكم هي الأمة الوسط، التي جعلها الله بهذه الصفة شهيدة على الأمم: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً) (البقرة: 143).

    أمّا أن يوصف من ينتهجون التيسير في أغلب فتاويهم ولو كان أخذاً بالرأي المرجوح لدى فقهاء السلف، ويبذلون وسعهم في محاولة التوفيق بين الفكر الإسلاميّ والفكر الغربيّ، ويحاولون عن طريق ليّ أعناق المحكمات أن يُطَوِّعوا الدينَ لثقافة العصر، أن يوصف هؤلاء بالوسطية ليُرْمَى جميعُ مخالفيهم بالتشدد والدوغمائية؛ فذلك مسلك غاية في الخبث والدناءة، يريد سالكوه أن يسددوا لمخالفيهم في الرأي ضربة “تحت الحزام” حيث فشلوا في معركة الدليل والبرهان، ولَعَمْري إنّه لمن أشد ألوان الخداع ضرراً وخطراً، وإنّهم ليضرون بسمعة أولئك الأئمة الأفذاذ؛ إذ يبنون على أخطائهم المغتفرة خطايا لا تغتفر.

محصلة التلاعب بالمصطلحات

هذا العبث يشغلنا عن إدراك جوهر الوسطية، التي هي الإسلام نفسه، تلك الصفة التي جعلته حاكماً على جميع المذاهب، ومهيمناً على سائر الأديان، ومعياراً تُقاس به الأقوال والأعمال والمواقف والرجال، وجعلته قادراً على أن يمنح الأمة الإسلامية الحق في وزن الأفكار ووزن الأوضاع الناشئة عن هذه الأفكار، فالحقيقة التي يتضمنها قول الله تعالى: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً) (البقرة: 143)، جاءت مترتبة على الحقيقة التي يتضمنها قوله عزّ وجل: (اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ) (الشورى: 17)، وقوله جلّ شأنه: (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ) (المائدة: 48)، أي إنّ هذه الأمة الوسط العدل صارت بما حباها الله من الميزان المقسط والكتاب المهيمن شهيدة على كل الأمم، وعلى ما يروج فيها من مذاهب وأفكار واتجاهات وأقوال وأفعال، وهذا هو المعنى الذي يتسق مع الخيرية المنصوص عليه في القرآن: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ) (آل عمران: 110).

الوسطية محور لكل دوائر الحق

فالوسطية هي الإسلام ذاته، ومن قام باستقراء الشريعة الإسلامية بكافّة أقسامها، سواء منها ما كان من قبيل العقائد أو من قبيل الأحكام العملية أو من قبيل الأخلاق والآداب؛ سيجدها وسطاً عدلاً بين الأديان، وسيجد وسطيتها تحيي وتبعث وسطية الدين كله قبل أن تعبث به يد البشر، فالإسلام والأمة الإسلامية وسط بين اليهودية التي خفضت من شأن الخالق جلّ وعلا ووصفته بصفات المخلوق – تعالى الله عن ذلك – وبين المسيحية التي رفعت من شأن المخلوق وخلعت عليه صفات الخالق وجعلته ابناً لله – تعالى الله عمّا يقولون علواً كبيراً – حيث وضعت حداً فاصلاً بين الألوهية والعبودية: (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ (4)) (الإخلاص: 1-4).

    وكما أنّ الإسلام وسط بين الأديان، وأنّ المسلمين وسط بين الأمم، فإنّ أهل السنة وسط بين الفرق المتطرفة، فهم وسط في الصفات بين المشبهة الممثلة (كالكرامية) وبين النفاة المعطلة (كالمعتزلة والجهمية)، فيثبتون لله الصفات بغير تمثيل ولا تعطيل، ووسط في القدر بين القدرية (كالمعتزلة) والجبرية (كالجهمية)، بين القدرية التي نفت القدر وزعمت أنّ الأمر أنف، والجبرية التي نفت عن الإنسان الإرادة والمسئولية، ووسط في باب الإيمان بين المرجئة والوعيدية (كالخوارج والدواعش)، بين المرجئة الذين يقولون لا يضر مع الإيمان ذنب وبين الوعيدية الذين يكفرون أهل الكبائر من المسلمين، حيث “لا يُكَفِّرون أحداً من أهل القبلة بذنب ما لم يَسْتَحِلَّه ولا يقولون: لا يضر مع الإيمان ذنبٌ لمن عَمِلَه”.

    فإذا ما جاوزنا الدائرتين السابقتين (دائرة الإسلام ودائرة أهل السنة) باتجاه العمق لوجدنا الدائرة الأضيق دائرة الطائفة المنصورة، وهي التي تقتصر على العاملين للإسلام من أهل السنة، والقائمين على أمر الله لا يضرهم من خذلهم، فسنجدهم وسطاً في أهل السنة، وسطاً في الجهاد بين العجلة المفضية إلى حرق المراحل وبين التأني المفضي إلى التسويف وإضاعة الفرص، وسطاً في مراعاة الواقع بين غلو يعيق المسيرة وجفاء يغري بالمخاطرة غير المحسوبة، وسطاً في التعامل بميزان المصالح والمفاسد بين حرص زائد يعقد الحركة وإهمال يُرْبِكُها، وسطاً في النظر للمستقبل بين تفاؤل مفرط وتشاؤم مثبط، وسطا في التعامل مع أخبار الفتن والملاحم بين متجاهل لها وآخر يمارس الانتظار، وهكذا ..

    فلا يصح الانخداع بتلك الإطلاقات التي تريد أن تحصر مفهوم الوسطية بظلاله الرحبة ودلالاته العميقة في تلك الزوايا التي تقزم المعنى وتحوله من طريق رحب للنهوض والخلاص إلى مرتكز أعوج نادٍّ يتكئ عليه كل من له غرض في التنقيص من شأن معارضيه، بتصنيفهم ضمن مساحة تجعلهم في مرمى السهام، والله المستعان على دفع الشبهات وإزالة الأوهام.



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق