الأربعاء، 8 مارس 2023

دروس من الديمقراطية التركية

دروس من الديمقراطية التركية

 

بإعلان الطاولة السداسية الممثلة لقوى المعارضة الرئيسية في تركيا اسم مرشحها للانتخابات الرئاسية في 14مايو/أيار المقبل (كمال كليتشدار أوغلو)، وتصريحات الرئيس أردوغان عن اتخاذ إجراء عملي بعد غد الجمعة لتقديم موعد الانتخابات رسميا، يكون العد العكسي قد بدأ بالفعل لتلك الانتخابات الأهم في تاريخ تركيا المعاصر.

بعيدا عن الموقف من أحزاب المعارضة التركية، خاصة الممثلة في الطاولة السداسية، فإنها قدّمت درسا في التوافق على مرشح رئاسي عجزت غيرها من الديمقراطيات الناشئة عن فعله، وأعلنت تلك الطاولة بعد مباحثات صعبة ومطولة، وبعد مناورات وتكتيكات، عن مرشحها التوافقي مع خمسة نواب يشاركونه القرار (مجلس رئاسي)، وقبل ذلك أعلنت عن برنامج سياسي توافقي لإدارة البلاد حال فوز مرشحها الرئاسي وحصولها على أغلبية برلمانية.

خيارات مفتوحة للحظة الأخيرة

قد لا يكون مرشح الطاولة السداسية هو المرشح الوحيد الذي سينافس الرئيس أردوغان، إذ أبدى منافسه في الانتخابات السابقة محرم إنجه المنشق عن حزب الشعب، والذي حصل على 30% في تلك الانتخابات، نيته الترشح للدورة الحالية أيضا، وإن كان من المحتمل أن يتنازل لاحقا لصالح أردوغان، كما أن فاتح أربكان نجل الزعيم الراحل نجم الدين أربكان ومؤسس حزب الرفاه الجديد عبّر منذ أشهر عدة عن نيته الترشح، وفي كل الأحوال فإن المنافسة الحقيقية ستكون بين أردوغان وكمال كليتشدار أوغلو.

حتى إغلاق باب الترشح، ومن ثم باب التنازلات، تظل كل الخيارات مفتوحة في تركيا، حول تغيير بعض المواقف، حسب القدرات الاتصالية والتفاوضية للحزب الحاكم، أو لأحزاب الطاولة السداسية سواء في تحركاتها لكسب أنصار جدد، أو حتى للتنافس فيما بينها، ومساعي كل حزب لتحسين وضعه على تلك الطاولة، واقتناص أكبر عدد من المرشحين للبرلمان.

التخلص من كابوس العسكر

بمقاييس الديمقراطيات الحديثة، دخلت التجربة التركية طور الاكتمال، أو أوشكت، بعد أن تخلصت من كابوس التدخلات العسكرية التي كان آخرها محاولة الانقلاب الفاشلة صيف العام 2016.

بدأت التجربة الديمقراطية التركية مبكرا قياسا بجيرانها، وكانت الممارسات المبكرة في عهد السلطنة العثمانية حين تمكن الاتحاديون من الوصول إلى مقعد الصدر الأعظم (رئيس الوزراء) الذي عزز صلاحياته على حساب صلاحيات السلطان، وفي عهد الجمهورية تطورت الممارسة الديمقراطية مع الوقت، ورغم أن تركيا وُصفت بأنها من مراتع الانقلابات العسكرية (شهدت 4 انقلابات 1960-1971-1980-1997 بخلاف المحاولة الفاشلة في 2016) لكن تلك الانقلابات ورغم دموية غالبيتها، وإغلاقها بعض الأحزاب الحاكمة، أو التي تعُدها معادية للعلمانية، فإنها لم تمنع قيام أحزاب جديدة، كما حدث مع الأحزاب التي أسسها ورأسها الزعيم الإسلامي الراحل نجم الدين أربكان، كما تناوبت أحزاب عدة على حكم تركيا، منها حزب الشعب الجمهوري، والحزب الديمقراطي، وخليفته حزب العدالة، وحزب الطريق القويم، وأخيرا العدالة والتنمية.

تحالفات انتخابية عجيبة

التحالفات الانتخابية في تركيا عجيبة أيضا، فمن يصدّق أن أول حزب إسلامي أسسه نجم الدين أربكان وهو حزب الخلاص الوطني تحالف مع حزب الشعب الجمهوري العلماني في مطلع السبعينيات؟ وبموجب ذلك التحالف تقلد أربكان منصب نائب رئيس الوزراء، وهو الذي اتخذ قرار غزو قبرص، وفصل شطرها التركي عن اليوناني، وهو ما تكرر اليوم مع حزب السعادة الذي احتضن الاجتماعات التشاورية، كما تم من مقره إعلان اسم مرشح المعارضة (الطاولة السداسية وهي الطاولة ذاتها التي ضمت أيضا كلا من أحمد داود أوغلو رئيس الوزراء السابق، وعلي باباجان وزير الاقتصاد السابق، وكلاهما رفيق أردوغان في رحلته السياسية الممتدة)، ومن يصدّق أن الحزب القومي الأكبر (حزب الجيد بزعامة ميرال أكشنار) يتحالف مع زعيم علوي ليس من أصول تركية أصيلة وهو كمال كليتشدار أوغلو، وفي الوقت نفسه يتحالف الحزب القومي الأصلي (الحركة القومية) مع أردوغان ضمن تحالف الجمهور؟ّ!

مرت التجربة السياسية التركية بأشكال مختلفة لنظام الحكم، من الرئاسي إلى البرلماني وبينهما العسكري، وقد جرى الانتقال من النظام الرئاسي إلى البرلماني وبالعكس عبر تغييرات دستورية، واليوم تسعى المعارضة للعودة إلى النظام البرلماني، وهذا هو الهدف الأكبر الذي يجمع أحزاب الطاولة السداسية التي تسعى لتوسيع حضورها البرلماني الذي يُمكّنها من تعديل الدستور حتى وإن فقدت الموقع الرئاسي.

حين وقعت المحاولة الانقلابية الفاشلة منتصف العام 2016 توحدت المعارضة التركية ضد ذاك الانقلاب، وهذا ما يُحسب لها على خلاف معارضات عربية دعمت الانقلابات العسكرية أو طالبت بها في بلدانها، ورغم حدة المنافسة الجارية في الانتخابات الحالية فإن السلطة الحاكمة لا يمكنها منع اجتماعات المعارضة ومظاهراتها، أو اعتقال قادتها وناشطيها، وتمتلك المعارضة صحفا وقنوات، وأدوات ومراكز تأثير قوية مثل الحزب الحاكم، بل إنها كانت تتفوق عليه إعلاميا من قبل، لكن كارثة الزلزال التي حاولت المعارضة استغلالها لصالحها ارتدت في صدرها، مع التحرك السريع للحكومة بقيادة أردوغان نفسه، ومع انكشاف الدور السلبي للمعارضة في منع إزالة المساكن القديمة الآيلة للسقوط قبل الزلزال، وهو ما ضاعف من حجم الكارثة.

استطلاعات رأي مهنية

من معالم التجربة الديمقراطية التركية أيضا استطلاعات الرأي، حيث تسمح تركيا بهذا النشاط للمؤسسات الخاصة، وتحرص تلك المؤسسات على سمعتها، لذا فإن نتائج الاستطلاعات تقترب كثيرا من الحقيقة، وهذا ما أكدته تجارب العديد من الانتخابات الماضية التي جاءت نتائجها متقاربة جدا مع نتائج تلك الاستطلاعات، وحتى الآن تضع غالبية الاستطلاعات التي أُعلنت خلال الفترة الماضية الرئيس أردوغان وحزب العدالة والتنمية في المقدمة، حتى وإن تراجعت شعبية الحزب نسبيا عن الدورات الماضية لكنه حافظ على تبوء الصدارة.

يبقى أخيرا العامل الشخصي أحد العناصر الأكثر أهمية عند التصويت، وهذه نقطة تميُّز للرئيس أردوغان الذي يتمتع بشخصية كارزمية مقدامة، وقد ظهر ذلك جليا في مواجهة المحاولة الانقلابية الفاشلة 2016، ثم في مواجهة الأزمة الاقتصادية الكبيرة، وأخيرا في مواجهة كارثة الزلزال، وسيكون لها دور كبير في حسم نتائج الانتخابات المقبلة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق