الاثنين، 6 مارس 2023

فتنة المنافقين واختراقاتهم للصف الإسلامي




استمر أثرُ المنافقين حتى ظهر في عصرنا الحاضر بأشكال وأنماط خبيثة ماكرة لم يسبق لها نظير حتى خيف على خاصّة المسلمين ودعاتهم وعلمائهم من الانخداع بها، فضلاً عن عامّتهم وجهلتهم.

ادّعاء الصلاح وإظهار الخير والحماس لهذا الدين

وهذا شأن المنافقين في كل زمان؛ فعندما تخفق جهودهم في الوقوف في وجه الخير والصلاح، وعندما ينشط الدعاة والمجاهدون ويظهر أثرهم في الأمة؛ فإن المنافقين يلجأون إلى وسيلة ماكرة وفتنة شديدة، ألا وهي التظاهر بالحماس للدعوة والدخول في أوساط الدعاة والمجاهدين مظهرين التمسك والغيرة على الدين، والحرص على العلم والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد، حتى ينخدع بكلامهم المعسول بعض الطيبين من قادة الدعوة والجهاد، فتحصل الثقة بهم، حتى إذا تمكنوا من مراكز التوجيه والقيادة بدأوا فتنتهم الكبرى على الدعوة والجهاد مع استمرارهم في إظهار الخير والحماس لهذا الدين، وتسويغ ما يقومون به من الممارسات بالحرص على مصلحة الدعوة وتميزها وصلابتها.

من أخطر صور الفتن التي تنشأ من هذا الصنيع ما يلي:

أ- فتنة التفريق وإثارة العداوات بين دعاة الإسلام والمجاهدين

وهذه من أعظم فتن المنافقين داخل الصف الإسلامي وفي أوساط الدعوة إلى الله عز وجل، وقد فضح الله عز وجل المنافقين الذين بنوا مسجد الضرار، وأظهر أهدافهم الخبيثة بقوله تعالى: ﴿وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ﴾ [التوبة: 107].

قال المفسرون لهذه الآية: (لأنهم كانوا جميعا يصلون في مسجد قباء ؛ فبنوا مسجد الضرار ليصلي فيه بعضهم، فيؤدي ذلك إلى الخلاف وافتراق الكلمة)1.

وهذا الضرب من الفتن لا يحتاج إلى تدليل، فالواقع المر شاهد بذلك، ومع أن للافتراق أسبابا كثيرة كالجهل والهوى.. إلخ؛ إلا أن أثر المنافقين الذين يدخلون في صفوف الدعاة لا يجوز إغفاله والتهوين من شأنه، وكون الفرقة تحصل بين أهل طريقتين مختلفتين في الأصول، فإن هذا الأمر واضح ومعقول ومقبول.

أما أن يفرق أهل الطريقة الواحدة – طريقة أهل السنة والجماعة وطريقة سلف الأمة – فهذا أمر لا يعقل ولا يقبل، ولا يكون إلا وهناك يد خبيثة خفية وراء هذا الافتراق؛ فينبغي على الدعاة والمجاهدين الحذر من هذه الأيدي والتفتيش عنها وفضحها وتطهير الصف المسلم منها.

ب- فتنة التخذيل والتشكيك

وهذه أيضا من أعمال المنافقين المندسين في الصف المسلم، حيث يسعون إلى بث فتنة التخذيل وترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد في سبيل الله، وذلك بدعاوی وشبه شرعية خادعة، مؤداها توهين عزائم الدعاة وإضعاف هممهم، وبث الخوف في النفوس من الباطل وأهله، وتهويل قوة الأعداء وخططهم بصورة تبث اليأس في النفوس الضعيفة. قال الله عز وجل عن أمثالهم: ﴿لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُواْ خِلَٰلَكُمْ يَبْغُونَكُمُ ٱلْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّٰعُونَ لَهُمْ ۗ وَٱللَّهُ عَلِيمٌۢ بِٱلظَّٰلِمِينَ﴾ [التوبة: 47] يقول الإمام البغوي رحمه الله عند تفسير هذه الآية:

(﴿لَوْ خَرَجُواْ﴾ يعني المنافقين ﴿فِيكُم﴾ أي معكم ، ﴿مَّا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا﴾ أي: فسادا وشرا . ومعنى الفساد: إيقاع الجبن والفشل بين المؤمنين بتهويل الأمر ، ﴿وَلَأَوْضَعُواْ﴾ أسرعوا ، ﴿خِلَٰلَكُمْ﴾ وسطكم بإيقاع العداوة والبغضاء بينكم بالنميمة ونقل الحديث من البعض إلى البعض . وقيل: ﴿وَلَأَوْضَعُواْ خِلَٰلَكُمْ﴾ أي: أسرعوا فيما يخل بكم . ﴿يَبْغُونَكُمُ ٱلْفِتْنَةَ﴾ أي: يطلبون لكم ما تفتنون به ، يقولون: لقد جمع لكم كذا وكذا ، وإنكم مهزومون وسيظهر عليكم عدوكم ونحو ذلك . وقال الكلبي: ﴿يَبْغُونَكُمُ ٱلْفِتْنَةَ﴾ يعني: العيب والشر . وقال الضحاك: الفتنة الشرك ، ويقال: بغيته الشر والخير أبغيه بغاء إذا التمسته له ، يعني: بغيت له .

﴿وَفِيكُمْ سَمَّٰعُونَ لَهُمْ﴾ قال مجاهد: معناه وفيكم محبون لهم يؤدون إليهم ما يسمعون منكم ، وهم الجواسيس . وقال قتادة: معناه وفيكم مطيعون لهم ، أي: يسمعون كلامهم ويطيعونهم . ﴿وَٱللَّهُ عَلِيمٌۢ بِٱلظَّٰلِمِينَ﴾)2.

ج- فتنة الإيقاع بالدعوة والدعاة

لا تقف مساعي المنافقين في إيصال الشر والأذى للدعوة وأهلها عند حد.

فمن هذه المساعي الخبيثة التي يقومون بها داخل صفوف الدعاة بعد إظهار الحماس وبعد كسب الثقة والسماع لأقوالهم، كما قال تعالى: ﴿وَإِن يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ﴾ [المنافقون: 4]، وتحت ستار الغيرة على الدين والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد في سبيل الله ، فإنهم يبدأون في دفع بعض الدعاة إلى مواجهات مع الباطل وأهله والزج بالدعوة في أعمال خطيرة، تفتقد المستند الشرعي من جهة، وتؤدي بالدعوة وأهلها إلى الضمور والانكماش من جهة أخرى، إن لم يقض عليها قضاء مبرما، وهذا هو ما يريده المنافقون المخادعون الحاقدون.

د – فتنة المنافقين بنشر الشبهات والشهوات

وهاتان الفتنتان من أعظم وسائل المنافقين في نشر فسادهم والتلبيس على الناس، فهم بعد أن رضعوا لبان هاتين الفتنتين، وتشبعوا بها، وأظلمت قلوبهم بها، راحوا يستخدمونها في تضليل الناس والترويج لفسادهم وإفسادهم.

وها هو الإمام ابن القيم رحمه الله يفصل في خطر هاتين الفتنتين، فيقول: (والفتنة نوعان: فتنة الشبهات وهي أعظم الفتنتين، وفتنة الشهوات، وقد يجتمعان للعبد، وقد ينفرد بإحداهما.

ففتنة الشبهات من ضعف البصيرة وقلة العلم ولا سيما إذا اقترن بذلك فساد القصد وحصول الهوى، فهنالك الفتنة العظمى والمصيبة الكبرى، فقل ما شئت في ضلال سيئ القصد الحاكم عليه الهوى لا الهدى مع ضعف بصيرته وقلة علمه بما بعث الله به رسوله، فهو من الذين قال الله تعالى فيهم: ﴿إِن يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنفُسُ﴾ [النجم: 24]، وقد أخبر الله عز وجل أن اتباع الهوى يضل عن سبيل الله، فقال: ﴿يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَىٰ فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ ۚ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ﴾ [ص: 26].

وهذه الفتنة مآلها إلى الكفر والنفاق، وهي فتنة المنافقين وفتنة أهل البدع على حسب مراتب بدعهم، فجميعهم إنما ابتدعوا من فتنة الشبهات التي اشتبه عليهم فيها الحق بالباطل والهدى بالضلال.

ولا ينجي من هذه الفتنة إلا تجرید اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم وتحكيمه في دق الدين وجله، ظاهره وباطنه، عقائده وأعماله، حقائقه وشرائعه فيتلقى عنه حقائق الإيمان وشرائع الإسلام، وما يثبته الله عز وجل من الصفات والأفعال والأسماء وما ينفيه عنه، كما يتلقى عنه وجوب الصلوات وأوقاتها وأعدادها ومقادير نصب الزكاة ومستحقيها ووجوب الوضوء والغسل من الجنابة وصوم رمضان، فلا يجعله رسولا في شيء دون شيء من أمور الدين، بل هو رسول في كل شيء تحتاج إليه الأمة في العلم والعمل، لا يتلقى إلا عنه ولا يؤخذ إلا منه، فالهدی کله دائر على أقواله وأفعاله، وكل ما خرج عنها فهو ضلال، فإذا عقد قلبه على ذلك وأعرض عما سواه ووزنه بما جاء به الرسول فإن وافقه قبله لا لكون ذلك القائل قاله، بل لموافقته للرسالة وإن خالفه رده ولو قاله من قاله، فهذا الذي ينجيه من فتنة الشبهات، وإن فاته ذلك أصابه من فتنتها بحسب ما فاته منه.

وهذه الفتنة تنشأ تارة من فهم فاسد، وتارة من نقل کاذب، وتارة من حق ثابت خفي على الرجل فلم يظفر به، وتارة من غرض فاسد وهوى متبع، فهي من عمى في البصيرة وفساد في الإرادة.

وأما النوع الثاني من الفتنة: ففتنة الشهوات، وقد جمع سبحانه وتعالى بين ذكر الفتنتين في قوله: ﴿كَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلَاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُم بِخَلَاقِكُمْ﴾ [التوبة: 69]. أي تمتعوا بنصيبهم من الدنيا وشهواتها، والخلاق هو النصيب المقدر، ثم قال: ﴿وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا﴾ [التوبة: 69]، فهذا الخوض بالباطل وهو الشبهات.

فأشار سبحانه وتعالى في هذه الآية إلى ما يحصل به فساد القلوب والأديان من الاستمتاع بالخلاق والخوض بالباطل، لأن فساد الدين إما أن يكون باعتقاد الباطل والتكلم به أو بالعمل بخلاف العلم الصحيح. فالأول: هوالبدع وما والاها. والثاني: فسق الأعمال.

فالأول فساد من جهة الشبهات. والثاني من جهة الشهوات.

ولهذا كان السلف يقولون: (احذروا من الناس صنفين صاحب هوى قد فتنه هواه، وصاحب دنيا أعمته دنياه)3.

الهوامش

(1) انظر تفسير البغوي ط. دار طيبة 4/ 93.

(2) تفسير البغوي 4/ 56.

(3) إغاثة اللهفان 2/165-166.

اقرأ أيضا

فتنة المنافقين وأثرها على المجتمع .. (1-2)

فتنة المنافقين وأثرها على المجتمع .. (2-2)

من فتن المنافقين: الخداع والتلبيس

التخذيل عن الجهاد..من صفات المنافقين

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق